أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

من إدريس إلى عيسى عليهما‌السلام

ثم كثر الناس فافترقوا بعد ادريس وزادوا إلى زمن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو ادريس وهو آخر نبي بعث قبل الطوفان على قول من زعم أن شيثا نبي ونزل الطوفان بعد ستمائة سنة (٢٠) من عمره وأنذر قومه فكذبوه وصنع السفينة فسخروا منه وأمره الله تعالى أن يصنعها في طول ثلاثمائة ذراع وعرض خمسين ذراعا وعلو ثلاثين ذراعا وتكون ثلاث طبقات ليركب فيها هو وأهله ويأخذ من كل جنس من الحيوان زوجين ذكرا وأنثى ليكونوا أصولا لنسلهم فيحيا بهم العالم ثم وعده أن يستمطره بعد سبعة أيام أربعين يوما وأربعين ليلة فلم يبق في الأرض ذو روح إلّا من ركبها وغاض الطوفان بعد مائة وخمسين يوما (٢١) فاستوت على الجودي وهو جبل بأرض الجزيرة شهرا وسمي الماء طوفانا لأنه طفا فوق كل شيء.

واختلف فيما عاش نوح بعد الطوفان فقال الأكثرون ثلاثمائة وخمسين سنة وهو ظاهر ما نزل به القرآن وقال آخرون ستمائة وخمسون سنة لأنه لبث تسعمائة وخمسين سنة داعيا لقومه وكان له قبل دعائه ثلاثمائة سنة واختلف فيما بين هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان فقال اثنان وسبعون حبرا من بني إسرائيل نقلوا التوراة إلى اليونانية بينهما ألفان ومائتان واثنتان وأربعون سنة ثم تبلبلت الألسن بعد الطوفان بستمائة وسبعين سنة فافترق اثنان وسبعون لسانا في اثنتين وسبعين أمة.

قال وهب بن منبه منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لسانا ، وفي ولد حام سبعة عشر لسانا. وفي ولد يافث ستة وثلاثون لسانا من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم الخليل عليه‌السلام أربعمائة وأحد عشر سنة ومن مولد إبراهيم إلى موسى بن عمران عليه‌السلام أربعمائة وخمس وعشرون سنة وأخرج بني إسرائيل من مصر بعد ثمانية سنة ودبر أمرهم أربعين سنة ومات وله مائة

__________________

(٢٠) سفر التكوين الإصحاح ٧ العدد ٦ وعندنا قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) سورة العنكبوت الآية (١٤).

(٢١) سفر التكوين الإصحاح ٨ العدد ٣.

٦١

وعشرون سنة فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ثلاثة آلاف وثمانمائة وثماني وستين سنة (٢٢)

وقال آخرون من بني إسرائيل المقيمين على التوراة العبرانية التي يتداولها جمهور اليهود في وقتنا إن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفا وستمائة وستا وخمسين سنة ، ومن انقضاء الطوفان إلى تبلبل الألسن مائة وإحدى وثلاثين سنة ، ومن تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم مائة وإحدى وستين سنة ، ومن مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة وخمسا وأربعين سنة ، فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين وأربعمائة وثلاثا وتسعين سنة.

وقالت السامرة من اليهود عن تاريخ توراتهم أن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفا وثلاثمائة وسبعا وستين سنة ، ومن الطوفان إلى تبلبل الألسن خمسمائة وستا وعشرين سنة ، ومن تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم أربعمائة وإحدى عشرة سنة ، ومن مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة وإحدى وأربعين سنة ، فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين وثمانمائة وتسعا وأربعين سنة.

وأول نبي بعد نوح إبراهيم ، وهو أول من قص شاربه واستحد واختتن وقلم أظفاره واستاك وتمضمض واستنشق واستنجى بالماء ، وأول من أضاف الضيف وأطعم المساكين وثرد الثريد. وكان داعيا إلى عبادة الله تعالى وتوحيده.

ثم ولده إسحاق بن إبراهيم ، ولد له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد فخرج عيصو ثم خرج بعده يعقوب ويده عالقة على عقبه فسمي يعقوب.

فعيصو أبو الروم وكان أصفر اللون فلذلك سميت الروم بني الأصفر.

ويعقوب هو إسرائيل أبو الأسباط.

وأيوب بن بولص كان أبوه ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق وكان في زمن يعقوب وكان صهره زوجه يعقوب بنته ليا وهي التي ضربها بالضغث.

__________________

(٢٢) وكل هذه روايات يهودية لا سند لها في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي الشريف كما جاء في كتب الصحاح.

٦٢

وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وكانت نبوة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ومن بعده من ولده قبل موسى مقصورة على أنفسهم حتى دعا موسى إلى نبوّته بني إسرائيل ومن وفاة موسى إلى ملك بختنصر تسعمائة وثمان وسبعون سنة ، وإلى ملك الاسكندر ألف وأربعمائة وثلاث عشرة سنة.

وولد عيسى ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من كانون الأول لسبعمائة وتسع وثلاثين سنة من ملك بختنصر ولثلاثمائة وأربع سنين من ملك الاسكندر. ومن ملك بختنصر إلى ابتداء الهجرة ألف وثلاثمائة وتسع وستون سنة ، ومن ملك الاسكندر إلى ابتداء الهجرة ألفان وثلاثمائة وسبع وأربعون سنة فكان بين موت موسى وابتداء الهجرة ألفان وثلاثمائة وسبع وأربعون سنة ومولد عيسى بعد ألف وسبعمائة وسبع عشرة سنة من موت موسى وقيل بعد ستمائة وثلاثين سنة من ابتداء الهجرة.

فصل في عمر الدنيا إلى قيام الساعة

فإذا تقرر ما ذكرناه من مدة الدنيا أنها مقدرة في الكتب الإلهية بسبعة آلاف سنة كان الماضي منها إلى ابتداء الهجرة محمولا على ما قدمناه من اختلاف أهل التوراة فيكون على القول الأول المأخوذ عن الأحبار الناقلين لها إلى اليونانية ستة آلاف ومائتين وست عشرة سنة والباقي من عمر الدنيا على قولهم بعد الهجرة سبعمائة وأربعا وثمانين سنة وهو موافق لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا» (٢٣) ويكون الماضي منها على القول الثاني المأخوذ عن التوراة العبرانية أربعة آلاف وثمانمائة وإحدى وأربعين سنة والباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفين ومائة وتسعا وخمسين سنة وقيل أنهم قالوا ذلك ليكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خامسها ألفا فيدفعوه بنقصان التاريخ

__________________

(٢٣) وليس أدل على كونه موضوعا أننا في السنة ١٤٠٨ لهجرة الرسول الكريم ولما تقم الساعة بعد ، وعلم الساعة عند رب العالمين وحده كما جاء في القرآن الكريم ولا يعقل وجود حديث نبوي يحدد قيام الساعة بهذا الشكل المتنافي مع ما جاء في القرآن الكريم.

٦٣

عن صفته في التوراة أنه مبعوث في آخر الزمان ويكون الماضي على القول الثالث في توراة السامرة خمسة آلاف ومائة وسبعا وثلاثين سنة والباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفا وثمانمائة وثلاثا وثلاثين سنة ليكون الرسول في سادسها ألفا لما قيل من سنيه.

والسامرة قوم ناقلة من بلاد المشرق سموا بذلك لأن تفسيره بالعربية الحفظة وهم لا يقبلون من كتب الأنبياء إلّا التوراة وحدها والأول لأجل قول الرسول بالأشبه وإن كان قيام الساعة وانقراض مدة الدنيا وقيام العالم على هذا التاريخ الذي أثبتوه والتقدير الذي حققوه مدفوعا عندنا بقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٢٤) وفيه تأويلان :

أحدهما : أن قيامها مختص بعلمه فامتنع أن يشاركه في علمها أحد من خلقه.

والثاني : أن قيامها موقوف على إرادته فامتنع أن يوقف على غير إرادته.

وقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) (٢٥) يعني فجأة والبغتة غير معلومة فامتنع أن تكون عندهم معلومة ثم قال : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) (٢٦) وفيه وجهان :

أحدهما : نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا يدل على أنه مبعوث في آخرها ألفا.

والثاني : أن أشراطها الآيات المنذرة بها كما قال : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (٢٧) فلا تقوم الساعة إلّا بعد أن ينذر الله تعالى بآياتها.

روى سفيان بن عيينة ، عن فرار ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسد

__________________

(٢٤) سورة لقمان الآية (٣٤).

(٢٥) سورة الزخرف الآية (٦٦).

(٢٦) سورة محمد الآية (١٨).

(٢٧) سورة الإسراء الآية (٥٩).

٦٤

الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علية ونحن نتذاكر أمر الساعة قال : «ما كنتم تذاكرون»؟

قلنا : قيام الساعة.

قال : «إن الساعة لن تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات».

قال لا يدرى بأيهن بدأ طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من قبل اليمن أو من عدن تطرد الناس إلى محشرهم.

وروى برد عن مكحول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج الدجال في الثمانين فإن لم يخرج ففي ثمانين ومائتين فإن لم يخرج ففي ثلاثمائة وثمانين فإن لم يخرج ففي أربعمائة وثمانين».

وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الدجال فقال : «يقيم فيكم أربعين سنة (٢٨) أول سنة كالشهر ثم الثانية كالجمعة ثم الثالثة كاليوم وسائر سنيه كالساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم فيوجره بالحربة فيذوب كما يذوب الرصاص وفي هذا دليل على تقدم يأجوج ومأجوج الدجال وآخرها الذي تقوم به الساعة ظهور النار والله أعلم بمن استأثر بغيبه ثم من أطلعه عليه من رسله».

ما بين موسى وعيسى عليهما‌السلام من الأنبياء

وبين موسى وعيسى عليهما‌السلام من الأنبياء :

شعيا وهو الذي بشر بني إسرائيل بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفه بعد أن بشر بعيسى فقتله بنو إسرائيل.

ثم حزقيل وهو الذي أصاب قومه الطاعون فخرجوا من ديارهم حذر

__________________

(٢٨) وقد روى مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان من حديث طويل : قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض! قال : «أربعون يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم». صحيح مسلم ج ٨ ص ١٩٧ باب ذكر الدجال وصفته وما معه.

٦٥

الموت فأماتهم الله ثم أحياهم.

ومنهم : دانيال سباه بختنصر مع العزير ونزل من بختنصر أفضل منزل لرؤيا عبرها له وقبره بناحية السوس وجده أبو موسى الأشعري فأخرجه وكفنه وصلى عليه ودفنه.

ومنهم : إلياس بعث إلى أهل بعلبك وكانوا يعبدون صنما يقال له بعل وكان ملكهم اسمه أجب وامرأته أزبيل وكان يستخلفها على ملكه وهي بنت ملك سبأ وعمرت عمرا طويلا وتزوجها سبعة من ملوك بني إسرائيل وهي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما‌السلام ثم رفع الله تعالى إلياس.

ثم اليسع كان تلميذ إلياس فدعا له إلياس فنبأه الله بعده.

ثم يونس بن متى.

ثم زكريا قتله بنو إسرائيل في الشجرة.

ثم عيسى ويحيى فأما يحيى فإن أجب الملك قتله بحيلة امرأته أزبيل وأما عيسى فإن أمه هربت به من أجب الملك إلى مصر وعاد به يوسف النجار مع أمه إلى قرية تدعى ناصرة فلذلك قيل لأصحابه نصارى لأنهم سموه عيسى الناصري.

وأصحاب الكهف ، هم فتية من الروم دخلوا الكهف قبل المسيح عيسى وضرب الله على آذانهم فيه فلما بعث المسيح أخبر بخبرهم ثم بعثهم الله تعالى بعد المسيح في الفترة بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجرجيس من أهل فلسطين أدرك بعض الحواريين وبعث إلى ملك الموصل.

فأما لقمان فكان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل وكان في زمن داود واسم أبيه ثاران واختلف في نبوته فزعم الأكثرون أنه لم يكن نبيا وقال سعيد بن المسيب كان نبيا وكان خياطا.

وذو الكفل من بني إسرائيل بعث إلى ملك كان فيهم يقال له كنعان دعاه إلى الإيمان وكفل له الجنة وكتب له كتابا وسمي ذا الكفل لذلك.

٦٦

وذكر وهب بن منبه أن الأنبياء كلهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي الرسل منهم ثلاثمائة نبي وخمسة عشر نبيا.

منهم خمسة عبرانيون آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم (٢٩).

وخمسة من العرب هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : بعث الله إلى أهل الرس والرس البر نبيا منهم يقال له حنظلة بن صفوان فكذبوه وقتلوه فأوحى الله تعالى إلى نبي كان مع بختنصر يقال له أرميا بن برخيا مر بختنصر يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم وخالد بن سنان روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذاك نبي أضاعه قومه وذلك أنه قال لقومه ادفنوني فإذا جاءت الظباء بعد ثلاث فاخرجوني فسأنبئكم بما أمرت ، فجاءت الظباء إلى قبره بعد ثلاث فلم يخرجوه وقالوا تتحدث العرب عنا إنا نبشنا موتانا وأتت بنته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعته يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٣٠) فقالت قد كان أبي يقرأ هذا ولا يضبط ذكر من سلف من الأنبياء وقول الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ) (٣١) والله تعالى أعلم.

__________________

(٢٩) وهذا كلام يهودي توراتي تناقله السلف دون تمحيصه وآدم أبو البشر فلا يعقل أن يكون عبرانيا لا هو ولا من بعده إلى إبراهيم وإنما سمي العبرانيون بهذا الاسم لعبورهم البحر مع موسى عليه‌السلام وكيف يكون إبراهيم عبرانيا ومنه العرب من ولده إسماعيل عليهما‌السلام.

(٣٠) سورة الإخلاص الآية (١).

(٣١) سورة غافر الآية (٧٨).

٦٧
٦٨

الباب السادس

في إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الكلام في إثبات نبوته يتقرر مع المعترفين ببعثة الرسل لأن منكريها يعمون الجميع بها ويدفعون كل مدع لها والكلام معهم قد قدمناه في إثبات النبوات على العموم.

فأما نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد اختلف فيها مخالفوه من مثبتي النبوات على أقوال شتى فمنعت اليهود من نبوته لامتناعهم من نسخ الشرع واختلفوا في المانع من نسخة فمنع منه بعضهم بالعقل لأن نهى الله تعالى عما أمر به وأمره بما نهى عنه إنما يكون لخفاء المصلحة عليه في الابتداء وظهورها له في الانتهاء والله تعالى عالم بها في الحالتين لتباين الضدين ، ومنع منه بعضهم بالشرع وإن جوزوه في العقل بما نقلوه عن موسى عليه‌السلام وذكروه في التوراة أنه قال تمسكوا بالسبت أبدا سنة الدهر وكلا الوجهين فاسد من وجهين :

أحدهما : أن العقل لا يمنع من الأمر بالشيء في زمان والنهي عنه في غيره بحسب المصلحة في قول من اعتبرها أو بالإرادة في قول من اعتمدها ، ولا يكون مستقبحا من فعل حكيم كما يغني من أفقر ويفقر من أغنى إما للمصلحة أو بالإرادة ، ولا يكون ذلك منه لاستبهام المصلحة وأشكال الإرادة.

والثاني : أن موسى قد نسخ شرع من تقدمه لأن آدم زوج بنيه بناته وجوّز يعقوب الجمع بين الأختين ونكح إبراهيم بنت أخيه وكل هذا عند موسى منسوخ

٦٩

بشرعه فجاز أن ينسخ شرعه بشرع غيره.

وقال آخرون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي مبعوث إلى قومه من العرب وليس بنبي لغيرهم وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أنه تخصيص بغير دليل.

والثاني : أن ثبوت نبوّته في قومه موجب لصدقه. وقد قال أنه بعث إلى كافة الخلق وأنه خاتم الأنبياء فلم يجز رد قوله مع ثبوت صدقه.

وقال آخرون هو نبي مبعوث إلى من لم يتمسك بشرع من عبد الأوثان وليس بمبعوث إلى من تمسك بشرع من اليهود والنصارى وهذا فاسد من وجهين مع الوجهين المتقدمين :

أحدهما : أنه يدفع به عن نسخ الشرع وقد دللنا على جوازه.

والثاني : ان من اعترف بالنبوات كان ألزم له من جحدها.

وقال آخرون : ليس بنبي لأنه لم يأت بمعجزة قاهرة يضطر إلى صدقه كمعجزة موسى وعيسى وإن جاز نسخ الشرائع بمثلها من الشرائع وفي هذا يتعين إقامة الدليل على إثبات نبوّته وهو معتبر بثلاثة شروط :

أحدها : وصنف المستدل.

والثاني : حكم المدلول عليه.

والثالث : صفة الدليل.

فأما الشرط الأول : في صفة المستدل فقد اختلف فيه ، فذكر الجاحظ أنه العقل لأنه المميز للحق ، وقال الأكثرون المستدل هو العاقل والعقل آلة استدلاله ليتوصل به إلى صحة مدلوله.

وأما الشرط الثاني : ففي حكم المدلول عليه ، فعند فريق أنه إثبات نبوته ليعلم بها صدق قوله وعند الأكثرين أنه إثبات صدقه ليعلم بقوله صحة نبوته.

وأما الشرط الثالث : وهو الدليل فحجاج يتنوع أنواعا لأن المستدل واحد والمدلول عليه واحد والدليل يشتمل على أعداد متنوعة وشواهد مختلفة فرّق الله

٧٠

تعالى بينهما لتكون الحجج متغايرة والبراهين متناظرة بحسب ما علمه من المصلحة ورآه من أسباب الإجابة ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) (١) أي نخالف بينها في المعجزات فكان بعضها حجة قاطعة وبعضها أمارة لائحة تجري عليها أحكام ما قاربها ، فتقوى بعد الضعف وتحج بعد الكشف وإن لم تكن للإنذار بانفرادها من قواطع الحجج المغنية عن دليل ، فهذا القول في نبوّة غيره فلا يلزم تطابق حججهم كما لم يلزم اتفاق شرائعهم وقد قدمنا أقسام المعجزات فإذا ظهرت إحداهن حجت ودلت على صحة النبوة وقد ظهر في نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثرها مع ما تقدمها من إنذار وظهر بها من آثار وتحقق بها من أخبار فصارت أعم النبوات إعجازا وأوضحها طريقة وامتيازا وأكثرها تأييدا إليها وتعبدا شرعيا تقهر شواهدها من باين وعاند وتحج دلائلها من ناكر وجاحد لأن المهيأ منه مطبوع على آلته ومنقاد إلى غايته حتى يتدرج إليه بغير تكلف ويستقر فيه بغير تصنع فلا يشتبه من تعاطاه بمن طبع له فصح التطبع بشيمة المطبوع ولم تزل أمارات النبوّة لائحة في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تدرج إليها وهو غافل عنها وغير متصنع لها فنهض بأعبائها حين أتته وقام بحقوقها حين لزمته غير ذاهل فيها ولا عاجز عنها إلى أن تكامل به الشرع فتم على أصل مستقر وقياس مستمر لا يدفعه عقل ولا يأباه قلب ولا تنفر منه نفس ، وهذا وهو أميّ لم يقرأ كتابا ولا اكتسب علما فأوضح كل ملتبس وبيّن كل مشتبه حتى رجع كثير من الملل إلى شريعته في علم ما قصروا عنه من حقوق وعقود استوعب أقسامها وبيّن أحكامها ، وما ذاك إلّا بعون إلهي وتأييد لاهوتي وحسبك بهذا شاهدا لو اقتصرنا عليه وحجابا لو اكتفينا به ، ولكن سنذكر من معجزاته الفاخرة وبراهينه الواضحة ما يرد كل جاحد ويصد كل معاند من أنواع متغايرة وأخبار متواترة وآثار متظاهرة يصدق بعضها بعضا ليكون تغايرها جامعا لكل برهان وتظاهرها دافعا لكل بهتان ، فمنها ما تقدمه من نذير وبشير ، ومنها ما تعقبه من تغيير وتأثير ، ومنها ما قارنه من أقوال وأفعال صدرت منه وإليه فلم

__________________

(١) سورة الأنعام من الآية (١٠٥).

٧١

يبق من الآيات ما أخل به ولا من الأعلام ما قصر فيه ، وسنذكرها أبوابا مفصلة وأنواعا متميزة لتكون أصح بيانا وأوضحها برهانا وأحقها بالسابقة والتقديم إعجاز القرآن لأنه أصل شرعته ومستودع رسالته ثم نتلوه بما يقتضيه وإن كان لو ذكرناه أول مباديه على سياق ينتهي إلى غايته لكان نظاما ولكن هذا باب حجاج لرسالته وليس بشرح لسيرته فوجب ابتداؤه بأخصها ثم ذكر سيرته على ترتيبها.

٧٢

الباب السابع

فيما تضمنه القرآن من أنواع الإعجاز

والقرآن أول معجز دعا به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نبوته فصدع فيه برسالته وخص بإعجازه من جميع رسله وإن كان كلاما ملفوظا وقولا محفوظا لثلاثة أسباب صار بها من أخص إعجازه وأظهر آياته :

أحدها : أن معجز كل رسول موافق للأغلب من أحوال عصره والشائع المنتشر في ناس دهره ، لأن موسى عليه‌السلام حين بعث في عصر السحرة خص من فلق البحر يبسا وقلب العصا حية ما بهر كل ساحر وأذل كل كافر ، وبعث عيسى عليه‌السلام في عصر الطب فخص من إبراء الزمنى (١) وإحياء الموتى بما أدهش كل طبيب وأذهل كل لبيب ، ولما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عصر الفصاحة والبلاغة خص بالقرآن في إيجازه وإعجازه بما عجز عنه الفصحاء وأذعن له البلغاء وتبلد فيه الشعراء ليكون العجز عنه أقهر والتقصير فيه أظهر فصارت معجزاتهم وإن اختلفت متشاكلة المعاني متفقة العلل.

والثاني : أن المعجز في كل قوم بحسب أفهامهم وعلى قدر عقولهم وأذهانهم وكان في بني إسرائيل من قوم موسى وعيسى بلادة وغباوة لأنه لم ينقل عنهم ما يدرون من كلام مستحسن أو يستفاد من معنى مبتكر وقالوا لنبيهم حين

__________________

(١) الزمنى : المرضى الذين طال أمد مرضهم ولا علاج معروف لأمراضهم كالعمى والكساح والدمامل التي تملأ الجسد ، والجنون وما شابه.

٧٣

مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فخصوا من الإعجاز بما يصلون إليه ببداية حواسهم والعرب أصح الناس أفهاما وأحدّهم أذهانا قد ابتكروا من الفصاحة أبلغها ومن المعاني أغربها ومن الآداب أحسنها فخصوا من معجزة القرآن بما تجول فيه أفهامهم وتصل إليه أذهانهم ، فيدركوه بالفطنة دون البديهة وبالرويّة دون البادرة لتكون كل أمة مخصوصة بما يشاكل طبعها ويوافق فهمها.

والثالث : أن معجز القرآن أبقى على الأعصار (٢) وأنشر في الأقطار من معجز يختص بحاضره ويندرس بانقراض عصره وما دام إعجازه فهو أحج وبالاختصاص أحق.

وجوه الإعجاز

الإعجاز في التركيب اللغوي

وإعجاز القرآن في خروجه عن كلام البشر وإضافته إلى الله تعالى يكون من عشرين وجها أحدها فصاحته وبيانه وذلك معتبر بثلاثة شروط :

أحدها : بلاغة ألفاظه.

والثاني : استيفاء معانيه.

والثالث : حسن نظمه.

فأما بلاغة ألفاظه فتكون من وجهين :

أحدهما : جزالتها حتى لا تلين.

والثاني : انطباعها حتى لا تخبو. وأما استيفاء معانيه فيكون من وجهين :

أحدهما : أن يكون المعنى لائحا (٣) في بادئ ألفاظه غير مفتقر إلى مقاطعه

__________________

(٢) الأعصار : العصور والأجيال.

(٣) لائحا ظاهرا باديا.

٧٤

والثاني : أن يكون المعنى مطابقا لألفاظه فلا يزيد عليها ولا يقصر عنها فإن زاد كان الاختلال في اللفظ ، وإن نقص كان الاختلال في المعنى وأما حسن نظمه فيكون من وجهين.

أحدهما : أن يكون الكلام متناسبا لا يتنافر.

والثاني : أن يكون الوزن معتدلا لا يتباين.

فإن قيل : قد يجتمع في كلام البشر ما يستكمل هذه الشروط فبطل به الإعجاز.

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن أسلوب نظمه على هذه الشروط معدوم في غيره فافترقا.

والثاني : أن لنظم ألفاظه بهجة لا توجد في غيره فاختلفا لأنك إذا جمعت بين قول الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٤) وبين قولهم القتل أنفى للقتل وجدت بينهما فروقا في اللفظ والمعنى.

الإعجاز في المعاني

والوجه الثاني : من إعجازه ، إيجازه عن هذا الإكثار واستيفاء معانيه في قليل الكلام كقوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٥).

فإن قيل : ليس جميعه وجيزا مختصرا وفيه المبسوط والمكرر بعضه أفصح من بعض ولو كان من عند الله لتماثل ولم يتفاضل لأن التفاصيل في كلام من يكل خاطره وتضعف قريحته فعنه جوابان :

أحدهما : أن اختلافه في البسط والإيجاز ليس للعجز عن تماثله ولكن لاختلاف الناس في تصوره وفهمه وتفاضله في الفصاحة بحسب تفاضل معانيه

__________________

(٤) سورة البقرة من الآية (١٧٩).

(٥) سورة هود الآية (٤٤).

٧٥

لا للعجز عن تساويه.

والثاني : أنه خالف بين معانيه ومختصره وبين أفصحه وأسهله ليكون العجز عن أسهله وأبسطه أبلغ في الإعجاز من العجز عن أفصحه وأخصره ولذلك فاضل بين خلقه ليعرف به فرق ما بين الفاضل والمفضول.

وقد حكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (٦) فسجد وقال : سجدت لفصاحة هذا الكلام.

فأما تكرار قصصه وتكرار وعده ووعيده فلأسباب مستفادة منها أنها في التكرار أوكد وفي المبالغة أزيد ، ومنها أنها تتغاير ألفاظها فتكون إلى القبول أسرع وفي الإعجاز أبلغ ومنها أنها إن أخل بالوقوف عليها في موضع أدركها في غيره فلم يخل من رغب ورهب.

الإعجاز في الأسلوب

والوجه الثالث : من إعجازه أن نظم أسلوبه ووصف اعتداله يخرج عن منظوم الكلام ومنثوره ولا يدخل في شعر ولا رجز ولا سجعة ولا خطبة حتى تجاوز محصور أقسامه وباين سائر أنواعه بأسلوب لا يشاكل (٧) ونظم لا يماثل فصار وإن كان من حروف الكلام خارجا عن أقسام الكلام فقد قال أنيس الغفاري وهو أخو أبي ذر الغفاري وكان من الموصوفين بالتقدم في البلاغة والفصاحة عرضت القرآن على السجع والشعر والنظم والنثر فلم يوافق شيئا من طرق كلام العرب.

وحكي عن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان سيد عشيرته وأفصح قومه أنه جاء إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على كفره فقال : اقرءوا عليّ شيئا من القرآن فقرءوا عليه فقال : ليس هذا من كلام البشر وليس بشعر ، فمضى إليه أبو لهب وقال : أفسدت قريشا بهذا القول فارجع عنه فقال : أقول أنه سحر

__________________

(٦) سورة الحجر من الآية (٩٤).

(٧) لا يشاكل : لا يؤتى بما يشابهه شكلا أو معنى.

٧٦

وقد تعاطاه من الشعراء ما خرج عن أسلوبه إلى طريقة شعره فقال في قصة الفيل :

ألا من مهلك الفيل

ومن سار مع الفيل

بطير صبه الله

عليهم من أبابيل

رمتهم بجنادل

ترى من طين سجيل

فأضحى القوم في القاع

كعصف غير مأكول

فلم يساعده الطبع عليه مع أخذ معانيه واستعمال ألفاظه حتى عاد إلى مطبوع شعره وضمن آخر من الشعراء شيئا منه في شعره فخرج عن أسلوبه حيث يقول :

وقرأ معلنا ليصدع قلبي

والهوى يصدع الفؤاد السقيما

أرأيت الذي يكذب بالدين

ذاك الذي يدع اليتيما

فإن قيل لو كان لنظم القرآن أسلوب معجز لما طلب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند جمع القرآن من يأتيه بالآية والآيتين شهودا أنه سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولاكتفى بأسلوب نظمه عن بينة تشهد به ، ولكان لا يشتبه على ابن مسعود في المعوّذتين حين أخرجهما من القرآن ولا على أبيّ بن كعب في القنوت حين أدخله في القرآن ولا على امرأة ابن رواحة في شعره حتى توهمته من القرآن فعنه جوابان :

أحدهما : أن عمر التمس الشهادة في الآية والآيتين مما لا يكون بانفراده معجزا لأن الإعجاز مختص بما وقع به التحدي وأقل ما يقع به التحدي كأقصر سورة في القرآن آيات وحروفا وهي سورة الكوثر ، وما قصر عنه لا إعجاز فيه فكان طلبه للشهادة متوجها إليه.

والثاني : أنه طلب الشهادة على محلها من أي سورة هي وفي أي موضع منها وإن كان معلوم الأسلوب بالمباينة لأن الله تعالى كان يأمر بوضع ما أنزله فيما يراه من السور لقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (٨) فأما ابن مسعود فلم

__________________

(٨) سورة القيامة الآية (١٧).

٧٧

يشكل عليه أسلوب المعوذتين أنهما من القرآن وإنما حكمهما من مصحفه لأنه ظن أن تلاوتهما قد نسخت.

وأما أبيّ بن كعب فظن أن تلاوة القنوت باقية ولم يعلم أنها قد نسخت ، وأما امرأة ابن رواحة فلم تكن من ذوي الفصاحة والبلاغة فتفرق بين الشعر وأسلوب القرآن فلم يكن لوهمها تأثير.

الإعجاز في الإيجاز وجزالة المعاني

والوجه الرابع : من إعجازه كثرة معانيه التي لا يجمعها كلام البشر وذلك من وجهين :

أحدهما : ما يجمعه قليل الكلام من كثير المعاني كقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٩) فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

والثاني : أن ألفاظه تحتمل معاني متغايرة تحار فيها العقول وتذهل فيها الخواطر وتكل فيها القرائح ثم لا تبلغ أقصاه ولا تدرك منتهاه حتى اختلفت فيه الوجوه وتقابلت فيه النظائر.

فإن قيل : فهذا إلغاز ورمز هو بالذم منه أولى بالحمد فعنه جوابان :

أحدهما : أن الإلغاز وإن ذم فالرمز ليس بمذموم وليس فيه لغز وإن كان فيه رمز.

والثاني : إن ما اختلفت معانيه يخرج عن اللغز والرمز لأن اللغز ما أريد به غير معناه والرمز ما خفي معناه.

الإعجاز العلمي

والوجه الخامس : من إعجازه ما جمعه القرآن من علوم لا يحيط بها بشر

__________________

(٩) سورة القصص الآية (٧).

٧٨

ولا تجتمع في مخلوق فلم يكن إلّا من عند الله المحيط بكل شيء علما حتى علمه من لم يكن به عالما.

فإن قيل : فضل العلم لا يكون إعجازا في النبوّات لأن العلماء قد يتفاضلون ولا يكون للأفضل إعجاز على المفضول فعنه جوابان :

أحدهما : أن التفاضل في العلم موجود والإحاطة بجميع العلوم مفقودة (١٠).

والثاني : أن ظهور العلم فيمن يتعاطاه ليس بمعجز لظهوره من جهته وظهور العلم فيمن لم يتعاطه معجزا لظهوره من غير جهته وقد كان أميا من أمة أميّة لم يقرأ كتابا ولم يتعاط علما فصار ما أظهر معجزا.

الإعجاز في الدلائل والبراهين

والوجه السادس : من إعجازه ما تضمنه من الحجج والبراهين على التوحيد والرجعة وعلى الدهرية والثنوية حتى قطع بحجاجه كل محتج وخصم بجدله كل خصم ألدّ.

فإن قيل : فدلائل التوحيد مستفادة بالعقول فلم يكن فيها إعجاز من وجهين :

أحدهما : وجودها من ذاته.

والثاني : مشاركته فيها لغيره ، والجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنه لم يكن من أهل الجدل فيقطع كل مجادل.

والثاني : أنه أحتج للرجعة بما زاد على قضايا العقول فخصم (١١) كل عاقل.

__________________

(١٠) وقد ذكر فيه من العلم أشياء لم تعرف في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بعده ولم تكشف إلا مؤخرا كالتقاء البحرين المالحين وعدم امتزاج مائهما وقد تم كشف هذه الظاهرة في العام الماضي والحديث عنها يطول والأمثلة كثيرة.

(١١) خصم كل عاقل : غلبه بالحجة.

٧٩

الإعجاز في الإخبار عن الماضي

والوجه السابع : من إعجازه ما تضمنه من أخبار القرون الخالية وقصص الأمم السالفة ، وما تحداه به أهل الكتاب من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر وحديث ذي القرنين فكان على ما ذكره أنبياؤهم وتضمنته كتبهم.

فإن قيل : فالإخبار بما كان ليس بمعجز لأن علم غير الأنبياء به ممكن فعنه جوابان :

أحدهما : أنه ممكن فيمكن علمها وممتنع فيم لم يعلمها ولم يكن من أهلها فيعلمها فصار معجزا ممتنعا.

والثاني : أنهم اقترحوا تحديه مما لم يكن مبتدئا ولا كان له متناهيا من غوامض أسرار وغرائب أخبار جعلوها حجاجا له وعليه ففصح بالجواب عن سرائرها وصدع بنعت غوامضها فخرج عن العرف إلى ما ليس بعرف فصار معجزا.

الإعجاز بالإخبار عن الغيب

والوجه الثامن : من الإعجاز ما تضمنه من علم الغيب بأخبار تكون فكانت كقوله لليهود : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٢) ثم قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (١٣) فما تمناه أحد منهم ، وكقوله لقريش : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (١٤) فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا وكقوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (١٥) وكان ذلك في يوم بدر وكقوله تعالى في هجرته من مكة إلى المدينة : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (١٦) فأعاد الله إلى مكة عام الفتح إلى غير ذلك من نظائره.

__________________

(١٢) سورة البقرة الآية (٩٤).

(١٣) سورة البقرة الآية (٩٥).

(١٤) سورة البقرة الآية (٢٤).

(١٥) سورة القمر الآية (٤٥).

(١٦) سورة القصص الآية (٨٥).

٨٠