الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

الحجة الأولى : قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (النساء ١٧٢) فهذا يقتضي أن تكون الملائكة أفضل من المسيح. ألا ترى أنه يقال : ان فلانا لا يستنكف الوزير من خدمته ، بل السلطان. ولا يقال : انه لا يستنكف السلطان من خدمته ، بل الوزير. فلما ذكر المسيح أولا ، ثم الملائكة ثانيا ، علمنا : أن الملائكة أفضل من المسيح.

والاعتراض عليها من وجوه :

الأول : ان محمدا عليه‌السلام أفضل من المسيح. ولا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح ، كونهم أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثانى : ان قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) صيغة لجمع ، وصيغة الجمع تتناول الكل وهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح. فلم قلتم : انه يقتضي كون كل واحد من الملائكة أفضل من المسيح؟

والثالث : ان الواو فى قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) حرف العطف ، وهو مفيد الجمع المطلق ولا يفيد الترتيب ـ على ما ذكرناه فى أصول الفقه ـ وأما المثال الّذي ذكرتموه فليس بحجة. لأن الحكم الكلى لا يثبت بالمثال الجزئى ، ثم انه معارض بسائر الأمثلة كقولك : «ما أعاننى على هذا الأمر ، لا زيد ولا عمر» وهذا لا يفيد كون المتأخر فى الذكر أفضل من المتقدم. ومنه قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ ، وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) (المائدة ٢) ولما اختلفت الأمثلة ، امتنع التعويل عليها.

ثم التحقيق فى هذه المسألة : أنه اذا قيل : هذا العالم لا يستنكف الوزير من خدمته ولا السلطان. فنحن نعلم بعقولنا : أن السلطان أعظم درجة من الوزير ، فعلمنا : أن الغرض من ذكر الثانى هو المبالغة. وهذه المبالغة انما عرفناها بهذا الطريق ، لا بمجرد الترتيب فى الذكر.

١٨١

وهاهنا فى هذه الآية لا يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) بيان المبالغة الا اذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة المقربين أفضل من المسيح. وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة المدلول. وذلك دور.

الرابع : هب أن هذه الآية دالة على أن منصب الملك أعلى وأزيد ، من منصب المسيح. لكنها لا تدل على أن تلك الزيادة فى جميع المناصب أو فى بعضها. فانه اذا قيل هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان ، فهو لا يفيد الا أن السلطان أكمل من الوزير فى بعض الأشياء ـ وهى القدرة والسلطنة ـ ولا يفيد كون السلطان أزيد من الوزير فى الزهد والعلم.

اذا ثبت هذا ، فنحن نقول بموجبه. وذلك لأن الملك أفضل من البشر فى القدرة والقوة والبطش. فان جبريل عليه‌السلام قلع مدائن لوط ، والبشر لا يقدرون على شيء من ذلك. فلم قلتم : ان الملك أفضل من البشر فى كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخشوع والعبودية؟

وتمام التحقيق : ان الفضل المختلف فيه فى هذه المسألة هو كثرة الثواب ، ثم ان كثرة الثواب لا تحصل الا بنهاية التواضع والخضوع ، وكون العبد موصوفا بنهاية التواضع لله تعالى ، لا يلائم صيرورته مستنكفا عن عبودية الله تعالى ، بل ينافيها ويناقضها ، فامتنع أن يكون المراد من الآية هذا المعنى. أما اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والقوة الكاملة ، فانه مناسب للتمرد وترك العبودية.

والنصارى لما شاهدوا من المسيح عليه‌السلام احياء الموتى ، وابراء الأكمه والأبرص ، أخرجوه بسبب هذا القدر من القدرة ، عن عبودية الله تعالى. فقال تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) أى أن عيسى لن يستنكف بهذا القدر من القدرة عن عبوديتى ، ولا الملائكة

١٨٢

المقربون الذين هم فوقه فى القدرة والبطش والاستيلاء على عالم السموات والأرضين.

وبهذا الوجه تنتظم دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر فى القدرة والبطش والشدة ، لكنها لا تدل البتة على أن الملك أفضل من البشر فى كثرة الثواب.

أو يقال : انهم انما ادعوا إلهية المسيح ، لأنه حصل من غير أب. فقيل لهم : الملائكة حصلوا لا من أب ولا من أم. فكانوا أعجب من عيسى فى هذا الباب ، مع أنهم لا يستنكفون عن عبودية الله تعالى.

الحجة الثانية : لمن قال بتفضيل الملك على البشر : التمسك بقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) والاستدلال به من وجهين :

الأول : انه تعالى احتج بعدم استكبار الملائكة عن عبادته ، على أن البشر يجب أن لا يستكبروا عنها. فلو كان البشر أفضل من الملائكة ، لما تم هذا الاستدلال. فان السلطان اذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له ، فانه يقول : الملوك لا يستكبرون عن طاعتى. فمن هؤلاء المساكين؟ وبالجملة : فظاهر أنه يلزم أن هذا الاستدلال لا يتم الا بالأقوى على الأضعف.

الثانى : انه تعالى قال : (وَمَنْ عِنْدَهُ) وهذه العندية ليست عندية بالجهة ، بل عندية بالفضيلة والقربة.

والاعتراض على الوجه الأول : لعل المراد : أن الملائكة مع شدة قوتهم لا يتمردون عن طاعة الله ، فما بال البشر يتمردون عن طاعة الله ، مع غاية قصورهم وحقارتهم. وهذا يوجب كون الملك أقوى من البشر ، لكنه لا يوجب كونه أفضل من البشر ـ بمعنى كثرة الثواب ـ

والاعتراض على الوجه الثانى : انه معارض بقوله تعالى فى صفة

١٨٣

البشر : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر ٥٥) وقال عليه‌السلام حكاية عن الله تعالى : «أنا عند المنكسرة قلوبهم» وهذا أفضل لأنه قال فى صفة الملائكة : انهم عند ربهم. وقال فى صفة المنكسرة قلوبهم : ان ربهم عندهم.

الحجة الثالثة : لمن قال بتفضيل الملك على البشر : عبادات الملائكة أشق ، فيكون الملك أفضل. انما قلنا : انها أشق لوجوه :

الأول : انهم آمنون من الآفات التى يكون البشر خائفا منها. مثل الغرق والحرق والقتل والمرض والحاجة والشقاوة والكفر والمعصية. وأيضا : فالسماوات التى هى مساكنهم وأماكنهم ، كالجنان والبساتين الطيبة ، بالنسبة الى الأرض.

وكل من كان تنعمه أكثر وخوفه أقل ، كان تمرده أشد. ولهذا قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ، إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت ٦٥).

ثم ان الملائكة مع كثرة أسباب التنعم والتمرد ، منذ خلقوا ، بقوا مشتغلين بالعبادة خاشعين وجلين مشفقين لا يلتفتون الى نعيم الجنان واللذات ، بل بقوا مقبلين على الطاعات الشاقة موصوفين بالفزع الشديد ، وكأنه لا يقدر أحد من بنى آدم أن يبقى كذلك يوما واحدا ، فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة. ويؤكده : قصة آدم عليه‌السلام فانه أطلق له فى جميع مواضع الجنة بقوله تعالى : (وَكُلا مِنْها رَغَداً ، حَيْثُ شِئْتُما) (البقرة ٣٥) ومنعه من شجرة واحدة ، فلم يملك نفسه ، حتى وقع فى الشر. وهذا يدل على أن طاعتهم أشق من طاعة البشر.

الوجه الثانى : فى بيان أن طاعتهم أشق : أن انتقال المكلفين من نوع عبادة الى نوع آخر ، كالانتقال من بستان الى بستان. أما الاقامة على نوع واحد ، فانها تورث الملالة. ولهذا السبب جعلت التصانيف

١٨٤

مقسومة بالأبواب والفصول. وجعل كتاب الله مقسوما بالسور والأخماس والأعشار ، ثم ان الملائكة كل واحد منهم يواظب على عمل واحد لا يعدل عنه الى غيره. كما قال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء ٢٠) وقال حكاية عنهم : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (الصافات ـ ١٦٠ ـ ١٦٦).

فثبت بما ذكرنا : أن عبادتهم أشق. واذا ثبت هذا ، وجب أن يكونوا أكثر ثوابا. لقوله عليه‌السلام : «أفضل الأعمال (٤) أحمزها» والاعتراض عليه : معارض بما ذكرنا من أن عبادات البشر أشق ، فتكون أفضل.

الحجة الرابعة : عبادات الملائكة أدوم ، فوجب أن تكون أفضل.

انما قلنا : أدوم ، لقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، لا يَفْتُرُونَ) وعلى هذا التقدير لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر ، لكانت طاعتهم أكثر وأدوم. فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر ، الى عمر الملائكة.

وانما قلنا : ان الأدوم أفضل لوجوه :

أحدها : ان الأدوم أشق ، فكان أفضل. وقد بينا هذا الوجه.

الثانى : قوله عليه‌السلام «أفضل العباد من طال عمره ، وحسن عمله» والملائكة أطول العباد عمرا ، وأحسنهم عملا. فوجب أن يكونوا أفضل العباد.

والثالث : قوله عليه‌السلام : «الشيخ فى قومه ، كالنبى فى أمته» وهذا يقتضي أن يكون الملك فيما بين البشر كالنبى فى الأمة. وذلك يوجب فضلهم على البشر.

__________________

(٤) الأعمال : ب

١٨٥

الرابع : ان طاعات الملائكة مساوية لطاعات بنى آدم فى الخوف والخشية. قال تعالى: (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل ٥٠) وقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء ٢٧) وقال : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء ٢٨) : وقال تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (سبأ ٢٣ فهذه الآيات دالة على أن غاية خشوع الملائكة وخضوعهم ، ان لم يكن أزيد من خشوع البشر وخضوعهم ، فلا يكون أقل منه. واذا ثبت هذا ، فنقول : طاعات الملائكة مساوية لطاعات البشر فى الكيفية الموجبة للثواب ـ وهى الخشوع والخضوع ـ وأزيد منها فى المدة والدوام. فوجب القطع بأن ثوابهم أزيد وأكثر.

الحجة الخامسة : الملائكة أسبق فى العبادة من البشر ، والأسبق أفضل.

أما أنهم أسبق ، فلا شك فيه. اذ من المعلوم : أنه لا خصلة من خصال الدين ، الا وهم أئمة مقتدون فيها ، بل هم المنشئون العامرون لطرق الدين.

وأما أن الأسبق أفضل : فلوجهين :

الأول : قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (الواقعة ١٠ ـ ١١)

الثانى : قوله عليه‌السلام : «من سن سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة» وهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب ، كل ما حصل للأنبياء مع زيادة الثواب التى استحقوها بأفعالهم التى أتوا بها قبل خلق البشر.

الحجة السادسة : الملائكة رسل الله الى الأنبياء. والرسول أفضل من الأمة.

١٨٦

بيان المقدمة الأولى ـ وهى أن الملائكة رسل الله الى الأنبياء ـ قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (النجم ٥) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ) (الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤) (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (النحل ٢)

وأما (المقدمة الثانية وهى) أن الرسول أفضل من أمته فلوجهين :

الأول : ان رسول البشر أفضل من أمته ، فكذا هاهنا.

فان قيل : العرف أن السلطان اذا أرسل واحدا الى جمع عظيم ، ليكون متوليا لأمورهم ، وحاكما فيهم ، فذلك الشخص أفضل من ذلك الجمع. وأما اذا أرسل شخصا واحدا الى شخص واحد ، لأجل الاعلام ، فالظاهر أن الرسول أقل حالا من المرسل إليه ، كما اذا أرسل الملك عبده الى الوزير.

قلنا : هذا مدفوع. لأن جبريل ـ عليه‌السلام ـ مبعوث الى كافة الأنبياء ـ والرسل من البشر ـ فجبريل عليه‌السلام رسول ، وأمته كل الأنبياء. فعلى القانون الّذي ذكره السائل ، يلزم أن يكون جبريل أفضل منهم.

الوجه الثانى : ان الملائكة رسل الله ، لقوله عزوجل : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (فاطر ١) والملك اما أن يكون رسولا الى ملك آخر ، واما أن يكون رسولا الى البشر. وعلى التقديرين ، فالملك رسول وأمته أيضا رسل. وأما الرسول البشرى فهو رسول ، لكن أمته ليسوا برسل. ومعلوم : أن الرسول الّذي تكون كل أمته رسلا ، أفضل من الرسول الّذي لا يكون أحد من أمته رسولا.

فثبت فضل الملائكة على البشر من هذه الجهة ، ولأن ابراهيم عليه‌السلام كان رسولا الى لوط ، وكان أفضل منه. وموسى كان رسولا الى الأنبياء الذين كانوا فى عسكره ، وكان أفضل منهم. فكذا هاهنا.

١٨٧

الحجة السابعة : الملائكة أتقى من البشر. وألا تقى أفضل.

انما قلنا : انهم أتقى لأنهم مبرءون عن الزلات وعن الميل إليها ، لأن خوفهم دائم. قال تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل ٥٠) وقال : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء ٢٨) والخوف والاشفاق ينافيان العزم على المعصية. أما الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ فلم يخل أحد منهم عن شيء هو صغير ، أو ترك مندوب. قال عليه‌السلام : «ما منا أحد الأعمى ، أو هم بمعصية ، غير يحيى بن زكريا».

انما قلنا : ان الأتقى أفضل ، لقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (الحجرات ١٣) فاثبات الكرامة مقرونا بذكر التقوى ، يدل على أن تلك الكرامة معللة بالتقوى ، وحيث كان التقوى أكثر ، وجب أن تكون الكرامة والفضيلة أكثر.

لا يقال : فهذا يقتضي أن يكون «يحيى» أفضل من الأنبياء ، ومن محمد عليه‌السلام لأنه قال : «ما منا أحد الا عصى أو هم بمعصية ، عير يحيى بن زكريا».

لأنا نقول : هذه الصورة خصت بدلالة الاجماع ، فيبقى الدليل حجة فى سائر الصور.

الحجة الثامنة : الأنبياء عليهم‌السلام ما استغفروا لأحد ، ألا بدءوا بالاستغفار لأنفسهم ، ثم بعد ذلك استغفروا لغيرهم من المؤمنين.

قال آدم عليه‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (الأعراف ٢٣) وقال نوح : (رَبِّ اغْفِرْ لِي ، وَلِوالِدَيَّ ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) (نوح ٢٨) وقال ابراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (الشعراء ٨٣) وقال موسى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) (الأعراف ١٥١) وقال تعالى لمحمد عليه‌السلام : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)

١٨٨

(محمد ١٩) وقال : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (الفتح ٢) وأما الملائكة فانهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكن طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر. قال تعالى حكاية عنهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (غافر ٧) وقال : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (غافر ٧) ولو كانوا محتاجين الى الاستغفار ، لبدءوا فى ذلك بأنفسهم. لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير ، قال عليه‌السلام : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وهذا يدل على أن الملك أفضل من البشر.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ، لا يَتَكَلَّمُونَ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَقالَ صَواباً) (النبأ ٣٨) والمقصود من شرح هذه الواقعة : المبالغة فى شرح هذه عظمة الله. ولو كان فى الخلق طائفة ، قيامهم بين يدى الله تعالى وتضرعهم فى حضرة الله أقوى فى الانباء عن عظمة الله وكبريائه من الملائكة ، لكان ذكرهم فى هذا المقام أولى. ثم انه سبحانه كما بين عظمته فى الدار الآخرة بذكر الملائكة ، فكذلك بين عظمته فى الدار الدنيا بذكر الملائكة. قال تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الزمر ٧٥) وهذا يدل على أنه لا سنبة لهم الى البشر البتة.

الحجة العاشر : قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ) (الانفطار ١٠ ـ ١١) وهذا عام فى حق جميع المكلفين من بنى آدم ، فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم.

وهذا يقتضي كون الملائكة أفضل من البشر لوجهين :

الأول : انه تعالى جعلهم حفظه لبنى آدم. والحافظ للمكلف ـ من المعصية ـ لا بد أن يكون أبعد عن الخطأ ، والمعصية من المحفوظ. وهذا يقتضي كونهم أبعد عن المعاصى ، وأقرب الى الطاعات من البشر. وذلك يقتضي مزيد الفضل.

١٨٩

والثانى : انه سبحانه وتعالى جعل كتابتهم حجة للبشر فى الطاعة ، وحجة عليهم فى المعاصى. وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر ، فلو كان البشر أعظم حالا منهم ، لكان الأمر بالعكس.

ويقرب من هذا الدليل : (٥) التمسك بقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) (الجن ٢٦ ـ ٢٨) وأجمعوا على أن هذا الرصد هم الملائكة (٦). وهذا يدل على أن الأنبياء عليهم‌السلام لا يصيرون مأمونين من التخليط فى الوحى ، الا باعانة الملائكة وتقويتهم. وكل ذلك يدل على الفضل الظاهر.

الحجة الحادية عشر : قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (البقرة ٢٨٥) فبين تعالى : أنه لا بد فى صحة الايمان من الايمان بهذه الأشياء ، فبدأ بنفسه وثنى بملائكته وثلث بكتبه وربع برسله. وكذا فى قوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (آل عمران ١٨) وفى قوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) (الأحزاب ٥٦) وقال الله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ، وَمِنَ النَّاسِ) (الحج ٧٥).

والتقديم فى الذكر ، يدل على التقديم فى الشرف. والدليل عليه : أن تقديم الأدون على الأشرف فى الذكر ، قبيح عرفا ، فوجب أن يكون قبيحا شرعا أما أنه قبيح عرفا ، فلأن الشاعر لما قال :

عميرة ودع أن تجهزت غازيا

كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا.

__________________

(٥) التأويل : ا

(٦) انظر فصل الرصد والطلاسم فى كتابنا علم السحر بين المسلمين وأهل الكتاب ـ نشر مكتبة الثقافة الدينية بمصر.

١٩٠

قال عمر رضى الله عنه : «لو قدمت الاسلام لأعطيتك» ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين المشركين ، وقع التنازع فى تقديم الاسم ، وهذا يدل على أن التقديم فى الذكر ، يدل على مزيد الشرف والفضل. واذا ثبت أنه كذلك فى العرف ، وجب أن يكون فى الشرع كذلك. لقوله عليه‌السلام : «ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن».

الحجة الثانية عشر : الملك أعلم من البشر ، والأعلم أفضل.

انما قلنا : انه أعلم : لأن جبريل. كان معلما لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (النجم ٥) والمعلم لا بد أن يكون أعلم من المتعلم.

وأيضا : فالعلوم قسمان عقلية ونقلية.

أما العقلية : فمنها ما هو واجب ، كالعلم بذات الله وصفاته ، ولا يجوز وقوع التقصير فيها للملائكة وللأنبياء ومنها ما ليس بواجب ، وهو كالعلم بكيفية مخلوقات الله وما فيها من العجائب كالعلم بأحوال العرش والكرسى واللوح والقلم والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات فى المفاوز والجبال والبحار ، ولا شك أن جبريل عليه‌السلام أعرف بها ، لأنه أطول عمرا ، وأكثر مشاهدة لها ، فكان علمه بها أكثر وأكمل.

وأما العلوم النقلية التى لا تعرف الا بالوحى : فهى لم تحصل لمحمد عليه‌السلام ، ولا لسائر الأنبياء ، الا من جهة جبريل عليه‌السلام فيستحيل أن يكون لمحمد فيها فضيلة على جبريل. وأما جبريل عليه‌السلام فانه كان هو الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء فهو عالم بكل الشرائع الماضية والحاضرة. وهو أيضا : عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم ، ومحمد عليه‌السلام ما كان عالما بشيء من ذلك.

فثبت : أن جبريل أعلم من محمد ـ عليهما‌السلام ـ فوجب أن يكون أفضل منه. لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ، وَالَّذِينَ

١٩١

لا يَعْلَمُونَ) (الزمر ٩) أقصى ما فى الباب : أن يقال : ان آدم عليه‌السلام علم الأسماء كلها ولم تعلمها الملائكة. ولكن الظاهر أن العلم بالحقائق والشرائع ، أفضل من العلم بالأسماء ، فكان جبريل عليه‌السلام أفضل من آدم عليه‌السلام.

الحجة الثالثة عشر : انا نتكلم فى حق جبريل ومحمد عليهما‌السلام ونقول : ان جبريل أفضل من محمد. والدليل عليه : قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير ١٩) وقد وصف الله تعالى جبريل بستة من صفات الكمال :

أحدها : كونه رسولا من عند الله.

وثانيها : كونه كريما عند الله.

وثالثها : كونه ذا قوة عند الله. ومعلوم : أن قوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات. وتخصيصه بالذكر فى معرض المدح ، يدل على أن تلك القوة غير حاصلة لغيره.

ورابعها : كونه مكينا عند الله.

وخامسها : كونه مطاعا فى عالم السموات. وهذا يقتضي أن يكون مطاعا لكل الملائكة ، لأن الاطلاق وعدم التقييد فى معرض المدح يفيد ذلك.

وسادسها : كونه أمينا فى كل الطاعات ، وفى تبليغ وحى الله تعالى الى الأنبياء.

ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن وصف جبريل عليه‌السلام بهذه الصفات العالية وصف محمداعليه‌السلام بقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (التكوير ٢٢) ولو كان محمد مساويا لجبريل فى صفات الفضل ، أو مقاربا له ، لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات العالية ، غضا (٦) من منصب محمد عليه‌السلام ، وتحقيرا

__________________

(٦) نقصا : ب

١٩٢

لشأنه. وذلك غير جائز. فدلت هذه الآية : على أنه ليس لمحمد عند جبريل عليهما‌السلام من المنزلة والقدر والرتبة ، الا أن يقال : انه ليس بمجنون.

فان قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير ١٩) صفة لمحمد لا لجبريل عليهما‌السلام. قلنا : لأن قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (التكوير ٢٣) يبطل ذلك.

الحجة الرابعة عشر : قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف ٣١) والمراد من هذه النسبة. اما نسبة يوسف بالملك فى صورته ، أو فى سيرته. والثانى أولى. لأنه شبهه بالملك الكريم ، والملك انما يكون كريما بالسيرة لا بالصورة. فثبت : أن المراد تشبيهه بالملك فى نفى دواعى الشهوة ، ونفى الحرص على طلب اللذات الحسية ، واثبات ضد ذلك. وهى صفة الملائكة ـ وهى غض البصر ومنع النفس عن الميل الى المحرمات ـ فدلت هذه الآية : على اطباق العقلاء من الرجال والنساء ، والمؤمن والكافر ، على اختصاص الملائكة بالدرجات الفائقة على درجات البشر.

فان قيل : قول المرأة : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (يوسف ٣٢) يقتضي أن يكون تشبيه يوسف بالملك انما وقع فى الصورة لا فى السيرة. لأن ظهور عذرها من شدة عشقها ، انما وقع فى الصورة بسبب فرط يوسف فى الجمال ، لا بسبب فرطه فى الزهد.

قلنا : ان شدة عشقها له. يحتمل أن يكون بسبب غاية زهده ، لأن الانسان حريص على ما منع منه ، وكل ما كان اعراض المعشوق أكثر ، كان شدة عشق العاشق أكثر.

الحجة الخامسة عشر : قوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (الإسراء ٧٠) ومخلوقات الله تعالى اما المكلفون ، أو ما عداهم. ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم. أما المكلفون فهم

١٩٣

أربعة أنواع الملائكة والانس والجن والشياطين. ولا شك أن الانسى أفضل من الجن والشياطين. فلو كان أفضل أيضا من الملائكة ، لزم أن يكون أفضل من جميع المخلوقات. فكان ينبغى أن يقول : وفضلناهم على كل من خلقنا. وعلى هذا التقدير يصير لفظ «كثير» ضائعا. وذلك غير جائز فعلمنا : أنه ليس أفضل من الملك.

فان قيل : هذا تمسك بدليل الخطاب وهو أن تخصيص الكثير بالذكر ، يدل على أن حال الباقى بخلافه. وأيضا : فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس البشر ، لكن لا يلزم أن يكون كل فرد من أفراد هذا الجنس أشرف من كل فرد من أفراد ذلك الجنس. وأيضا : يجوز أن يكون المراد : وفضلناهم فى الكرامة المذكورة فى أول هذه الآية ـ وهى الكرامة فى حسن الصورة ومزيد الذكاء والقدرة على الأعمال العجيبة ـ

واذا ثبت هذا فنقول : نحن نسلم أن البشر ليسوا أفضل من الملائكة فى هذه الأمور. لكن لم قلتم : إنهم ليسوا أفضل منهم فى كثرة الثواب؟ قلنا : أما السؤال الأول فجوابه من وجهين :

أحدهما : هب أنه تمسك بدليل الخطاب. الا أنه حجة ، بدليل : أن من قال : اليهودى اذا مات لا يبصر شيئا ، فانه يضحك من هذا الكلام. لعلة : أنه لما كان المسلم كذلك ، لم يبق لذكر اليهودى فائدة.

وهذا يدل على أن تخصيص الشيء بالذكر ، يوجب نفى الحكم عما عداه

والثانى : ان هذا ليس تمسكا بدليل الخطاب ، بل هو تمسك بأنه لو كان البشر مفضلا على الكل ، لكان لفظ الكثير ضائعا. ومعلوم أنه غير جائز.

وأما السؤال الثانى فجوابه : انا انما نتمسك بهذه الآية فى بيان أن جنس الملك أفضل من جنس البشر ، لا فى بيان أحوال الأفراد. واذا ثبت هذا التفاوت فى الجنس ، كان الظاهر فضل الفرد على الفرد الا عند اثبات التعارض.

١٩٤

وأما السؤال الثالث فجوابه : ان قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (الاسراء ٧٠) يتناول تكريمهم بالهداية والتوفيق للطاعة. فقوله : (وَفَضَّلْناهُمْ) يجب أن يكون عائدا الى كل واحد من هذه الأحوال.

الحجة السادسة عشر : قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (الأنعام ٥٠) وهذا يدل على أن حال الملك أشرف.

الحجة السابعة عشر : قوله تعالى : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (الأعراف ٢٠) وهذا يدل على أن منصب الملك أشرف.

وفى هذين الدليلين أبحاث دقيقة

الحجة الثامنة عشر : قوله عليه‌السلام حكاية عن الله تعالى «اذا ذكرنى عبدى فى ملأ ، ذكرته فى ملأ خير من ملئه» وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف.

الحجة التاسعة عشر : لا شك أن كمال حال الأجساد لا يحصل الا عند اتصال الأرواح بها. والملائكة أرواح محضة ، والجسد جسم كثيف استنار بنور الأرواح. ثم ان كمال هذه الأرواح. هو أن تتصل بعالم الملائكة. كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (الفجر ٢٨ ـ ٣٠) فجعل حال كمال الأرواح المنفصلة من هذا العالم ، أن تدخل فى عباده ، وأولئك العباد ليسوا الا الملائكة. فان قوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) خطاب مع جميع الأرواح البشرية ، والعباد الذين تتصل بهم جميع الأرواح البشرية ، ليسوا الا الملائكة.

وأيضا : قال فى شرح عظم ثواب المطيعين : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) (الرعد ٢٣ ـ ٢٤) فجعل تسليم الملائكة عليهم منزلة عالية ، ودرجة عظيمة لهم. ولو لا أن

١٩٥

عالم الملائكة أشرف ، لم يكن اتصال الأرواح البشرية بهم سببا لسعادة هذه الأرواح البشرية.

الحجة العشرون : الملائكة مبرءون عن الشهوة والغضب والخبال والوهم. وهذه الصفات هى الحجب القوية عن تجلى أنوار الله تعالى. ولا كمال الا بحصول ذلك التجلى ، ولا نقصان ألا بحصول ذلك الحجاب. ولما كان هذا التجلى لهم ، حاصلا أبدا ـ وفى أكثر الأوقات تكون الأرواح البشرية محجوبة عن ذلك التجلى ـ علمنا : أنه لا نسبة لكمالهم الى الكمالات البشرية. والّذي يقال : أن الخدمة مع كثرة العوائق ، أدل على الاخلاص من الخدمة بدون العوائق : كلام خيالى ، لأن المقصود من جملة العبادات والطاعات ، حصول ذلك التجلى. فأى موضع كان حصول ذلك التجلى فيه أكثر ، وعن المعاوق أبعد ، كان الكمال والسعادة أتم.

ولهذا قال فى صفة الملائكة : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء ٢٠) وقال عليه‌السلام : «انه ليغان على قلبى ، وانى لأستغفر الله فى اليوم والليلة سبعين مرة».

الحجة الحادية والعشرون : الروحانيات فضلت على الجسمانيات من وجوه :

أحدها : انها نورانية علوية ، والجسمانية ظلمانية سفلية.

وثانيها : ان علومها أتم. وذلك لأن الحكماء زعموا : (٧) أن الروحانيون السماويون مطلعون على أسرار المغيبات ، وناظرون فى اللوح المحفوظ أبدا ، وعالمون بكل ما سيوجد فى المستقبل ، وبكل ما وجد فى الماضى.

وثالثها : ان علومهم فعلية كلية دائمة ، وعلوم البشر ناقصة انفعالية منقطعة.

__________________

(٧) زعموا : ان الروحانيات السماوية مطلعون ... الخ : الأصل من ا ـ برهنوا على أن الروحانيات ... الخ : ب

١٩٦

ورابعها : ان أعمالهم أتم. لأنهم دائما يواظبون على الخدمة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) لا يلحقهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا غفلة الأبدان. وطعامهم التسبيح ، وشرابهم التقديس والتمجيد ، وأنسهم بذكر الله ، وفرحهم بخدمة الله متجردون عن العلائق البدنية ، مبرءون عن الحجب الشهوانية والغضبية. فأين أحدهما من الآخر؟

وخامسها : الروحانيون لهم قدرة على تغيير الأجسام ، وتقليب الأجرام ، والقدرة التى لهم ليست من جنس القوى المزاجية ، حتى يعرض لها كلال ولغوب. ثم انك ترى الشظية (٨) الضعيفة من النبات ، فى بدو نموها تفتق الأحجار ، وتشق الصخور ، وما ذلك الا بقوة فاضت عليها من جواهر القوى المساوية فما ظنك بتلك القوى السماوية. فالروحانيون هم الذين يتصرفون فى الأجسام السفلية تقليبا وتصريفا ، لا يستثقلون حمل الثقال ولا يستضعفون نقل الجبال. فالرياح تهب بتحريكاتها ، والسحاب تعرض وتزول بتصريفاتها ، والزلازل تطرأ بقوتها ، والآثار العلوية تحدث بمعونتها.

والكتاب الكريم ناطق بذلك ، كما قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (الذاريات ٤) وقال : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (النازعات ٥) ومعلوم : أن شيئا من هذه الأحوال لا يصدر عن الأرواح (٩) البشرية ، فأين أحدهما من الآخر؟

الحجة الثانية والعشرون : الروحانيون مختصون بالهياكل الشريفة ـ وهى السيارات السبع وسائر الثوابت ـ والأفلاك لها كالأبدان ، والكواكب كالقلوب ، والملائكة كالأرواح. ونسبة الأرواح الى الأرواح ، كنسبة الأبدان الى الأبدان. ثم انا نعلم : أن اختلاف أحوال الكواكب والأفلاك يتأدى لحصول الاختلافات فى أحوال هذا العالم ، فانه يحصل من حركات الكواكب ، اتصالات مختلفة من التثليث والتسديس والتربيع والمقابلة والمقارنة. وكذلك مناطق الأفلاك. تارة

__________________

(٨) الشظية : ب ـ الرطبة : ا

(٩) الا عن الأرواح : ا

١٩٧

ينطبق بعضها على بعض ـ وهو الرتق ـ وعنده تبطل عمارة العالم. وأخرى ينفصل بعضها عن البعض ـ وذلك هو الفتق ـ وعنده تنتقل العمارة فى هذا العالم السفلى من جانب الى جنب.

فاذا رأينا أن هياكل العالم العلوى مستولية على هياكل العالم السفلى ، فكذا أرواح العالم العلوى يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلى ، لا سيما وقد دلت المباحث الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات أرواح العالم العلوى ، ونسبة كمالات هذا العالم ، معلولات لكمال ذلك العالم. وكمالات هذه الأرواح الى أرواح ذلك العالم وكمالاته كالشعلة الصغيرة بالنسبة الى قرص الشمس ، وكالقطرة الصغيرة فى البحر الأعظم.

وهذه الأرواح البشرية كالذرات ، وأما البحار والعيون والجبال والمعادن ، فهى كالأرواح العلوية. فكيف يمكن أن يقابل أحدهما بالآخر؟

فهذه حكاية أدلة الفريقين فى هذه المسألة على الاختصار.

١٩٨

المسألة الرابعة والثلاثون

فى

كرامات الأولياء

المعتزلة ينكرونها (١). ووافقهم الأستاذ أبو إسحاق من أصحابنا. وأكثر أصحابنا يثبتونها. وبه قال «أبو الحسين البصرى» من المعتزلة.

لنا : وجوه ثلاثة :

الحجة الأولى : ان حدوث الحبل لمريم من غير الذكر من خوارق

__________________

(١) ولى الله تعالى هو المعترف به والعامل بشريعته. والنبي وليه وغير النبي وليه. والفرق بينهما : أن الله تعالى يجرى معجزة خارقة للعادة على يد النبي تصديقا له فى دعوى النبوة ، كانقلاب عصا موسى حية. وأما الولى. فلا يجرى الله على يده معجزة لئلا يلتبس بالنبى. وانما اذا وقع فى مصيبة ينزل الله سكينة فى قلبه ، أو اذا افترى عليه مفتر بدعوى كاذبة كأن يتهمه بالزنا وهو منه بريء. فان الله يظهر براءة وليه ، ويوقع المفترى فى المصائب. وهكذا. وهذا يكون اكراما للأحياء من الأولياء. أما الأموات فلا تحدث منهم كرامات لأن أرواحهم انقطعت عن أجسادهم ولا تعود الى قبورهم الا فى الآخرة. وقوله تعالى عن الأولياء : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) معناه السكينة واظهار البراءة وما شابه ذلك. (وَفِي الْآخِرَةِ) لهم الجنة. وما يحكى عن أصحاب الأضرحة والقباب أنهم يظهرون المسروق ويكشفون الضر ويقضون الحوائج فهذا لا سند له من القرآن الكريم ولا يصح الاعتقاد فيه. بل يجب هدم الأضرحة والقباب لأن الشرع لم يصرح ببناء على أى قبر ، كائنا من كان. وما حكى عن بعض الأحياء من الأفعال التى تخالف العادة مثل ما حكى أن درويشا من «السودان» كان يصطاد السمك من الماء بسنارة ، ليس فيها طعم يجذب السمك إليها. فهذه الحكايات من الخرافات والأساطير. وقد بينا فى تعليقاتنا على «شرح عيون الحكمة» للامام فخر الدين الرازى. كل ما يتعلق بالروح من الأحكام.

١٩٩

__________________

«مصر الفرعونية»

وفى العدد ستمائة وتسع وعشرين من مجلة أكتوبر المصرية هذا البحث : تقول : «اليزابيث ويكت» التى تعد رسالة الدكتوراه فى جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة : اننى فى دراستى أركز على الفن الشعبى والعادات والتقاليد التى تمارس حاليا ، والبحث عن جذورها قديما ، ولكى أستطيع دراسة التقاليد المصرية فى «الأقصر» كان لا بدّ من دراسة تاريخ «الأقصر» لمعرفة جذور هذه التقاليد.

وقد كان قديما فى مصر الفرعونية يحتفل بعيد «الأوبت» حيث يحمل الكهنة ثلاثة مراكب بها نواويس تماثيل الآلهة «آمون» وزوجته «موت» وابنهما «خنسو» ويتم نقلهم من الكرنك الى معبد الأقصر ، عبر نهر النيل. وفى الطريق كان أهل «الأقصر» يهللون ويطبلون ويزمرون ويرقصون ويذبحون الذبائح احتفالا بعيد الاله آمون.

وبعد أن يقضى الاله فى معبد الأقصر عدة أيام ، يعود مرة أخرى الى «الكرنك» حيث مقره الرسمى بعد أن يكون قد تنزه فى معبد «الأقصر».

وقد عثر على مناظر هذا الاحتفال على جدران معبد «الأقصر» وأعمدته ..

وبملاحظتى لما يتم من مراسم فى مولد «سيدى أبو الحجاج الأقصرى» حيث كنت أقوم بتصوير فيلم تسجيلى عن هذا المولد ، وجدت أن هناك أكثر من صلة وعلاقة بين ما كان يتم قديما وما يتم فى الوقت الحاضر من المراكب والبخور والذبائح والطبل. وغيرها.

وقد بنى مقام سيدى أبو الحجاج فوق معبد الأقصر فى العصر الفاطمى ، ويحتفل بمولده منذ بداية شهر شعبان وحتى ليلة النصف من نفس الشهر. وقد استعنت «اليزابيث» فى بحثها بفيلم أرشيفى فى متحف «المتروبوليتان» ويرجع تاريخه لعام ١٩٢٥ يصور مولد «سيدى أبو الحجاج» ويوضح الفيلم : العادات والتقاليد التى كانت موجودة فى المولد قديما ، وما زالت باقية ، وما هو مستحدث منها.

٢٠٠