الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

أثرا قويا فى كون الانسان متمكنا من الاخبار عن المغيبات. ونحن وان كنا نعلم بالدليل عدم صدقهم فى هذه المقالة ، الا أن الاحتمال قائم. وبتقدير أن يكون ما قالوه حقا ، لم يمكننا أن نقطع بأن ظهور المعجزات من الله تعالى ، ولا بأن نقطع بأن اخبار الأنبياء عن المغيبات بوحى الله تعالى ، بل جاز أن يكون بقوة هذين السهمين فى طوالعهم.

فثبت بهذه الوجوه الثمانية : أنه لا يمكن القطع بأن فاعل هذه المعجزات هو الله تعالى.

* * *

الاعتراض الثالث : سلمنا : أن فاعلها هو الله تعالى. فلم قلتم : أنه تعالى فعلها لغرض التصديق؟ وتقريره من وجهين :

الأول : انكم أقمتم الدلائل القاهرة على أنه يمتنع أن تكون أفعال الله تعالى وأحكامه معللة بشيء من الأغراض والمقاصد. واذا كان كذلك ، امتنع القول بأنه تعالى انما خلق هذه المعجزات لأجل غرض التصديق.

الوجه الثانى : هو أنا نقول : الفعل اما أن يكون موقوفا على الداعى ، وأما أن لا يكون. فان كان موقوفا على الداعى ، كان الجبر لازما ـ على ما قررناه فى مسألة خلق الأفعال ـ واذا لزم الجبر كان البارى تعالى هو الخالق للكفر والمعاصى ، لأنه هو الّذي فعل القدرة والداعية اللتين مجموعهما يوجب هذه القبائح. واذا كان الأمر كذلك ، لم يكن الاضلال ممتنعا فى حق الله تعالى. واذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : انه تعالى أظهر هذه المعجزات على يد هذا الكاذب ، لأجل الاضلال؟ وأما اذا قلنا : ان الفعل غير موقوف على الداعى ، فحينئذ لا يبعد أن يقال : انه تعالى خلق هذه المعجزة لا لغرض البتة. وحينئذ لا يمكن الاستدلال بحق المعجزة على التصديق.

١٠١

الاعتراض الرابع : سلمنا أن أفعال الله تعالى معللة برعاية الأغراض والمقاصد. الا أنكم لم قلتم : انه لا غرض لله تعالى ولا مقصود له من خلق هذه المعجزات الا تصديق هذا المدعى؟ وما الدليل على هذا الحصر؟

ثم انا نذكر وجوها أخر على سبيل التبرع :

الأول : ان جملة هذه الأفعال الموافقة للعادات ، لا بد أن يكون لها أول. لما ثبت أن العالم محدث ، وحدوث كل واحد منها فى المرة الأولى يكون على خلاف العادة ، ثم انه تعالى جعل ذلك دائما مستمرا فيما بعد ذلك. فكذا هاهنا لم لا يجوز أن يقال : إنه سبحانه وتعالى أراد أن يبدأ باحداث هذا الفعل الخارق للعادة. ثم انه يديمه بعد ذلك ، ويجعله عادة مستمرة بعد ذلك؟ وبالجملة : فلم لا يجوز أن يكون هذا الّذي حدث هو ابتداء عادة ، وستصير مستمرة بعده؟

الثانى : انه يجوز أن يكون حدوث هذا الشيء على سبيل العادة ، الا أنه عادة لا تحصل الا فى أزمنة متطاولة. وذلك لأن دور الفلك الثامن لا يتم ـ عند بعضهم ـ الا فى مدة ستة وثلاثين ألف سنة. وعلى هذا تكون العادة المستمرة المطردة : هو أن كل كوكب يحصل فى كل ستة وثلاثين ألف سنة فى موضع معين من الفلك. فمن نظر الى حصوله فى ذلك الوقت ظن أنه خارق للعادة ، ومن عرف الوضع المقتضى لذلك ، علم أنه عادة متطاولة ، فكذا هاهنا يجوز أن يقال : هذا الّذي حدث ، انما حدث على وفق عادة متطاولة.

الثالث : انه لما انشق القمر على السماء ، فلعل انسانا آخر فى جانب آخر من الأرض ، ادعى النبوة ، وطلب من الله تعالى اظهار المعجزة فى هذا الوقت ، وهو تعالى انما أظهره فى ذلك الوقت تصديقا لذلك الانسان ، لا لهذا الانسان.

١٠٢

الرابع : ان هذا الانسان لما ادعى الرسالة على سبيل الكذب ، وطلب من الله تعالى اظهار المعجزة ، فان الله يظهر المعجزة على وفق دعواه ، حتى يصير ذلك موهما لكونه صادقا ، الا أنه لما قرر فى عقل المكلف أنه يجوز أن يكون غرض الله تعالى منه شيئا آخر سوى التصديق ، وكان خلق هذا المعجز يجرى مجرى انزال المتشابهات ، وخلق الأوهام المورثة للشبهات ، وكان المقصود منها : أنه يصعب الاحتراز عنها ، فاذا احترز المكلف عنها مع صعوبة الاحتراز عنها ، كان ثوابه أعظم.

وعلى الجملة : فمن الّذي يمكنه أن يعرف أقسام حكم الله تعالى فى خلق الأشياء؟ وحينئذ كان الجزم بأنه لا غرض لله تعالى فى هذا الفعل ، الا هذا الوجه الواحد ، تحكما من غير دليل. والله الهادى.

الاعتراض الخامس : هب أن غرضه تعالى من خلق هذه المعجزات ، أن يستدل به : على أن الله صدقه. فلم قلتم : ان هذا الاستدلال حق؟ بيانه : ان على مذهب أهل السنة: الله تعالى خالق الكفر فى قلب الكافر ، وخلق ما يوهم الكفر ليس أبعد منه. وعلى هذا التقدير لا يمكن الاستدلال بالمعجز ، على كون المدعى صادقا.

فهذا مجموع الاعتراضات فى هذا المقام.

* * *

ثم قال المنكرون : وأما ما عولتم عليه من الدلائل فى بيان أن المعجزات تدل على الصدق. فحاصل الكلام فيه : انكم ادعيتم أن فى الشاهد : اقدام الملك على الفعل الخارق للعادة ، يدل على كونه مصدقا للمدعى فى دعواه. واذا ثبت ذلك فى الشاهد ، فحينئذ تقيسون الغائب عليه ، فلنبحث عن كل واحد من هذين المقامين :

١٠٣

أما المقام الأول : فنقول : لا نسلم أن ظهور ذلك الفعل من الملك ، يدل على أنه يصدق المدعى فى دعواه ، ولا ننكر أنه يوهم ذلك. وأما أن يدل عليه قطعا ، فهذا ممنوع. وذلك لأن أقصى ما فى الباب أن يقال : انه حصل ذلك الفعل عند ذلك الطلب ، ولم يفعله قبل ذلك الطلب. فحصل الدوران بينهما وجودا وعدما. والدوران وجودا وعدما يدل على العلية.

الا أنا نقول : قد بينا أن الدوران وجودا وعدما ، لا يدل على العلية. والّذي يحقق ذلك : أنه لا يبعد أن يقال : لما التمس ذلك المدعى من ذلك الملك أن يحرك قلنسوته ، فانه حصل فى ذلك الوقت سبب آخر ، استقل بأن يحرك الملك قلنسوته لأجله ، لا لأجل طلب المدعى. اما لأجل أن عقربا وقع على قلنسوته ، فى ذلك الوقت ، أو لأجل أنه تألم رأسه من تلك القلنسوة فى ذلك الوقت ، أو لأجل أن انسانا آخر أشار إليه اشارة ، اقتضت أن يحرك الملك قلنسوته. وبالجملة : فالمعلوم أنه لا بد للملك من غرض فى تحريك القلنسوة ، فأما أنه لا غرض الا تصديق هذا المدعى ، فهذا لا شك أنه ظاهر. واما القطع فلا سبيل إليه.

المقام الثانى : هب أنه ثبت هذا المعنى فى الشاهد ، فكيف يقيسون الغائب عليه؟

وطريق السؤال عليه من وجهين :

الأول : ان القياس لا يفيد اليقين. لاحتمال أن ما لأجله وقعت المفارقة بين الأصل والفرع : معتبرا فى الأصل أو مانعا فى الفرع.

الثانى : انا عارفون بأحوال ذلك الملك وبأخلاقه ومناهج أفعاله ، فلا جرم يمكننا أن نعرف أنه انما فعل ذلك الفعل ، لأجل ذلك الغرض. وأما أنواع حكم الله تعالى فى أفعاله ومخلوقاته ، فليس لأحد سبيل

١٠٤

الى معرفتها ، ولا قدرة لأحد على الاطلاع عليها. ولهذا قال : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الكهف ٥١] واذا كان الأمر كذلك ، فكيف يمكن قياس أفعال الله تعالى على أفعال العباد؟

هذا جملة الكلام فى السؤال. وبالله التوفيق.

* * *

والجواب :

قوله أولا : «انخراق العادات محال» قلنا : قد بينا أن الخرق والالتئام ، على الأجرام الفلكية جائزان. وأيضا : بينا أن ما يصح على جسم ، يصح على سائر الأجسام.

قوله ثانيا : «لم قلتم : ان موجد هذه المعجزات هو الله تعالى»؟ قلنا : قد بينا فيما تقدم : أنه لا مؤثر الا قدرة الله. وعلى هذا التقدير تسقط الوجوه الثمانية التى ذكرتموها.

قوله ثالثا : «ان أفعال الله غير معللة بالأغراض» قلنا : فرق بين العلة وبين المعروف. ونحن لا ندّعي أن خلق المعجز انما كان لغرض التصديق ، بل نقول : خلق المعجز يعرف قيام التصديق بذات الله تعالى وكما أن هذه الكلمات المخصوصة صارت دالة بحسب الوضع والاصطلاح على المعانى القائمة بذات المتكلم ، فكذلك هذه الأفعال الخارقة للعادات اذا حصلت عقيب الدعوى ، صارت دالة على قيام التصديق بذات من فعل المعجز.

قوله رابعا : «يحتمل أن يكون المقصود من خلق المعجزات أمورا أخر ، سوى التصديق» قلنا : لا نسلم بل هو متعين للدلالة على حصول التصديق. والدليل عليه : ان موسى عليه‌السلام لما قال : «إلهى ان كنت صادقا فى ادعاء الرسالة ، فاجعل هذا الجبل واقفا فى الهواء

١٠٥

فوق رءوسهم». ثم ان القوم يشاهدون أنهم كلما آمنوا به تباعد الجبل عنهم ، وكلما هموا بتكذيبه ، قرب أن يسقط عليهم ، فعند هذا يعلم كل أحد بالضرورة : أن المقصود من هذا الاظلال تصديق المدعى فى ادعاء الرسالة.

قوله خامسا : «اذا كان الكفر والفسق بخلق الله تعالى ، فحينئذ بطل الاستدلال بالمعجز على التصديق» قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : ان هذا السؤال كما أنه لازم علينا ، فهو أيضا لازم على «المعتزلة» وذلك لأنه انما يقبح من الله اظهار هذه المعجزة على يد الكاذب ، اذا كان الغرض من خلق المعجزة ، تصديق المدعى. وأما بتقدير أن يكون الغرض منه شيئا آخر ، سوى التصديق ، لم يقبح ذلك. ولما ثبت أنه لا يبعد أن يكون لله تعالى أغراض أخر من هذا المعجز سوى التصديق ، يلزمهم أن يحكموا بأنه لا يقبح اظهاره على يد الكاذب.

لا يقال : اظهار المعجزة على وفق دعوى الكاذب قبيح مطلقا ، لأنه ان كان الغرض من خلقه هو التصديق ، فلا شك فى قبحه. وان كان الغرض منه شيئا آخر سوى التصديق ، لكنه خلقه مقارنا لدعوى الكاذب ، يوهم أن الغرض منه : تصديقه. ففعل ما يوهم تصديق الكاذب قبيح أيضا.

لأنا نقول : ان كان ما يوهم القبيح قبيحا ، وجب أن يكون انزال المتشابهات وخلق ما يوهم الشبهات قبيحا. وبالاتفاق أنه واقع وليس بقبيح. فعلمنا : أنه انما لم يقبح لأنه وان كان موهما للباطل ، الا أن فيه احتمال أن مراد الله تعالى منه غير ما يشعر به ظاهره ، فلو قطع المكلف بحكمه على ذلك توجه الباطل ، مع أنه فى نفسه محتمل لغير

١٠٦

ذلك الوجه ، لكان التقصير من المكلف ، حيث جزم لا فى موضع الجزم. وكذا هاهنا انه تعالى اذا أظهر المعجزة على وفق الدعوى فى حق الكاذب ، فهو وان كان يوهم أن المراد منه تصديق ذلك المدعى ، الا أنه يكون المراد : القاء هذه الشبهة حتى يحترز المكلف منها ، فيعظم ثوابه بسبب الاحتراز عن هذه الشبهة. واذا كان هذا محتملا ، فلو قطع المكلف بأن الغرض منه : تصديق المدعى ، لكان التقصير منه لا من الله تعالى ، حيث قطع لا فى موضع القطع.

واعلم : أنه لا جواب على أصول المعتزلة عن هذه المعارضة.

والوجه الثانى فى الجواب عن هذا السؤال :

انا نقدم على ذكر المقصود مقدمة ، فنقول : ان الشيء قد يكون جائز الوقوع فى نفسه ، ومع ذلك فانا نعلم علما ضروريا أنه غير واقع ، ألا ترى أنا نجوز دخول شخص فى الوجود من غير أبوين ، ونجوز أن يدخل فى الوجود شيخ هرم ، من غير سبق الطفولية والشباب والكهولة ، ثم انا اذا أبصرنا انسانا شيخا ، علمنا بالضرورة : أنه متولد من الأبوين ، وأنه كان طفلا ثم صار شابا ثم صار شيخا. وكذا القول فى جميع الأمور العادية.

اذا عرفت هذا فنقول : انا قد بينا : أن دلالة المعجزة على أن خلق المعجز لصدق المدعى ، معلوم بالضرورة. كما ضربنا من المثال فى اظلال الجبال. أقصى ما فى الباب : أن يقال عنه : يجوز أن لا تكون المعجزة مخلوقة لغرض آخر وهو الاطلال. الا أنا نقول : ان الشيء اذا علم وجوده بالضرورة ، لم يكن تجويز نقيضه ، يقدح فى ذلك العلم الضرورى. كما بيناه فى هذه المقدمة.

وأما قوله سادسا : «إنكم أثبتم الحكم فى الشاهد بالدوران ، ثم قستم الغائب عليه».

١٠٧

قلنا : ليس الأمر كذلك ، بل نقول : ان دلالة المعجزة على التصديق أمر معلوم بالضرورة. والمقصود من ذكر المثال : التنبيه على صدق قولنا : ان هذا الشيء معلوم بالضرورة. لا أنا نقيس صورة على صورة. فهذا غاية الكلام فى هذا الدليل.

وأما منكرو النبوة فقد احتجوا بوجوه :

الشبهة الأولى : قالوا : التكليف باطل ، فالبعثة أيضا باطلة.

أما المقدمة الأولى : ـ وهى أن التكليف باطل ـ فقد احتجوا عليه بوجوه :

الأول : ان الجبر حق ، فالتكليف باطل. انما قلنا : ان الجبر حق. وذلك لأنا بينا فى مسألة خلق الأفعال : أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. واذا كان الأمر كذلك ، فحال ما خلق الله تعالى تلك الأفعال ، لا يتمكن العبد من ترك الفعل ، وحال ما لا يخلقها فيهم ، لا يتمكن من الفعل. فثبت : أن على هذا التقدير لا يكون العبد قادرا البتة لا على الفعل ولا على الترك.

وانما قلنا : انه لما كان الجبر حقا كان التكليف باطلا ، لأنا نعلم ببداهة العقل : أن من قيد يدى الانسان ورجليه بالقيود الشديدة ، ثم ألقاه من شاهق جبل ، ثم يقول له : قف فى الهواء ، والا عذبتك عذابا شديدا مؤيدا ، فان هذا مستقبح فى بداهة العقل ، ولو أنه كلف الأعمى بنقط المصاحف ، وكلف المفلوج أن يطير فى الهواء ، فجميع العقلاء يدركون قبح ذلك فى بداهة عقولهم ، ويقطعون بأن هذا لا يليق بأحكم الحاكمين. فثبت بما ذكرنا : أن الجبر حق ، وثبت أنه متى كان الجبر حقا ، كان التكليف باطلا.

الثانى : ان البارى ـ سبحانه وتعالى ـ عالم بجميع المعلومات. والشيء الّذي حصل التكليف به ، اما أن يكون معلوم الوقوع أو معلوم

١٠٨

اللاوقوع. فان كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع ، فالتكليف به عبث. وان كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع ، فكان التكليف به ظلما. فثبت : أن القول بالتكليف باطل.

وربما ذكروا هذا الكلام فى معرض آخر ، وهو أن المقصود من التكليف : جلب الثواب. وان كان ذلك الثواب معلوم الوقوع ، فحينئذ لا حاجة البتة الى فعل الطاعة ، وان كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع. وحينئذ لا فائدة فى فعل الطاعة.

الثالث : ان التكليف اما أن يتوجه حال استواء الداعى الى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر. أما حال الاستواء فمحال. لأن الفعل ترجيح. وحصول الرجحان حال حصول الاستواء جمع بين النقيضين ، وأما حال الرجحان فمحال. لأن الراجح واجب ، والمرجوح ممتنع ـ على ما بينا تقرير هذه المقدمة فى مواضع ـ وان وقع التكليف بالراجح ، كان ذلك تكليفا بايقاع شيء واجب لوقوع ، وان كان تكليفا بالمرجوح ، كان ذلك تكليفا بايقاع ممتنع الوقوع وتمام تقرير هذا الوجه قد تقدم فى مسألة خلق الأفعال.

الرابع : ان التكليف لا فائدة فيه البتة ، فكان عبثا غير لائق بحكمة الحكيم.

وانما قلنا : انه لا فائدة فيه. لأن تلك الفائدة ، ان عادت الى المعبود ، لزم أن يكون فى محل النفع والضرر والزيادة والنقصان. وهو محال. وان عادت الى العابد فهو أيضا باطل. لأن جميع الفوائد محصورة فى أمرين: اما اللذة ، واما السرور ، أو ما يكون مفضيا إليهما واما دفع الألم أو دفع الغم ، أو ما يكون مفضيا إليهما. والمعبود تعالى قادر على تحصيل كل ذلك للعبد بدون واسطة التكليف. فكان توسط التكليف عبثا. واذا ثبت هذا فظاهر : أن العبث لا يليق بأحكم الحاكمين.

١٠٩

الخامس : ان تكليف من علم أنه يكفر أو يفسق غير لائق بالحكمة ، لأن المكلف به اذا دخل فى الوجود ، لزم تجهيل المعبود ، وان لم يدخل فى الوجود ، لزم استحقاق العبد للعقاب. وفعل شيء لا فائدة فيه ـ الا أحد هذين الأمرين المحذورين ـ لا يليق بالحكمة.

السادس : ان التكليف يقتضي شغل القلب بتلك الأعمال. واشتغال القلب بغير الله ، يمنعه عن الاستغراق فى معرفة الله ومحبته ، وكل ما كان مانعا عن المحبة والمعرفة ، كان تركه من أوجب الواجبات.

فثبت بهذه الوجوه الستة : أن القول بالتكليف باطل. واذا ثبت هذا ، كان القول بالبعثة أيضا باطلا. لأنه لا فائدة من البعثة ، الا توجيه التكاليف على الخلق. واذا كان المقصود باطلا ، كان التبع أولى بالبطلان.

والشبهة الثانية لمنكرى النبوات : ان الأفعال اما أن يكون حسنها معلوما ، أو يكون قبحها معلوما ، أو لا نعلم لا حسنها ولا قبحها. فان كان حسنها معلوما : علمناه ، ولا حاجة بنا فى ذلك الى تعريف الشرع ، وان كان قبحها معلوما : تركناه. وان لم نعلم لا حسنها ولا قبحها ، فهذا الشيء اما أن يكون فعله اضطراريا ، كالتنفس فى الهواء ، وما يجرى مجراه ، واما أن لا يكون كذلك. فان كان فعله اضطراريا ، كان حورا (١٤) لا محالة ، لأن تكليف ما لا يطاق لا يليق بالحكمة. وان لم يكن فعله اضطراريا ، وجب علينا تركه ، لأن مثل الشيء لا حاجة بنا الى فعله. وفى فعله خطر واحتمال ضرر ، وكل ما كان كذلك اقتضى العقل تركه.

__________________

(١٤) مجبورا : ب

١١٠

فثبت بما ذكرنا : أن جملة أحكام الأفعال فى الفعل والترك معلومة لنا. واذا كان الأمر كذلك ، لم يكن فى بعثة الرسول فائدة. فتكون البعثة عبثا. والعبث غير جائز على الحكيم.

والشبهة الثالثة لمنكرى النبوات : انا نشاهد فى الشرائع ، أفعالا غير لائقة بالحكمة. مثل أعمال الحج ، ومثل ايقاع الفرق بين المتشابهات. فانهم خصصوا بيتا معينا ، لغاية التعظيم ، من غير سبب. وخصصوا أوقاتا معينة ، لعبادات معينة ، مع أن سائر الأوقات مساوية لها. وذلك لأن اليوم الأخير من رمضان ، واليوم الأول من شوال ، يومان متلاصقان متشبهان من جميع الوجوه ، ثم خصصوا أحدهما بحرمة الافطار ، والآخر بحرمة الصوم. وذكروا من أمثال هذه المسائل شيئا كثيرا (١٥).

والشبهة الرابعة لمنكرى النبوات ـ وهى شبهة اليهود ـ : ان النسخ باطل. واذا كان كذلك ، كان شرع محمد صلى الله وسلم باطلا.

وانما قلنا : ان النسخ باطل لوجوه :

الأول : ان موسى لما بلغ شرعه الى أمته. فاما أن يقال : انه بين أن شرعه مؤبد ، أو يقال : انه بين أن شرعه منقطع ، أو لم يبين لا هذا ولا ذاك.

لا جائز أن يقال : انه عليه‌السلام بين أن شرعه منقطع. وذلك لأنه لو بين ذلك وشرحه لأمته ، لوجب أن يصير ذلك معلوما بالتواتر لأمته ، فيلزم أن يكون العلم بكون شرعه منقطعا ، مساويا للعلم بأصل شرعه. ولو كان كذلك لما قدر اليهود على انكار هذا المعنى. لأن ما ثبت بالتواتر لا يمكن انكاره. ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك لأن

__________________

(١٥) شبها كثيرا : ب

١١١

اليهود مع اختلافهم فى مشارق الأرض ومغاربها ، اتفقوا على أن الأمر ليس كذلك.

ولا جائز أيضا : أن يقال : انه عليه‌السلام بين ذلك الشرع ، ولم يبين أنه دائم ، أو منقطع. لأنه لو كان كذلك لما وجب بمقتضى شرعه شيء من الأعمال ، الا مرة واحدة. لأن مقتضى الأمر المطلق هو الفعل مرة واحدة ، لا التكرار ، وبالاجماع هذا باطل. ولما بطل هذان القسمان تتعين القسم الأول وهو أنه عليه‌السلام لما بلغ شرعه الى أمته ، بين أنه دائم. واذا كان كذلك ، وجب أن يكون شرعه دائما ، والا لزم نسبة الكذب إليه. وانه باطل.

وأيضا : فلو جاز فيه أن يقال انه عليه‌السلام وان أخبر أن شرعه دائم ، لكنه لم يدم ، فلم لا يجوز أن يقال : ان محمدا عليه‌السلام أخبر أن شرعه دائم ، ثم انه لا يدوم؟ ومعلوم أن هذا يوجب زوال الثقة عن جميع الشرائع. وهو باطل.

الثانى : انه تعالى لو أمر بشيء ، ثم نهى عنه ، لدل ذلك على البداء وانه غير جائز.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : المصالح تتبدل بحسب اختلاف الأوقات ، كالطبيب يأمر المريض بشرب شربة مخصوصة ، ثم انه ينهاه عنه بعد ذلك؟ لأنا نقول : هذا انما يقبل فيما يظهر فى تبديله أثر وفائدة ، كما ذكرتم من تبديل العلاج بالعلاج. وهاهنا ليس كذلك. فان تحويل العبادة من «السبت» الى «الجمعة» وتحويل القبلة من «بيت المقدس» الى «الكعبة» لا ترى فيه فائدة. ولا أثر البتة. فظهر الفرق.

الثالث : ان جملة اليهود على كثرتهم وتفرقهم فى مشارق الأرض ومغاربها فى البلاد ، ينقلون عن موسى عليه‌السلام أنه قال : «تمسكوا

١١٢

بالسبت ما دامت السموات والأرض» وخبر التواتر مفيد للعلم. وقول موسى عليه‌السلام حجة. ومتى ثبت هذان الأمران ، لزم الطعن فى شرع محمد عليه‌السلام.

* * *

فهذا مجموع شبهات المنكرين.

والجواب عن الشبهة الأولى من وجهين :

الأول : ان الخصم يقول : «القول بالتكليف باطل». وهذا منه (١٦) تكليف باعتقاد بطلان التكليف ، فكان كلامه متناقضا.

الثانى ـ وهو الجواب الحقيقى ـ : ان مذهبنا : أن التكليف حاصله يرجع الى حرف واحد ، وهو أنه اعلام بنزول العقاب ، أو بنزول الثواب. فان من صدر عنه الفعل الّذي كلف به ، كان ذلك علامة على نزول الثواب ، ومن لم يصدر عنه ذلك الفعل ، كان ذلك علامة على نزول العقاب. وليس لأحد اعتراض على الله تعالى فى أنه لم خصص هذا بالثواب ، وذلك بالعقاب؟

وأما الشبهة الثانية : فجوابها : أن نقول : «هب أن العقل كاف فى التعريف ، لكن لم لا يجوز أن تكون الفائدة فى البعثة تأكيدا لذلك التعريف؟ ولهذا السبب أكثر الله تعالى من ذكر الدلائل على التوحيد ، مع أن الواحد منها كاف.

وأما الشبهة الثالثة : فجوابها ظاهر على انكار الحسن العقلى. لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وأما على تسليم الحسن والقبح العقليين ، فجوابها : ان وجه الحسن فيها على التفصيل. وان لم يكن معلوما ، الا أن وجه القبح فيها أيضا غير معلوم. ولا يبعد أن يحصل فيها وجه من وجوه الحكمة ، وان كنا لا نعرفه.

__________________

(١٦) فيه : ب

١١٣

وأما الشبهة الرابعة : فجوابها : لم لا يجوز أن يقال : انه عليه‌السلام بين أن شرعه منقطع مجذوذ ، وكان ذلك معلوما بالتواتر فى دينه (١٧) الا أن قومه هلكوا بالكلية فى زمان «بخت نصر» وصار الباقى أقل من عدد التواتر ، فلا جرم انقطع هذا النقل.

وقوله : «النسخ يدل على البداء» قلنا : لا نسلم. فانه لا يمتنع اختلاف الأحكام لاختلاف المصالح.

وقوله : «لا تأثير لتحويل العبادة من يوم السبت الى يوم الجمعة» قلنا : كما لم يعلم وجه الحكمة بالتفصيل فى هذا التحويل ، لم يعلم أيضا عدم الحكمة فيه. فسقط الاستدلال.

وقوله : «اليهود نقلوا قوله عليه‌السلام : «تمسكوا بالسبت» قلنا : ان تواترهم منقطع. فلا يفيد العلم (١٨) وبالله التوفيق. (١٩)

__________________

(١٧) من زمنه : ب

(١٨) القطع : ا

(١٩) توراة موسى عليه‌السلام نزلت عليه من الله تعالى فى جبل الطور بسيناء. وقد عرفها الربانيون والأحبار الذين هم من نسل هارون أخى موسى ، ومن اللاويّين. ولم يحرفوها الا فى مدينة «بابل» سنة خمسمائة وستة وثمانية من قبل الميلاد. ايام فتنتهم مع «نبوخذنصر» ملك بابل. وجعلوها خمسة أسفار. وبعد الرجوع من بابل اختلف السامريون والعبرانيون حول عاصمة الدولة والجبل المقدس. فظهر اختلاف بين توراة السامرين وتوراة العبرانيين. وفى التوراة أن الله تعالى قسم بركة ابراهيم عليه‌السلام فى الأمم بين ولديه اسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام. وبدأت البركة بإسحاق أولا. فمنه جاء موسى بالتوراة نورا وهدى للناس ، وجعل الله فى نسله أنبياء وملوك على الأمم. ولفظ «الأبد» المذكور فى التوراة عن شريعة موسى وعن التمسك بالسبت أبدا. معناه : الأبد الّذي ينتهى بمجيء بركة اسماعيل. لأن البركة معناها : أن يكون فى نسل إسحاق ملك ونبوة ، وأن يكون فى

١١٤

المسألة الثانية والثلاثون

فى

عصمة الأنبياء عليهم‌السلام

اعلم : أن الاختلاف فى هذه المسألة واقع فى أربعة مواضع :

الأول : ما يتعلق بالاعتقاد. وأجمعت الأمة على أنهم معصومون عن الكفر والبدعة ، الا الفضلية من الخوارج فانهم يجوزون الكفر على

__________________

ـ نسل اسماعيل ملك ونبوة. وقد جاء لفظ الأبد فى التوراة محددا بمدة فى قصة العبد المؤيد ـ وقد ذكرناها فى كتابنا نقد التوراة أسفار موسى الخمسة ـ وكاتب التوراة لم يحذف النصوص عن بركة اسماعيل. وانما قال : ان العهد المبرم بين الله وبين ابراهيم فى نسله هو فى نسل إسحاق وحده. وليس فى اسماعيل.

ففى التوراة قال الله لابراهيم عليه‌السلام : «أقيم عهدى بينى وبينك ، وبين نسلك من بعدك فى أجيالهم عهدا أبديا لأكون الهالك ، ولنسلك من بعدك ، وأعطى لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا» [تك ١٧ : ٧ ـ ٩] ونسل ابراهيم منه اسماعيل وإسحاق ، لقوله : «بإسحاق يدعى لك نسل ، وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك» [تك ٢١ : ١٢ ـ ١٣] وقال الملاك لهاجر عن اسماعيل «سأجعله أمة عظيمة» [تك ٢١ : ١٨] فجاء الكاتب ليلبس الحق بالباطل وليضع ما يدل على أن العهد خاص بإسحاق فى هذا النص وهو «١٨ وقال ابراهيم لله : ليت اسماعيل يعيش أمامك ١٩ فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابنا ، وتدعو اسمه إسحاق ، وأقيم عهدى معه عهدا أبديا لنسله من بعده ٢٠ وأما اسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه ، وأثمره وأكثره كثيرا جدا ، اثنى عشر رئيسا يلد ، وأجعله أمة كبيرة. ٢١ ولكن عهدى أقيمه مع إسحاق الّذي تلده لك سارة فى هذا الوقت فى السنة الآتية» [تك ١٧ : ١٨ ـ ٢١]

١١٥

الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وذلك لأن عندهم يجوز صدور الذنب عنهم. وكل ذنب فهو كفر عندهم ، وبهذا الطريق جوزوا صدور الكفر عنهم. وأما الروافض فانهم يجوزون عليهم اظهار كلمة الكفر ، على سبيل التقية.

الثانى : ما يتعلق بتبليغ الشرائع والأحكام من الله تعالى. وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة فى هذا الباب ، لا بالعمد ولا بالسهو ، والا لم يبق الاعتماد على شيء من الشرائع.

الثالث : ما يتعلق بالفتوى. وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز تعمد الخطأ. أما سبيل السهو فقد اختلفوا فيه.

الرابع : ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم. وقد اختلفت فيه الأمة على خمسة مذاهب :

الأول : قول الحشوية : وهو أنه يجوز عليهم الاقدام على الكبائر والصغائر.

الثانى : انه لا يجوز منهم تعمد الكبيرة البتة. وأما تعمد الصغيرة فهو جائز بشرط أن لا يكون منفرا. فأما ان كان تعمد الصغيرة منفرا ، فذلك لا يجوز عليهم ، مثل التطفيف بما دون الحبة. وهذا قول أكثر «المعتزلة».

الثالث : انه لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة والصغيرة. ولكن يجوز صدور الذنب منهم على سبيل الخطأ فى التأويل. وهذا قول «الجبائى».

الرابع : انه لا يجوز الكبيرة ولا الصغيرة ، لا تعمدا ولا بالتأويل الخطأ. أما السهو والنسيان فجائزان عليهم ، ثم انهم يعاتبون على ذلك السهو والنسيان ، لما أن علومهم أكمل ، فكان الواجب عليهم المبالغة فى الصدق والتحفظ والتيقظ.

١١٦

الخامس : انه لا يجوز عليهم الصغيرة ولا الكبيرة ، لا بالعمد ولا بالتأويل ، ولا بالسهو ولا بالنسيان. وهذا مذهب «الروافض» واختلفت الأمة أيضا فى وقت وجوب هذه العصمة. فالروافض قالت : انها من أول الولادة الى آخر العمر ، وقال الأكثرون : هذه العصمة انما تجب فى زمان النبوة ، وأما قبل النبوة فهى غير واجبة. وهو قول أكثر أصحابنا. وقول «أبى الهذيل» و«أبى على الجبائى»

والّذي نقوله : (٤) ان الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ معصومون فى زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد ، أما على سبيل السهو فجائز. ويدل على وجوب العصمة وجوه :

الحجة الأولى : لو صدر الذنب عنهم ، لكان حالهم فى استحقاق الذم عاجلا ، والعقاب آجلا ، أشد من حال عصاة الأمة. وهذا باطل فصدور الذنب عنهم أيضا باطل. بيان الملازمة : ان أعظم نعم الله على العباد اعطاؤهم نعمة الرسالة والنبوة. وكل من كانت نعم الله تعالى عليه أكثر ، كان صدور الذنب عنه أفحش. وصريح العقل يدل عليه ، ثم يؤكده من النقل وجوه :

أحدها : قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) [الأحزاب ٣٢](مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [الأحزاب ٣٠]

وثانيها : ان المحصن يرجم وغيره يجلد.

والثالث : ان العبد يحد نصف حد الحر.

فثبت بما ذكرنا : أنه لو صدر الذنب عنهم ، لكان حالهم فى استحقاق الذم العاجل والعقاب الآجل ، فوق حال جميع عصاة الأمة ،

__________________

(٤) والذين يقولون : ا

١١٧

الا أن هذا باطل بالاجماع. فان أحدا لا يجوز أن يقول (٥) الرسول أخس حالا عند الله تعالى ، وأقل مرتبة ومنزلة من كل واحد من اللصوص والزناة. وهذا يدل على عدم صدور الذنب عنهم.

الحجة الثانية : لو صدر عنهم الذنب ، لما كانوا مقبولى الشهادة ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ. فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات ٦]. أمرنا بالتثبيت والتوقف فى قبول شهادة الفاسق ، الا أن هذا باطل. فان من لم تقبل شهادته فى الحبة ، كيف تقبل شهادته فى الأديان الثابتة الى يوم القيامة.

وأيضا : فان الله تعالى شهد بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد على الكل يوم القيامة. قال الله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة ١٤٣] ومن كان شهيدا لجميع الرسل يوم القيامة ، كيف يكون بحال لا تقبل شهادته فى الحبة؟

الحجة الثالثة : لو صدر الذنب عنهم ، لوجب زجرهم ، لأن الدلائل الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، عامة. لكن زجر الأنبياء غير جائز. لقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب ٥٧] فكان صدور الذنب عنهم ممتنعا.

الحجة الرابعة : لو صدر الفسق (٦) عن محمد عليه‌السلام لكنا اما أن نكون مأمورين بالاقتداء به. وذلك باطل. لأن الأمر بالفسق

__________________

(٥) أن يقول : ان ... الخ : ب

(٦) الذنب : ب

١١٨

لا يجوز على الحكيم ، أو لا نكون مأمورين بالاقتداء به. وهو أيضا باطل. لقوله تعالى : (قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران ٣١] ولما كان صدور الفسق عنه ، يفضى الى أحد هذين القسمين الباطلين ، كان صدور الفسق عنه محالا.

الحجة الخامسة : لو صدرت المعصية عن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب جهنم ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ. فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن ٢٣] ولكانوا ملعونين ، لقوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود ١٨] وباجماع الأمة : هذا باطل. فكان صدور المعصية عنهم باطلا.

الحجة السادسة : انهم كانوا يأمرون بفعل الطاعات وترك المعاصى ، فلو تركوا الطاعة وفعلوا المعاصى ، لدخلوا تحت قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف ٢ ـ ٣] وتحت قوله تعالى : («أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ»؟) [البقرة ٤٤] ومعلوم أن هذا فى غاية القبح. وأيضا : أخبر الله عن رسوله شعيب ببراءة نفسه عن ذلك. فقال : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) [هود ٨٨].

الحجة السابعة : قال الله تعالى (٧) : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [الأنبياء ٩٠] والألف واللام فى صيغة الجمع تفيد العموم. فدخل تحت لفظ (الْخَيْراتِ) فعل كل ما ينبغى ، وترك كل ما لا ينبغى وذلك يدل على أنهم كانوا فاعلين لكل الطاعات ، تاركين لكل المعاصى.

الحجة الثامنة : [قال الله تعالى فى صفة ابراهيم واسحاق ويعقوب] (٨) (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص ٤٧]

__________________

(٧) تعالى فى صفة ابراهيم وإسحاق ويعقوب : الأصل

(٨) قوله تعالى : الأصل

١١٩

وهذان اللفظان ـ أعنى (الْمُصْطَفَيْنَ) و (الْأَخْيارِ) ـ يتناولان جملة الأفعال والتروك ، بدليل : جواز الاستثناء. يقال : فلان من المصطفين الأخيار الا فى كذا ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل. فدلت هذه الآية على أنهم كانوا من المصطفين الأخيار فى كل الأمور. وهذا ينافى صدور الذنب عنهم.

ونظيره قوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ، وَمِنَ النَّاسِ) [الحج ٧٥] وكذلك قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ، وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ ، عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران ٣٣] : وقال فى حق ابراهيم : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة ١٣٠] وقال فى حق موسى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف ١٤٤] وقال تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص ٤٧]

ولا يقال : الاصطفاء لا يمنع من فعل الذنب ، بدليل قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا. فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ. بِإِذْنِ اللهِ. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر ٣٢]. قسم المصطفين الى الظالم ، والمقتصد ، والسابق. نقول : الضمير فى قوله (فَمِنْهُمْ) عائد الى قوله (مِنْ عِبادِنا) لا الى قوله (اصْطَفَيْنا) لأن عود الضمير الى أقرب المذكورين واجب.

الحجة التاسعة : قوله تعالى حكاية عن ابليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص ٨٢ ـ ٨٣] استثنى المخلصين عن اضلاله واغوائه ، ثم انه تعالى شهد على ابراهيم وإسحاق ويعقوب ، أنهم من المخلصين ، حيث قال : («إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ

١٢٠