أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

وتفهمه القلوب بقدرته التي أخفاها عن خلقه.

والجواب عما ذكر من أن جرم الملائكة علوي لا ينهبط من وجهين :

أحدهما : أنه ليس يمتنع أن ينتقل جرم سماوي لطيف إلى جرم أرضي كثيف إما بزيادة أو انقلاب كما يقولون في العقل والنفس أنهما جرمان علويان هبطا إلى الجسم فحلا فيه.

والثاني : أنهم يقولون بانقلاب الأجرام الطبيعيات ، فيقولون أن الهوى المركب من حرارة رطوبة إذا ارتفعت حرارته ببرودة صار ماء باردا ، وأن الماء المركب من برودة ورطوبة إذا ارتفعت برودته بحرارة صار هواء وأن الهواء المركب من حرارة رطوبة إذا ارتفعت رطوبته بيبوسة صار نارا ، فإذا جاز ذلك عندهم في انقلاب الطبائع كان في فعل الله تعالى أجوز وهو عليها أقدر ، ولا يمكن أن يدفع أقاويلهم الخارجة عن قوانين الشرع إلّا بمثلها ، وإن خرج عن حجاج أمثالنا لينقض قولهم بقولهم فلا يتدلس به باطل ولا يضل به جهول ، فما يضل عن الدين إلّا قادح في أصوله ، ومزر على أهله.

إثبات النبوّات

فإذا أثبت أن النبوّة لا تصح إلّا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه فصحتها فيه معتبرة بثلاثة شروط تدل على صدقه ووجوب طاعته.

أحدهما : أن يكون مدعي النبوّة على صفات يجوز أن يكون مؤهلا لها لصدق لهجته وظهور فضله وكمال حاله فإن اعتوره نقص أو ظهر منه كذب لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها وفقد أمانتها.

بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام فقالوا : يا خالد ، صف لنا محمدا ، قال : بإيجاز أم بإطناب. قالوا : بإيجاز. قال : هو رسول الله ، والرسول على قدر المرسل.

والشرط الثاني : إظهار معجز يدل على صدقه ويعجز البشر عن مثله لتكون مضاهية للأفعال الإلهية ، ليعلم أنها منه فيصح بها دعوى رسالته لأنه لا

٤١

يظهرها من كذب عليه ويكون المعجز دليلا على صدقه وصدقه دليلا على صحة نبوّته.

والشرط الثالث : أن يقرن بالمعجز دعوى النبوّة ، فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى لم يصر بظهور المعجزة نبيا لأن المعجز يدل على صدق الدعوى ، فكان صفة لها فلم يجز أن نثبت الصفة قبل وجود الموصوف ، فإن تقدم ظهور المعجز على دعوى النبوة كان تأسيسا للنبوّة ككلام عيسى عليه‌السلام في المهد تأسيسا لنبوّته ، فاحتاج مع دعوى النبوّة إلى إحداث معجزة يقترن بها ليدل على صدقه فيها وإن تقدمت دعوى النبوّة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن اقترانه بها لأن اصطحابه للدعوى مقترن بالمعجز (٦) ، فإن ظهر المعجز المقترن بالدعوى لبعض الناس دون جميعهم نظر ، فإن كانوا عددا يتواتر بهم الخبر ويستفيض فيهم الأثر كان الغائب عنه محجوبا بالمشاهد له في لزوم الإجابة والانقياد للطاعة كما يكون العصر الثاني محجوبا بالعصر الأول وإن كان المشاهد للمعجز عددا لا يستفيض بهم الخبر ولا يتواتر بهم الأثر لإمكان تواطئهم على الكذب ويتوجه إلى مثلهم الخطأ والزلل كان المعجز حجة عليهم ولم يكن حجة على غيرهم حتى يشاهدوا على المعجز ما يكونوا محجوبين به وسواء كان من الجنس الأول أو من غير جنسه ، فإن قصر من شاهد الأول عن عدد التواتر وقصر من شاهد الثاني عن عدد التواتر لم يثبت حكم التواتر فيهما ولا في واحد منهما لجواز الكذب على كل واحد من العددين.

حجج الأنبياء

وإذا كان حجج الأنبياء على أممهم هو المعجز الدال على صدقهم ، فالمعجز ما خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلّا بقدرة إلهية تدل على أن الله تعالى خصه بها تصديقا على اختصاصه برسالته ، فيصير دليلا على صدقه في ادعاء نبوته إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف ، وأما عند قيام الساعة إذا سقطت فيه أحوال التكليف فقد يظهر فيه من أشراطها ما يخرق العادة فلا يكون

__________________

(٦) المعجز : الخارق للعادة والمتجاوز لقدرة الإنسان البشرية.

٤٢

معجز المدعي نبوّة ، وإنما اعتبر في المعجز خرق العادة لأن المعتاد يشمل الصادق والكاذب فاختص غير المعتاد بالصادق دون الكاذب.

وإذا تقرر أن المعجز محدود بما ذكرناه من خرق العادة فقد ينقسم ما خرج عن العادة على عشرة أقاسم :

* القسم الأول : ما يخرج جنسه عن قدرة البشر كاختراع الأجسام وقلب الأعيان وإحياء الموتى ، فقليل هذا وكثيره معجز لخروج قليله عن القدرة كخروج كثيره.

* القسم الثاني : ما يدخل جنسه في قدرة البشر لكن يخرج مقداره عن قدرة البشر كطي الأرض البعيدة في المدة القريبة فيكون معجز لخرق العادة.

واختلف المتكلمون في المعجز منه فعند بعضهم أن ما خرج عن القدرة منه يكون هو المعجز خاصة لاختصاصه بالمعجز وعند آخرين منهم أن جميعه يكون معجزا لاتصاله بما لا يتميز منه.

* القسم الثالث : ظهور العلم بما خرج عن معلوم البشر كالأخبار بحوادث الغيوب فيكون معجزا بشرطين :

أحدهما : أن يتكرر حتى يخرج عن حد الاتفاق.

والثاني : أن يتجرد عن سبب يستدل به عليه.

* القسم الرابع : ما خرج نوعه عن مقدور البشر وإن دخل جنسه في مقدور البشر كالقرآن في خروج أسلوبه عن أقسام الكلام فيكون معجزا بخروج نوعه عن القدرة فصار جنسا خارجا عن القدرة ويكون العجز مع القدرة على آلته من الكلام أبلغ في المعجز.

* القسم الخامس : ما يدخل في أفعال البشر ويفضي إلى خروجه عن مقدار البشر كالبرء الحادث عن المرض والزرع الحادث عن البذر فإن برئ المرض المزمن لوقته واستحصد الزرع المتأكل قبل أوانه كان بخرق العادة معجزا لخروجه عن القدرة.

٤٣

* القسم السادس : عدم القدرة عما كان داخلا في القدرة كإنذار الناطق بعجزه عن الكلام وإخبار الكاتب بعجزه عن الكتابة ، فيكون ذلك معجزا يختص بالعاجز ولا يتعداه لأنه على يقين من عجز نفسه وليس غيره على يقين من عجزه.

* القسم السابع : إنطاق حيوان أو حركة جماد فإن كان باستدعائه أو عن إشارته كان معجزا له وإن ظهر بغير استدعاء ولا إشارة لم يكن معجزا له وإن خرق العادة لأنه ليس اختصاصه به بأولى من اختصاصه بغيره وكان من نوادر الوقت وحوادثه.

* القسم الثامن : إظهار الشيء في غير زمانه كإظهار فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فإن كان استبقاؤهما في غير زمانهما ممكنا لم يكن معجزا وإن لم يمكن استبقاؤهما كان معجزا سواء بدأ بإظهاره أو طولب به.

* القسم التاسع : انفجار الماء وقطع الماء المنفجر إذا لم يظهر بحدوثه أسباب من غيره فهو من معجزاته لخرق العادة به.

* القسم العاشر : إشباع العدد الكثير من الطعام اليسير وارواءهم من الماء القليل يكون معجزا في حقهم وغير معجز في حق غيرهم لما قدمناه من التعليل وهذه الأقسام ونظائرها الداخلة في حدود الأعجاز متساوية الأحكام في ثبوت الإعجاز وتصديق مظهرها على ما ادّعاه من النبوّة وإن تفاوت الأعجاز فيها وتباين كما أن دلائل التوحيد قد تختلف في الخفاء والظهور وإن كان في كل منها دليل ، فأما فعل ما يقدر البشر على ما يقاربه وإن عجزوا عن مثله فليس بمعجز لأن الجنس مقدور عليه وإنما الزيادة فضل حذق به كالصنائع التي يختلف فيها أهلها فلا يكون لأحذقهم بها معجز يجوز أن يدّعي به النبوّة.

فإن قيل : فقد جاء زرادشت وبولس بآيات مبهرة ولم تدل على صدقهما في دعوى النبوّة.

قيل : لأنهما قد أكذبا أنفسهما ما ادعياه في الله تعالى مما يدل على جهلهما به لأن بولس يقول أن عيسى إله ، وزعم زرادشت أن الله تعالى كان وحده ولا

٤٤

شيء معه ، فحين طالت وحدته فكّر فتولّد من فكرته اهرمن وهو إبليس فلما مثل بين عينيه أراد قتله وامتنع منه فلما رأى امتناعه وادعه إلى مدته وسالمه إلى غايته ومن قال بهذا في الله تعالى ولم يعرفه لم يجز أن يكون رسولا له ، ثم دعوا إلى القبائح والأفعال السيئة كما شرع زرادشت الوضوء بالبول وغشيان الأمهات وعبادة النيران وكذلك بولس وماني فخذلهم الله تعالى ، ولو دعوا إلى محاسن الأخلاق كانت الشبهة بهم أقوى والاغترار بهم أكثر ولكن الله تعالى عصم بالعقول من استرشدها وقاد إلى الحق من أيقظه بها.

المعجزات والنبوّة

ولا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجز مما يجعله دليلا على صدقه في غير النبوة وإن كان فيه مطيعا لأن النبوّة لا يوصل إلى صدقه فيها إلّا بالمعجز لأنه مغيب لا يعلم إلّا منه فاضطر إلى الإعجاز في صدقه وغير النبوّة من أقواله وأفعاله قد يعلم صدقه فيها بالعيان والمشاهدة وتخرج عن صورة الإعجاز وإن نفدت ولئلا تشتبه معجزات الأنبياء بغيرها ، وأما مدعي الربوبية إذا أظهر آيات باهرة فقد ذهب قوم إلى أنها قد تكون معجزة بطلت بكذبه فلم يمتنع لظهور بطلانها أن توجد منه وإن لم توجد منه إذا كان كاذبا في ادعاء النبوّة لأنه لم يقترن بدعواه ما يبطلها كمدعي الربوبية والذي عليه قول الجمهور أنه لا يجوز أن يظهر المعجز على مدعي الربوبية كما لا يجوز أن يظهر على مدعي النبوّة لأن معصيته في ادعاء الربوبية أغلظ وأفكه فيها أعظم فكان بأن لا تظهر عليه أجدر ، وإذا استوضح ما أظهره مدعي الربوبية من الآيات ظهر فسادها وبان اختلالها فخرجت عن الإعجاز إلى سحر أو شعبذة.

الإدراك والمعاينة

ولما علم الله تعالى أن أكثر عباده لا يشهدون حجج رسله ولا يحضرون آيات أنبيائه إما لبعد الدار أو لتعاقب الأعصار طبع كل فريق على الأخبار بما عاين فيعلمه الغائب من الحاضر ويعرفه المتأخر من المعاصر وقد علم مع اختلاف الهمم أن خبر التواتر إذا انتفت عنه الريب حق لا يعترضه شك وصدق

٤٥

لا يشتبه بإفك فصار وروده كالعيان في وقوع العلم به اضطرارا فثبتت به الحجة ولزم به العلم ، وقد قال الطفيل الغنوي مع أعرابية في وقوع العلم باستفاضة الخبر ما دلته عليه الفطرة وقاده إليه الطبع فقال :

تأوبني هم من الليل منصب (٧)

وجاء من الأخبار ما لا يكذب

تظاهرن حتى لم يكن لي ريبة

ولم يك عما أخبروا متعقب

الوحي والنبوّة

وأما ما يجوز لمدّعي النبوّة فينقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكلمه الله تعالى بغير واسطة.

والثاني : أن يخاطبه بواسطة من ملائكته.

والثالث : أن يكون عن رؤيا منام.

فأما القسم الأول : إذا كلمه الله تعالى بغير واسطة مثل كلامه لموسى عليه‌السلام حين نودي من الشجرة على ما قدمناه في الاختلاف في صفته ، فيعلم اضطرارا أنه من الله تعالى وفيما يقع به علم الاضطرار في كلامه لأهل العلم قولان :

أحدهما : أنه يضطره إلى العلم به كما يضطر خلقه إلى العلم بسائر المعلومات ، فعلى هذا يستدل بمعرفة كلامه على معرفته ويسقط عنه تكليف معرفته ويجوز أن يكون كلامه من غير جنس كلام البشر للاضطرار إلى معرفة ما تضمنه.

والثاني : أن يقترن بكلامه من الآيات ما يدل عن أنه منه فعلى هذا لا يسقط منه تكليف معرفته ولا يصح أن يكلمه إلّا بكلام البشر لعدم الاضطرار إلى معرفته.

وأما القسم الثاني : وهو أن يكون خطابه بواسطة من ملائكته الذين هم رسله إلى أنبيائه فعلى الأنبياء معرفة الله تعالى قبل ملائكته في رسالته وطريق

__________________

(٧) منصب : متعب.

٤٦

علمهم به الاستدلال ثم يصير بعد نزول الملائكة بمعجزاتهم الباهرة علم الاضطرار وعلى الملائكة إذا نزلوا بالوحي على الرسول إظهار معجزتهم له كما يلزم الرسول إظهار معجزته لأمته.

روي أن جبريل عليه‌السلام لما تصدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة في الوادي قال له : قل يا محمد للشجرة أقبلي! فقال لها ذلك فأقبلت ، وقال له : قل لها أدبري! فقال لها ذلك فأدبرت ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حسبي يعني في العلم بصدقك فيما أتيتني به عن ربي ، فتستدل الرسل بالمعجزات على تصديق الملائكة بالوحي وتستدل الأمم بمعجزات الأنبياء على تصديقهم بالرسالة ، ويكون خطاب الملك لفظا إن كان قرآنا أو ما قام مقام اللفظ إن كان وحيا ولا يجوز أن يؤدي الملك إلى الرسول ما تحمله عن ربه إلّا بلسان الرسول (٨) ، كما لا يؤدي الرسول إلى قومه إلّا بلسانهم ويكون الملك واسطة بين الرسول وبين ربه ، والرسول واسطة بين الملك وبين قومه وما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان : قرآن ووحي ، فأما القرآن فيلزم الملك أن يؤديه إلى الرسول بصيغة لفظه ، وليس للملك ولا للرسول أن يعدل بلفظه إلى غيره ويكون ما تضمنه من الخطاب المنزل متوجها إلى الرسول وإلى أمته.

وأما الوحي إذا تضمن تكليفا بأمر أو نهي فضربان :

أحدهما : أن يكون نصا غير محتمل وصريحا غير متأول فهذا يعلمه الرسول من الملك بنفس الخطاب وتعلمه الأمة من الرسول بالبلاغ من غير نظر ولا استدلال ، وليس للملك ولا للرسول أن يعدل بالنص إلى إجمال أو احتمال له.

والضرب الثاني : أن يكون من المجمل أو المحتمل لمعان مختلفة فهذا يعلم المراد به من دليل يقترن بالخطاب ودليله ضربان :

أحدهما : عقل المستمع.

والثاني : توقيف المبلغ فأما ما عقل دليله ببديهة العقل فمحمول على

__________________

(٨) كي يفهمه الرسول ويعقله ويقدر على إيصاله إلى قومه.

٤٧

مقتضى العقل ويكفي فيه تبليغ الخطاب ، وأما ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبداية العقول كالعبادات فمحمول على التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته ومن الملائكة إلى الرسول ومن الرسول إلى أمته ، فأما معرفة الملك من ربه فهو غير مشاهد لذاته ، واختلف أهل العلم في معرفته به على مذهبين كالرسول إن كلمه أحدهما بأن يضطره إلى العلم به والثاني بسماع الخطاب المقترن بالآيات.

وأما معرفة الرسول من الملك ومعرفة الأمة من الرسول ، فالرسول مشاهد لذات الملك والأمة مشاهدة لذات الرسول ، ولمشاهدة الذوات تأثير في العلم بمراد الخطاب فيتنوع بيان توقيفه فيما أريد بالخطاب أنواعا ، فيكون باللفظ الصريح وبعضه بالرمز الخفي وبعضه بالفعل الظاهر وبعضه بالإشارة الباطنة بعضه بالإمارات التي تضطر المشاهد إلى العلم بما أريد بها وليس لها نعت موصوف ولا حد مقدر وإنما يعلمه المشاهد بمفهوم أسبابه فيصير البيان باختلاف أنواعه توقيفا من الملك إلى الرسول ومن الرسول إلى الأمة ويجوز أن يختلف نوع بيانهما إذا عرف.

فأما القسم الثالث : وهو أن يكون عن رؤيا منام فإن لم يكن ممن تصدق رؤياه لكثرة أحلامه لم يجز أن يدّعي النبوّة وإن كان ممن تصدق رؤياه فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» لم يجز أن يدّعي النبوّة من أول رؤيا لجواز أن يكون من حديث النفس ، وأن الرؤيا قد تصح تارة وتبطل أخرى فإن تكررت رؤياه مرارا حتى قطع بصحتها ولم يخالجه الشك فيها جاز أن يدعي بها النبوّة فيما كان حفظا لما تقدمها من شرع وبعثا على العمل بها من بعيد ولم يجز أن يعتد بها في نسخ شرع ولا استئناف تعبد ، ويجوز أن يعمل على رؤيا نفسه فيما يلتزمه من استئناف شرع ولا يجوز أن يعمل عليها في نسخ ما لزمه من شرع ليكون بها ملتزما ولا يكون بها مسقطا.

شروط التبليغ

وأما خطاب الرسول لأمته فيما بلغهم من رسالة ربه بعد ظهور معجزته والإخبار بنبوته ولزومه للأمة فمعتبر بخمسة شروط :

٤٨

* أحدها : العلم بانتفاء الكذب عنه فيما ينقله عن الله تعالى من خبر أو يؤديه من تكليف ، كما انتفى عنه الكذب في ادعاء الرسالة ، ويكون المعجز دليلا على صدقه في جميع ما تضمنته الرسالة.

* الثاني : أن يعلم من حاله ألا يجوز أن يكتم ما أمر بأدائه ، لأن كتمانه يمنع من التزام رسالته لجواز أن يكتم إسقاط ما أوجب ، وإن جاز أن يكتم بيانه قبل وقت الحاجة ولا يكون كتمانا (٩).

* الثالث : أن ينتفي عنه ما يقتضي التنفير من قبول قوله لأن الله تعالى حماه من الغلظة لئلا ينفر من متابعته ، وكان أولى أن لا ينفر عن قبول خطابه.

* الرابع : أن يقترن بخطابه ما يدل على المراد به لينتفي عنه التلبيس والتعمية في أحكام الرسالة حتى يعلم حقوق التكليف ، وإن جاز تعمية خطابه فيما لم يتضمنه التكليف.

قد اعترض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل في أطراف بدر وقال له ممن أنت؟ فقال : «من ماء» فورّى عن نسبه (١٠) بما استبهم على سائله لخروجه عما يؤديه شرعا إلى أمته.

* الخامس : العلم بوجوب طاعته ليعلم بها وجوب أوامره واختلف في طاعته هل وجبت عقلا أو سمعا بحسب اختلافهم في بعثة الرسل هل هو من موجبات العقل أم لا.

أسلوب التبليغ

وإذا تكاملت شروط الالتزام لم يخل خطابه من أن يكون مفهوما أو مبهما ، فالمفهوم أربعة : النص وفحوى الكلام ولحن القول ومفهوم اللفظ.

__________________

(٩) وفي هذه الحالة يكون تأخيرا أجيز له وليس من عند نفسه.

(١٠) التورية إيراد الكلمة أو العبارة التي تحتمل أكثر من معنى ، وقوله من ماء قد يحمله السامع على أن عشيرته تحمل هذا الأصل بينما المعنى الحقيقي أنه مخلوق من ماء وكلنا من ماء.

٤٩

وفحوى الكلام ما دل على ما هو أقوى من نطقه ولحن القول ما دل على مثل نطقه ومفهوم اللفظ مأخوذ من معنى نطقه فهذه الأربعة مفهومة المعاني بألفاظها مستقلة بذواتها معلومة المراد بظواهرها فلا احتياج بعد البلاغ إلى بيان.

وأما المبهم فثلاثة : المجمل والمحتمل والمشتبه ، فأما المجمل فما أخذ بيانه من غيره ولا يدخل العقل في تفسيره فلا يعلم إلّا بسمع وتوقيف. وأما المحتمل فهو ما تردد بين معان مختلفة ، فإن أمكن الجمع بين جميعها حمل على جميع ما تضمنه واستغنى عن البيان إلّا أن يرد بالاقتصار على بعضها بيان وإن لم يكن حملها على الجميع لتنافيها ، وكان المقصود أحد معانيها فإن أمكن الاستدلال عليه بمخرج الخطاب أو بمشاهدة الحال كان فيه بيان أو تعذر بيانه من هذا الوجه حمل على عرف الشرع ، فإن تعذر حمل على عرف الاستعمال ، فإن تعذر حمل على عرف اللغة ، فإن تعذر فبيانه موقوف على التوقيف ، وأما المشتبه فما أشكل لفظه واستبهم معناه.

روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله! إنك تأتينا بكلام لا نعرفه ونحن العرب حقا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربي علمني فتعلمت وأدبني فتأدبت». فإن تلوح في المشتبه إشارة إلى معناه جاز أن يكون استنباطه موقوفا على الاجتهاد وإن تجرد عن إشارة كان موقوفا على التوقيف وعلى الرسول تبليغ بيانه كما كان عليه تبليغ أصله وعلى من سمعه من الرسول أن يبلغه من لم يسمعه حتى ينتقل إلى عصر بعد عصر على الأبد فيعلمه القرن الثاني من الأول والثالث من الثاني وكذلك أبدا لتدوم الحجة بهم إلى قيام الساعة ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليبلغ الشاهد الغائب».

النبي والرسول

فأما الفرق بين الأنبياء والرسل فقد جاء بهما القرآن جمعا ومفصلا بقول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) (١١) واختلف أهل العلم

__________________

(١١) سورة الحج الآية (٥٢).

٥٠

في الأنبياء والرسل على قولين :

أحدهما : أن الأنبياء والرسل واحد فالنبي رسول والرسول نبي ، والرسول مأخوذ من تحمل الرسالة والنبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر إن همز لأنه مخبر عن الله تعالى ومأخوذ من النبوة إن لم يهمز وهو الموضع المرتفع وهذا أشبه لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان يخاطب بهما ، والقول الثاني أنهما يختلفان لأن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات ، والرسول أعلى منزلة من النبي ولذلك سميت الملائكة رسلا ولم يسمّوا أنبياء واختلف من قال بهذا في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل : أحدها أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي والنبي هو الذي يوحى إليه في نومه.

والثاني : أن الرسول هو المبعوث إلى أمة والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة ، قاله قطرب ، والقول الثالث أن الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام والنبي هو الذي يحفظ شريعة غيره ، قاله الجاحظ.

وجوب التبليغ

وإذا نزل الوحي على الرسول وعيّن له زمان الإبلاغ لم يكن له تقديمه عليه ولا تأخيره عنه وإن لم يعيّن له زمانه فعليه تبليغه في أول أوقات إمكانه فإن خاف من تبليغ ما أمر به شدة الأذى وعظم الضرر لزمه البلاغ ولم يكن الأذى عذرا له في الترك والتأخير لأن الأنبياء يتكلفون من احتمال المشاق ما لا يتكلفه غيرهم لعظم منزلتهم وما أمدوا به من القوة على تحمل مشاقهم وإن خاف منه القتل فقد اختلف المتكلمون في وجوب البلاغ فذهب بعضهم إلى اعتبار أمره بالبلاغ ، فإن أمر به مع تخوف القتل لزمه أن يبلغ وإن قتل وإن أمر به مع الأمن لم يلزمه البلاغ إذا خاف القتل ، وذهب آخرون منهم إلى اعتبار حاله فإن لم يبق عليه من البلاغ سوى ما يخاف منه القتل لزمه البلاغ وإن قتل وإن بقي عليه من البلاغ سوى ما يخاف منه القتل فإن لم يكن الأمر بالبلاغ مرتبا لزمه أن يقدم بلاغ ما يأمن منه القتل ثم يبلغ ما يخاف منه القتل ، فإن قتل ، فإن كان الأمر بالبلاغ مرتبا بابتداء ما يخاف منه القتل فإن الله تعالى يعصمه من القتل حتى يبلغ جميع ما أمر به لما تكفل به من إكمال دينه والله تعالى أعلم.

٥١
٥٢

الباب الخامس

في مدة العالم وعدة الرسل

مدة الدنيا من ابتداء خلق العالم إلى انقضائه وفنائه سبعة آلاف سنة على ما جاءت به التوراة المنزلة على موسى عليه‌السلام وذكره أنبياء بني إسرائيل ، وقد وافق عليه من قال بتسيير الكواكب وأنها مسير الكواكب السبعة فسير كل كوكب منها ألف سنة ، وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (١) : «الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت والساعة كهاتين» ، وجمع بين اصبعيه الوسطى والسبابة يعني أن الباقي منها كزيادة الوسطى على السبابة (٢).

وروى سلمة بن عبد الله الجهنى عن أبى مسجعة الجهني عن أبي رحاب الجهني أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيتك على منبر فيه سبع درجات وأنت على أعلاها فقال : «الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا» (٣).

__________________

(١) لم تذكره كتب الصحاح للشك بكونه موضوعا إضافة إلى أن ما ذكره المؤلف منسوبا إلى التوراة غير مذكور بها أو لم تذكره التوراة الموجودة في هذه الأيام على الأقل.

(٢) وترجّح أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما عنى قرب الساعة لا تحديد موعد معين أو نسبة محددة بين ما مضى وما بقي لأن هذا في علم الله وحده وقد قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) سورة الأعراف (١٨٧).

وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) سورة لقمان (٣٤) وقد ورد نفس المعنى في آيات عديدة أخرى.

(٣) لم تذكره كتب الصحاح.

٥٣

وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلاة العصر يقول : «أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» ، وأخذ في خطبته إلى أن قال : «لأعرفن رجلا منعته مهابة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه وشهده» ثم قال : «وقد أزف غروب الشمس أن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كبقية يومكم هذا فيما مضى منه يوفى بكم سبعون أمة قد توفي تسع وستون وأنتم آخرها» فصارت هذه المدة القدرة في عمر الدنيا سبعة آلاف سنة متفقا عليها فيما تضمنته الكتب الإلهية ووردت به الأنباء النبوية مع ما سلك به الموافق من تسيير الكواكب السبعة ، وإن كان المعول في المغيب على الأنباء الصادقة الصادرة عن علام الغيوب الذي لم يشرك في غيبه إلا من أطلعه عليه من رسله فخلق العالم في ستة أيام ابتداؤها يوم الأحد وانقضاؤها يوم الجمعة (٤).

واختلف أهل الكتب السالفة وأهل العلم في شرعنا فيما ابتدئ بخلقه على ثلاثة أقاويل :

أحدها : وهو قول طائفة أنه بدأ بخلق الأرض في يوم الأحد والاثنين لقول الله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (٥) وخلق الجبال في يوم الثلاثاء ، وخلق الماء والشجر في يوم الأربعاء ، وخلق السماء في يوم الخميس ، وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم في يوم الجمعة.

قال الشعبي : ولذلك سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق كل شيء.

والثاني : وهو قول فريق أنه بدأ بخلق السموات قبل الأرض في يوم الأحد والاثنين لقول الله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (٦) في ثلاثة أوجه :

__________________

(٤) تحديد أيام الخلق بهذا التسلسل توراتي جاء في سفر التكوين.

(٥) سورة فصلت الآية (٩).

(٦) سورة فصلت الآية (١٢).

٥٤

أحدها : أسكن في كل سماء ملائكتها.

والثاني : خلق في كل سماء ما أودعه فيها من شمس وقمر ونجوم.

والثالث : أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة ثم خلق الأرض والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق ما سواهما من العالم في يوم الخميس والجمعة.

والثالث : وهو قول آخرين أنه خلق السماء دخانا قبل الأرض ثم فتقها سبع سماوات بعد الأرض لقول الله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (٧) فيه ثلاثة تأويلات :

أحدها : أي أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما باختيار أو إجبار قاله سعيد ابن جبير.

والثاني : أخرجا ما فيكما طوعا أو كرها.

والثالث : كونا كما أردت أن تكونا ، وفي قولهما ذلك وجهان :

أحدهما : أن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما.

والثاني : أنه خلق فيهما كلاما نطق بذلك.

قال أبو النضر السكسي : فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء (٨) بحيالها فوضع الله فيها حرمة.

خلق الله سبحانه لآدم

فأما آدم فهو آخر ما خلق الله تعالى في يوم الجمعة ، خلقه من تراب الأرض ونفخ في أنفه من نسمة الحياة ، فهو أنفس من كل ذي حياة.

روى أبو زاهر عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض» فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر

__________________

(٧) سورة فصلت الآية (١١).

(٨) أي نطق من السماء موضع البيت المعمور الذي يطوف به الملائكة.

٥٥

والأبيض والأسود بين ذلك والحزن والخبيث والطيب بين ذلك وفي تسميته بآدم قولان :

أحدهما : إنه اسم عبراني نقل إلى العربية.

والقول الثاني : أنه اسم عربي وفيه قولان :

أحدهما : أنه سمي بذلك لأنه خلق من أديم الأرض وأديمها أوجهها.

والثاني : أنه سمي بذلك لاشتقاقه من الأدمة وهي السمرة فلما تكامل خلق آدم استوحش فخلق له حوّاء واختلف فيما خلقت منه على قولين :

أحدهما : أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم وهذا قول تفرد به ابن بحر (٩).

والقول الثاني : وهو ما عليه الجمهور أنه خلقها من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقى عليه النوم حتى لم يجد لها مسا.

قال ابن عباس : فلذلك تواصلا ولذلك سميت امرأة لأنها خلقت من المرء وفي تسميتها حواء قولان :

أحدهما : لأنها خلقت من حي والثاني لأنها أم كل حي ، فقال آدم لما خلقت منه حوّاء هذا الشخص عظمه من عظمي ولحمه من لحمي فلذلك صار الرجل والمرأة كجسد واحد من شدة الميل وفضل الحنو قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) (١٠) يعني حوّاء فروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلق الرجل من التراب وخلقت المرأة من الرجل» فهمها في الرجل واختلف في الوقت الذي خلقت فيه حوّاء على قولين :

__________________

(٩) وهذا يتنافى مع قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) سورة النساء (١).

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) سورة الأعراف (١٨٩) وغيرها من الآيات.

(١٠) سورة النساء الآية (١).

٥٦

أحدهما : أنها خلقت منه في الجنة بعد أن استوحش من وحدته وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.

والقول الثاني : أنها خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة ثم أدخلا معا إليها وهو أشبه بقول الله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما ، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١١).

قال ابن عباس خلق آدم يوم الجمعة وأدخل الجنة يوم الجمعة وأخرج منها يوم الجمعة وفيها تقوم الساعة واختلف في الجنة التي أسكنها على قولين :

أحدهما : أنها جنة الخلد.

والقول الثاني : أنها جنة أعدها الله تعالى لهما دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء وفيها على هذا قولان :

أحدهما : أنها في السماء لأنه أهبطهما منها.

والقول الثاني : أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالأمر والنهي واختلف في الشجرة التي نهيا عن أكلها فقيل أنها شجرة الخلد وقيل أنها شجرة العلم وفي هذا العلم قولان :

أحدهما : علم الخير والشر.

والثاني : علم ما لم يعلم وقيل في الشجرة غير ذلك من الأقاويل فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما بالمعصية وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال الله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (١٢) حين بعثهما على أكل الشجرة (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) (١٣) وفيه تأويلان :

أحدهما : عما كانا فيه من الطاعة إلى ما صارا إليه من المعصية.

والثاني : عما كانا فيه من النعيم في الجنة إلى ما صارا إليه من النكد في

__________________

(١١) سورة البقرة الآية (٣٥).

(١٢) سورة البقرة من الآية (٣٦).

(١٣) سورة البقرة من الآية (٣٦)

٥٧

الأرض فحزن آدم حين أهبط إلى الأرض وبقي في حزنه مائة سنة لا يقرب فيه حوّاء ، ثم غشيها فولدت له بعد المائة قابيل ثم غشيها فولدت له هابيل فقتل هابيل قابيل فحزن آدم لذلك حزنا شديدا وقيل أنه جعل حزنه جزاء على معصيته في الأكل وقد يصاب الآباء في أولادهم من أجل معاصيهم ثم خف حزنه فغشى حوّاء فولدت له شيثا وعلم آدم الأسماء كلها كما ذكره الله تعالى في كتابه وفيما علمه من الأسماء قولان :

أحدهما : علم النجوم قاله حميد.

الثاني : أنها أسماء مسميات وفيها أقاويل :

أحدها : أسماء الملائكة قاله الربيع بن أنس.

والثاني : أسماء جميع ذريته قاله عبد الرحمن بن زيد.

والثالث : أسماء جميع الأشياء وفيه على هذا قولان :

أحدهما : أن تعليمه كان مقصورا على الأسماء دون معانيها.

والثاني : أنه علمه الأسماء ومعانيها لأنه لا فائدة في علم الأسماء بلا معان لأن المعاني هي المقصودة والأسماء دلائل عليها.

آدم وأبناؤه

ولما هبط آدم إلى الأرض قيل أنه أهبط إلى شرقي أرض الهند وحوّاء بجدة وإبليس على ساحل نهر الابلة والحية في البرية وكانت نبرة آدم مقصورة عليه وما نزل عليه من الوحي متوجها إليه فكان من المصطفين دون المرسلين واختلف فيه أهل الكتاب هل خلق في ابتدائه قابلا للموت أو جعل الموت عقوبة له على معصيته.

فقال بعضهم : خلق آدم في ابتداء نشأته على الطبيعة الباقية والطبيعة الميتة ليكون إن مال إلى الشهوات الجسمانية وآثرها وقع في التغايير الجسمانية وناله الموت ، وإن آثر فضائل النفس الأمارة بالخير نال البقاء الذي سعدت به الملائكة فلم يمت فلما عصى بأكل الشجرة عدل إلى التغايير فناله الموت

٥٨

واستشهدوا عليه من التوراة بما ذكر فيها أنك إن أكلت من الشجرة يوم تأكل منها فموتا تموت فلم يجز أن يتوعده بالموت عند معاقبته وهو يموت لو لم يعاقب.

وقال آخرون منهم وهو أشبه بمقتضى العقول أنه خلق في ابتداء إنشائه قابلا للموت في الدنيا وإن لم يعص لأنه أحوجه إلى الغذاء كذريته وليس شيء من الجواهر التي لا ينالها الموت محتاجة إلى الغذاء ولم يجعل الموت عقوبة على المعصية ولذلك لم يمت من عصى من الملائكة وإن في التوراة (١٤) مكتوبا أن مد يده في الجنة إلى شجرة الحياة وأكل منها حيي الدهر كله فدل على أنه مطبوع على قبول الموت ولما خلق الله تعالى آدم ابتداء ولم يخلقه بتوسط طبيعة كما خلق نسله كان على أفضل اعتدال وأكمل عقل فصار قلبه معدنا للحكمة الإنسانية وجسده مهيأ للأفعال البشرية فلم يمتنع عليه شيء منها حتى أحاط علما وقدرة بجميعها ولذلك علم الأسماء كلها وألهم الحكمة باسرها واطلع على أسرار النجوم وعملها وعرف منافع الحيوان والنبات ومضارها ، ولو لا ذلك لما فرق بين الغذاء والدواء ولا بين السموم القاتلة ولا اهتدى بالنجوم في بر ولا بحر وكان هو المدبر لأولاده مدة حياته حتى مات بعد تسعمائة وثلاثين سنة من عمره (١٥) ، ثم قام بالأمر من بعده شيث ابن آدم فبرع في الحكمة وفاق في علم النجوم بما أخذه عن أبيه آدم وبما استفاده بالتجربة ومرور الزمان.

واختلف أهل الكتاب في نبوة شيث فادعاها بعضهم وأنكرها آخرون منهم وولد بعد مائتين وثلاثين سنة من عمر أبيه آدم (١٦) ومات وله تسعمائة واثنتا عشرة سنة (١٧) فكان قيامه بالأمر بعد موت آدم مائتين واثنتي عشرة سنة واتفق أهل الكتاب أنه لم يكن بين شيث وادريس نبي غير ادريس تم قام بالأمر بعد شيث ولده أنوش بن شيث ، وكان مولده بعد مائتين وخمسين سنة من عمر شيث

__________________

(١٤) هناك استشهاد واستناد كثير إلى التوراة ونحن نعرف ما فيها من تحوير وتغيير أنبأنا به تعالى في القرآن الكريم ولذلك نرى أن استناده إليها فيه نظر.

(١٥) هذا كلام توراتي ، سفر التكوين الإصحاح الخامس العدد الخامس.

(١٦) التوراة تقول مائة وثلاثين سنة ولا نعرف مصدر روايته هنا.

(١٧) سفر التكوين الإصحاح الخامس العدد ٨.

٥٩

ومات أنوش وله تسعمائة وخمسون سنة فكان قيامه بالأمر بعد شيث مائتين وثماني وثمانين سنة.

ثم قام بالأمر بعد أنوش ولده قينان بن أنوش وولد بعد مائة وتسعين سنة من عمر أنوش ومات قينان وله تسعمائة وعشرون سنة فكان قيامه بالأمر بعد أنوش مائة وتسعين سنة.

ثم قام بالأمر بعد قينان ولده معلاييل وولد بعد ثمانمائة وخمس وسبعين سنة فكان قيامه بالأمر بعد قينان مائة وعشر سنين.

ثم قام بالأمر بعد مهلاييل ولده يارد بن مهلاييل ، وولد بعد مائة وخمس وستين سنة من عمر مهلاييل ، ومات يارد وله تسعمائة واثنان وستون سنة فكان قيامه بالأمر بعد مهلاييل مائتين واثنين وخمسين سنة.

ثم قام بالأمر بعد يارد ولده أخنوخ بن يارد وهو ادريس ، وولد بعد مائة واثنين وستين سنة من عمر يارد (١٨) وهو نبي في قول جميع أهل الملل ، واختلف أهل الكتاب هل هذا هو أول الأنبياء أو ثانيهم ، فقال من زعم أن شيثا نبي هو ثاني الأنبياء.

وقال من زعم أن شيثا ليس بنبي أن ادريس أول الأنبياء وهو أول من شرع الأحكام وأول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله تعالى وسبي وقتل بني قابيل ولبس الثياب وكانوا يلبسون الجلود وأول من كتب الخط في قول الأكثرين وأول من وضع الأوزان والكيول ثم رفعه الله تعالى إليه حيا بعد سبعمائة وخمس وثمانين سنة من عمره أقام فيها داعيا وأبوه حي على ما يقتضيه تاريخ هذه المواليد والأعمار المأخوذة من التوراة المنزلة (١٩) قال ابن قتيبة وسمي ادريس لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى وسنن الإسلام.

__________________

(١٨) سلسلة النسب الواردة هنا توراتية من سفر التكوين الإصحاح الخامس مع خلاف أحيانا في عدد السنوات.

(١٩) هناك خلاف في الأعمار بين المذكور في هذا الباب والمذكور في التوراة كما قلنا في

٦٠