أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

ثم أوتوا بذلك الطعام فأكلوا منه وشربوا من ذلك الماء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتسألن عن نعيم هذا اليوم» ، ثم ملكوا الدنيا فرفضوها واقتنعوا بالبلاغة فيها (١١).

تواضعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس

والخصلة الرابعة : تواضعه للناس وهم أتباع وخفض جناحه لهم وهو مطاع يمشي في الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميز عنهم إلّا بإطراقه وحيائه فصار بالتواضع متميزا وبالتذلل متعززا ، ولقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته ، فقال : «خفض عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة» ، وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه ، فهي غريزة فطر عليها وجبلة طبع بها لم تندر فتعدّ ولم تحصر فتحدّ.

حلمه ووقاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والخصلة الخامسة : حلمه ووقاره عن طيش يهزّه أو خرق يستفزه ، فقد كان أحلم في النفار (١٢) من كل حليم وأسلم في الخصام من كل سليم وقد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفر عليه بادرة ولا حليم غيره إلّا ذو عثرة ولا وقور سواه إلّا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزغ الهوى وطيش القدرة بهفوة أو عثرة ليكون بأمته رءوفا وعلى الخلق عطوفا ، قد تناولته قريش بكل كبيرة وقصدته بكل جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم وما تفرد بذلك سفهاؤهم دون حلمائهم ولا أراذلهم دون عظمائهم بل تمالأ عليه الجلة والدون (١٣) فكلما كانوا عليه من الأمر وألح كان عنهم أعرض وأفصح حتى قهر فعفا وقدر فغفر ، وقال لهم حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه : ما ظنكم بي؟ قالوا : ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا ، فقال : بل أقول كما قال يوسف لأخوته : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ

__________________

(١١) البلاغة والبلغة : سد الرمق.

(١٢) النفار : الخصام.

(١٣) الجلة : الكبراء وأعلاهم مكانة. الدون : أصاغرهم وأدناهم مكانة وموقعا.

٢٢١

يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٤) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم قد أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرهم نوالا» ، وأتته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن عمه حمزة ولاكت كبده فصفح عنها وأعطاها يده لبيعتها.

فإن قيل : فقد ضرب رقاب بني قريظة صبرا في يوم أحد وهم نحو سبعمائة فأين موضع العفو والصفح وقد انتقم انتقام من لم يعطفه عليهم رحمة ولا داخلته لهم رقة.

قيل : إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة (١٥) فلم يجز أن يعفو عن حق وجب الله تعالى عليهم ، وإنما يختص عفوه بحق نفسه».

حفظ العهد والوفاء

والخصلة السادسة : حفظه للعهد ووفاؤه بالوعد ، فإنه ما نقض لمحافظ عهدا ولا أخلف لمراقب وعدا ، يرى الغدر من كبائر الذنوب والإخلاف من مساوئ الشيم فيلتزم فيهما الأغلظ ويرتكب فيهما الأصعب حفظا لعهده ووفاء بوعده حتى يبتدئ معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجا كفعل اليهود من بني قريظة وبني النضير وكفعل قريش بصلح الحديبية فجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة ، فهذه ست خصال تكاملت في خلقه فضّله الله تعالى بها على جميع خلقه.

الوجه الثالث في فضائل أقواله

وأما الوجه الثالث : في فضائل أقواله فمعتبر بثمان خصال :

__________________

(١٤) سورة يوسف الآية (٩٢).

(١٥) سبعة أرمقة : سبع سماوات.

٢٢٢

حكمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إحداهن : ما أوتي من الحكمة البالغة وأعطي من العلوم الجمة الباهرة وهو أمي من أمة أمية لم يقرأ كتابا ولا درس علما ولا صحب عالما ولا معلما فأتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان وإحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل في قول أو عمل وجعل مدار شرعه على أربعة أحاديث أوجز بها المراد وأحكم بها الاجتهاد.

أحدها : قوله : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».

والثاني : قوله : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك أمور متشابهات ومن يحم الحمى يوشك أن يقع فيه».

والثالث : قوله : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

والرابع : قوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، وقد شرع من تقدم من حكماء الفلاسفة سننا حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه لا صلاح للعالم إلّا بدين ينقادون له ويعلمون به مما راق لها أثر ولا فاق لها خبر ، وهم ينبوع الحكم وأعيان الأمم ، وما هذه الفطرة في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا من صفاء جوهره وخلوص مخبره.

حفظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أطلعه الله عليه

والخصلة الثانية : حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم وأخبار العالم في الزمن الأقدم حتى لم يعزب عنه منها صغير ولا كبير ولا شذ عنه منها قليل ولا كثير وهو لا يضبطها بكتاب يدرسه ولا يحفظها بعين تحرسه ، وما ذاك إلّا من ذهن صحيح وصدر فسيح وقلب شريح ، وهذه الثلاثة آلة ما استودع من الرسالة وحمل من أعباء النبوّة ، فجدير أن يكون بها مبعوثا وعلى القيام بها محثوثا.

إحكامه لما شرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والخصلة الثالثة : إحكامه لما شرع بأظهر دليل وبيانه بأوضح تعليل حتى

٢٢٣

لم يخرج منه ما يوجبه معقول ولا دخل فيه ما تدفعه العقول ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا» ، لأنه نبّه بالقليل على الكثير فكف عن الإطالة وكشف عن الجهالة وما تيسر ذلك إلّا وهو عليه معان وإليه مفاد.

أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمحاسن الأخلاق

والخصلة الرابعة : ما أمر به من محاسن الأخلاق ودعا إليه من مستحسن الآداب وحث عليه من صلة الأرحام وندب إليه من التعطف على الضعفاء والأيتام ثم ما نهى عنه من التباغض والتحاسد وكف عنه من التقاطع والتباعد ، فقال : «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عبادا لله إخوانا» ، لتكون الفضائل فيهم أكثر ومحاسن الأخلاق بينهم أنشر ومستحسن الآداب عليهم أظهر وتكون إلى الخير أسرع ومن الشر أمنع فيتحقق فيهم قول الله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١٦) فلزموا أوامره واتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم ودنياهم حتى عز بهم الإسلام بعد ضعفه وذل الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبرارا وقادة أخيارا.

وضوح جوابه

والخصلة الخامسة : وضوح جوابه إذا سئل وظهور حجابه إذا جودل لا يحصره عي ولا يقطعه عجز ولا يعارضه خصم في جدال إلّا كان جوابه أوضح وحجاجه أرجح ، أتاه أبي بن خلف بعظم نخر من المقابر قد صار رميما ففركه حتى صار كالرماد ثم قال : يا محمد أنت تزعم أنا وآباءنا نعود إذا صرنا هكذا لقد قلت قولا عظيما ما سمعناه من غيرك : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (١٧) فأنطق الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببرهان نبوّته فقال : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (١٨) فانصرف مبهوتا ولم يحر جوابا ، ولما

__________________

(١٦) سورة آل عمران الآية (١١٠).

(١٧) سورة يس الآية (٧٨).

(١٨) سورة يس الآية (٧٩).

٢٢٤

قال عليه الصلاة والسلام : «لا عدوى ولا طيرة» ، قال له رجل : يا رسول الله إنا نرى النقبة من الجرب في مشفر البعير فيعدو سائره ، قال : «فمن أعدى الأول» ، وأسكته.

حفظه لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والخصلة السادسة : أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا وللصدق مجانبا ، فإنه لم يزل مشهورا بالصدق في خبره فاشيا وكثيرا حتى صار بالصدق مرموقا وبالأمانة مرسوما وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه ، فمنهم من كذبه حسدا ومنهم من كذبه عنادا ومنهم من كذبه استبعادا أن يكون نبيا أو رسولا ، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم ، وحسبك بهذا دفعا لجاحد وردا لمعاند.

بيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والخصلة السابعة : تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته والاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هدرا ولا يحجم عنه حصرا وهو فيما عدا حالتي الحاجة والكفاية أجمل الناس صمتا وأحسنهم سمتا ولذلك حفظ كلامه حتى لم يختل وظهر رونقه حتى لم يعتل واستعذبته الأفواه حتى بقي محفوظا في القلوب مدونا في الكتب فلن يسلم الإكثار من زلل ولا الهذر من ملل ، أكثر أعرابي عنده الكلام فقال : يا أعرابي كم دون لسانك من حجاب؟ قال شفتاي وأسناني ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يكره الانبعاق (١٩) في الكلام فنضر الله وجه امرئ قصر من لسانه واقتصر على حاجته».

فصاحته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والخصلة الثامنة : أنه أفصح الناس لسانا وأوضحهم بيانا وأوجزهم كلاما

__________________

(١٩) الانبعاق في الكلام : الهذر الكثير الذي يمكن إيجازه بكلام قليل.

٢٢٥

وأجز لهم ألفاظا وأصحهم معاني لا يظهر فيه هجنة التكلف ولا يتخلله فيهقة التعسف ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» ؛ وقال : «إياك والتشادق» ، ولما نزل عليه قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (٢٠) بنى مسجد قباء ، فحضر عبد الله بن رواحة فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أفلح من بنى المساجد ، قال نعم يا ابن رواحة ، قال ولم يبت لله إلا ساجد ، قال : «يا ابن رواحة كف عن السجع فما أعطي عبد شيئا شر من طلاقة في لسانه».

كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

فمن كلامه الذي لا يشاكل في إيجازه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس بزمانهم أشبه» ، وقوله : «ما هلك امرؤ عرف قدره» ، وقوله : «لو تكاشفتم ما تدافنتم». وقوله «السعيد من وعظ بغيره» ، وقوله : «حبك للشيء يعمي ويصم» ، وقوله : «العقل ألوف مألوف» ، وقوله : «العدة عطية» ، وقوله : «اللهم إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طبع» ، وقوله : «أفضل الصدقة جهد المقل» ، وقوله : «اليد العليا خير من السفلى» ، وقوله : «ترك الشر صدقة» ، وقوله : «الخير كثير وقليل فاعله» ، وقوله : «الناس كمعادن الذهب» ، وقوله : «نزلت المعونة على قدر المئونة» ، وقوله : «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه» ، وقوله : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» ، وقوله : «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم» ، وقوله : «الدنيا سجن المؤمن وبلاؤه وجنة الكافر ورخاؤه».

من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ومن كلامه الذي لا يشاكل في فصاحته قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والمشاورة فإنها تميت الغرة وتحيي الفرة» ، وقوله : «لا تزال أمتي بخير ما ملم تر الأمانة مغنما والصدقة مغرما» ، وقوله : «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» ، وقوله : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ونفس لا تشبع وقلب

__________________

(٢٠) سورة النور الآية (٣٦).

٢٢٦

لا يخشع وعين لا تدمع هل يطمع أحدكم إلّا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو الدجال فهو شر غائب ينتظر أو الساعة فالسعة أدهى وأمرّ» ، وقوله : «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فخشية الله تعالى في السر والعلانية والاقتصاد في الغنى والفقر والحكم بالعدل في الرضا والغضب وأما المهلكات فشحّ مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» ، وقوله : «تقبلوا إليّ بست أتقبل لكم بالجنة» ، قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال : «إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم» ، وقوله في بعض خطبه : «ألا إن الأيام تطوى والأعمار تفنى والأبدان في الثرى تبلى وأن الليل والنهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد وفي ذلك عباد الله ما ألهي عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات» ، وقوله في بعض خطبه ، وقد خاف من أصحابه فطرة : «أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب وكأن الحق فيها على غيرنا وجب وكأن الذي يشيع من الأموات سفر عما قيل إلينا راجعون نبوّئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة (٢١) طوبى لمن شغلته آخرته عن دنياه طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس».

وهذا يسير من كثير ولا يأتي عليه إحصاء ولا يبلغه استقصاء وإنما ذكرنا مثالا ليعلم أن كلامه جامع لشروط البلاغة ومعرب عن نهج الفصاحة ولو مزج بغيره لتميز بأسلوبه ولظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله ولبان صدقه من كذبه ، هذا ولم يكن متعاطيا للبلاغة ولا مخالطا لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء وإنما هو من غرائز فطرته وبداية جبلته وما ذلك إلّا لغاية تراد وحادثة تشاد.

فإن قيل : إذا كان كلامه مخالفا لكلام غيره في البلاغة والفصاحة حتى لم يكن فيه مساجلا أيكون له معجزا.

__________________

(٢١) الجائحة : المصيبة والبلاء.

٢٢٧

قيل له : لو كان هكذا وتحدى به صار معجزا ولا يكون مع عدم التحدي معجزا.

فضائل أفعاله

وأما الوجه الرابع : في فضائل أفعاله فمختبر بثمان خصال :

حسن سيرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إحداهن : حسن سيرته وصحة سياسته في دين ابتكر شرعه حتى استقر وتدبير أحسن وضعه حيت استقر وتدبير أحسن وضعه حتى استمر نقل به الأمة عن مألوف وصرفهم به عن معروف إلى غير معروف فأذعنت به النفوس طوعا وانقادت خوفا وطمعا وشديد عادة منتزعة إلّا لمن كان مع التأييد الإلهي معانا بحزم صائب وعزم ثاقب ولئن كان مأمورا بما شرع فهي الحجة القاهرة ولئن كان مجتهدا فيها فهي الآية الباهرة وحسبك بما استقرت قواعده على الأبد حتى انتقل عن سلف إلى خلف يزاد فيهم حلاوته ويشتد فيهم جدته ويرونه نظاما لأعصار تنقلب صروفها ويختلف مألوفها أن يكون لمن قام به برهانا ولمن ارتاب به بيانا.

الرغبة والرهبة

والخصلة الثانية : أن بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع حتى اجتمع الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته رغبا في عاجل وآجل ، ورهبا من زائل ونازل لاختلاف الشيم والطباع في الانقياد الذي لا ينتظم بأحدهما ولا يستديم بهما ، فلذلك صار الدين بهما مستقرا والصلاح بهما مستمرا.

العدل

الخصلة الثالثة : أنه عدل فيما شرعه من الدين عن غلو النصارى (٢٢) في التشديد وعن تقدير اليهود في التقصير إلى التوسط بينهما وخير الأمور أوساطها لأنه العدل بين طرفي سرف وتقصير فليس لما جاوز العدل حظ من رشد ولا

__________________

(٢٢) غلو النصارى : تجاوز الحد في المسيح حتى جعلوه ابنا لله جلّ الله عن ذلك وتنزه.

٢٢٨

نصيب من سداد وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فشر السير الحقحقة وأن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».

أمره بالاعتدال صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والخصلة الرابعة : أنه لم يمل بأصحابه إلى الدنيا ، كما رغبت اليهود ولا إلى رفضها كما ترهبت النصارى وأمرهم فيها بالاعتدال أن يطلبوا منها قدر الكفاية ويعدلوا عن احتجان واستزادة وقال لأصحابه : «خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» ، وهذا صحيح لأن الانقطاع إلى أحدهما اختلال والجمع بينهما اعتدال.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم المطية الدنيا فارتحلوها ، تبلغكم الآخرة» ، وإنما كان كذلك لأن منها يتزود لآخرته ويستكثر فيها من طاعته ولأنه لا يخلو تاركها من أن يكون محروما مضاعا أو محروما مراعى وهو في الأول كل وفي الثاني مستذل (أثني على رجل بخير) عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا يا رسول الله كنا إذا ركبنا لا يزال يذكر الله تعالى حتى ننزل وإذا نزلنا لا يزال يصلي حتى نرفع فقال فمن كان يكفيه علف بعيره وإصلاح طعامه ، قالوا : كلنا ، قال : «فكلكم خير منه».

إيضاحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم العبادات

والخصلة الخامسة : تصديه لمعالم الدين ونوازل الأحكام حتى أوضح للأمة ما كلفوه من العبادات وبين لهم ما يحل ويحرم من مباحات ومحظورات وفصل لهم ما يجوز ويمتنع من عقود ومناكح ومعاملات حتى احتاج اليهود في كثير من معاملاتهم. ومواريثهم لشرعه ولم يحتج شرعه إلى شرع غيره ، ثم مهد لشرعه أصولا تدل على الحوادث المغفلة ويستنبط لها الاحكام المعللة فأغنى عن نص بعد ارتفاعه وعن التباس بعد إغفاله ، ثم أمر الشاهد أن يبلغ الغائب ليعلم بإنذاره ويحتج بإظهاره ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلغوا عني ولا تكذبوا عليّ فرب مبلّغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» فأحكم ما شرع من نص وتنبيه وعم بما أمر من حاضر وبعيد حتى صار لما تحمله من الشرع مؤديا ، ولما تقلده من حقوق الأمة موفيا لئلا يكون في حقوق الله زلل ولا في مصالح الأمة خلل وذلك

٢٢٩

في برهة من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب حتى أوجز وأنجز وما ذاك إلّا بديع ومعجزهم.

جهاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الخصلة السادسة : انتصابه لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته وأحدقوا بجنباته ، وهو في قطب مهجور وعدد محقور فزاد به من قل وعز به من ذل وصار بإثخانه في الأعداء محذورا وبالرعب منه منصورا فجمع بين التصدي لشرع الدين حتى ظهر وانتشر وبين الانتصاب لجهاد العدو حتى قهر وانتصر والجمع بينهما معوز إلّا لمن أمده الله بمعونته وأيده بلطفه والمعوز معجز.

شجاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الخصلة السابعة : ما خص به من الشجاعة في حروبه والنجدة في مصابرة عدوه فإنه لم يشهد حربا في فزاع إلّا صابر حتى انجلت عن ظفر أو دفاع وهو في موقفه لم يزل عنه هربا ولا جاز فيه لاغبا بل ثبت بقلب آمن وجأش ساكن قد ولى عنه أصحابه يوم حنين حتى بقي بإزاء جمع كثير وجم غفير في تسعة من بيته وأصحابه على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدة لهرب ولا طلب وهو ينادي أصحابه ويظهر نفسه ويقول إليّ عباد الله أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فعادوا أشذاذا وإرسالا (٢٣) وهوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثره ولا انكفأ عن مصاولة من صابره ، وقد عضده الله تعالى بانجاد وأنجاد فانحازوا وصبر حتى أمده الله بنصره وما لهذه الشجاعة من عديل ، ولقد طرق المدينة فزع فانطلق الناس نحو الصوت فوجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سبقهم إليه فتلقوه عائدا على فرس عري لأبي طلحة الأنصاري وعليه السيف فجعل يقول : «أيها الناس لم تراعوا بل تراعوا» ، ثم قال لأبي طلحة : «إنا وجدناه بحرا» ، وكان الفرس يبطئ فما سبقه فرس بعد ذلك ، وما ذاك إلّا عن ثقة من أن الله تعالى سينصره ، وإن دينه سيظهره تحقيقا لقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ

__________________

(٢٣) عادوا أشذاذا وإرسالا : فروا زرافات ووحدانا.

٢٣٠

كُلِّهِ) (٢٤) وتصديقا لقول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ، وكفى بهذا قياما بحقه وشاهدا على صدقه.

سخاؤه وجوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الخصلة الثامنة : ما منح من السخاء والجود حتى جاد بكل موجود وآثر بكل مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير لطعام أهله وقد ملك جزيرة العرب وكان فيها ملوك وأقيال لهم خزائن وأموال يقتنونها زخرا ويتباهون بها فخرا ويستمتعون بها أشرا وبطرا وقد حاز ملك جميعهم ، فما اقتنى دينارا ولا درهما ، لا يأكل إلّا الخشب ولا يلبس إلّا الخشن ويعطي الجزل الخطير ويصل الجم الغفير ويتجرع مرارة الإقلال ويصبر على سغب الاختلال وقد حاز غنائم هوازن وهي من السبي ستة آلاف رأس ومن الإبل أربعة وعشرون ألف بعير ومن الغنم أربعون ألف شاة ومن الفضة أربعة آلاف أوقية. فجاد بجميع حقه وعاد خلوا.

وروى أبو وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء. وروى عمرو بن مرة عن سويد بن الحرث عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يسرني أن لي أحدا ذهبا أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وعندي منه دينار إلّا أن أعده لغريم».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سئل وهو معدم وعد ولم يرد وانتظر ما يفتح الله.

فروى حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأله ، فقال : «اجلس سيرزقك الله» ، ثم جاء آخر ، ثم آخر ، فقال لهم : «اجلسوا» ، فجاء رجل بأربع أواقي فأعطاه إياها وقال : يا رسول الله هذه صدقة ، فدعا الأول فأعطاه أوقية ، ثم دعا الثاني فأعطاه أوقية ، ثم دعا الثالث فأعطاه أوقية ، وبقيت معه أوقية واحدة فعرض بها للقوم فما قام أحد ،

__________________

(٢٤) سورة التوبة الآية (٣٣).

٢٣١

فلما كان الليل وضعها تحت رأسه وفراشه عباءة فجعل لا يأخذه النوم فيرجع فيصلي ، فقالت له عائشة : يا رسول الله حلّ بك شيء؟ قال : «لا»؟ قالت فجاءك أمر من الله؟ قال : «لا» ، قالت : إنك صنعت منذ الليلة شيئا لم تكن تفعله ، فأخرجها وقال : «هذه التي فعلت بي ما ترين أني خشيت أن يحدث أمر من أمر الله ولم أمضها» (٢٥).

وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا فعليّ ومن ترك مالا فلورثته» ، فهل مثل هذا الكرم والجود كرما وجودا ، أم هل لمثل هذا الإعراض والزهادة إعراضا وزهدا هيهات هل يدرك شيئا ومن هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدد ولا يدرك لها أمد لم تكمل في غيره فيساويه ولا كذب بها ضد يناويه ولقد جهد كل منافق ومعاند وكل زنديق وملحد أن يزري عليه في قول أو فعل أو يظفر بهفوة في جد أو هزل فلم يجد إليه سبيلا وقد جهد جهده وجمع كيده ، فأي فضل أعظم من فضل تشاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزا لثالب أو قادح ولا مطعنا لجارح أو فاضح ، فهو كما قال الشاعر :

شهد الأنام بفضله حتى العدى

والفضل ما شهدت به الأعداء

وحقيق لمن بلغ من الفضائل غايتها واستكمل لغايات الأمور آلتها ، أن يكون لزعامة العالم مؤهلا ، وللقيام بمصالح الخلق موكلا ، ولا غاية بعد النبوة أن يعم له صلاح أو ينحسم به فساد فاقتضى أن يكون لها أهلا وللقيام بها مؤهلا ولذلك استقرت به حين بعث رسولا ونهض بحقوقها حين قام به كفيلا فناسبها وناسبته ولم يذهل لها حين أتته ، وكل متناسبين متشاكلان وكل متشاكلين مؤتلفان وكل مؤتلفين متفقان والاتفاق وفاق هو أصل كل انتظام وقاعدة كل التئام فكان ذلك من أوضح الشواهد على صحة نبوّته وأظهر الأمارات في صدق رسالته فما ينكرها بعد الوضوح إلّا مفضوح والحمد لله الذي وفق لطاعته وهدى إلى التصديق برسالته.

__________________

(٢٥) لم أمضها : لم أصرفها في سبيلها أو لم أستطع تقرير شيء في شأنها.

٢٣٢

الباب الحادي والعشرون

في مبدإ بعثته واستقرار نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن لله تعالى لكل مقدور من الأمور إذا دنا نذيرا وبشيرا يظهر بهما مبادي ما أخفاه ويشعر بحلولهما قدره وقضاه ليكونا تعذيرا وتحذيرا تستيقظ بهما العقول ويزدجر بهما الجهول لطفا بعباده من فجأة الأمور المذهلة أن تصدم ببوادر لا تستدرك لتكون النفوس في مهلة من استدفاع خطبها وحل صعبها ولما دنا مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبوة رسولا وإلى الخلق بشيرا ونذيرا انتشر في الأمم أن الله تعالى سيبعث نبيا في هذا الزمان وأن ظهوره قد قرب وآن فكانت كل أمة لها كتاب يعرف ذلك من كتابها والتي لا كتاب لها ترى من الآيات المنذرة ما تستدل عليه بعقولها وتنتبه عليه بهواجس فطرها إلهاما أعان به الفطن اللبيب وأنذر به الحازم الأريب هذا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غافل عنها وغير عالم أنه مراد بها ومؤهل لها لم يشعر بها حتى نودي ولا تحققها حتى نوجي ليكون أبعد من التهمة وأسلم من الظنة فيكون برهانا أظهر وحجاجه أقهر وكان مع تمييزه عن قومه بشرف أخلاقه وكرم طباعه لم يعبد معهم صنما ولا عظّم وثنا وكان متدينا بفرائض العقول في قول جميع الفقهاء والمتكلمين من توحيد الله تعالى وقدمه وحدوث العالم وفنائه وشكر المنعم وتحريم الظلم ووجوب الإنصاف وأداء الأمانة.

واختلف أهل العلم هل كان قبل مبعثه متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء ، فذهب أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى أنه لم

٢٣٣

يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنه لو تعبّد بها لتعلمها ولعمل بها ولو عمل بها لظهرت منه ولو ظهرت منه لا تبعه فيها الموافق ونازعه فيها المخالف ، وذهب بعض المتكلمين وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى أنه كان متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنهم دعوا إلى شرائعهم من عاصرهم ومن يأتي بعدهم ما لم تنسخ بنبوّة حادثة ، فدخل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عموم الدعاء قبل مبعثه لأن الله تعالى لا يخلي زمانا من شرع متبوع ولا متدينا من تعبد مسموع ، واختلف من قال بهذا فيما كان متعبدا به من الشرائع المتقدمة فذهب بعضهم إلى أنه كان متعبدا بشريعة جده إبراهيم عليهما‌السلام لقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (١) ولأنه كان في الحج والعمرة على مناسكه ، وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة موسى فيما لم تنسخه شريعة عيسى عليهم‌السلام لظهور شريعته في التوراة ودروس ما تقدمها من الشرائع مع قول الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (٢) وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة عيسى عليه‌السلام لأنها كانت ناسخة لشريعة موسى فسلم قبل مبعثه من حرج في دينه وقدح في يقينه ، وهذا من أمارات الاصطفاء ومقدمات الاجتباء.

حبه الخلاء صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ولما وجد الأمر في النبوّة ودنا وقتها حبب الله تعالى إلى رسوله الخلاء بعد أربعين سنة من عمره حين تكامل نهاه واشتد قواه ليكون متهيئا لما قدر له ومتأهبا لما أريد له فكان يتخلى في غار بحراء في ذوات العدد من الليالي.

وقيل : شهرا في السنة على عادة كانت لقريش في التبرز بالمجاورة (٣) بحراء ويعود إلى أهله إلى أن استدام الخلاء في الغار لما أراد الله تعالى به فكان يؤتى بطعامه وشرابه فيأكل منه ويطعم المساكين برهة من زمانه وهو غافل عن النبوّة

__________________

(١) سورة البقرة الآية (١٣٠).

(٢) سورة المائدة الآية (٤٤).

(٣) التبرز للمجاورة : الخروج للاعتكاف إما في المسجد الحرام أو في غار بعيد عن الناس. ينفرد فيه الإنسان للتعبد.

٢٣٤

وإن كان في الناس موهوما وعند أهل الكتب معلوما ليكون ابتكار البديهة بها مانعا من التصنع لها فلا ينسب إلى اختراعها ولو تصنع واخترع لظهرت أسبابهما وتمت شواهدهما ولم يخف على من عاداه أن يتداوله وعلى من والاه أن يتأوله ، وحسبك بهذا وضوحا أن يكون بعيدا من التهمة بهما سليما من الظنة فيهما فلم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلوته إلى أن أظهر الله تعالى له أمارات نبوته فأيقظه بها بعد الغفلة وبشره بها بعد المهلة ، ثم بعثه بها رسولا بعد البشرى على تدريج ترتبت فيها أحواله ليتوطأ لتحمل أثقالها ، ويعلم لوازم حقوقها حتى لا تفاجئه بغتة فيذهل ولا يخفى عليه حقوقها فينكل ، وكان ذلك من الله لطفا به وإنعاما عليه وداعيا لأمته في الانقياد إليه فسبحانه من لطيف بعباده منعم على خلقه.

أحواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ ترتب تدرجه على ستة أحوال نقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها.

الرؤيا الصادقة

فالمنزلة الأولى : الرؤيا الصادقة في منامه بما سيئول إليه أمره فكان ذلك إذكارا بها ليروض لها نفسه ويختبر فيها حواسه فيقوم بها إذا بعث وهو عليها قوي وبها ملي (٤).

روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : أول ما ابتدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل فلق الصبح حتى فاجأه الحق ، واختلف في هذه الرؤيا هل كانت قبل انقطاعه إلى الخلوة بحراء.

فحكى عروة عن عائشة أنه حبب إليه الخلاء بعد الرؤيا.

وذهب قوم إلى أن الرؤيا جاءته بعد خلوته لأنه خلا على غفلة من أمره.

وقد روت برة بنت أبي تحراه أن الله تعالى لما أراد كرامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(٤) ملي بها : كفؤ لها.

٢٣٥

بالنبوة كان لا يمر بشجر ولا حجر إلّا قال السلام عليك يا رسول الله فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا فاحتمل أن يكون ذلك قبل رؤيا المنام فيكون كالهتوف (٥) الخارجة عن إعلام الوحي إلى إعجاز النبوّة واحتمل أن يكون بعد الرؤيا فيكون تصديقا لها وتحقيقا لصحتها.

طهارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والمنزلة الثانية : ما ميّز به عن سائر الخلق من تقديسه عن الأرجاس (٦) وتطهيره من الأدناس ليصفو فيصطفى ويخلص فيستخلص ، فيكون ذلك إنذار الأمر وتنبيها على العاقبة وهو ما رواه عن عروة بن الزبير عن أبي ذر الغفاري قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أول نبوّته فقال : «يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة ، فوقع أحدهما على الأرض والآخر بين السماء والأرض. فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال فزنه برجل من أمته فوزنت برجل فرجحته ثم قال : زنه بعشرة فوزنت بعشرة فرجحتهم ، ثم قال زنه بمائة فوزنت بمائة فرجحتهم ، ثم قال زنه بألف فوزنت بألف فرجحتهم فجعلوا ينثرون على كفة الميزان فقال أحدهما للآخر لو وزنته بأمته رجحها ثم قال أحدهما لصاحبه : شق بطنه فشق بطني ، ثم قال شق قلبه فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم ، ثم قال : اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاءة ، ثم دعا بالسكينة فأدخلت قلبي ، ثم قال خط بطنه فخاط بطني فما هو إن وليا حتى كأنما أعاين الامر» (٧).

وروى أنس بن مالك قال : لما حان أن ينبأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينام حول الكعبة وكانت قريش تنام حولها فأتاه جبريل وميكائيل ، فقالا بأيهم أمرنا فقالا أمرنا بسيدهم ثم ذهبا وجاءا من القابلة وهم ثلاثة فألفوه وهو نائم فقلبوه لظهره وشقوا بطنة ثم جاءوا لماء من زمزم فغسلوا ما كان في بطنه من شك أو ضلالة

__________________

(٥) الهتوف : الهاتف من الجن أو الملائكة.

(٦) تقديسه من الأرجاس : طهارته من الأدناس.

(٧) كأنما أعاين الأمر : كأني أراه الآن أمام عيني.

٢٣٦

أو جاهلية ، ثم جاءوا بطست من ذهب قد ملئت إيمانا وحكمة فملئ بطنه وجوفه إيمانا وحكمة وهو يوافق لحديث أبي ذر في المعنى وإن خالفه في الصفة فتوارد في الرواية وهو إنذار بالنبوّة.

البشرى بالنبوة

والمنزلة الثالثة : البشرى بالنبوة من ملك أخبره بها عن ربه واختصت بشراه بالأشعار وتجردت عن تكليف وإنذار لم يسمع بها وحيا ولا رأى معها شخصا ، وإنما كان إحساسا بالملك اقترن بآية دلت وأمارة ظهرت اكتفى بها عن مشاهدته واستغنى بها عن نطقه ليعلم أنه من أنبياء الله تعالى فيتأهب لوحيه ويعان بإمهاله فيكون على البلوى أصبر وللنعمة أشكر روى الشعبي وداود بن عامر أن الله تعالى قرن إسرافيل بنبوّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه ويعلمه الشيء بعد الشيء ولا ينزل عليه بالقرآن فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة وغير مبعوث إلى الأمة فاحتمل أن يكون إمهاله فيها معونة للرسول واحتمل أن يكون نظرا للأمة وأحتمل أن يكون لأوان المصلحة وليس يمتنع أن يكون لجميعها فإنه أعلم بسر ما أخفى وأعرف بمعنى ما أظهر.

والمنزلة الرابعة : أن نزل عليه جبريل لوحي ربه حتى رأى شخصه وسمع مناجاته فأخبره أنه نبي الله ورسوله واقتصر به على الأخبار ولم يأمره بالإنذار ليعلمها بعد البشرى عيانا ويقطع بها يقينا فيكون معتقده بها أوثق وعلمه بها أصدق فلا يعترضه وهم ولا يخالجه ريب.

روى الزهري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فاجأه الحق أتاه جبريل عليه‌السلام فقال يا محمد أنت رسول الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فجثوت لركبتي وأنا قائم ثم رجعت ترجف بوادري ثم دخلت على خديجة فقلت زملوني زملوني حتى ذهب عني ثم أتاني فقال يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ، ثم قال اقرأ ، قلت : ما أقرأ؟ قال : فأخذني فغتني (٨) ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد وقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (٩) فأتيت

__________________

(٨) غتني : ضمني بشدة.

(٩) سورة العلق الآية (١).

٢٣٧

خديجة فقلت : لقد أشفقت على نفسي فأخبرتها خبري ، فقالت : أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل وكان ابن عمها وخرج في طلب الدين وقيل قرأ التوراة والإنجيل وتنصر وقالت اسمع من ابن أخيك فسألني فأخبرته خبري فقال : هذا الناموس الذي نزل على موسى عليه‌السلام يعني جبريل عليه‌السلام ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قلت أو مخرجي هم قال نعم إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلّا عودي ولئن يدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا ، ثم كان ما نزل عليّ من القرآن بعد اقرأ : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) (١٠) ، ونزل عليه ذلك ليزداد ثباتا ولنفسه استبصارا ولنعمة ربه شكرا.

وروى أن خديجة قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا أتاك يعني جبريل عليه‌السلام قال نعم قالت فأخبرني به إذا جاءك فجاءه جبريل فقال لها : «يا خديجة هذا جبريل قد جاء» ، قالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى فجلس عليها فقالت هل تراه ، قال : «نعم» ، قالت فتحوّل على فخذي اليمنى فتحوّل إليها فقالت : هل تراه قال : نعم ، قالت فتحوّل في حجري فتحوّل في حجرها قالت : هل تراه قال : «نعم» ، قال : فحسرت وألقت خمارها وهو جالس في حجرها فقالت : هل تراه ، قال : «لا» ، قالت : يا ابن عمي أثبت وأبشر فو الله إنه لملك وما هو بشيطان وآمنت به فكانت أول من أسلم من جميع الناس واستظهرت خديجة بما فعلته من هذا في حق نفسها لا في حق الرسول ولا استظهارا عليه واكتفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تصديق جبريل بما عاينته خديجة من آياته المعجزة وكان ما نزل به جبريل في هذا الحال مقصورا على إخباره بالنبوّة ليعلم أن الله تعالى قد اصطفاه لها فينقطع إليه ويوقف نفسه على ما يؤمر به وينزل عليه فيكون لأوامره متبعا ولما يراد به متوقعا وأذن له في ذكره وإن لم يؤذن له في إنذاره لقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

__________________

(١٠) سورة القلم الآيات (١ ـ ٥).

٢٣٨

فَحَدِّثْ) (١١) أي بما جاءك من النبوة فكان يذكرها مستسرا.

والمنزلة الخامسة : أن أمر بعد النبوّة بالإنذار فصار به رسولا ونزل عليه القرآن بالأمر والنهي فصار به مبعوثا ولم يؤمر بالجهر وعموم الإنذار ليختص بمن أمنه ويشتد بمن أجابه فنزل عليه قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (١٢) فتمت نبوّته بالوحي والإنذار وإن كان في استسرار وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر رمضان.

قال هشام بن محمد : أول ما تلقاه جبريل في ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له برسالته في يوم الاثنين.

وروى أبو قتادة : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم يوم الاثنين ، فقال : «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه النبوّة واختلف في أي اثنين كان من شهر رمضان» ، فقال أبو قلابة : كان في الثامن عشر منه.

وقال أبو الخلد : كان في الرابع والعشرين منه وهو ابن أربعين سنة في قول الأكثرين لأربعين سنة مضت من عام الفيل وزعم قوم أنه كان ابن ثلاث وأربعين سنة.

قال هشام بن محمد : وذلك لعشرين سنة من ملك كسرى ابرويز.

وقال غيره : لست عشرة سنة من ملكه.

ثم روي أن جبريل عليه‌السلام نزل عليه في يوم الثلاثاء ثاني النبوّة وهو بأعلى مكة فهمّ بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل منها ليريه كيف الطهور فتوضأ مثل وضوئه ثم قام جبريل فصلى وصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصلاته فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت وصلى بها كما صلى به جبريل فكانت أول من توضأ بعده وصلى واستسر بالإنذار من يأمنه.

__________________

(١١) سورة الضحى الآية (١١).

(١٢) سورة المدثر الآيات (١ ـ ٧).

٢٣٩

واختلف في أول من أسلم بعد خديجة على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أول من أسلم من الذكور وصلى وهو ابن تسع سنين وقيل ابن عشر وهذا قول جابر بن عبد الله وزيد بن أسلم.

وروى يحيى بن عفيف عن أبيه قال : جئت في الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس وتحلقت في السماء ، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء واستقبل الكعبة فقام مستقبلها ، فلم يلبث أن جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب وركع الغلام والمرأة ورفع الشاب فرفع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه فقلت للعباس ، يا عباس ، أمر عظيم هل تدري من هذا ، قال العباس : نعم ، هذا محمد بن عبد الله ابن أخي ، وهذا علي بن أبي طالب ابن أخي ، وهذه خديجة ابنة خويلد زوجة ابن أخي ، وهذا حدثني أن رب السماء أمره بهذا الذي تراهم عليه ، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

والقول الثاني : أن أول من أسلم وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وهذا قول ابن عباس وأبي أمامة الباهلى.

وروى أبو أمامة عن عمرو بن عنبسة السلمي قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نازل بعكاظ فقلت : يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال : تبعني عليه رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال ، قال : فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني إذ ذلك ربع الإسلام ، وقال الشعبي : سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما؟ فقال : أما سمعت قول حسان بن ثابت :

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة

فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها

بعد النبي وأوفاها بما حملا

الثاني التالي المحمود مشهده

وأول الناس منهم صدق الرسلا

والقول الثالث : أن أول من أسلم زيد بن حارثة وهذا قول عروة بن

٢٤٠