أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

الباب الثاني

في معرفة الإله المعبود

لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلّا بعد معرفة المعبود المرسل ليعلم أنهم رسل مطاع معبود فيطاعوا لفرض طاعة المعبود ، والمعبود هو الله عزوجل المنعم على عباده بما كلفهم من عبادته وافترض عليهم من طاعته بعد النعمة عليهم بخلق ذواتهم والإرشاد إلى مصالحهم واستودعهم علم اضطرار يدرك ببداية العقول (١) ، وعلم اكتساب يدرك بالفكر والنظر (٢) ، ولما كانوا محجوبين عن ذاته لم يدركوه ببداية الحواس اضطرارا ، وقد ظهر من إظهار آثار صنعته وإتقان حكمته ما يوصل إلى معرفة ذاته وصفاته اكتسابا لإدراكها بالاعتبار والنظر ، ولو شاء لخلق ما يدرك ببداية الحواس ، لكن معرفته بالاستدلال أبلغ في الحكمة لظهور التباين في الرتبة فلذلك ما امتنع الوصول إلى معرفته اضطرارا ووصل إليها استدلالا واكتسابا يخرج عن بداية العقول إلى استدلال معقول.

والذي يؤدي إلى معرفته جل جلاله ثلاثة فصول :

أحدهما : أن العالم محدث وليس بقديم.

والثاني : أن للعالم محدثا قديما (٣).

__________________

(١) أي يدرك بالبديهة والفهم.

(٢) أي بإعمال الفكر في الكون والمخلوقات يدرك الخالق.

(٣) محدثا قديما : خالقا.

٢١

والثالث : أنه واحد لا شريك له.

فأما الفصل الأول ؛ في حدوث العالم ، فالمحدث ما كان له أول ، والقديم ما لا أول له ، والدليل على حدوث العالم شيئان :

أحدهما : أن العالم جواهر وأجسام ، لا تنفك عن أعراض محدثة من اجتماع وافتراق وحركة وسكون ، وإنما كانت الأعراض محدثة لأمرين :

أحدهما : أنه لا يصح قيامها بذواتها.

والثاني : لوجودها بعد عدمها (٤) ، وزوالها بعد وجودها (٥) ، وما لم ينفك عن الأعراض المحدثة لم يسبقها ، لأنه لو سبقها لكان لا مجتمعا ولا مفترقا ولا متحركا ولا ساكنا ، وهذا مستحيل فاستحال سبقه ، وما لم يسبق المحدث فهو محدث فإن قيل : فليس يستنكر أن تكون الحوادث الماضية لا أول لها ، فلم يلزم حدوث العالم ، قيل : إذا كان لكل واحد من الحوادث أول استحال أن لا يكون لجميعها أول لأنها ليست غير آحادها ، فصارت جميعها محدثة لأنها ذوات أوائل محدثة.

والدليل الثاني : على حدوث العالم وجوده محدودا متناهي الأجزاء والأبعاض وما تناهت أجزاؤه وأمكن توهم الزيادة عليه والنقصان منه كان تقديره على ما هو به دليلا ، على أن غيره قدره إذ ليس كون ذاته على صفة بأولى من كونه على غيرها لو لا تدبر غيره لها. فإن قيل : فلم لا كانت طينته قديمة وأعراض تركيبه وتصويره حادثة ، كأفعال الله تعالى حادثة عن ذاته القديمة؟ قيل : لأن حدوث أعراضه فيه ، وهو لا ينفك منها فصار محدثا بها وأفعال الله تعالى حادثة في غيره ، فلم يمنع حدوثها من قدمه ، ولو حدثت فيه لمنعت من قدمه.

وأما الفصل الثاني : أن للعالم محدثا قديما ، فالدليل على أن له محدثا قديما شيئان :

__________________

(٤) أي كان هناك وقت لم تكن موجودة فيه.

(٥) أي أنها فانية وليست خالدة.

٢٢

أحدهما : أنه لما استحال أن يكون العالم محدثا لذاته لإفضائه إلى وجوده قبل حدثه دل على أن محدثه غيره.

والثاني : أن وجود ما لم يكن يوجب أن يقتضي موجدا كما اقتضى المبنى بانيا والمصنوع صانعا والدليل على قدم محدثه شيئان :

أحدهما : أنه لا أول له وما لا أول له قديم.

والثاني : أنه لو لم يكن قديما لاحتاج إلى محدث ولاحتاج محدثه إلى محدث ولا تنتهي إلى ما لا غاية له فامتنع وثبت قدمه أنه لم يزل ولا يزال فلم يكن له أول ولا يكون له آخر. وإذا كان محدثه قديما وجب أن يكون قادرا مريدا. والدليل على قدرته أنه يصح منه أن يفعل ولا يفعل مع انتفاء الموانع وقد فعل فدل وجود الفعل منه على قدرته عليه ، والدليل على أنه مريد أنه لما وجد منه الفعل وهو غير ساه ولا مكره ولا عابث لانتفاء السهو عنه بعلمه وانتفاء الإكراه عنه بقدرته وانتفاء العبث عنه بحكمته دل على إرادته كما كانت كتابة الكاتب مع انتفاء هذه العوارض دليلا على إرادة كتابته فصار إحداثه للعالم دليلا على قدمه وحدوث أفعاله وقدمه يوجب أن تكون صفات ذاته قديمة لقدمه وحدوث أفعاله يوجب أن تكون صفات أفعاله محدثه.

وأما الفصل الثالث : أنه واحد لا شريك له ولا مثل ، فالدليل عليه شيئان :

أحدهما : أن عموم قدرته شامل لجميع المحدثات فوجب أن يكون محدث بعضها محدثا لجميعها إذ ليس بعضها بأخص بقدرته من بعض ، فأوجب تكافؤ الأمرين عموم الجميع.

والثاني : أنه لو كان معه غيره لم يخل أن يكون مماثلا أو مخالفا ، فإن خالفه بطل أن يكون قادرا ، وإن ماثله استحال وجود إحداث واحد من محدثين كما استحال وجود حركة واحدة من متحركين.

٢٣

وذهب الثنوية (٦) من المتباينة إلى إثبات قديمين هما عندهم نور وظلمة يحدث الخير عن النور والشر عن الظلمة وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن النور والظلمة لا ينفكان أن يكونا جسما أو جوهرا أو عرضا ، وجميعها محدثة فدل على حدوثهما.

والثاني : أن الظلمة ليست بذات وإنما هي فقد النور عما يقبل النور ، ولهذا إذا فقدنا النور في الهواء تصورناه مظلما فلم يجز أن يوصف بقدم ولا يضاف إليها فعل. وذهب المجوس إلى أن الله تعالى والشيطان فاعلان ، فالله تعالى فاعل الخير وخالق الحيوان النافع ، والشيطان فاعل الشر وخالق الحيوان الضار ، قالوا : لأن فاعل الشر شرير ويتعالى الله عن هذه الصفة ، وجعلوا الله تعالى جسما وإن كان قديما. واختلفوا في قدم الشيطان ، فقال به بعضهم وامتنع من قدمه زرادشت وأكثرهم واختلفوا في علة حدوثه ، فزعم زرادشت أن الله تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها (اهرمن) وهو إبليس.

وقال غيره ، بل شكّ فتولد الشيطان من شكه. وقال آخرون : بل حدث عفن فتولد الشيطان من عفنه وهذه أقاويل تدفعها العقول ، أما جعلهم الله تعالى جسما ، فدليلنا على حدوث الأجسام يمنع أن يكون الله تعالى مع قدمه جسما.

ودليلنا على الثنوية يمنع أن يكون الشيطان معه ثانيا وإثبات قدرته يمنع أن يكون مغلوبا وعلمه بمنع أن يكون شاكا أو مفكرا وانتفاء الحزن عنه يمنع أن يكون مستوحشا وامتناع الفساد عليه يمنع أن يكون عفنا. وقولهم أن فاعل الشر شرير قيل خروجه عن قدرته مثبت لعجزه فوجب أن يدخل في عموم قدرته.

__________________

(٦) ويسمون أيضا : المثنوية ، وهي مشتقة من مثنى ، لقولهم بقدم اثنين : النور والظلمة.

٢٤

قول النصارى (٧)

فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصّر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوّة عيسى عليه‌السلام ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصّر قسطنطين وهو أول من تنصر من ملوك الروم ، فقال أوائل النسطورية أن عيسى هو الله ، وقال أوائل اليعاقبة أنه ابن الله ، وقال أوائل الملكانية أن الآلهة ثلاثة احدهم عيسى. ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس ودفعته العقول ، فقالوا أن الله تعالى جوهر واحد هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس ، وأنها واحدة في الجوهرية وأن أقنوم الأب هو الذات وأقنوم الابن هو الكلمة وأقنوم روح القدس هو الحياة ، واختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم : هى خواص وقال بعضهم : هي أشخاص ، وقال بعضهم. هي صفات وقالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى واختلفوا في الاتحاد فقال النسطورية معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت حتى جعلته هيكلا وأن المسيح جوهران أقنومان أحدهما إلهي والآخر إنساني فلذلك صح منه الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام وإحياء الموتى والأفعال الإنسانية من الأكل والشرب.

__________________

(٧) لقد تجاوز المؤلف رحمه‌الله قول الأريوسية أي آريوس وأتباعه الذين ذكرهم الرسول الكريم في رسالته إلى قيصر ملك الروم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإن عليك إثم الأريسيين ،» الذين قالوا بأن المسيح هو الكلمة ، كلمة الله وأن الكلمة محدثة أي أنها مخلوق من مخلوقات الله وأن المسيح بالتالي نبي من الأنبياء فقط ، وأنه إنسان.

لكن بعد اتفاق بعض البطاركة والمطارنة مع الملك قسطنطين الأول على جعل المسيحية دين الدولة الرومانية مقابل بعض التعديلات في أسس لعقيد المسيحية وقد تطورت هذه التعديلات حتى وصلت إلى فكرة التثليث في مجمع نيقيا أي أنها تبنت الديانة الوثنية الرومانية القائلة بثلاثية الألوهة زفس ـ كرونوس ـ جوبيتر بتسمية جديدة الأب ، الابن ، الروح القدس.

وقول الوثنية الرومانية بأن هيرا آلهة الأرض وأم الإله ألبسوه للعذراء مريم.

وقد أبيد الأريوسيين وحرموا وكفّروا واضطهدوا حيثما وجدوا ، أما الذين سبق أن قتلتهم الوثنية الرومانية منهم قبل تبني الدولة لمسيحية التثليث فاعتبرتهم الكنيسة شهداء وقديسين لكنها حرّمت كتبهم مدعية أن فيها كفرا وهرطقة فتأمل.

٢٥

وقال اليعاقبة : الاتحاد هو الممازجة حتى صار منها شيء ثالث نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا هو المسيح وهو جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي.

وقال الملكانية : المسيح جوهران أقنوم واحد ، وليس لهذا المذهب شبهة تقبلها العقول وفسادها ظاهر في المعقول.

أما قولهم أن الله تعالى جوهر فقد دللنا على حدوث الجواهر فاستحال أن يكون القديم جوهرا.

وأما قولهم أنه ثلاثة أقانيم فإن جعلوها أشخاصا قالوا بالتثليث وامتنعوا من التوحيد وقد دللنا على أن القديم واحد وإن جعلوا الأقانيم خواص وصفات لذات واحدة فقد جعلوه أبا وابنا من جوهر أبيه فشركوا بينهما في الجوهر الإلهي وفضلوه على الأب بالجوهر الإنساني فلم يكن مع اشتراكهما في الإلهي أن يتولد من الأب بأولى أن يتولد منه الأب مع تفضيله بالجوهر الإنساني. وكيف يكون قديما ما تولد عن قديم وإنما ظهرت منه الأفعال الإلهية لأنها من قبل الله تعالى إظهارا لمعجزته وليست من فعله كفلق البحر لموسى عليه‌السلام وليس ذلك من إلهية موسى وقولهم جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي فناسوت المسيح كناسوت غيره من الأنبياء وقد زال ناسوته فبطل لاهوته.

معنى الوحدانية

فإذا ثبت أن الله تعالى واحد قديم فقد اختلف في معنى وحدانيته فقالت طائفة المراد بأنه واحد وأن جميع المحدثات منسوبة إلى قدرة واحدة أحدث القادر بها جميع المحدثات.

وقالت طائفة أخرى : المراد به نفي القسمة عن ذاته واستحال التبعض والتجزئة في صفته.

وقال الجمهور وهو المذهب المشهور أنه واحد الذات قديم الصفات تفرد بالقدم عن شريك مماثل واختص بالقدرة عن فاعل معادل لا شبه لذاته تنتفي

٢٦

عنه الحوادث والأعراض ولا تناله المنافع والمضار ولا ينعت بكل ولا بعض ولا يوصف بمكان يحل فيه أو يخلو منه لحدوث الأمكنة واستحالة التجزئة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٨) كما وصف نفسه في كتابه ودلت عليه آثار صنعته وإتقان حكمته.

وقد سئل علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه عن العدل والتوحيد فقال : التوحيد أن لا تتوهمه (٩) والعدل أن لا تتهمه (١٠) ففصح بما بهر إيجازه وقهر إعجازه. وقد لحظ دلائل التوحيد من السعداء من قال :

أيا عجبا كيف يعصى الإلـ

ـه أم كيف يجحده جاحد

وفي كل شيء له شاهد

دليل على أنه واحد

__________________

(٨) سورة الشورى الآية (١١).

(٩) أي أن تؤمن بوحدانية الله إيمانا مطلقا غير قابل للنقاش ولا للسؤال.

(١٠) أي أن تسلم تسليما مطلقا تسليم العبد الطائع القابل دون اعتراض لأحكام سيده ولا سؤال عن السبب والنتيجة.

٢٧
٢٨

الباب الثالث

في صحة التكليف

تعريفات

التكليف هو إلزام ما ورد به الشرع تعبدا وهو نوعان :

أحدهما : ما تعلق بحقه من أمر بطاعة (١) ونهي عن معصية (٢).

والثاني : ما تعلق بحقوق عباده من تقدير الحقوق وتقرير العقود ليكونوا مدبرين بشرع مسموع ومنقادين لدين متبوع فلا تختلف فيه الآراء ولا تتبع فيه الأهواء ، وليعلموا به ابتداء النشأة وانتهاء الرجعة ، فتصلح به سرائرهم الباطنية ، وتخشع له قلوبهم القاسية ، وتجتمع به كلمتهم المتفرقة ، وتتفق عليه أحوالهم المختلفة ، ويسقط به تنازعهم في الحقوق المتجاذبة ، ويكونوا على رغب في الثواب يبعثهم على الخير ، ورهب من العقاب يكفهم عن الشر ، وهذه أمور لا يصلح الخلق إلّا عليها ولا يوصل بغير الدين المشروع إليها ، إذ ليس في طباع البشر أن يتفقوا على مصالحهم من غير وازع ولا يتناصفوا في الحقوق من غير دافع لحرصهم على اختلاف المنافع ، وبهذا يفسد ما ذهبت إليه البراهمة من الاقتصار على قضايا العقول وإبطال التعبد

__________________

(١) إيجاب الطاعات والقيام بها.

(٢) نفي المحرمات والمكروهات وترك العمل بها.

٢٩

بشرائع الرسل ، فالتكليف حسن في العقول إذا توجه إلى من علمت معصيته واستحسنه المعتزلة لأن فيه تعريضا للثواب ولم يستحسنه الأشعرية لأنه بالمعصية معرض للعقاب ، والأول أشبه بمذهب الفقهاء وإن لم يعرف لهم فيه قول يحكى ، واختلف في التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح فالذي عليه أكثر الفقهاء أنه معتبر بالأصلح لأن المقصود به منفعة العباد.

وذهب فريق من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من مصلحة وغيرها لأنه مالك لجميعها فمن اعتبر الأصلح منع من تكليف ما لا يطاق ومن اعتبره بالمشيئة جوز تكليف ما لا يطاق ويصح تكليف ما لحقت فيه المشقة المحتملة واختلف في صحة التكليف فيما لا مشقة فيه فجوزها الفقهاء ومنع منها بعض المتكلمين ، وقد ورد التعبد بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة وليس فيه مشقة وإذا اعتبر التكليف بالاستطاعة لم يتوجه إلى ما خرج عن الاستطاعة واختلف في المانع منه فقال فريق منع منه العقل لامتناعه فيه ، وقال فريق منع منه الشرع وإن لم يمنع منه العقل بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣).

وجوب التكليف

فإذا تقرر شروط التكليف مع كونه حسنا فقد اختلف في وجوبه ، فأوجبه من اعتبر الأصلح وجعله مقترنا بالعقل لأنه من حقوق حكمته ، ولم يوجبه من حمله على الإرادة لأن الواجب يقتضي علوّ الموجب ، وهذا منتف عن الله تعالى ، واختلف من قال بهذا في تقدم العقل على الشرع.

فقال فريق : يجوز أن يقترن بالعقل ويجوز أن يتأخر عنه بحسب الإرادة ولا يجوز أن يتقدم على العقل لأن العقل شرط في لزوم التكليف.

وقال فريق : بل يجب أن يكون التكليف واردا بعد كمال العقل ولا يقترن به كما يتقدم عليه لقول الله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ

__________________

(٣) سورة البقرة من الآية (٢٨٦).

٣٠

سُدىً) (٤) وهذه صفة متوجهة إليه بعد كمال عقله.

شرعية التكليف

وقد استقر بما قدمناه أن التكليف الشرعي ما تضمنه الأوامر والنواهي في حقوق الله تعالى وحقوق عباده والمأمور به ضربان واجب وندب ، فالواجب ما وجب أن يفعل والندب ما الأولى أن يفعل والمنهى عنه ضربان مكروه ومحظور ، فالمحظور ما وجب تركه ، والمكروه ما الأولى تركه ، فأما المباح فما استوى فعله وتركه فلا يجب أن يفعل ولا الأولى أن يفعل ولا يجب أن يترك ولا الأولى أن يترك ، واختلف في دخول المباح في التكليف ، فذهب بعض أصحاب الشافعي رحمه‌الله إلى دخوله في التكليف. واختلف قائل هذا هل دخل فيه بإذن أو بأمر على وجهين :

أحدهما : بإذن ليخرج حكم الندب.

والثاني : بأمر دون أمر الندب كما أن أمر الندب دون أمر الواجب وذهب آخرون من أصحاب الشافعي رحمه‌الله إلى خروجه من التكليف بإذن أو أمر لاختصاص التكليف بما تضمنه ثواب أو عقاب واتفقوا في المباح أنه لا يستحق عليه حمد ولا ذم ويخرج عن القبيح واختلفوا في دخوله في الحسن فأدخله بعضهم فيه وأخرجه بعضهم منه.

الأمر والإرادة

والأمر بالتكليف هو استدعاء الطاعة بالانقياد للفعل واختلفوا في اقتران الإرادة به هل يكون شرطا في صحته ، فذهب الأشعري إلى أن الإرادة غير معتبرة فيه ويجوز أن يأمر بما لا يريده ويكون أمرا كالذي يريده ، وذهب المعتزلة إلى أنه لا يكون أمرا إلّا بالإرادة ، فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمرا. واختلفوا هل تعتبر إرادة الأفراد إرادة المأمور به فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق به واعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به والذي عليه جمهور الفقهاء أن الأمر دليل على

__________________

(٤) سورة القيامة الآية (٣٦).

٣١

الإرادة وليست الإرادة شرطا في صحة الأمر. وإن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة ولا يستدل بالإرادة على الأمر.

شروط صحة الأمر

ومن صحة الأمر أن يكون بما لا يمنع منه العقل فإن منع منه العقل لم يصح الأمر به لخروج التكليف عن محظورات العقول واختلف هل يعتبر صحته بحسنه في العقل فاعتبره فريق وأسقطه فريق. وإذا لم يكن يستوعب نصوص الشرع قضايا العقول كلها جاز العمل بمقتضى العقل فيها واختلف في إلحاقها بأحكام الشرع فألحقها فريق بها وجعلها داخلة فيها لأن الشرع لا يخرج عن مقتضاها وأخرجها فريق منها وإن جاز العمل بها كالمشروع لأن الشرع مسموع والعقل متبوع.

وقت الأمر

والأمر يكون بالقول أو ما قام مقام القول إذا عقل منه معنى الأمر واختلف فيه متى يكون أمرا. فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت القول ويتقدم على الفعل وذهب شاذ من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت الفعل وما تقدمه من القول إعلام بالأمر وليس بأمر وهذا فاسد لأن الفعل يجب بالأمر فلو لم يكن ما تقدمه أمرا لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر.

أبواب الأمر

والأمر ضربان : أمر اعلام (٥) وأمر إلزام (٦) فأما أمر الإعلام فمختص بالاعتقاد دون الفعل ويجب أن يتقدم الأمر على الاعتقاد بزمان واحد وهو وقت

__________________

(٥) كالأمر بالإحسان إلى الفقراء والمساكين مثلا وتركه ترك لخير وثواب ولا عقاب على تاركه.

(٦) كالأمر بأداء الزكاة وتركه معصية وموجب للعقاب.

٣٢

العلم به ، وأما أمر الإلزام فمتوجه إلى الاعتقاد والفعل فيجمع بين اعتقاد الوجوب وإيجاد الفعل ولا يجزئه الاقتصار على أحدهما فإن فعله قبل اعتقاد وجوبه لم يجزه وإن اعتقد وجوبه ولم يفعله كان مأخوذا به ولا يلزم تجديد الاعتقاد عند فعله إذا كان على ما تقدم من اعتقاده لأن الاعتقاد تعبد التزام والفعل تأدية مستحق ، ويجب أن يتقدم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد واختلف في اعتبار تقديمه بزمان التأهب للفعل على مذهبين :

أحدهما : وهو قول شاذ من الفقهاء يجب تقديمه على الفعل بزمانين.

أحدهما : زمان الاعتقاد.

والثاني : زمان التأهب للفعل وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة قبل الفعل.

والمذهب الثاني : وهو قول جمهور الفقهاء يعتبر تقديم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد وحده والتأهب للفعل شروع فيه فلم يعتبر تقدمه عليه ، وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة مع الفعل.

٣٣
٣٤

الباب الرابع

في إثبات النبوّات

الأنبياء عليهم‌السلام

والأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده بأوامره ونواهيه ، زيادة على ما اقتضته العقول من واجباتها وإلزاما لما جوّزته من مباحاتها ، لما أراده الله تعالى من كرامة العاقل وتشريف أفعاله واستقامة أحواله وانتظام مصالحه ، حين هيأه للحكمة وطبعه على المعرفة ، ليجعله حكيما وبالعواقب عليما ، لأن الناس بنظرهم لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون لعواقب أمورهم بغرائزهم ولا ينزجرون مع اختلاف أهوائهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين وأخبار القرون الماضين ، فتكون آداب الله فيهم مستعملة وحدوده فيهم متبعة وأوامره فيهم ممتثلة ووعده ووعيده فيهم زاجرا وقصص من غبر من الأمم واعظا فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع والمعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان استمدتها العقول فزاد علمها وصح فهمها وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا وأكثرهم تفكرا أكثرهم علما وأكثرهم علما أكثرهم عملا فلم يوجد عن بعثة الرسل معدل ولا منهم في انتظام الحق بدا.

منكر والنبوة

وأنكر فريق من الأمم نبوّات الرسل وهم فيها ثلاثة أصناف :

أحدها : ملحدة دهرية يقولون بقدم العالم وتدبير الطبائع فهم بإنكار المرسل أجدر أن يقولوا بإنكار الرسل.

٣٥

والصنف الثاني : براهمة موحدة (١) يقولون بحدوث العالم ويجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات وهم المنسوبون إلى بهر من صاحب مقالتهم وشذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر ومنهم من قال هو إبراهيم ومن قال من هذه الفرقة الشاذة منهم أنه أحد هذين أقر بنبوتهما وأنكر نبوّة من سواهما وجمهورهم على خلاف هذه المقالة في اعتزائهم لصاحب مقالتهم وإنكار جميع النبوّات عموما.

والصنف الثالث : فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوّات في الظاهر وهم مبطلوها في تحقيق قولهم ، لأنهم يقولون أن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية من الفلسفة والهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعا.

إختلاف منكر والنبوة وبطلان حججهم

واختلف من أبطل النبوّات في علة إبطالها فذهب بعضهم إلى أن العلة في إبطالها أن الله تعالى قد أغنى عنها بما دلت عليه العقول من لوازم ما تأتي به الرسل وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أنه لا يمنع ما دلت عليه العقول جواز أن تأتي به الرسل وجوبا ولو كان العقل موجبا لما امتنع أن تأتي به الرسل وجوبا ، ولو كان العقل موجبا ، لما امتنع أن تأتي به الرسل تأكيدا كما تترادف دلائل العقول على التوحيد ، ولا يمنع وجود بعضها من وجود غيرها.

والثاني : أنه لا تستغني قضايا العقول عن بعثة الرسل من وجهين :

أحدهما : أن قضايا العقول قد تختلف فيما تكافأت فيه أدلتها فانحسم ببعثة الرسل اختلافها.

والثاني : أنه لا مدخل للعقول فيما تأتي به الرسل من الوعد والوعيد والجنة والنار وما يشرعونه من أوصاف التعبد الباعث على التأله فلم يغن عن

__________________

(١) ومنهم من يقول بأن إدراك وحدانية الله تدرك بالعقل وجحدوا النبوات وادعوا أن العبادة إنما تكون بالقلب لا بالأفعال.

٣٦

بعثة الرسل ، وذهب آخرون منهم إلى أن العلة في إبطال النبوّات أن بعثة الرسل إلى من يعلم من حاله أنهم لا يقبلون منهم ما بلّغوه إليهم عبث يمنع من حكمة الله تعالى وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أنه ليس بعبث أن يكون فيهم من لا يقبله كما لم يكن فيما نصبه الله تعالى من دلائل العقول على توحيده عبثا وإن كان منهم من لا يستدل به على توحيده كذلك بعثة الرسل.

والثاني : أن وجود من يقبله فيهم على هذا التعليل يوجب بعثة الرسل وهم يمنعون من إرسالهم إلى من يقبل ومن لا يقبل فبطل هذا التعليل ، وقال آخرون منهم : بل العلة فيه أن ما جاء به الرسل مختلف ينقض بعضه بعضا ، ونسخ المتأخر ما شرعه المتقدم. وقضايا العقول لا تتناقض فلم يرتفع بما يختلف ويتناقض وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن ما جاء به الرسل ضربان :

أحدهما : ما لا يجوز أن يكون إلّا على وجه واحد وهو التوحيد وصفات الرب والمربوب ، فلم يختلفوا فيه وأقوالهم متناصرة عليه.

والضرب الثاني : ما يجوز أن يكون من العبادات على وجه ويجوز أن يكون على خلافه ويجوز أن يكون في وقت ولا يجوز أن يكون في غيره وهذا النوع هو الذي اختلفت فيه الرسل لاختلاف أوقاتهم إما بحسب الأصلح وإما بحسب الإرادة وهذا في قضايا العقول جائز.

والوجه الثاني : أن قضايا العقول قد تختلف فيها العقلاء ولا يمنع ذلك أن يكون العقل دليلا كذلك ما اختلف فيه الرسل لا يمنع أن يكون حجة.

وقال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوّات أنه لا سبيل إلى العلم بصحتها لغيبها وأن ظهور ما ليس في الطباع من معجزاتهم ممتنع الطباع الدافعة لها فهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن المعجزات من فعل الله تعالى فيهم فخرجت عن حكم طباعهم.

٣٧

والثاني : أنهم لما تميزوا بخروجهم عن الطباع من الرسالة تميزوا بما يخرج عن عرف الطباع من الإعجاز.

وقال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوّات أن ما يظهرونه من المعجز الخارج عن العادة قد يوجد مثله في أهل الشعبذة (٢) والمخرقة وأهل النار نجيات وليس ذلك من دلائل صدقهم فكذلك أحكام المعجزات ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن الشعبذة تظهر لذوي العقول وتندلس على الغر الجهول فخالفت المعجزة التي تذهل لها العقول.

والثاني : أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئا (٣) لمن أحسنها ويعارضها بمثلها والمعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها ولا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصى موسى حية تسعى تلقف ما أفكه السحرة فخرّوا له سجدا ، ولئن كان في إبطاله هذه الشبهة دليل على إثباتها فيستدل على إثبات النبوّات من خمسة أوجه وإن اشتملت تلك الأجوبة على بعضها.

أحدها : أن الله تعالى منعم على عباده بما يرشدهم إليه من المصالح ولما كان في بعثة الرسل ما لا تدركه العقول كان إرسالهم من عموم المصالح التي تكفل بها.

والثاني : أن فيما تأتي به الرسل من الجزاء بالجنة ثوابا على الرغبة في فعل الخير ، وبالنار عقابا يبعث على الرهبة في الكف عن الشر ، صارا سببا لائتلاف الخلق وتعاطي الحق.

والثالث : أن في غيوب المصالح ما لا يعلم إلّا من جهة الرسل فاستفيد

__________________

(٢) الشعبذة : الشعوذة وأعمال السحر وخفة اليد والسيمياء الذي يهدف إلى التأثير على المشاهد لجعله يرى ما لا يوجد أمامه فعلا.

(٣) مكافئا : مساويا في الخبرة والقدرة على أداء نفس الأمر.

٣٨

بهم ما لم يستفد بالعقل (٤).

والرابع : أن التأله لا يخلص إلّا بالدين ، والدين لا يصلح إلّا بالرسل المبلغين عن الله تعالى ما كلف.

والخامس : أن العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء ومتابعة النظراء ، فلم يجمعهم عليه إلّا طاعة المعبود فيما أداه رسله فصارت المصالح بهم أعم والإتقان بهم أتم والشمل بهم أجمع والتنازع بهم أمنع ، ويجوز إثبات التوحيد والنبوّات بدقيق الاستدلال كما يجوز بجليه ، فإن ما دق في العقول هو أبلغ في الحكمة وقد تلوّح لابن الرومي هذا المعنى فنظمه في شعره فقال :

غموض الحق حين يذب عنه

يقلل ناصر الخصم المحق

يجل عن الدقيق عقول قوم

فيقضي للمجل على المدق

جواز النبوات

فإذا ثبت جواز النبوّات وبعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل ، ومنع قوم من مثبتي النبوّات أن تكون نبوّتهم عن خطاب أو نزول ملك لانتفاء المخاطبة الجسمانية عنه تعالى لأنه ليس بجسم ، والملائكة من العالم العلوي بسيط لا تهبط كما أن العالم السفلي كثيف لا يعلو واختلف من قال بهذا فيما جعلهم به أنبياء فقال بعضهم : صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحي ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد كان إبطال المعارف به في النبوّة أحق.

والثاني : أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق والمبطل ، فإن ميزوا بينهما طلبت أمارة (٥) ، وإن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام.

__________________

(٤) وهو الشرع والطاعات والعبادات والمحرّمات.

(٥) أمارة : علامة أو دليل.

٣٩

وقال آخرون منهم : إنما صاروا أنبياء لأن لله تعالى في العالم خواص وأسرارا تخالف مجرى الطبائع ، فمن أظفره الله تعالى بها من خلقه استحق بها النبوّة ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : خفاؤها فيه غير دليل على صدقه.

والثاني : أنه يكون نبيا عن نفسه لا عن ربه فصار كغيره.

وقال آخرون : بل صاروا أنبياء لأن الله تعالى خصهم من كمال العقول بما يتوصلون به إلى حقائق الأمور ، فلا يشتبه عليهم منها ما يشتهيه على غيرهم فصاروا أنبياء عن عقولهم لا عن ربهم ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن هذا يقتضي فضل العلم في حقه ولا يقتضيه في حق غيره.

والثاني : أنه إن أخبر عن نفسه لم يكن رسولا ، وإن أخبر عن ربه كان كاذبا.

وقال آخرون : إنما صاروا أنبياء لأن النور فيهم صفا ونما بالنور الأعظم الإلهي الذي تخلص به الإفهام وتصح به الأوهام حتى ينتقلوا إلى الطباع الروحانية ويزول عنهم كدر الطباع البشرية فيخرجوا عن شبح الكائنات بصفاء نورهم وخلاصهم ، وهذا قول الثنوية وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أنهم دفعوا أسهل الأمرين من بعثة الرسل بأغلظهما من إعطاء نوره وأولى أن يدفعوا عن الأغلظ بما دفعوا به عن الأسهل.

والثاني : أنهم أثبتوا به ممازجة الباري سبحانه فيما اختص بذاته ، ومخالفة الذات تمنع من ممازجته.

والجواب عما قالوه من امتناع المخاطبة الجسمانية عمن ليس بجسم من وجهين :

أحدهما : أنه لا يمتنع أن يظهر منه كخطاب الأجسام وإن لم يكن جسما كما يظهر منه كأفعال الأجسام وإن لم يكن جسما.

والثاني : أن الله تعالى يجوز أن يودع خطابه في الأسماع حتى تعيه الآذان

٤٠