الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

الجواب : قال أهل اللغة : يكفى فى حصول الاضافة : أدنى سبب. ففى قوله تعالى : (بَناتِي) أى البنات اللواتى هن لى بحكم المبايعة وقبول الدين ، ولم يجوز لهم الفجور بهن ، بل كان غرضه ترجيح النسوان على الغلمان.

* * *

القصة الخامسة عشر : قصة زكريا عليه‌السلام :

قالوا : انه تضرع الى الله تعالى فى طلب الولد ، فلما بشره الله تعالى باجابة الدعاء ، أخذ يتعجب ، ويقول : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ. وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)؟ (آل عمران ٤٠) قالوا : هذا شك فى قدرة الله تعالى.

والجواب : انه عليه‌السلام لما بشر بالولد حال انقطاع رجائه عن الولد ، عظم سروره بذلك. ومن عظم سروره بالشيء فربما يسأل عن الكيفية والكمية ، ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ، ويزداد سروره بها ، ويتأكد علمه بحصول مقصوده.

* * *

القصة السادسة عشر : قصة عيسى عليه‌السلام :

وفيها شبهتان :

الشبهة الأولى : تمسكوا بقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ : اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ؟) (المائدة ١١٦) ولاستدلال به من وجوه :

أحدها : ان عيسى عليه‌السلام ان كان قد قال هذا الكلام ، فقد أتى بالذنب العظيم. وان لم يقل ، فهذا الاستفهام عبث.

وثانيها : ان النفس هى الجسد. فقوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (المائدة ١١٦) يوهم اثبات الجسمية لله تعالى.

١٦١

وثالثها : ان كلمة «فى» للظرفية. وهى لا تعقل الا فى الأجسام :

والجواب عن الأول : انه عليه‌السلام ما قال ذلك. وفائدة هذا الاستفهام : تقريع من قال بهذا القول من النصارى. كما قيل : «اياك أعنى ، واسمعى يا جارة».

وعن الثانى : ان النفس فى اللغة بمعنى الذات.

وعن الثالث : ان المراد من لفظ «فى» حلول الصفة فى الموصوف الشبهة الثانية : قوله تعالى حكاية عنه : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة ١١٨) وكيف جاز هذا القول ، مع علمه بأن الله تعالى لا يغفر للكافر؟

والجواب : المقصود من هذا الكلام : تفويض الأمر بالكلية الى الله تعالى. وبالله التوفيق.

* * *

القصة السابعة عشر : قصة نبينا محمد صلى الله عليه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وسلم ، وبارك ، ورضى الله عنه ، وعن أصحابه أجمعين.

وفيها شبه :

الشبهة الأولى : قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (الضحى ٧) فانه معارض بقوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ، وَما غَوى) (النجم ٢) والتوفيق : أن يحمل هذا على نفى الضلال فى الدين. وذاك على الضلال اما فى أمور الدنيا ، أو فى طريق مكة ، أو فى مخالطة الخلق.

الشبهة الثانية : تمسكوا بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ، إِلَّا إِذا تَمَنَّى ، أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٢٧)

__________________

(٢٧) لا يصح أن تروى

١٦٢

يروى أنه عليه‌السلام لما رأى اعراض قومه عنه ، شق عليه ذلك ، وتمنى أن يأتيه من الله ما يتقرب به الى قومه ، فأنزل الله تعالى سورة النجم. فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بلغ الى قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) : ألقى الشيطان على لسانه :

تلك الغرانيق العلى

منها الشفاعة ترتجى

فلما سمعت قريش ذلك ، فرحوا وقالوا : قد ذكر آلهتنا بأحسن الذكر. فلما أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءه جبريل عليه‌السلام ، وقال : تلوت على الناس ما لم آتك به. فحزن لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخاف من الله خوفا شديدا ، فنزل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) الآية.

والجواب : انا قد ذكرنا فى «التفسير الكبير» كل الوجوه المذكورة فى هذه الآية. وحاصل الكلام يرجع الى أن الأمنية يمكن تفسيرها بالقراءة ، وبالعزيمة. فان فسرناها بالقراءة فلها وجهان :

أحدهما : أن يقال : ان الغرانيق هم الملائكة. وقد كان ذلك قرآنا منزلا فى صحف الملائكة ، فلما توهم المشركون أن الله تعالى يريد آلهتهم ، نسخ الله تلاوته.

الثانى : أن يقال : المراد منه : الاستفهام على سبيل الانكار. كأنه قال : أشفاعتهن ترتجى؟ وأما ان فسرناه بالخاطر وتمنى القلب ، كان المعنى : أن النبي عليه‌السلام كلما تمنى ما كان يتمناه من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ، يدعوه الى ما لا ينبغى. ثم ان الله تعالى ينسخ ذلك ويهديه الى ترك الالتفات الى وسوسته.

الشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) (الأحزاب ٣٧)

١٦٣

والجواب من وجوه :

أحدها : انه تعالى لما أراد نسخ ما كان فى الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء ، أوحى إليه : أن «زيد» يطلق زوجته ، فان طلقها فتزوج أنت بها. فلما حضر «زيد» ليطلقها ، أشفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه لو طلقها لزمه التزوج بها ، فيصير سببا لطعن المنافقين فيه. فقال له : «أمسك عليك زوجك» وأخفى فى نفسه عزمه على نكاحها بعد أن يطلقها زيد. وهذا التأويل هو المطابق لقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ).

وثانيها : ان زيدا لما خاصم زوجته زينب ـ وهى بنت عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأشرف على طلاقها ، أضمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ان طلقها «زيد» يتزوج بها ، لأنها كانت ابنة عمته ، وكان يحب ضمها الى نفسه. كما يحب أحدنا ضم قرابته إليه ، حتى لا ينالهم ضرر ، لا أنه عليه‌السلام ما أظهر ذلك اتقاء من ألسنة المنافقين. فالله تعالى عاتبه على التفات قلبه الى الناس. وقال : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)

وثالثها : ان «زينب» طمعت فى أول أمرها أن يتزوج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما خطبها الرسول لزيد ، شق ذلك عليها وعلى أبيها وأمها ، حتى نزل قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ، إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً ، أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) فعنده انقادوا كرها ، فلما دخل عليها زيد ، لم تساعده ، ونشرت عنه ، لاستحكام طمعها فى الرسول عليه‌السلام ، واستحقارها زيدا ، فشكاها «زيدا» الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عليه‌السلام : «أمسك عليك زوجك» وأخفى فى نفسه استحكام طمعها فيه ، لأنه عليه‌السلام لو ذكر ذلك لزيد ، لتنغصت عليه تلك النعمة. وقال المنافقون : انه انما قال ذلك طمعا فى تلك المرأة.

١٦٤

فهذه الوجوه الثلاثة صالحة لتأويل الآية.

وأما الّذي يقال : انه عشقها. فهو من باب الآحاد. والأولى تنزيه منصب النبي عنه. ثم بتقدير الصحة ، فلا معصية فيه ، لأن ميل القلب غير مقدور.

ثم من هؤلاء من قال : انه عليه‌السلام لما رآها وعشقها ، حرمت على زوجها. وهذا باطل. والا لكان أمر زيد بامساكها أمرا بالزنا. ولكان وصفها بكونها زوجا له فى قوله «أمسك عليك زوجك» كذبا.

ومنهم من قال : انها ما حرمت على زوجها ، ولكن وجب على زوجها تطليقها والنزول عنها. قالوا : وهذا التكليف حصل فيه ابتلاء الزوج ، وابتلاء الرسول. أما ابتلاء الزوج فلأن تكليف النزول عن الزوجة طلبا لمرضاة الله ، فيه تشديد. وأما ابتلاء الرسول ، فلأنه اذا لم يحفظ نظره ، فربما وقع نظره على من يميل إليها ، لأن حصول الميل بعد الرؤية ليس باختياره ، وحينئذ يجب أن يجبر الزوج بأنه يجب عليه تطليقها. وان أجبره بذلك تعرض لسوء المقالة ، وان لم يجبره بذلك صار خائنا فى الوحى ، فلأجل الاحتراز عن هذين الضررين العظيمين ، كان عليه‌السلام يبالغ فى حفظ النظر. وذلك من أشق التكاليف.

الشبهة الرابعة : تمسكوا بقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا؟ وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال ٦٧ ـ ٦٨)

الجواب : ان هذا العتاب وقع على ترك الأفضل ، لأنه كان الأفضل والأولى حينئذ فى ذلك الوقت الاثخان وترك الفداء ، قطعا للأطماع. ولو لا أن ذلك من باب الأولى والأفضل ، لما فوض رسول الله

١٦٥

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى أصحابه. أما قوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا)؟ فهو خطاب ينصرف الى القوم الذين رغبوا فى المال. وأما قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الآية. فمعناه : لو لا أنه سبق تحليل الغنائم ، لعذبكم بسبب أخذكم هذا الفداء.

الشبهة الخامسة : قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ (التوبة ٤٣) والعفو يدل على تقدم الذنب.

والجواب : هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها ، لأنه تعالى عفا ، ثم عاتب. وهذا غير ممكن ، فعلمنا : أن المراد منه : التلطف فى الخطاب ، كما يقال : أرأيت رحمك الله وغفر لك. وان لم يكن هناك ذنب. وأيضا : فهو من باب التدبير فى الحروب. وتارك الأفضل قد يوبخ.

الشبهة السادسة : قوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (الشرح ٢ ـ ٣)

والجواب : أنه محمول على الوزر الّذي كان قبل النبوة ، أو على ترك الأفضل. وأيضا: الوزر هو الثقل. قال تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (محمد ٤) أى أثقالها. وانما سمى الذنب بالوزر ، لأنه يثقل فاعله.

اذا ثبت هذا ، فنحن نحمل الآية على أنه عليه‌السلام كان فى غم شديد بسبب اصرار قومه على الشرك ، وبسبب أنه عليه‌السلام وأصحابه كانوا مستضعفين فيما بينهم ، فلما أعلى الله كلمته ، وشد أزره ، فقد وضع عنه وزره. ويتقوى هذا التأويل بقوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح ٤) وبقوله : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح ٦) فان العسر عبارة عن الشدائد والغموم ، واليسر عبارة عن زوالها.

١٦٦

الشبهة السابعة : قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (الفتح ٢)

والجواب عنه من وجوه :

أحدها : انه محمول على ما قبل النبوة ، أو على ترك الأفضل كما يقال : «حسنات الأبرار ، سيئات المقربين».

وثانيها : ان المراد من قوله : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) من ذنب أمتك. فان الرجل المعتبر اذا أحسن بعض خدمه أو أساء. فانه يقال له : أنت فعلت ذلك ، وان لم يكن هو الفاعل لذلك الفعل.

وثالثها : الذنب مصدر ، ويجوز اضافته الى الفاعل والمفعول ، والمراد : ليغفر لأجلك ولأجل بركتك ما تقدم من ذنبهم فى حقك وما تأخر ، ويقرب منه قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال ٣٣).

الشبهة الثامنة : قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (عبس ١ ـ ٢)

والجواب : يحمل هذا العتاب على ترك الأفضل.

الشبهة التاسعة : قوله (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) (الأنعام ٥٢)

الجواب : ليس فى الظاهر أنه طردهم ، وانما فيه النهى عن طردهم. وحكمة هذا النهى: أن جمعا من الكفار طلبوا منه طرد الفقراء ، فالله تعالى أنزل هذه الآية لتكون حجة له في الامتناع عن قبول قولهم.

الشبهة العاشرة : قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ) (التوبة ١١٧) والتوبة مسبوقة بالذنب.

١٦٧

والجواب : انه محمول على ترك الأفضل.

الشبهة الحادية عشر : قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (محمد ١٩) وفى الحديث : «وانى لأستغفر الله فى اليوم والليلة سبعين مرة»

والجواب : انه محمول على ترك الأفضل ، أو يكون على تقدير : اذ ثبت ، فاستغفر. كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (التحريم ٨) ولا يريد به أن الكل مذنبون ، وانما المراد بعثهم على التوبة أن أذنبوا.

الشبهة الثانية عشر : قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ؟) (التحريم ١) ظاهره مشعر بأنه فعل ما لا يجوز.

والجواب : تحريم ما أحل الله له ، ليس بذنب ، بدليل الطلاق والعتاق. وأما العتاب فانما ورد على أنه فعل ذلك لابتغاء مرضاة النسوان.

الشبهة الثالثة عشر : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) (الأحزاب ١) و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة ٦٧) ولو لم يوجد منه فعل المحظور والاخلال بالواجب ، لم يكن لهذا الأمر والنهى فائدة.

والجواب : ان أحد أسباب العصمة هو الأمر والنهى. ووجودهما لا يخل بالعصمة ، بل تواترهما على الرسل مقرونا بالترغيب والترهيب ، من أقوى أسباب العصمة.

الشبهة الرابعة عشر : قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (الزمر ٦٥)

والجواب عنها من وجوه :

أحدهما : أن المراد منه ما روى عن ابن عباس أنه قال : «نزل

١٦٨

القرآن ، ب «إياك أعنى ، واسمعي يا جاره» ومثاله : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ، فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (الطلاق ١) فقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ) يدل على أن الخطاب مع غيره.

وثانيها : ان المراد منه الشرك الخفى. وهو الالتفات الى غير الله.

وثالثها : انه شرح الحال بتقدير الوقوع. كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء ٢٢)

الشبهة الخامسة عشر : قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ، إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (الأعلى ٦ ـ ٧) دل الاستثناء على وقوع النسيان فى الوحى.

والجواب : النسيان محمول على الترك. والمعنى : لا تترك منه شيئا ، الا المنسوخ.

الشبهة السادسة عشر : قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) (يونس ٩٤) وأيضا : قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (يونس ٩٤) قالوا : وهذا يدل على أنه عليه‌السلام كان شاكا فيما أوحى الله تعالى إليه.

والجواب : ان القضية الشرطية لا تفيد ، الا ترتيب الجزاء على الشرط. فأما أن الشرط حاصل أم لا؟ فهذا لا تفيده الشرطية. والفائدة فى أنه تعالى أمره بالرجوع الى أهل الكتاب : من وجهين :

الأول : ان نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢٨) كان مذكورا

__________________

(٢٨) كان ينبغى أن يعبر بقوله : ان نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكور. الخ ومن نصوص التوراة عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا النص : «يقيم لك الرب إلهك ـ

١٦٩

__________________

ـ نبيا من وسطك من اخوتك مثلى. له تسمعون. حسب كل ما طلبت من الرب إلهك فى حوريب يوم الاجتماع قائلا : لا أعود أسمع صوب الرب إلهى ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا ، لئلا أموت. قال لى الرب : قد أحسنوا فى ما تكلموا. أقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك وأجعل كلامى فى فمه. فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الانسان الّذي لا يسمع لكلامى الّذي يتكلم به باسمى. أنا أطالبه. وأما النبي الّذي يطغى ، فيتكلم باسمى كلاما لم أوصه أن يتكلم به ، أو الّذي يتكلم باسم آلهة أخرى. فيموت ذلك النبي. وان قلت فى قلبك : كيف نعرف الكلام الّذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر ، فهو الكلام الّذي لم يتكلم به الرب ، بل بطغيان تكلم به النبي. فلا تخف منه» (تثنية ١٨ : ١٥ ـ ٢٢)

وفى الإنجيل هذا النص : «وهذه هى شهادة يوحنا. حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر أنى لست أنا المسيح. فسألوه اذن ما ذا؟ ايلياء أنت؟ فقال : لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب : لا» (يوحنا ١ : ١٩ ـ ٢١)

وفى التوراة اسم «محمد» فى هذه الآية : «وأما اسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه. وأثمره. وأكثره. كثيرا جدا. اثنى عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة» (تكوين ١٧ : ٢٠) فان كثيرا جدا فى العبرانية «بمادماد» وحروفها بالجمل تساوى اثنين وتسعين ومحمد يساوى اثنين وتسعين. وان أمة كبيرة تترجم فى العبرانية «لجوى جدول» وهى أيضا تساوى اثنين وتسعين. والمعنى : أن الّذي سيأتى من نسل اسماعيل عليه‌السلام لتبدأ منه بركة اسماعيل فى الأمم ، سيكون اسمه مساوى لحروف بمادماد أو لجوى جدول. وكانت التوراة منتشرة بين الأمم أيام كان بنو اسرائيل يهدون الأمم بشريعة موسى عليه‌السلام فان دعوته كنت عامة الى مجىء النبي الأمى

١٧٠

__________________

ـ المنبه عليه من آل اسماعيل عليه‌السلام. ولذلك جاء فى كتب الهندوس والزرادشتيين والبوذيين وغيرهم تنبيه على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما تركه عنه علماء بنى اسرائيل فى بلادهم.

وجاء فى التوراة أيضا : «وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى اسرائيل قبل موته. فقال : جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران. وأتى من ربوات القدس ، وعن يمينه نار شريعة لهم. فأحب الشعب. جميع قديسيه فى يدك. وهم جالسون عند قدمك. يتقبلون من أقوالك» (تثنية ٣٣ : ١ ـ ٣)

وهذا نص ما كتبه الدكتور عبد الرشيد بجامعة كراتشى فى مجلة هدى الاسلام الأردنية المجلد ٣٠ العدد الثانى ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م.

الكتب الهندوسية :

الهندوسية أحد الديانات القديمة فى العالم. الكتب القديمة لدين الهندوس هى «الويدات». ويدعى المحققون الهندوسيون أنها ألفت قبل ٠٠٠ ر ٠٠٠ ر ١٣١٠ «بليون وثلاثمائة وعشرة ملايين» سنة ويزعم المحققون من غير الهندوس ان تدوينها يرجع الى أربعة آلاف سنة ، واقدم الويدات هى رغ ويدا. وذكرت فيه بعثة نبينا كالآتى : ـ «انسونتا ستيرنى ما محى مى غادا حستينتهوا آسروا مفوتراترنى ورشنوا أغنى نهى بهير سرى ويوانره تريم رونا شيحكنى».

ومعناه : «أقامنى الرب لتبليغ هذا الكلام :

محمد صاحب أكبر مطايا النبيين ، وخادم لدين الاسلام يسمى صادقا وأمينا ، ملقب بمعلم الدين وصاحب الفراسة ، متصف بجميع الصفات يعلم الأنبياء ، جواد بارز بين عشرة آلاف» ...

اذا تأملنا هذا النص يتضح لنا أنه يذكر بعثة النبي «ما محى»

١٧١

__________________

ـ الّذي ميزته بأنه بارز بين عشرة آلاف ، وهذا ثابت تاريخيا انه لم يكن بين الهندوس نبى اسمه «ما محى» الّذي يكون بارز بين عشرة آلاف. هذا هو نبينا الّذي اسمه أحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان بارزا بين عشرة آلاف صحابى يوم فتح مكة. وكلمة «مح» فى اللغة السنسكريتية تحمل معنى «الحمد» ومحمد معناه «محمود».

والآن نقدم لكم نصا من «ساما ويدا» وهو كالآتى :

«احميد هى يتيوه برى مع دها مرتسى جغره رهم سورى اواجنى» معناه : «أحمد حصل من الرب شريعة فيها حكمة ، انا متنور كالشمس» ... هذا النص من «ساما ويدا» يبشر ببعثة «أحمد» وشريعته وحكمته. والمعروف أن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أحمد أيضا.

الثالث من الويدات هو «أثر ويدا» وهو يبشر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هكذا :

«أدم جنا أب سرت نراشنس ستمشتى. شئيم سهسوانويتم ح كورم آروشميس دومهى».

معناه : «ايها الناس ، استمعوا باحترام ـ محمد محمد. ونحفظ من العدو الّذي يهاجر ويعم الأمن» ..

ورد فى هذه الفقرة كلمة «نراشنس» والقصد به نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا نعلم فى تاريخ الهند مرسلا باسم «نراشنس» ومعناه «الّذي يحمد» وهذا عين معنى اسم نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

وورد فى نص ثالث من هذا الويد ذكر صفاته ـ عليه‌السلام ـ فيقول : «أشى رشى مامحى شتم نيشكانوا دس سرجه ترينى شتانى ورم ثام سيسراد غونامو» ..

وأبين لكم ترجمة هذه الفقرة كلمة. فتدبروا كيف يوضح كل كلمة منها أوصاف النبي العربى عليه الصلاة والسلام.

١٧٢

__________________

ـ «أشسى» أى الرب. «رشى» الذات المحترمة ، والشخصية المقدسة «ما محى محمدا «شتم» أى مائة «نيشكانو» قطعات الذهب ، الشخصيات الثمينة كالذهب «سرجه» العقد «شتانى» مائة «ورثام» الخيل العربى «سيسراد» عشرة آلاف «غوناموا» بقرة تذكر هذه الفقرة قطع الذهب والعقد وثلاث مائة فرس عشرة آلاف بقرة .. وإليكم التفصيل :

شبه أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقطع الذهب لأنهم خلص كالذهب يمكن الثقة بهم. ويشهد التاريخ ان الصحابة كانوا محل الثقة والاعتماد من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يمتثلون كل اوامره كما يثق صاحب المال بنقوده الذهبية يقضى بها ما شاء من حوائجه.

ثم ذكرت العقود العشرة وهم العشرة المبشرون بالجنة. والمراد بثلاثمائة خيل هم أصحاب بدر الذين حاربوا الحرب الأولى ضد الكفر ، وعشرة آلاف بقرة هم الذين اشتركوا فى فتح مكة. وحصل الفتح بدون قتال. والبقرة فى الويدا علامة الأمن والعلى والاتحاد.

والفقرات الاخرى من هذا الويد أيضا تشير بنبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتذكره بلقب «فاتح مكة» و«أحمد» و«صاحب العدل».

وهكذا الكتب الدينية الأخرى للهندوس مثل «ابيلشنه» يصف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بانه «هادى الأمم» وقيل انه «أرسل إليه السلام» وقيل : «سلام على محمد الّذي صورته كالقمر والّذي عنده قوة الأسد وقوة الرحمة».

هكذا ورد فى «البيان» نعوته عليه‌السلام والّذي سيحدث فى حياته وسمى «معلما».

هذا قليل من الكثير الوارد فى كتب الهندوس المقدسة من علامات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويستطيع كل من يفحصها أن يجد غير ما ذكرت.

١٧٣

__________________

الكتب الزرادشتية :

الكتاب الدينى فى هذا الدين هو «زند اوستا» قال فيه زرادشت : «سيوجد فى الزمن الآتى جماعة تمنح الحياة لأمم العالم وأديانه وأسمه اسوت ارتيا ، وهو رحمة وهو انسان كامل يصلح فساد الناس».

فمنها يبشر زند اوستا بنبي رحيم اسمه استوت ارتيا ، وهو فاتح ورحمة للعالمين انسان كامل يصلح الناس أفلا توجد هذه الصفات فى نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بكل وضوح وجمال؟.

أما كلمة «اسوت ارتيا» فهى مشتقة من مصدر فارسى «ستودن» وهو المدح والحمد فالكلمة حينئذ ترجمة حرفية لاسم «محمد» ثم ذكر زرادشت بأنه فاتح رحيم ، ويكفى مثالا لذلك قوله عليه‌السلام يوم فتح مكة لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).

ويوجد تنبؤ ببعثة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى رسالة زرادشت الى ساسان الأول يقول فيها : «اذا يسوء عمل أهل ايران فسيظهر رجل فى العرب يزول بمقدمة عرش ايران وشريعتها وسيغلب المعتدون».

وكتاب آخر معروف لهم «جاماسبى» ذكر فيه سيرة الرسول عليه‌السلام ومضمونه كأن الكاتب يراه بعينه. وإليكم معنى النص :

«سيظهر فى صحراء العرب رجل جميل فصيح متوسط القامة ، تصل دعوته كل جانب ، يلبس العمامة بدل التاج الملكى ، فيخرب بيت نار الفرس ، وسيكون لختنه ابنان ، يقتل أحدهما مسموما ويقتل الآخر بنينوى ومعه أثنان وسبعون نفرا».

فهذا النص يبين صورة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرته ولباسه ويذكر الحسن والحسين وحادثة كربلاء ، وكربلاء فى العراق ، وكانت تسمى المنطقة كلها «نينوى» سابقا. هل ينطبق هذا الخبر على أحد غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ كلا ثم كلا.

الكتب البوذية :

تعالوا نرجع الى خمسة وعشرين قرنا فى الماضى اذ كان البشر

١٧٤

فى التوراة والإنجيل. فأمره الله تعالى بالرجوع إليهم فى معرفة تلك العلامات ، لتصير نفسه أقوى.

الثانى : انه تعالى أمره أن يرجع إليهم فى معرفة كيفية نبوة سائر الأنبياء ، حتى يعرف أنه أوتى مثل ما أوتى سائر الأنبياء من المعجزات.

فهذا جملة الكلام فى تأويل هذه الآيات.

* * *

__________________

ـ أسوأ خلقا من الحيوان اعنى زمن ولادة بوذا اذ كان الانسان منقسما الى طبقات مع أن جميع البشر أبناء أب وأم ، وخلق خالق واحد. كان الرجل من احدى الطبقات يتشاءم بوقوع ظل رجل آخر عليه لأنه من طبقة أخرى. حقوق كل طبقة تختلف عن طبقة أخرى. حتى أن الطبقة السفلى ـ وهى طبقة الشودرا ـ ليس لها عمل الا خدمة الطبقات الأخرى ، وكان الرجل من هذه الطبقة لا يملك ماله ولا نفسه ولا عرضه يرى ماله يسلب ، وعرضه يهتك ، ولا يستطيع أن ينطلق بكلمة واحدة ، ولا كلمة أف.

فى مثل هذه الظروف ولد بوذا وكل نعمة من الدنيا ترفرف عليه. ولكن قد يكون من عباد الله من لا يهمه راحة نفسه بل يضحى بكل ما يملك لتفريج الهم عن غيره. وهكذا كان بوذا. ولما كان بوذا فى آخر نفسات من حياته كان على لسانه بشارة برحمة للعالمين.

اذ سأله تلميذ يدعى نندا : «من يعلم العالم بعد ذهابك يا سيدى؟» فأجاب بوذا قائلا : «يا ننداه لست أول بوذا ظهر فى العالم ولست آخر بوذا ، سيأتى بوذا آخر فى وقته وسيدعو الناس مثلى الى نظام كامل دينى خالص» ، سأل نندا : فكيف نعرفه؟. فقال السيد : سيسمى «ميتريا» أى بوذا ، صاحب الرحمة»

والكل يعرف أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هو رحمة للعالمين. (انتهى التعليق)

١٧٥

ولنختم هذه المسألة بذكر آيتين تمسكوا بهما فى اثبات الذنب للأنبياء على الاطلاق :

الآية الأولى : قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) (النحل ٦١) قالوا : هذه الآية تقتضى ثبوت الظلم لكل الناس ، فوجب ثبوته للأنبياء.

والجواب : هذا معارض بقوله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود ١٨) فلو كان النبي ظالما ، لدخل تحت هذه الآية.

والثانية : قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ. فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) (الجن ٢٦ ـ ٢٨) قالوا : فلولا الخوف من ايقاع التخليط فى تبليغ الوحى من جهة الرسل ، لم يكن فى الاستظهار بالرصد المرسل معهم (٢٨) فائدة.

والجواب : يجوز أن تكون بعثة الملائكة مع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ليس لأجل الخوف من أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام سيخلطون ويغيرون (٢٩) ولكن لأجل أن يمنعوا الشياطين من أن يوقعوا تخليطا فى أثناء أداء الرسالة (٣٠).

ولنقتصر على هذا القدر من الكلام فى هذا الباب. فان الاستقصاء التام فيه مذكور فى كتاب التفسير. والله أعلم.

__________________

(٢٨) بالاستظهار بالرصد مع الرسل : ا

(٢٩) يحرفون ويفترون : ب

(٣٠) راجع فصل الرصد والطلاسم فى كتابنا علم السحر بين المسلمين وأهل الكتاب ـ نشر دار الثقافة الدينية بالقاهرة.

١٧٦

المسألة الثالثة والثلاثون

فى

أن الملائكة أفضل أم الأنبياء عليهم‌السلام؟

مذهب أصحابنا والشيعة : أن الأنبياء أفضل من الملائكة. وقالت الفلاسفة والمعتزلة : الملائكة السماوية أفضل من البشر. وهو اختيار القاضى «أبى بكر الباقلانى» و«أبى عبد الله الحليمى» من أصحابنا

واحتج القائلون بتفضيل الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ [على الملائكة] بوجوه :

الحجة الأولى : ان آدم عليه‌السلام كان مسجودا للملائكة. والسجود أفضل من الساجد.

بيان الأول : قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (البقرة ٣٤) ـ (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (ص ٧١ ـ ٧٢) وبيان الثانى : ان السجود أعظم أنواع الخدمة ، وأمر الكامل بخدمة الناقص ، لا يليق بالحكمة.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : السجدة كانت لله تعالى وآدم كالقبلة؟

سلمنا : أن السجدة كانت لآدم ، ولكن لم لا يجوز أن يكون المراد من السجدة : التواضع والترحيب؟ قال الشاعر :

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

سلمنا : أن السجدة عبارة عن وضع الجبهة على الأرض. لكن لا نسلم أن هذا غاية التواضع لأن هذا قضية عرفية ، ويجوز أن تختلف

١٧٧

القضايا العرفية باختلاف الأزمنة. فلعل العرف فى ذلك الزمان. أن من سلم على غيره ، وضع جبهته على الأرض. وتسليم الكامل على الناقص أمر معتاد.

والجواب عن الأسئلة الثلاثة : ان ذلك السجود لو لم يكن دالا على زيادة منصب المسجود على الساجد ، لما قال ابليس : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟) (الاسراء ٦٢) فانه لم يوجد شيء آخر يصرف هذا الكلام إليه ، سوى هذا السجود ، فدل ذلك : على أن ذلك السجود يقتضي ترجيح منصب السجود على الساجد

الحجة الثانية : ان آدم عليه‌السلام كان أعلم من الملائكة ، والأعلم أفضل.

بيان الأول : قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) الى قوله تعالى : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا ، إِلَّا ما عَلَّمْتَنا. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ : يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (البقرة ٣١٣ ـ ٣٣).

بيان الثانى : قوله تعالى : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر ٩)

الحجة الثالثة : طاعة البشر أشق ، والأشق أفضل.

بيان الأول من وجوه :

الأول : ان الشهوة والغضب والحرص والهوى من أعظم الموانع عن الطاعات. وهذه الصفات موجودة فى البشر مفقودة فى الملائكة (١). والفعل مع المانع أشق منه مع غير المانع.

الثانى : ان التكاليف الملائكة مبنية على النصوص. قال تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء ٢٧) وتكاليف

__________________

(١) التفضيل ينبغى أن يكون فى أفراد النوع الواحد. مثل

١٧٨

البشر بعضها مبنية على النصوص ، وبعضها على الاستنباط. قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (الحشر ٢) وقال تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء ٨٢) والتمسك بالاجتهاد والاستنباط فى معرفة الشيء ، أشق من التمسك بالنصوص.

الثالث : ان الانسان مبتلى بوسوسة الشيطان. وهذه الآفة غير حاصلة للملائكة.

الرابع : أن شبهات البشر أكثر ، وذلك لأن من جملة الشبهات القوية ربط الحوادث الأرضية بالاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية. والملائكة ليس لهم هذا النوع من الشبهة ، لأنهم سكان السموات ، ومشاهدون أحوالها ، فيعلمون بالضرورة : أنها ليست بأحياء ولا ناطقة ، بل هى مفتقرة الى التدبير كافتقار الأرضيات. فثبت بهذه الوجوه : أن طاعات البشر أفضل.

وانما قلنا : ان الأشق أفضل ، للنص. والقياس.

أما النص. فقوله عليه‌السلام : «أفضل الأعمال أحمزها» ٢ أى أشقها. وقال عليه‌السلام لعائشة رضى الله عنها : أجرك على قدر نصبك» ٣.

وأما القياس : فهو أن الطاعات السهلة والطاعات الشاقة لو اشتركا

__________________

ـ زيد أفضل أم عمرو أفضل؟ لأن التفاوت ممكن بحسب النشاط والعمل. لكن اذا قلنا زيد أفضل أم الفرد أفضل؟ فانه يكون قول لا طائل تحته. لأن زيدا هكذا خلق ، والقرد هكذا خلق. والله أراد اختلافهما فى النوع. والملائكة نوع من خلق الله يختلف عن الآدميين الذين هم نوع من خلقه أيضا. وكل يتحرك ويعمل على حب نوعه فلما ذا التفاضل؟

١٧٩

فى قدر الثواب ، لكان تحمل ذلك القدر من المشقة الزائدة ، الخالية عن الفائدة : ضررا. وتحمل الضرر الخالى عن الفائدة محظور قطعا. فكان يجب أن تحرم عليه تلك الطاعة الشاقة. ولما لم يكن كذلك ، علمنا : أن الأشق أكثر ثوابا.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (آل عمران ٣٢) والعالم عبارة عن كل ما سوى ، الله تعالى ، فيكون معنى الآية : ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على كل المخلوقات.

ترك العمل به فيمن لم يكن نبيا من آل ابراهيم وآل عمران ، فيبقى معمولا به فى حق الأنبياء.

فان قيل : يشكل هذا بقوله تعالى فى بنى اسرائيل : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (البقرة ١٢٢) فانه لو كان الأمر كما ذكرتم ، لزم تفضيل أنبياء بنى اسرائيل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فالجواب : تحمل التخصيص فى آية لا يوجب تحمله فى سائر الآيات. وأيضا : شرط العالم أن يكون موجودا ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان موجودا حال وجود أنبياء بنى اسرائيل ، أما الملائكة فانهم موجودون حال وجود محمد عليه‌السلام ، فظهر الفرق.

الحجة الخامسة : الملائكة لهم عقول بلا شهوة ، والبهائم لها شهوة بلا عقول ، والآدمى له عقل وشهوة ، ثم ان الآدمى ان رجح شهوته على عقله ، كان أخس من البهيمة. قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الأعراف ١٧٩) فعلى هذا القياس لو رجح عقله على شهوته ، وجب أن يكون أفضل من الملك.

هذا ملخص دلائل من فضل الأنبياء على الملائكة.

* * *

وأما الذين قالوا بتفضيل الملائكة على الأنبياء. فقد تمسكوا بوجوه :

١٨٠