الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

__________________

وتصف «اليزابيث» يوم الاحتفال بالمولد فتقول : بدأ موكب ـ الاحتفال بعد صلاة الظهر يوم النصف من شعبان حيث ينزل خليفة الشيخ أبو الحجاج كبير الحجاجية ، فوق سلم المقام ، ويركب فوق الحصان ، فيقومون برفع الدائم ، وقد كانوا قديما يرفعون السارى ، الا أنه غير موجود حاليا. وقد ظهر السارى فى فيلم «المتروبوليتان» فى قلب معبد الأقصر ..

ثم يبدأ بعد ذلك منشدو الأغانى الدينية «الدلائل» وخلفهم ضاربوا الطبول ثم ثلاثة جمال عليها ثلاثة توابيت. وهى عبارة عن هيكل خشبى مغطى بأثواب يقال : انها من عصر «سيدى أبو الحجاج» ولكن من الملاحظ أن فكرة التوابيت حديثة ، ففى فيلم «المتروبوليتان» لا نراها. بل نرى قطعا من زعف النخيل مغطاة بهذه الأثواب.

وبعد التوابيت يجر الرجال ثلاثة مواكب ورفاصا محملة على عربات كارو. وهذه المراكب يتم اعدادها قبل المولد. حيث تخرج من مكنها بجوار مقام «سيدى أبو الحجاج» الى منازل الحجاجية لاعدادها ، وخلف المراكب يسير موكب الحرف المختلفة ، ثم موكب العرائس حيث يقف رجلان أحدهما يرتدى ملابس عروسه ، ويطلقون عليهما الملك والملكة.

ويفسرون وجود العريس والعروس بأنه بداية موسم التزاوج عند أهل «الأقصر».

وتتساءل «اليزابيث» هل هذا مجرد صدقة أم له علاقة بالاحتفال الفرعونى القديم؟

وبهذا الموكب تبدأ «الدورة» أى بمعنى أن يقوم الموكب بالتجول فى «الأقصر» كلها حتى يصلوا الى بيت الخليفة فيشربوا الشربات. ثم يعودون مرة أخرى الى مقام «سيدى أبو الحجاج»

والهدف من هذه «الدورة» : هو توزيع بركة الشيخ «أبو الحجاج» على «الأقصر» كلها لحمايتها وحفظها ، فهم يقولون : «يابو الحجاج يا جدنا وجاددنا» وتقول «اليزابيث» : كل هذه الاحتفالات مرسومة على معبد «الأقصر».

فهل هى صدفة؟» ا. ه

٢٠١

العادات ، وحضور الرزق عندها من غير سبب ظاهر ، من خوارق العادات. وانها ما كانت من الأنبياء ، فوجب أن يقال : أن تكون هذه الوقائع من كرامات الأولياء.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : ان تلك الخوارق كانت معجزات لنبى ذلك الزمان ، وهو زكريا عليه‌السلام؟ قلنا : هذا باطل لوجوه :

الأول : ان المعجزة لا بدّ أن تكون أمرا ظاهرا للمنكرين. حتى يمكن الاستدلال بها على المنكر ، وظهور جبريل عليه‌السلام لمريم ، وحبلها من غير ذكر ، ما كان يطلع عليه أحد ، الا مريم. فكيف يمكن جعل هذه الأشياء معجزة لزكريا عليه‌السلام؟

ثانيها : ان عند ظهور المعجز لبعض الأنبياء ، لا بدّ أن يكون الرسول حاضرا ، ولا بد أن يكون القوم حاضرين ، حتى يتمكن ذلك الرسول من الاستدلال بذلك المعجز ، وفى الوقت الّذي كان يقول جبريل عليه‌السلام لمريم : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ، تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (مريم ٢٥) ما كان زكريا حاضرا هناك ، حتى يستدل بظهور هذه الخوارق على نبوة نفسه ، بل ما كان أحد من البشر هناك حاضرا ، بدليل قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً ، فَقُولِي : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) (مريم ٢٦) فبطل القول بأن هذه الأشياء معجزة لزكريا عليه‌السلام.

ثالثها : ان حصول المعجز لا بد أن يكون بالتماس الرسول. وكان زكريا عليه‌السلام غافلا عن كيفية حدوث هذه الأشياء. بدليل قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ ، وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً. قالَ : يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (آل عمران ٣٧) فدل هذا على أن ذلك ما كان معجزة لزكريا عليه‌السلام.

ورابعها : انه تعالى ذكر هذه الخوارق فى معرض تعظيم حال مريم ، ولم يذكر معها ما شعر بجعلها معجزة لأحد من الأنبياء. ولو كان

٢٠٢

المقصود منها اظهار تصديق زكريا لا اظهار كرامة مريم ، لكان ذكر زكريا عند ذكر هذه الخوارق ، أولى من ذكر مريم. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن المقصود منها اكرام مريم لا تصديق زكريا.

الحجة الثانية : ان الله تعالى أبقى أصحاب الكهف ثلاث مائة سنة وأزيد فى النوم ، أحياء من غير آفة. وهم ما كانوا من الأنبياء ، فوجب أن يكون هذا من باب الكرامات.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : ان ذلك معجزة لبعض الأنبياء. وان كنا ما عرفناهم؟ قلنا : هذا باطل من وجهين :

الأول : ان تلك الأحوال لو كانت معجزة للأنبياء ، لما جاز اخفاها. لكنهم اجتهدوا فى اخفائها. حيث قالوا : (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف ١٩).

والثانى : هو أن بقاء قوم مدة ثلاث مائة سنة أحياء ، لا يمكن أن يصير معلوما للخلق. وما لا يمكن أن يصير معلوما للخلق ، لا يمكن جعله معجزة دالة على صدق مدعى النبوة. فثبت : أن هذا لا يصلح أن يكون معجزة ، فلم يبق الا أن يكون كرامة.

الحجة الثالثة : ان تشريف الله تعالى عبده بمعرفته ومحبته ، أعظم وأعلى من إعطائه رغيفا فى المفازة أو سقيه شربة من الماء. واذا لم يبعد الأول ، كيف يبعد الثانى؟

واحتج المنكرون بوجوه :

الحجة الأولى : ان تجويز الكرامات يفضى الى القول بالسفسطة. لأنا اذا جوزنا الكرامات ، فلعل الله تعالى قلب الجبل ياقوتا ، كرامة لبعض الأولياء. ولعله جفف البحر كرامة ، لولى ثان. ولعله خلق هذا الانسان الشيخ فى هذه الساعة ، كرامة لولى ثالث. وقس عليه. ومعلوم أن تجويزه يفضى الى الجهالات.

٢٠٣

الحجة الثانية : من شرط الدليل أنه أينما حصل ، لا بدّ أن يحصل معه المدلول. وظهور الخوارق يدل على النبوة ، فلو حصل فى حق النبي عليه‌السلام ، وفى حق غيره ، لخرج عن كونه دالا على صدق النبي عليه‌السلام. وذلك باطل بالاجماع.

الحجة الثالثة : لو جاز ظهور هذه الخوارق فى حق بعض الأولياء ، لجاز ظهوره فى حق الباقين. وعلى هذا التقدير يخرج انخراق هذه العادات عن كونه دليلا على النبوة ، وعن كونه دليلا على الكرامة.

الحجة الرابعة : لو ظهرت هذه الخوارق على النبي وعلى غيره ، لم يبق لظهورها وقع ولا مرتبة. كما أن المنصب الّذي يصل إليه الشريف والخسيس ، فانه لا يبقى له وقع. ولما اتفق العقلاء على أن ظهور هذه الخوارق منصب عظيم ، علمنا : أنه لا بد أن يكون مخصوصا بالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ

الحجة الخامسة : لو ظهرت الكرامات على انسان ، ثم ادعى ذلك الانسان على أحد ما لا ، فاما أن يطالبه بالبينة ، أو لا يطالب. لا جائز أن يطالبه ، لأنه ظهر بتلك الكرامة كمال حاله ودرجته عند الله. ومتى كان كذلك ، امتنع أن يكون فى ادعاءه المال على الغير كاذبا. ولا يجوز أن لا يطالب بالبينة لقوله عليه‌السلام : «البينة على المدعى ، واليمين على من أنكر» ولما بطل القسمان ، علمنا : أنه لا يجوز ظهور الكرامة.

الجواب عن الشبهة الأولى : ان منكر الكرامة ، يلزمه ذلك الاشكال ، لأنه ان أثبت للعالم فاعلا مختارا ، فلعل ذلك الفاعل فعل هذه الأمور من قلب الجبال ذهبا ، وقلب البحار دما ، وما يشبهه. اما من غير رعاية مصلحة ـ عند من لا يوقف فاعلية الله تعالى على رعاية المصلحة ـ أو لمصلحة لا نعرفها نحن ـ عند من يوقف فاعلية الله تعالى على رعاية المصالح ـ

٢٠٤

وأما من ينكر الفاعل المختار ، فيلزمه هذا الاحتمال أيضا. لأن سبب حدوث الحوادث فى هذا العالم بتشكلات فلكية واتصالات كوكبية ـ على مذهبه ـ ولا يبعد أيضا : أن يحدث فى الفلك تشكل غريب يوجب حدوث هذه الحوادث ، فى هذا العالم. فثبت : أن هذا الاشكال ، لازم على كل الفرق.

والجواب عن الشبهة الثانية : ان الكرامات والمعجزات ـ وان اشتركا فى كون كل واحد منهما أمرا خارقا للعادة ـ ولكن تمتاز المعجزة عن الكرامة من وجوه :

أحدها : ان الدعوى شرط فى النبوة ، وليست شرطا فى الكرامة.

وثانيها : ان الحاصل فى النبوة ادعاء النبوة ، وفى الكرامة اما أن لا تحصل الدعوى. أو ان حصلت لكنها لا تكون دعوى النبوة ، بل دعوى الولاية.

وثالثها : ان المعجزة لا تكون لها معارضة ، والكرامة قد تكون لها معارضة.

والجواب عن الشبهة الثالثة : ان هذا الّذي ألزمتموه علينا ، لازم عليكم فى المعجزات. وذلك لأنه تعالى اذا بعث جمعا كثيرا من الأنبياء ، فظهر على يد كل واحد منهم فعلا خارقا للعادة ، فحينئذ تصير الخوارق للعادات موافقة للعادات. وذلك يقدح فى كون المعجزة معجزة. وان قلتم : ان تكثير المعجزات انما يجوز بشرط أن لا يصير انخراق العادة عادة ، كان هذا هو جوابنا فى الكرامات.

والجواب عن الشبهة الرابعة : ان دليل النبوة ليس هو الفعل الخارق للعادة فقط ، بل هو الفعل مقرونا بدعوى النبوة مع عدم المعارضة. وهذا المجموع لا يحصل لغير الأنبياء ، فلا يلزم سقوط وقعها.

والجواب عن الشبهة الخامسة : ان ظهور الكرامات عليه ، لا يوجب كونه صادقا فى جميع الأمور ، فلا جرم يجوز مطالبته بالبينة. وبالله التوفيق.

٢٠٥

المسألة الخامسة والثلاثون

فى

أحكام الثواب والعقاب

وفيها فصول :

الفصل الأول

فى

حكم الثواب والعقاب

اعلم : أن المكلف اما أن يكون مطيعا. أو عاصيا. فان كان مطيعا ، فالله تعالى يثيبه. وزعم البصريون من المعتزلة : أن أداء الطاعة ، علة لاستحقاق الثواب على الله تعالى. ومذهبنا : أنه ليس لأحد على الله تعالى ، حق.

لنا : وجوه :

الحجة الأولى : ان الانعام يوجب على المنعم عليه ، الاشتغال بالشكر والخدمة. ونعم الله تعالى على العبد فى الماضى وفى الحاضر ، كثيرة خارجة عن الحصر والاحصاء. كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ ، لا تُحْصُوها) (ابراهيم ٣٤) واذا كان كذلك ، فتلك النعم السالفة توجب على العبد الاشتغال بالطاعة وبالشكر. وأداء الواجب لا يكون سببا لاستحقاق شيء آخر ، فوجب أن لا يكون اشتغال العبد بالطاعة ، علة لاستحقاق الثواب على الله تعالى.

الحجة الثانية : لو كان العمل علة لوجوب الثواب ، لكان اما أن يمتنع من الله تعالى أن لا يثيب أو يصح. فان امتنع أن لا يثيب ، فحينئذ يكون الصانع علة موجبة لذلك الثواب ، لا فاعلا مختارا. وان صح فبتقدير أن لا يثيب. ان لم يصر مستحقا للذم لم يتحقق معنى

٢٠٦

الوجوب ، وان صار مستحقا للذم ، لزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بسبب ذلك الفعل الّذي يفعله. وذلك محال.

فان قيل : إنه تعالى اذا علم وجود شيء. فان لم يصح منه تركه ، كان موجبا بالذات. وان صح ، لزم أن يكون قادرا على تجهيل نفسه. وهو محال.

قلنا : قد ذكرنا : أن علمه بالوقوع : تبع للوقوع ـ الّذي هو تبع للقصد الى الايقاع ـ والتابع لا يكون منافيا للمتبوع ، بخلاف فعل العبد ، فانه عند الخصم واقع بقدرة العبد وارادته. فلو صار ذلك الفعل سببا ، لأن يجب على الله تعالى فعل الاثابة ، لزم أن يكون العبد قد ألجأ الله تعالى بذلك الفعل الى ايجاد الثواب ، الجاء لا يمكن من تركه. وهذا محال.

الحجة الثالثة : انا قد ذكرنا فى مسألة خلق الأفعال : أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعى ، وبينا أن مجموع القدرة والداعى يوجب الفعل. واذا كان كذلك كان حصول الطاعة ، موجبا لفعل الله تعالى ومعلولا له. واذا كان كذلك كان حصول الطاعة من الله تعالى بفعل الفاعل ، لا يوجب عليه ثوابا ، فوجب أن تكون طاعات العبد ، لا توجب الثواب على الله تعالى.

شبهة الخصم : قوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة ١٧) وأمثاله من النصوص.

والجواب : ان العمل عندنا علامة حصول الثواب ، لا أنه علة موجبة له. وهذا القدر يكفى فى اطلاق اسم الجزاء على الثواب.

الفصل الثانى

فى

حكاية أدلة المرجئة على عدم القطع بالوعيد

أما المكلف العاصى فهو اما أن يكون كافرا ، أو غير كافر.

٢٠٧

أما الكافر فهو على قول أكثر الأمة يبقى مخلدا فى النار.

وأما العاصى الّذي ليس بكافر ، وكانت معصيته كبيرة. فللأمة فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : قول من قطع بأنه لا يعاقب. وهذا قول «مقاتل بن سليمان» وقول المرجئة الخالصة.

وثانيها : قول من قطع بأنه يعاقب. وهو قول المعتزلة والخوارج.

وثالثها : قول من لم يقطع بالعفو ولا بالعقاب. وهو قول أكثر الأمة ـ وهو المختار ـ

أما المرجئة. فقد تمسكوا على صحة قولهم بوجوه (١) :

الحجة الأولى : قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا : أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (طه ٤٨) فهذه الآية صريحة فى أن ماهية العذاب مختصة بمن كذب بالله تعالى ، وكان موليا عن دينه. ومن لم يكن مكذبا بالله ولا متوليا عن دينه ، لم يكن للعذاب به تعلق.

والحجة الثانية : قوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ. سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى. قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ. فَكَذَّبْنا ، وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (الملك ٨ ـ ٩) أخبر الله تعالى : أن كل فوج يدخل النار ، فانهم يقولون : (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) ولكن كذبناه وهذا صريح في أن كل من دخل النار ، كان مكذبا بأنبياء الله تعالى ، فيقتضى أن من لم يكن كذلك ، لم يدخل النار.

والحجة الثالثة : قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (الليل ١٤ ـ ١٦) ولا يقال : قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) نارا مخصوصة. وهى مختصة بالأشقى (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) فلم قلتم : ان سائر النيران لا يدخلها فساق أهل

__________________

(١) قولهم بآيات احداها قوله .. الخ : الأصل

٢٠٨

الصلاة؟ لأنا نقول : جميع النيران لا بدّ أن تكون متلظية. والآية دلت على أن النار المتلظية تصيب الكفار. وحينئذ يحصل المطلوب.

والحجة الرابعة : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ ، عَلَى الْكافِرِينَ) (النحل ٢٧) دلت هذه الآية : على اختصاص الخزى بالكافرين ، ثم ان كل من دخل النار ، فقد حصل له الخزى. لقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ ، فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (آل عمران ١٩٢) ولما لم يحصل الخزى الا للكفار ، وجب أن لا يحصل دخول النار الا لهم.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ : لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ. إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر ٥٣) حكم بغفران الذنوب جميعا. ولم يشترط فيه التوبة. وذلك يدل على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل التوبة وبعدها. فان قيل : فيلزم من دلالتها : مغفرة الكفر ، لأنه من الذنوب. قلنا : هب أن هذا العام دخله هذا التخصيص ، فيبقى فيما عداه حجة. وأيضا : لفظ العباد فى القرآن مخصوص بالمؤمنين. قال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (الانسان ٦).

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (الرعد ٦) وكلمة «على» تفيد الحال. كقولك : رأيت الأمير على أكله. أى رأيته حال أكله. فكذا هاهنا دلت الآية على أنه تعالى يغفر لهم حال اشتغالهم بالظلم. وحال اشتغالهم بالظلم ، يمنع حصول التوبة. فعلمنا : أنه يحصل الغفران بدون التوبة. فيقتضى هذا الدليل : حصول الغفران للمشرك. لأن الشرك ظلم ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان ١٣) الا أنه ترك العمل به ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء ١١٦) فيبقى حجة فيما عداه. والفرق : أن الكفر أعظم حالا من المعصية.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)؟ ولفظ (الْكَفُورَ) للمبالغة. فوجب أن يختص هذا الحكم بالكافر الأصلي.

٢٠٩

لا يقال : هذا معارض بقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء ١٢٣) لأنا نقول : لما وقع التعارض بين العفو والوعيد ، كان الرجحان لجانب العفو ـ على ما سيأتى ان شاء الله تعالى فى وجوه الترجيحات ـ

الحجة الثامنة : انه تعالى جعل المكلفين صنفين. فقال : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ : أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (آل عمران ١٠٦) فجعل كل من (اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) من الذين كفروا بعد ايمانهم من أهل العذاب ، وجعل من (ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) من أهل الثواب. وأقصى ما فى الباب : أن يقال : يشكل هذا بالكافر الأصلي. الا أنا نقول : خص العموم فى هذه الصورة ، فيبقى حجة فيما سواها.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (عبس ٣٨ ـ ٤٢)

وجه الاستدلال بهذه الآية : كما تقدم فى الحجة الثانية.

الحجة العاشرة : انه تعالى قسم المكلفين الى ثلاثة أقسام : السابقون ، وأصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة. ثم ذكر أن السابقين وأصحاب الميمنة فى الجنة ، وأن أصحاب المشأمة فى النار ، ثم بين أن أصحاب المشأمة هم الذين يقولون : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً. أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (المؤمنون ٨٢) ولما ثبت : ان أصحاب النار ليسوا الا أصحاب المشأمة ، وثبت أن أصحاب المشأمة ، هم الذين ينكرون البعث ، وجب أن يقال : إن أصحاب النار ليسوا الا الذين ينكرون البعث.

ترك العمل به فى حق سائر الكفار ، فيبقى حجة فى الفساق الحجة الحادية عشر : صاحب الكبيرة لا يخزى. وكل من أدخل النار ، فقد أخرى. فصاحب الكبيرة لا يدخل النار ، وانما قلنا :

٢١٠

ان صاحب الكبيرة لا يخزى ، لأنه مؤمن ، والمؤمن لا يخزى. وانما قلنا : انه مؤمن. لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ، حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (الحجرات) سماهم مؤمنين حال ما وصفهم بالبغى. وانما قلنا : ان المؤمن لا يخزى : لقوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ ، عَلَى الْكافِرِينَ) (النحل ٢٧) ولقوله : (لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (التحريم ٨) ولقوله تعالى حكاية عن المؤمنين : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) (آل عمران ١٩٤) ثم قال تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) (آل عمران ١٩٥) فثبت : ان صاحب الكبيرة مؤمن ، وثبت : أن المؤمن لا يخزى ، فيلزم أن صاحب الكبيرة لا يخزى. وانما قلنا : ان كل من أدخل النار ، فقد أخزى. لقوله تعالى : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ ، فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (آل عمران ١٩٢) ولما ثبتت هاتان المقدمتان ، لزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.

الحجة الثانية عشر : الايمان أقوى من الكفر ، ولما لم ينفع مع الكفر شيء من الطاعات ، وجب أن لا يضر مع الايمان شيء من المعاصى.

الحجة الثالثة عشر : الكافر اذا أسلم ، أزال ثواب ايمانه عقاب كفره. فدل هذا : على أن ثواب الايمان أزيد من عقاب الكفر ، وعقاب الكفر لا شك أنه أزيد من عقاب الفسق. فيلزم أن يكون ثواب الايمان ، أزيد من عذاب الفسق بكثير. وعند الجبر والمقابلة يفضل ثواب الايمان لا محالة. فوجب القطع بأن المؤمن من أهل الجنة.

ولا يقال : انه إذا كفر بعد ايمانه ، فعقاب كفره ، يزيل ثواب ايمانه. لأنا نقول : هب أنه كذلك ، لكن بهذا الطريق لا يظهر أن عذاب الفسق أزيد من ثواب الايمان.

وبالطريق الّذي ذكرناه : يظهر أن ثواب الايمان ، أزيد من عذاب الفسق. فكان الترجيح لدليلنا. والله أعلم.

٢١١

الفصل الثالث

فى

حكاية أدلة المعتزلة على القطع بالوعيد

اعلم : أنهم تمسكوا فى المسألة بالقرآن والأخبار :

أما القرآن : فمجموع ما يتمسكون به من الآيات محصور فى ثلاثة انواع :

أحدها : أنهم تمسكوا بلفظ «من» فى معرض الشرط. وزعموا : أنه يفيد العموم.

وثانيها : انهم تمسكوا بصيغة الجمع مع دخول حرف التعريف فيها وثالثها : تمسكوا بصيغة «الذين»

أما النوع الأول : فهو حجج (٢) :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ، يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (النساء ١٤) ومعلوم : أن من ترك الصلاة والحج والزكاة والصوم وقتل وزنى ولاط ، فقد تعدى الحدود.

فان قيل : الحدود لفظ جمع دخل فيه حرف التعريف فيفيد العموم ، وتعدى الحدود لا يصدق الا عند تعدى جميع الحدود. وهو اما أن لا يكون ممكنا أو يكون ممكنا. لكنه لا يثبت الا فى حق الكافر ، أما أنه غير ممكن ، فلأن من تعدى بالمجوسية لا يمكنه مع ذلك أن يتعدى باليهودية ، ومن تعدى بالفعل لا يمكنه فى تلك الحالة أن يتعدى بالترك. وأيضا : فان كان ذلك ممكنا ، الا أنه لا يتحقق الا فى حق الكافر ، فكانت الآية مختصة بالكافر.

__________________

(٢) آيات : الأصل

واعلم : ان المؤلف توسع فى هذا الموضوع فى التفسير الكبير فى سورة البقرة. عند قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً).

٢١٢

قلنا : انه تعالى شرح حدود الميراث فى مقدمة هذه الآية ، ثم قال : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) فانصرف هذا الحد الى الحدود المذكورة فيما تقدم ، وهى حدود الميراث. ثم قال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) (النساء ١٤) فقوله : (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) لا بدّ أن يكون منصرفا الى الحدود المذكورة فيما قبل ذلك. فثبت : أن هذا الوعيد مختص بمن تعدى الحدود المذكورة فى الميراث.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (النساء ٩٣) واذا ثبت أن جزاءه ذلك ، وجب أن يصل إليه. لقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء ١٢٣) لا يقال : الآية نزلت فى بعض الكفار. لأنا نقول : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

الحجة الثالثة : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الى قوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ، إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال ١٥ ـ ١٦)

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة ٧ ـ ٨)

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الى قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً ، فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) (النساء ٢٩ ـ ٣٠)

الحجة السادسة : قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (طه ٧٤)

الحجة السابعة : قوله تعالى : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (طه ١١١) ولا شك أن هذا الوعيد يتناول الظالم ، سواء كان كافرا أو مؤمنا.

٢١٣

الحجة الثامنة : انه تعالى قال بعد تعديد المعاصى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) (الفرقان ٦٨ ـ ٦٩)

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ، فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ (النمل ٨٩ ـ ٩٠) فلما دل النصف الأول من هذه الآية على أن الوعيد حاصل على جميع الطاعات ، دل النصف الثانى منها على أن الوعيد حاصل على جميع المعاصى.

الحجة العاشرة : قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (النازعات ٣٧ ـ ٣٩).

الحجة الحادية عشر : انه تعالى حكى قول المرجئة. فقال : (وَقالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (البقرة ٨٠) ثم انه تعالى كذبهم فى هذه المقالة بقوله (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) (البقرة ٨٠) ثم ذكر المذهب الصحيح. فقال : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (البقرة ٨١)

* * *

واعلم : أن التمسك بهذه الآيات مفتقر الى بيان أن كلمة «ما» و«من» فى معرض الشرط للعموم. وعليه دليلان :

(الدليل) الأول : انه اذا قال : «من دخل دارى أكرمته» حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء. والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه ، لوجب دخوله فيه. لأنه لا نزاع فى أن المستثنى من الجنس ، لا بدّ أن يكون بحيث يصح دخوله تحت المستثنى منه. فاما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب ، أو يعتبر؟ والأول باطل لوجوه :

الأول : انه يلزم أن لا يبقى فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر ، كقولك : «جاءنى فقهاء الا زيدا» وبين الاستثناء من الجمع المعرف ، كقولك : «جاءنى الفقهاء الا زيدا» لأن الصحة حاصلة فى الموضعين. والوجوب مفقود فى الموضعين ، لكن الفرق بينهما معلوم.

٢١٤

والثانى : ان الاستثناء من العدد يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فوجب أن يكون حكم الاستثناء فى جميع المواضع كذلك ، دفعا للاشتراك.

والثالث : انه تعارض النقل فى هذه المسألة. فقال بعض أهل اللغة : «الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصح» وقال آخرون : «انه يخرج من الكلام ما لولاه لوجب» ولما حصل التعارض وجب التوفيق ، فنقول : الصحة من لوازم الوقوع. ولا ينعكس. فلو جعلناه حقيقة فى الوقوع أمكن جعله مجازا عن الصحة ، لحصول الملازمة. وأما لو جعلناه حقيقة فى الصحة ، لا يمكن جعله مجازا عن الوقوع ، لعدم الملازمة. فكان جعله حقيقة ، أولى فى الوقوع. فثبت : أن حكم الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل. وعند هذا يتم الدليل.

الدليل الثانى (١) على أن صيغة «ما» و«من» فى معرض الشرط ، يفيدان العموم: أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، حَصَبُ جَهَنَّمَ) (الأنبياء ٩٨) قال ابن الزبعرى : «لأخصمن محمدا» ثم قال : «يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى؟»

وجه الاستدلال به : أنه تمسك بعموم اللفظ. والرسول عليه‌السلام ما أنكر عليه فى ذلك. فدل هذا على أن هذه الصيغة للعموم.

* * *

والقسم الثانى من أقسام صيغ العموم من الآيات التى تمسك بها المعتزلة فى الوعيد ، صيغة الجمع المحلاة بحرف التعريف.

الحجة الأولى : قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي

__________________

(١) الحجة الثانية : ص واعلم : أن رواية ابن الزبعرى هى من روايات الآحاد. والاشكال عليها : هو أن الملائكة وعيسى ـ عليهم‌السلام ـ لم يعبدوا برضاهم ، حتى يشملهم الوعيد. كما يشمل الذين أمروا الناس بعبادتهم ورضوا بها. وما ذنب انسان فى ن غيره ألصق به ، ما ليس فيه؟

٢١٥

جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (الانفطار ١٣ ـ ١٦)

الحجة الثانية : قوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (مريم ٨٦)

الحجة الثالثة : قوله تعالى : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (مريم ٧٢)

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ، ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) (النحل ٦١) بين أنه تعالى يؤخر عقابهم الى يوم آخر. وذلك انما يصدق لو حصل عقابهم فى ذلك اليوم.

واعلم : أن التمسك بهذه الآيات ، مفتقر الى بيان أن الجمع المحلى بحرف التعريف ، يفيد العموم. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : ان الأنصار لما طلبوا الامامة ، احتج عليهم «أبو بكر» ـ رضى الله عنه ـ بقوله ـ عليه‌السلام ـ «الأئمة من قريش» (٣) والأنصار عرفوا صحة تلك الحجة. ولو لا أن الجمع المحلى بحرف التعريف يفيد العموم ، والا لما صحت تلك الحجة. لأن قولنا : بعض الأئمة من قريش ، لا ينافى وجود امام من قوم آخرين. أما قولنا : كل الأئمة من قريش ينافى كون بعض الأئمة من غيرهم.

الحجة الثانية : ان هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق ، فوجب أن يكون هذا الجمع مقتضيا للاستغراق ، أما أنه يؤكد فلقوله

__________________

(٣) حديث الأئمة من قريش غير متفق مع القرآن فى المعنى. ففى القرآن (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولم يبين فى أولى الأمر أن يكونوا من القرشيين. وفى الأحاديث ما يوافق القرآن ، ويرد حديث الأئمة من قريش. وهو «اسمعوا وأطيعوا وان تأمر عليكم عبد حبشى» فلو كان القرشى لازما ، ما نص على العبد ـ

٢١٦

تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (ص ٧٣). وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق ، فبالإجماع. وأما أنه متى كان كذلك وجب كون المؤكد فى أصله للاستغراق. لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد اجماعا. والتأكيد هو تقوية الحكم الّذي كان ثابتا فى الأصل. ولو لم تكن افادة الاستغراق. حاصلة فى الأصل ـ وانما حصلت بسبب هذه الألفاظ ابتداء ـ لم يكن تأثير هذه الألفاظ ابتداء فى تقوية الحكم الثابت فى الأصل ، بل فى اعطاء حكم جديد. فكانت مثبتة للحكم (٤) لا مؤكدة. وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة ، علمنا : أن اقتضاء الاستغراق كان ثابتا فى الأصل.

الحجة الثالثة : انه يصح استثناء أى واحد يفرض منه. وذلك يدل على كونها للعموم.

القسم الثالث : من صيغ العموم : ما يتمسك بها المعتزلة فى هذا المقام. وهو صيغة الجمع المقرونة بحرف «الذين».

كقوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (المطففين ١) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (النساء ١٠) وقوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (النحل ٢٨) وقوله : (الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ، جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (يونس ٢٧).

فهذا مجموع الآيات التى يتمسكون بها فى هذه المسألة.

* * *

وأما الأخبار فكثيرة :

__________________

ـ وقول عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فى آخر حياته : «لو كان سالم حيا لما تخالجنى فيه شك» وسالم هو مولى امرأة من الأنصار ، وهى حازت ميراثه. وقوله عليه‌السلام : «لو كنت مستخلفا من هذه الأمة أحدا من غير شورة ، لاستخلفت ابن أم عبد»

(٤) للحل : ا ـ للمجمل : ب

٢١٧

أحدها : قوله عليه‌السلام : «من كان ذا لسانين وذا وجهين كان فى النار»

وثانيها : قوله عليه‌السلام : «من غصب شبرا من أرض ، طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين»

وثالثها : قوله عليه‌السلام : «والّذي نفسى بيده لا يدخل الجنة عبد ، لا يأمن جاره بوائقه»

ورابعها : قوله عليه‌السلام : «من شرب الخمر فى الدنيا ، ولم يتب لم يشربها فى الآخرة» ولا شك أن صيغ العموم فى هذه الأحاديث متناولة للكفار ، ولأهل الكبائر من أهل الصلاة.

هذا مجموع شبه المعتزلة فى هذه المسألة.

* * *

واعلم : أن أصحابنا أجابوا عن هذه الكلمات من وجوه :

أحدها لا نسلم أن صيغة «من» فى معرض الشرط تفيد العموم ، ولا نسلم أن صيغة الجمع اذا كانت معرفة بالألف واللام ، كانت للعموم. ويدل عليه وجوه :

أحدها : انه يصح ادخال لفظى الكل والبعض على هاتين اللفظتين فيقال : كل من دخل دارى وبعض من دخل دارى. ويقال أيضا : كل الناس كذا وبعض الناس كذا. ولو كانت لفظة «من» عند الشرط تفيد الاستغراق ، لكان ادخال لفظ الكل عليها تكريرا. وادخال لفظ البعض عليها نقضا. وكذا القول فى لفظ الجمع المعرف.

وثانيها : ان هذه الصيغة جاءت فى كتاب الله تارة. والمراد منها الاستغراق. وأخرى والمراد منها البعض. فان أكثر عمومات القرآن مخصوص والمجاز والاشتراك خلاف الأصل. فلا بدّ من جعله حقيقة فى القدر المشترك بين الصورتين. وذلك بأن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أنه يفيد الاستغراق أو لا يفيده.

٢١٨

وثالثها : ان هذه الصيغ لو أفادت الاستغراق لما حسن الاستفهام ، لكنه مستحسن. فإن من قال : جاءنى كل الناس ، حسن أن يقال : وهل جاءك الملك؟ وهل جاءك الوزير؟ فدل على أن هذه الألفاظ غير موضوعة للعموم على التعيين.

وأما تمسكهم بدليل الاستثناء : فجوابه : ان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحت المستثنى منه. ويدل عليه وجوه أربعة :

أحدها : انه ثبت فى أصول الفقه : أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار ، مع أنه يصح أن يقال : صل الا فى الوقت الفلانى. ومن المعلوم أن الاستثناء هاهنا لا يفيد الا منع الصحة.

وثانيها : ان صيغ جموع القلة يصح دخول الاستثناء فيها ، وصيغ جموع القلة لا تفيد الاستغراق. والا لما كانت جموع قلة.

وثانيها : ان «سيبويه» نص على أن جمع السلامة من جموع القلة ، مع أنه يصح دخول الاستثناء فيه.

ورابعها : انه يصح أن لا يقال : أصحب جمعا من العلماء ، الا فلانا. ومعلوم أن تأثير الاستثناء فى هذه الصورة ، ليس الا فى المنع من الصحة.

المقام الثانى فى الاعتراض : سلمنا : أن هذه الصيغ موضوعة للعموم. ولكنها تفيد العموم قطعا أم ظنا؟ (٥) والأول ممنوع. والثانى مسلم ، فنحن ندل على أن هذه الصيغ تفيد العموم ظنا. واذا كان كذلك ، لم يجز التمسك بها فى هذه المسألة.

انما قلنا : انها تفيد الاستغراق ظنا ، لا قطعا لوجوه :

أحدها : ان هذه الصيغ لو أفادت الاستغراق قطعا ، لامتنع ادخال لفظ التأكيد عليها ، لأن تحصيل الحاصل محال. ولما أجمعوا على أنه يحسن ادخال الألفاظ المؤكدة عليها ، علمنا : افادتها الاستغراق ظنية لا قطعية.

__________________

(٥) أم ظاهرا : ا

٢١٩

وثانيها : ان العلم بأن هذه الألفاظ موضوعة للاستغراق ، اما أن يحصل بخبر التواتر أو بخبر الآحاد. والأول باطل. والا لما وقع الخلاف فيه. فيبقى الثانى ، لكن خبر الآحاد لا يفيد الا الظن.

وثالثها : انا نرى أن الناس كثيرا ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل والجمع ، على سبيل المبالغة (١). قال تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (النمل ٢٣) ومعلوم أنها ما أوتيت من العرش والكرسى والجنة والنار ، فعلمنا : أن العادة العامة جارية بإطلاق لفظ الكل والجمع على الأكثر على وجه المبالغة. واذا كان هذا أمرا معتادا ، علمنا : أن دلالة هذه الألفاظ على الاستغراق دلالة ظنية محتملة ، لا قطعية.

اذا ثبت هذا فنقول : انه لا يجوز التمسك بهذه الألفاظ فى هذه المسألة ، لأن هذه المسألة قطعية ، والتمسك فيها بالدليل الظنى باطل قطعا.

المقام الثالث فى الاعتراض : سلمنا أن هذه الألفاظ تفيد معنى الاستغراق إفادة قطعية. لكن العقلاء ، أجمعوا على أن التمسك بالعمومات مشروط بأن لا يوجد شيء من المخصصات ، لأنه لا نزاع فى جواز تطرق التخصيص الى العمومات. فلم قلتم : انه لم يوجد هاهنا شيء من المخصّصات ، حتى يتم استدلالكم؟ أقصى ما فى الباب : أن يقال : بحثنا وطلبنا ، فلم نجد شيئا من المخصصات. لكن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود ، فى غاية الضعف.

ولا يقال : فعلى هذا التقدير يلزم أن لا يكون التمسك بشيء من العمومات مفيدا للقطع.

لأنا نقول : الأمر كذلك ، وما لم يقترن بالعمومات ما يدل على عدم التخصيص لا يفيد اليقين.

المقام الرابع فى الاعتراض : هب أنه لا بدّ للمعترض من بيان الوجه

__________________

(١) المراد : من كل شيء تحتاجه

٢٢٠