أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

فإن قيل : فقد يكون ذلك حدسا بشواهد الأفعال وفراسة بفضل الألمعية وقوة الفطنة ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن الحدس والفراسة وإن أصاب بهما تارة فقد يخطئ بهما أخرى وهذا إصابة في الجميع فخرجت عن الحدث والفراسة إلى علم من لا تخفى عليه الغيوب.

والثاني : أن الحدس والفراسة توهم غير مقطوع بهما قبل الوجود وهذه أخبار بأنه مقطوع بها قبل الوجود فافترقوا.

الإعجاز بالإخبار عمّا في النفوس من أسرار

والوجه التاسع : من إعجازه ما فيه من الأخبار بضمائر القلوب التي لا يصل إليها إلّا علّام الغيوب كقوله : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) (١٧) من غير أن يظهر منهم قول أو يوجد منهم فشل وكقوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (١٨) فكان كقوله ، «وإن لم يتكلموا به» إلى غير ذلك من نظائره.

فإن قيل : فالجمع الكثير تخلف ضمائرهم في العرف فإن وجد ذلك في بعضهم لم يوجد في جميعهم ، فإن لم يخل أن يعقده بعضهم خلا منه بعضهم فتقابل القولان فيهم وبطل إعجازه معهم ، فعنه جوابان :

أحدهما : أنهم وجهوا بهذا الخبر على العموم فلم ينكروه فزال هذا التفصيل فصار معجزا.

والثاني : أنه جعله ذنبا لهم فلم ينتضلوا منه فدل على وجوده من جميعه.

الإعجاز في الألفاظ

والوجه العاشر : من إعجازه أن ألفاظ القرآن قد تشتمل على الجزل

__________________

(١٧) سورة آل عمران من الآية (١٢٢).

(١٨) سورة الأنفال الآية (٧).

٨١

المستغرب والسهل المستقرب فلا يتوعر جزله ولا يسترذل سهله ويكونان إذا اجتمعا مطبوعين غير متنافرين ولا نجد ذلك في غيره من كلام البشر لأن جزله يتوعر وسهله يسترذل والجمع بينهما يتنافر فصار من هذا الوجه مباينا وفي الإعجاز داخلا.

فإن قيل : إنما كان القرآن كذلك لأنه قد تواطأ بكثرة التلاوة فاستلذته الأسماع واستحلته الألسن ، ولولاه لتباين واختلف فعنه جوابان :

أحدهما : أن صفته عند أول سماعه. لو كانت لما ذكر من الكلام المختلف لا يتواطأ بكثرة ذكره فبطلت العلة.

الإعجاز في التلاوة

والوجه الحادي عشر : من إعجازه أن تلاوته تختص بخمسة بواعث عليه لا توجد في غيره :

أحدها : هشاشة مخرجه.

والثاني : بهجة رونقه.

والثالث : سلاسة نظمه.

والرابع : حسن قبوله.

والخامس : أن قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وهذا في غيره من الكلام معدوم

فإن قيل : إنما وقع في النفوس هذا الموقع فعنه جوابان :

أحدهما : أن هذا موجود في غيره من كتب الله تعالى كالتوراة والإنجيل والزبور ، وليس يوجد ذلك فيها مع وجود هذا التعليل ولذلك ما استعان أهلها على استحلاء تلاوتها بما وضعوه لها من الألحان واستعذبوه لها من الأصوات ، والقرآن مستغن عن هذا بصيغة لفظه فلذلك ما راع وهيج الطباع.

والثاني : التدين لا يسلب العقول تمييزها ولا يفسد عليها تصورها وهو

٨٢

بأن يزيدها بصيرة أولى أن ينقصها ولو كان لهذه العلة لجحده من كفر كما اعترف به من آمن وقول الجميع فيه سواء.

الإعجاز في كونه معصوما من الزلل محفوظا لفظا ومعنى

والوجه الثاني عشر : من إعجازه ، أنه منقول بألفاظ منزّلة ومعان مستودعة وبلغه الملك بلفظه وعلى نظمه وأداه الرسول إلى الأمة بمثله فلم ينخرم فيه لفظ ولا اختل فيه معنى ولا تغير له ترتيب حتى صار من الزلل مضبوطا ومن التبديل محفوظا تستمر به الأعصار على شاكلته وتتداوله الألسن مع اختلاف اللغات على نظمه وصفته لا يختل بتعاقب الأزمنة ولا يختل بتباعد الأمكنة ولا يتغير باختلاف الألسنة ، وغيره من الكتب مقصورة على حفظ معانيها وإن غويرت ألفاظها فإن التوراة ألقى الله تعالى معانيها إلى موسى عليه‌السلام فذكرها بلفظه وعبر عنها بكلامه.

وأما الإنجيل فهو ما أخبر به عيسى عليه‌السلام عن ربه وعن نفسه فجمعه تلامذته بألفاظهم وجعلوه كتابا متلوا.

وأما الزبور فأدعية بتحاميد وتسابيح تنسب إلى داود عن لفظه ، ولئن كانت معاني هذه الكتب مضافة إلى الله تعالى فليست بصيغة لفظه ولا على نظم كلامه كما نزل القرآن جامعا لألفاظه ومعانيه وترتيبه فصار مباينا لجميع كتبه ، وما هذا إلّا بمعونة إلهية حفظ الله تعالى بها إعجازه وأمدّ بها رسوله كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٩).

فإن قيل : فحفظ الكلام على صيغة لفظه واشتمال معانيه لا يكون معجزا كأشعار الجاهلية القدماء وأمثال من سلف من الحكماء (٢٠) ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن في هذا محولا ومتروكا فلم ينحفظ.

والثاني : أنه لا يعلم حاله فلم ينضبط والقرآن مخالف لهما في حفظه وضبطه.

__________________

(١٩) سورة الحجر الآية (٩).

(٢٠) وكل هذا دخله التزوير والنحل والانتحال والتبديل

٨٣

الإعجاز في شمولية معانيه

والوجه الثالث عشر : من إعجازه ، اقتران معانيه المغايرة واقتران نظائرها في السور المختلفة فيخرج في السورة من وعد إلى وعيد ومن ترغيب إلى ترهيب ومن ماض إلى مستقبل ومن قصص إلى مثل ومن حكم إلى جدل فلا ينبو ولا يتنافر ، وهي في غيره من الكلام متنافرة فتتجانس معانيها وكذلك هي في غيره من الكتب المنزلة مفصلة لكل نوع سفر ، فإن التوراة مقسومة على خمسة أسفار وكل سفر منها مفرد بمعنى واحد من المعاني المستودعة فيها :

فالسفر الأول : لذكر بدء الخلق.

والسفر الثاني : لخروج بني إسرائيل من مصر.

والسفر الثالث : لأمر القرابين.

والسفر الرابع : لإحصاء موسى بني إسرائيل وما دبرهم به.

والسفر الخامس : لتكرير النواميس وجعل اختلاف معانيها موجبا لتفاضلها ، فكان أفضل ما في التوراة عند اليهود الكلمات العشر المشتملة على الوصايا التي خاطب الله تعالى بها موسى وبها يستحلفون دون غيرها (٢١).

وأفضل ما في الإنجيل الصحف الأربعة المنسوبة الى تلامذة المسيح الأربعة (٢٢) وهي المخصوصة بالقراءة في الصلاة والأعياد وأفضل ما في الزبور ما اتفق أهل الكتابين على اختياره وما اشتمل عليه القرآن من تغايرها ، أولى من وجهين :

أحدهما : أن لا يختص قارئه بأحدها فيعدل عن غيره.

والثاني : أن يستوعب إذا أراد جميعها قراءة جميعه فيستكمل فوائده ويستجزل ثوابه.

__________________

(٢١) جاء في الموسوعة اليهودية المجلد ١١ ص ٥٨٩ ما يلي حول التوراة الموجودة : «وما زال الرّبيون يعنون بتناقضات واختلافات وردت في هذه الصحف وما زالوا يصلحونها بحكمتهم ولباقتهم» فتأمل.

(٢٢) المقصود إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا وقد تحدثنا عنها مطوّلا في كتابنا قصص القرآن الكريم فليراجعه من أراد.

٨٤

فإن قيل : فالتفصيل أبلغ في البيان من الامتزاج فالجواب عنه ما ذكرناه من الوجهين.

الإعجاز في تماسك بيانه

والوجه الرابع عشر : من إعجازه أن اختلاف آياته في الطول والقصر لا يخرج عن أسلوبه ولا يزول عن اعتداله وغيره من نظم الكلام ونثره إذا تفاصلت أجزاؤه زال عن وزن منظومه واعتدال منثوره فصار ذلك من إعجازه.

فإن قيل : زيادة طوله هذر ونقصان قصره حصر فكيف يكون معجزا إذا تردد بين هذر وحصر ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن الزيادة تكون هذرا إذا لم تفد والنقصان يكون حصرا إذا لم يقنع والزيادة من طوله مفيدة والنقصان من قصره مقنع فخرج عن الهذر والحصر.

والثاني : أن الطويل لو انفرد لم يكن هذرا والقصير لو انفرد لم يكن حصرا فلم يكن اجتماعهما موجبا لهذر وحصر كاختلاف السور في القصر والطول ، فإن أقصر السور سورة الكوثر ، وتشتمل مع قصرها على أربعة معان أخبار بنعمة وأمر بعبادة وبشرى بمسرة وأسلوب هو معجزة فلم تخرج إذا قرنت بما هو أطول أن تكون معجزة.

الإعجاز في عدم القدرة على الإحاطة بمعانيه

والوجه الخامس عشر : من إعجازه أن مكثر تلاوته لا يزاد به فصاحة وإن ازداد بغيره من فصيح الكلام لخروجه عن طباع البشر فمازجها فصار أسلوبه معجزا في الحالين وعلى كلا الوجهين.

فإن قيل : ما لا يؤثر في الطباع ناقص عن الكمال فكيف يوصف بالكمال ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن كماله فيه فلم تعديه.

والثاني : أن كماله يوجب المنع من تساويه.

٨٥

الإعجاز في سهولة حفظه

والوجه السادس عشر : من إعجازه تيسيره على جميع الألسنة حتى حفظه الأعجمي الأبكم (٢٣) ودار به لسان القبطي الألكن (٢٤) ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه ولا تجري به ألسنة البكم كجريها به ، وما ذاك إلّا بخصائص إلهية فضّله بها على سائر كتبه (٢٥).

فإن قيل : فقد يحفظ الشعر كحفظه والعلة فيه اعتدال وزنه الذي يحفظ بعضه بعضا فلم يكن ذلك معجزا ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن ما اندرس من الشعر أكثر مما حفظ وهذا محفوظ لم يندرس فاختلفا.

والثاني : ما لم تستعذ به الأفواه متروك ، والقرآن مستعذب غير متروك فافترقا.

الإعجاز في عدم القدرة على الإتيان بمثله

والوجه السابع عشر : من إعجازه أن الكلام يترتب ثلاث مراتب منثور يدخل في قدرة الخلق وشعر هو أعلى منه يقدر عليه فريق ويعجز عنه فريق وقرآن هو أعلى من جميعها وأفضل من سائرها تجاوز رتبة النوعين فخرج عن قدرة الفريقين.

فإن قيل : لو كان القرآن برهانا معجزا لخرج كثيره وقليله عن القدرة ، وقليله مقدور عليه وهو أن يجمع بين ثلاث كلمات منه أو أربع ، فكذلك كثيره لأن الشيء إذا دخلت أوائله في جنس الممكن خرجت أواخره من جنس الممتنع ، فعنه جوابان :

__________________

(٢٣) الأبكم : الذي يحفظه دون أن يفقه لغته.

(٢٤) الذي يقرأه بلكنته أي بلهجته البعيدة عن صفاء العربية.

(٢٥) التوراة والأناجيل ترجمت ألفاظها ومعانيها لعدم وجود إعجاز لغوي فيها أما القرآن فلا تترجم إلا معانيه وحسب الشروح المعتمدة من الشارح.

٨٦

أحدهما : أن قليله وكثيره خارج عن القدرة إذا انتظم إعجازه وهو كأقصر سورة منه فبطل هذا الاعتراض.

والثاني : أنه ليس القدرة على الكلمة والكلمتين منه قدرة على استكمال ما يقع من التحدي كالمفحم في الشعر لا تكون قدرته على الكلمة والكلمتين من بيت من الشعر قدرة على نظم بيت كامل من الشعر.

الإعجاز في عدم القدرة على الزيادة فيه أو إنقاصه

والوجه الثامن عشر : من إعجازه أن الزيادة فيه ممتازة وتغيير ألفاظه منه مفتضحة ولو كان في القدرة لالتبس ولو أمكن لاشتبه.

فإن قيل : فقد زيد فيه فالتبس واشتبه وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت عليه سورة النجم بمكة قرأها في المسجد الحرام حتى بلغ إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٦) ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ثم تمم السورة وسجد فسجد معه المسلمون وفرح المشركون فسجدوا معه ورضيت كفار قريش به وسمع به من هاجر إلى أرض الحبشة فعادوا إلى أن أنكر عليه جبريل فشق عليه ونزل فيه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) (٢٧) قالوا : ومعلوم أن هذه الزيادة هي في مثل أسلوب السورة وليست من الله تعالى وقد اشتبهت فلم لا كان ما سواها بمثابتها ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن هذه زيادة لا تبلغ قدر التحدي فخرجت عن حكمه.

والثاني : أنه أنزل فيها التي عندهم أيها الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ، فاشتبه على قريش وحذفوا منه قوله التي عندهم فنسخ الله تعالى لهذا الاشتباه تلاوة هذه الزيادة.

__________________

(٢٦) سورة النجم الآيتان (١٩ ـ ٢٠).

(٢٧) سورة الحج الآية (٥٢).

٨٧

الإعجاز في العجز عن معارضته

والوجه التاسع عشر : من إعجازه عجز الأمم عن معارضته وقد تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم تخرجهم أنفة التحدي وصبروا على نغص العجز مع شدة حميتهم وقوة أنفتهم وقد سفه أحلامهم وسب أصنامهم ولو وجدوا إلى المعارضة سبيلا وكان في مقدورهم داخلا ، وقد جعله حجة لهم في رد رسالته لعارضوه ولما عدلوا عنه إلى بذل نفوسهم في قتاله وسفك دمائهم في محاربته.

فإن قيل : فليس يمتنع أن يكونوا قد عارضوه بمثله فكتم كما كتم ما هجي به من الأشعار وقرف به من العار ، فعنه جوابان :

أحدهما : أنهم لو عارضوه لظهر ولو ظهر لانتشر لأن تكاتم الاستفاضة لا تستطاع لما في الطباع من الإذاعة وفي نفثات الصدور من الإشاعة ولقيل قد عورض فكتم كما قيل هجي فكتم ، ولو جاز هذا في معارضة القرآن لجاز مثله في معجزة كل نبي أن يقال قد عورض معجزة فكتم فيفضي إلى إبطال كل معجز ، وهذا مدفوع في معارضة غير القرآن فكان مدفوعا في معارضة القرآن.

والثاني : أنه قد جعل معارضته حجة لهم في رد رسالته فلو عارضوه لاحتجوا عليه بالمعارضة ولما احتاجوا معه إلى القتال والمحاربة مع بذل النفوس واستهلاك الأموال ولدفعوه بالأهون دون الأصعب وقد نقل ما عورض به فظهر فيه العجز وبان فيه النقص حتى فضحته ركاكة لفظه وسخافة نظمه.

فحكى ابن قتيبة عن مسيلمة أنه قال في معارضة القرآن : يا ضفدع نقي ، كم تنقين ، لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين ، فلما سمع هذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال : إن هذا الكلام لم يخرج من إل (٢٨).

وحكي عن غيره وأحسبه العنسي أنه قال : ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشى.

__________________

(٢٨) إل : أصل جيد ، أو منشأ طيب وهو المقصود هنا. والإل أيضا : الوحي وكل ما له حرمة.

٨٨

وحكي عن آخر : الفيل ما الفيل له ذنب وثيل ومشفر طويل فإن ذلك من خلق ربنا لقليل.

وحكى الحكم عن عكرمة أن النضر بن الحرث وكان من فصحاء قريش عارض القرآن فقال : والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا فاللاقمات لقما.

وقال آخر : قد أفلح من هينم في صلاته وأطعم المسكين من مخلاته وأخرج الواجب من زكاته.

وقال آخر في معارضة سورة النجم : والنجم إذا سما والبحر إذا طما ما زاغ منذركم وما طغى وما كذب بها وغوى فيما نطق به وروى ، فأنزل الله تعالى في ذلك : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) (٢٩) فهذه المعارضة وقد احتذوا فيها مثالا عدلوا بها عن طوال السور إلى فصارها فأتوا بسقيم الكلام دون سليمه وبسخيفه دون جميله ، فكيف يقابل له غايته القصوى ويوازي به طبقته العليا ، وهل ذلك إلّا كمن عارض فصاحة سحبان بعي باقل أو تخليط مجنون بحزم عاقل أو قاس الدر بالمدر وشاكل بين الصفو والكدر ، ومن تعاطى ما ليس في طبعه افتضح فخر صريعا وهوى سريعا.

الإعجاز في الصرف عن معارضته

الوجه العشرون : من إعجازه الصرفة عن معارضته واختلف من قال بها هل صرفوا عن القدرة على معارضته أو صرفوا عن معارضته مع دخوله في مقدورهم على قولين :

أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة ولو قدروا لعارضوه.

والقول الثاني : أنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم.

__________________

(٢٩) سورة الأنعام الآية (٩٣).

٨٩

والصرفة إعجاز على القولين معا في قول من نفاها وأثبتها فخرقها للعادة فيما دخل في القدرة.

فإن قيل : فإن عجزوا عن معارضته بمثله لم يعجزوا عن معارضته بما تقاربه وإن نقص عن رتبته ، والمعجز ما لم يمكن مقاربته كما لا يمكن مماثلته فعنه جوابان :

أحدهما : أن مقاربته تكون بما في مثل أسلوبه إذا قصر عن كماله والأسلوب ممتنع فبطلت المقاربة وثبت الإعجاز.

والثاني : أن المقاربة تمنع من المماثلة والتحدي إنما كان بالمثل دون المقاربة.

جامع الإعجاز

فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها صح أن يكون كل واحد منها معجزا فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر وحجاجه أظهر وصار كفلق البحر وإحياء الموتى لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله سواء كان جسما مخترعا أو جرما مبتدعا أو عرضا متوهما.

فإن قيل : أفيعتبرون عجز العرب العاربة عنه دون المولدين أو عجز الجميع.

قيل : فيه خلاف بين أهل العلم على وجهين :

أحدهما : أن المعتبر فيه عجز الجميع ليكون أعم.

والوجه الثاني : معتبر فيه عجز العرب العاربة دون المولدين ليكون معتبرا بمن يلجأ إلى طبعه ولا يعول على تكلفه وتعلمه. وهكذا اختلفوا هل يعتبر فيه عجز أهل عصره أو في جميع دهره على هذين الوجهين :

أحدهما : يعتبر فيه عجز أهل العصر لأنهم حجة على أهل كل عصر.

والوجه الثاني : أنه يعتبر فيه عجز أهل كل عصر لعموم التحدي فيه لأهل كل عصر.

٩٠

فإن قيل : فليس عجز كل الانس عن مثله موجبا لإضافته إلى الله تعالى لجواز أن تكون الشياطين أعانت عليه حتى خرج عن مقدور الإنس كما أعانت سليمان على ما عجز عنه الإنس فعنه أجوبة :

أحدها : أن هذا يتوجه على موسى في فلق البحر وعلى عيسى في إحياء الموتى ، ويقدح في جميع النبوّات فلم يجز لمن أثبتها أن يخص به بعض المعجزات.

والجواب الثاني : أن الشياطين لم يعرفوا إلّا من الرسل ولولاهم لما علم الناس أن في الدنيا شيطانا ولا جنا ولا جانا وقد جهل الرسل بلعنهم ودعوا إلى معصيتهم ولو كانوا أعوانا لدعوا إلى طاعتهم وموالاتهم لأن معونة من أطيع وولي أحق من معونة من عصى وعودي.

والجواب الثالث : أن الشياطين لا يقدرون على ذلك إلّا بمعونة الله تعالى لهم وهو لا يعين كاذبا عليه فإن كان عن أمره كان معجزا لأنه من فعله ، وعلى هذا كان تسخير سليمان للجن والله تعالى غني عن الشياطين أن يكونوا سفراء إلى رسله وأعوانا لأنبيائه وهم ينهون عن طاعته ويدعون إلى معصية هذا القرآن وقد تحدى به الجن كما تحدى به الإنس بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٣٠) ، وحكى عنهم عجزهم عنه بقوله تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) (٣١).

القرآن كلام رب العالمين

فإذا تقررت هذه الجملة في إعجاز القرآن فبإعجازه يعلم أنه من غير كلام البشر ولا يعلم أنه من عند الله تعالى إلّا بقول الرسول ، فلو أراد الرسول أن يقول مثله لم يقدر عليه لأنه من البشر إلّا أن يمده الله تعالى بعون منه فيصير قادرا

__________________

(٣٠) سورة الإسراء الآية (٨٨).

(٣١) سورة الجن الآيتان (١ ـ ٢).

٩١

عليه ومعجزا له لو لم يضف القرآن إلى الله تعالى فأما مع إضافته إليه فلا يكون معجزا له ويكون مصروفا عنه لأن ما أضيف إلى الله تعالى يمتنع أن يكون من غيره لدخوله في جملة الكذب ثم يصير القرآن أصلا للشرع ومعجزا للرسول فيجب على الأمة التزام أحكامه وطاعة الرسول.

واختلف في لزوم طاعته هل وجبت بعد ثبوت رسالته بالعقل أو بالشرع على وجهين :

أحدهما : بالعقل لأن طاعة الرسول طاعة المرسل.

والوجه الثاني : بالشرع بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣٢) لأن الرسول مبلغ.

وإذا كان القرآن أصلا للشرع فقد اختلف العلماء في حد الأصل والفرع على وجهين :

أحدهما : أن حد الأصل ما دل على غيره وحد الفرع ما دل عليه غيره ، فعلى هذا يكون القرآن فرعا لعلم الحس لأنه الدال على صحته.

والوجه الثاني : أن الأصل ما تفرع عنه غيره والفرع ما تفرع عن غيره ، فعلى هذا يمتنع أن يكون القرآن فرعا لعلم الحس لأن الله تعالى تولاه وجعله أصلا دل العقل عليه.

واختلف العلماء في إبلاغ الرسول هل يكون أمرا أو إعلاما ، فقال بعضهم

يكون أمرا لا يلزم الأمة أحكامه لو عرفوه قبل إبلاغه.

والوجه الثاني : يكون إعلاما ويلزمهم أحكامه لو عرفوه قبل إبلاغه ويجوز أن يعلم جميع الأحكام الشرعية من القرآن ولا يجوز أن يعلم جميعها من الإجماع ولا من القياس لأنهما ينعقدان عن أصل مسموع.

__________________

(٣٢) سورة النساء الآية (٥٩).

٩٢

واختلف في جواز العلم بجميعها من سنة الرسول فجوزه بعضهم لقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣٣) وامتنع منه بعضهم لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٣٤) والله تعالى أعلم.

__________________

(٣٣) سورة الحشر الآية (٧).

(٣٤) سورة النجم الآيتان (٣ ـ ٤).

٩٣
٩٤

الباب الثامن

في معجزات عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

أظهر الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعلام نبوّته بعد ثبوتها بمعجز القرآن واستغنائه عما سواه من البرهان ، ما جعله زيادة استبصار يحج بها من قلت فطنته ويذعن لها من ضعفت بصيرته ، ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا واستدلالا ، وإعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا وإظهارا ، فيكون البليد مقهورا بوهمه وعيانه ، واللبيب محجوبا بفهمه وبيانه ، لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب ولهم أجذب ، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا وأعم دليلا.

فمن معجزاته : عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير والعدد الكثير ، وهم على أتم حنق عليه وأشد طلب لنفسه ، وهو بينهم مسترسل قاهر ولهم مخالط ومكاثر ترمقه أبصارهم شذرا وترتعد عنه أيديهم ذعرا ، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة ثم خرج عنهم سليما لم يكلم في نفس ولا جسد ، وما كان ذاك إلّا بعصمة إلهيه وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) فعصمه منهم.

في أعلام عصمته

وأن قريشا اجتمعت في دار الندوة ، وكان فيهم النضر بن الحرث بن

__________________

(١) سورة المائدة الآية (٦٧).

٩٥

كنانة ، وكان زعيم القوم وساعده عبد الله بن الزبعرى ، وكان شاعر القوم ، فحضهم على قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لهم : الموت خير لكم من الحياة ، فقال بعضهم : كيف نصنع. فقال أبو جهل : هل محمد إلّا رجل واحد وهل بنو هاشم إلّا قبيلة من قبائل قريش فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمدا ويريح قومه ، وأطرق مليا ، فقالوا : من فعل هذا ساد (٢). فقال أبو جهل : ما محمد بأقوى من رجل منا وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر فإن قتلت أرحت قومي وإن بقيت فذاك الذي أوثر (٣).

فخرجوا على ذلك ، فلما اجتمعوا في الحطيم (٤) خرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : قد جاء ، فتقدم من الركن فقام يصلي فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود فقال أبو جهل : فإني أقوم فأريحكم منه ، فأخذ مهراشا عظيما ودنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه وهو يراه فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد وقد دوخت أوداجه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساجد فقال أبو جهل لأصحابه : خذوني إليكم فالتزموه وقد غشي عليه ساعة فلما أفاق قال له أصحابه : ما الذي أصابك. قال : لما دنوت منه أقبل عليّ من رأسه فحل فاغر فاه (٥) فحمل على أسنانه فلم أتمالك وإني أرى محمدا محجوبا (٦). فقال له بعض أصحابه : يا أبا الحكم رغبت وأحببت الحياة ورجعت. قال : ما تغروني عن نفسي ، قال النضر بن الحرث : فإن رجع غدا فأنا له. قالوا له : يا أبا سهم لئن فعلت هذا لتسودن.

فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه فأخذ حفنة من تراب وقال شاهت الوجوه وقال حمر لا يبصرون فتفرقوا عنه ، وهذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى فصبر

__________________

(٢) ساد : صار سيد قومه.

(٣) أوثر : أفضّل.

(٤) الحطيم : اسم موضع في الحرم.

(٥) الفحل : البعير الشّاب ، فاغر فاه : قد فتح فمه إلى أقصاه.

(٦) محجوبا : قد لبس حجابا يمنع عنه الناس.

٩٦

عليه حتى وقاه الله وكان من أقوى شاهد على صدقه.

ومن أعلامه : أن معمر بن يزيد وكان أشجع قومه استغاثت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره ، فلما شكوا إليه قال لهم : إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه وعندي عشرون ألف مدجج (٧) فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة ، وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس ، فلبس يوم وعده قريشا سلاحه وظاهر بين درعين (٨) فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحجر يصلي وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في صلاة ، فقيل له : هذا محمد ساجد فأهوي إليه. وقد سل سيفه وأقبل نحوه ، فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط ، فقام وقد أدمي وجهه بالحجارة يعدو كأشد العدو حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا : ما ذا أصابك ، قال : ويحكم ، المغرور من غررتموه ، قالوا : ما شأنك. قال : ما رأيت كاليوم دعوني ترجع إليّ نفسي فتركوه ساعة وقالوا : ما أصابك يا أبا الليث. قال : إني لما دنوت من محمد فأردت أن أهوي بسيفي إليه أهوى إليّ من عند رأسه شجاعان أقرعان (٩) ينفخان بالنيران وتلمع من أبصارهما فعدوت فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد.

ومن أعلامه : أن كلدة بن أسد أبا الأشد وكان من القوة بمكان خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم ، فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال فجاء كلدة ومعه المزراق فرجع المزراق في صدره فرجع فزعا ، فقالت له قريش : ما لك يا أبا الأشد؟ فقال : ويحكم ما ترون الفحل خلفي ، قالوا : ما نرى شيئا ، قال : ويحكم

__________________

(٧) المدجج : الرجل يحمل السلاح من درع أو ترس وسيف ورمح.

(٨) ظاهر بين درعين : جمعهما إلى صدره وظهره.

(٩) الشجاع الأقرع : ثعبان عظيم الخلقة.

٩٧

فإني أراه ، فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف فاستهزأت به ثقيف ، فقال : أنا أعذركم ، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم.

ومن أعلامه : أن أبا لهب خرج يوما وقد اجتمعت قريش فقالوا : يا أبا عتبة إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا وأن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئا وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك ، فقال : فإني أكفيكم ، ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفا عليه نزل أبو لهب وهو يصلي وتسلقت امرأته أم جميل الحائط حتى وقفت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ساجد فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه وهما كانا لا ينقلان قدما (١٠) ولا يقدران على شيء حتى تهجر الصبح وفرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له أبو لهب : يا محمد أطلق عنا ، فقال : ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني ، قالا : قد فعلنا ، فدعا ربه فرجعا.

ومن أعلامه : أن قريشا اجتمعوا في الحطيم فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال : إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرّق جماعتنا وبدد شملنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا ، وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحرث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأمية وأبي ابنا خلف في جماعة من صناديد قريش فقال له : قل ما شئت فإنا نطيعك ، قال : سأقوم فأكلمه فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه وإلّا رأينا فيه رأينا ، فقالوا له : شأنك يا أبا عبد شمس ، فقام فتقدم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس وحده ، فقال : أنعم صباحا يا محمد ، قال : «يا عبد شمس إن الله قد أبدلنا بهذا السلام تحية أهل الجنة» ، قال : يا ابن أخي إني جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا الفسحة ، ثم قال : يا ابن عبد المطلب إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك ، قال : «قل» ، قال : إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكا فإنا نملّكك علينا من غير تعب ونتوّجك فارجع عن ذلك ، فسكت ، ثم قال له : وإن كان ما تدعو إليه أمرا تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك ، فقال : «لا

__________________

(١٠) لا ينقلان قدما : أي غير قادرين على الحركة قد جمّداني مكانهما.

٩٨

قوة إلّا بالله» ، ثم قال له : وإن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش فإن ذلك أهون علينا من تشتيت كلمتنا وتفريق جماعتنا وإن كان ما تدعو إليه جنونا داويناك كما تداوي قيس بني ثعلبة مجنونهم ، فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ما تقول وبم أرجع إلى قريش؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١١) حتى بلغ إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٢).

قال عتبة : فلما تكلم بهذا الكلام فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من إعجازها ، وقام فزعا يجر رداءه ، فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتقاض العصفور وقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ، فقالت قريش : لقد ذهبت من عندنا نشيطا ورجعت فزعا مرعوبا فما وراءك؟ قال : ويحكم دعوني ، إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئا ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي وقلت الصاعقة قد أخذتني ، فندموا على ذلك.

قال ابن عرفة : الصاعقة اسم للعذاب على أي حال كان ، وإنما أهلكت عاد بالريح وثمود بالرجف فسمى الله تعالى ذلك صاعقة.

قال الأزهري : الصاعقة صوت الرعد الشديد الذي يصعق منه الإنسان أي يغشى عليه.

ومن أعلامه : أنه لما أراد الهجرة خرج من مكة ومعه أبو بكر فدخل غارا في جبل ثور ليستخفي من قريش وقد طلبته وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء ، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره وأنبت على باب الغار ثمامة ، وهي شرجة صغيرة ، وألهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفة عين ولدغ أبو بكر هذه الليلة غير لدغة فخرق ثيابه وجعلها في الشقوق وسد بعضها بقدمه اتقاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه فلقيه سراقة بن مالك بن

__________________

(١١) سورة فصّلت الآيات (١ ـ ٤).

(١٢) سورة فصّلت الآية (١٣).

٩٩

جعشم ، وهو من جملة من توجه لطلبه ، فقال له أبو بكر : هذا سراقة قد قرب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اكفنا سراقة» ، فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها ، فقال سراقة : يا محمد ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أردّ من جاء يطلبك ولا أعين عليك أبدا ، فقال : «اللهم إن كان صادقا فأطلق عن فرسه» ، فأطلق الله عنه ، ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه.

ومن أعلامه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انفرد في غزوة ذي أمر عن أصحابه واضطجع وحده فوقف عليه دعثور فسل سيفه وقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال : «الله» ، فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال له : «من يمنعك مني»؟ قال : لا أحد ، أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله ، وعاد إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ، وفيه نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) (١٣).

ومن أعلامه : أن الناس لما انهزموا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين وهو معتزل عنهم رآه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة فقال : اليوم أدرك ثأري وأقتل محمدا لأن أباه قتل يوم أحد في جماعة أخوته وأعمامه ، قال شيبة : فلما أردت قتله أقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك فعلمت أنه ممنوع (١٤).

ومن أعلامه : أن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وهو أخو لبيد بن ربيعة الشاعر لأمه وفدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قومهما من بني عامر ، فقال عامر لأربد : إذا أقدمنا على محمد فإني شاغل عنك وجهه فأعله أنت بالسيف حتى تقتله ، قال أربد : أفعل ، ثم أقبل عامر يمشي وكان رجلا جميلا حتى قام على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت؟ فقال : «لك ما للإسلام وعليك ما على الإسلام» ، قال : ألا تجعلني الوالي من بعدك؟ قال : «ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل تغزو بها» ، قال : أو ليست لي اليوم

__________________

(١٣) سورة المائدة الآية (١١).

(١٤) ممنوع : أي لا يقدر أحد على إيذائه أو الاقتراب منه بشرّ.

١٠٠