أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

طهارة مولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وأما طهارة مولده فإن الله تعالى استخلص رسوله من أطيب المناكح وحماه من دنس الفواحش ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة ، وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تأويل قول الله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (١٣) أي تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلتك نبيا ، وقد كان نور النبوة في آبائه ظاهرا.

حكي أن كاهنة بمكة يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية قرأت الكتب فمر بها عبد المطلب ومعه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب فرأت نور النبوة في وجه عبد الله ، فقالت : هل لك أن تغشاني وتأخذ مائة من الإبل؟

فعصمه الله تعالى من إجابتها وقال لها :

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فاستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه

فلما تزوجت به آمنة وحملت منه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : هل لك فيما قلت ، فلم تر ذلك النور في وجهه ، فقالت له : قد كان ذلك مرة فاليوم لا ، ما ذا صنعت؟ فقال : زوجني أبي آمنة بنت وهب الزهرية ، فقالت : قد أخذت النور الذي كان في وجهك ، وأنشأت تقول :

الآن قد ضيعت ما كان ظاهرا

عليك وفارقت الضياء المباركا

غدوت عليّ خاليا فبذلته

لغيري هنيا فألحقن بنسائكا

ولا تحسبن اليوم أمس وليتني

رزقت غلاما منك في مثل حالكا

وداخلها الأسف على ما فاتها والحسرة على ما تولى عنها فحسدت آمنة على ما صار لها فأنشأت تقول :

إني رأيت مخيلة نشأت

فتلألأت كتلألؤ الفجر

ولما بها نور يضيء به

ما حولها كإضاءة البدر

__________________

(١٣) سورة الشعراء الآية (٢١٩).

٢٠١

ورأيتها متبينا شرفا

ما كل قادح زنده يوري

لله ما زهرية سلبت

ثوبيك ما استلبت وما تدري

وأنذرت بني هاشم فقالت :

بني هاشم قد غادرت من أخيكم

أمينة إذ للباه يعتلجان

كما غادر المصباح بعد خموده

قتائل قد ميثت له بدهان

وما كل ما يحوي الفتى من بلاده

لحزم ولا ما فاته لتوان

فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه

سيكفيكه جدان يعتلجان

ولما حوت منه أمينة ما حوت

منه فخارا ما لذلك ثان

سيكفيكه إما يد منغلة

وإما يد مبسوطة لبنان

وهذا من آيات الله تعالى في رسوله إن عصم أباه حين كان في ظهره أن يضعه من سفاح حتى وضعه من نكاح ثم زالت العصمة بعد وضعه حتى عرض بالطلب بعد أن كان مطلوبا ورغب فيه بعد أن كان مرغوبا ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه ليكون مختصا بنسب جعله الله تعالى للنبوّة غاية ولتفرده بها آية فيزول عنه أن يشارك فيه ويماثل به فلذلك مات أبواه عنه في صغره فأما أبوه عبد الله فمات عنه بمكة وهو حمل وأما آمنة فماتت عنه بالمدينة وهو ابن ست سنين لأنها رحلت إليها لزيارة أخوالها من بني النجار فماتت عندهم ، وإذا خبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام سادوا ورأسوا لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ليس في آبائه خامل مسترذل ولا مغمور مستذل ، كلهم سادة قادة ، وهم أخص الناس بالمناكح الطاهرة حتى تحرجوا من نكاح المحارم وإن استباحه غيرهم من العرب حتى حكي أن حاجب بن زرارة وهو سيد بني تميم نكح بنته وأولدها ، وقد كان سماها دختنوس باسم بنت كسرى ، وقال فيها حين نكحها مرتجزا :

٢٠٢

يا ليت شعري عنك دختنوس

إذا أتاها الخبر المرموس

أتسحب الذيلين أم تميس

لا بل تميس أنها عروس

وهذا في قريش من الفواحش. وفي التوراة أن لوطا نكح بنتين له فولدتا غلامين ولهما ذرية كبيرة ، ولوط هو ابن أخي إبراهيم الخليل ، وقد تزوج إبراهيم بنت أخيه سارة بنت هاران بن تارخ ، فتنزهت قريش من هذه المناكح حفظا لحرمة الأرحام الدانية أن تنتهك بالمناكح العاهرة فتضعف الحمية وتقل الغيرة.

فإن قيل : يشارك الأنبياء في شرف النسب وطهارة المولد غيرهم فلم يستحق بهما النبوّة.

قيل : هما من شروط النبوة وإن استحقت غيرهما فلم يمتنع أن يكون لهما في النبوة تأثير معتبر ووصف مختبر.

٢٠٣
٢٠٤

الباب التاسع عشر

في آيات مولده وظهور بركته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

آيات الملك باهرة وشواهد النبوة قاهرة تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب بصدق ولا منتحل بمحقّ ، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعاطرت آيات نبوّته وظهرت آيات بركته فكان من أعظمها شأنا وأظهرها برهانا وأشهرها عيانا وبيانا أصحاب الفيل أنفذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة ، واختلف في سببه فذكر قومه أن إبراهيم بن الصباح استولى على اليمن معتزيا إلى النجاشي فبنى بصنعاء اليمن كنيسة للنصارى واستعان في بنيانها بقيصر والنجاشي حتى بناها في تشييدها وحسنها ليعدل بالعرب عن حج الكعبة إليها ، فأنكرته العرب ودخل إلى هيكلها بعض بني كنانة من قريش فأحدث فيها فكتب إلى النجاشي يستمده بالفيل وجيش الحبشة ليغزو قريشا ويهدم الكعبة فسار بهم وأخذ أبا رغال من الطائف دليلا إلى مكة حتى أنزله بالمغمس ومات أبو رغال بالمغمس فدفن فيه فرجمت العرب قبره ، فهو القبر المرجوم بالمغمس.

وقال آخرون : بل سببه أن نفرا من تجار قريش مروا ببيعة للنصارى على شاطئ البحر فنزلوا بفنائها وأوقدوا نارا لعمل طعامهم فاحترقت البيعة فأقسم النجاشي ليسبين مكة وليهد من الكعبة ، فأنفذ جيشه والفيل مع إبراهيم بن الصباح وأبو مكسوم وحجر بن شراحيل والأسود بن مقصود ، وكان النجاشي

٢٠٥

هو الملك وأبرهة صاحب جيشه على اليمن وأبو مكسوم وزيره وحجر والأسود من قواده فساروا بالجيش مع الفيل حتى نزلوا بذي المجاز وتقدمهم الأسود بن مقصود فاستاق سرح مكة ، فقال فيه عبد الله بن مخزوم :

لا هم اخز الأسود بن مقصود

الآخذ الهجمة بعد التقليد

ويهدم البيت الحرام المعبود

والمروتين والمشاعر السود

اخزهم يا رب وأنت معبود

كان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب وقد قلد بعضها فخرج وكان وسيما جسيما إلى أبرهة وسأله في إبله ، فقال له أبرهة : قد كنت أعجبتني حين رأيتك وقد زهدت الآن فيك ، قال : ولم؟ قال : جئت لأهدم الكعبة بيتا هو دينك ودين آبائك فلم تسألني فيه وسألتني في إبلك ، فقال عبد المطلب : أنا رب إبلي وللبيت رب غيري سيمنعه منك ، فقال أبرهة : ما كان ليمنعه مني ، ورد على عبد المطلب إبله مستهزئا ليعود فيأخذها ، فأحرزها عبد المطلب في جبال مكة وأتى الكعبة فأخذ حلقة الباب وجعل يقول :

يا رب إن المرء يم

نع حله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم أبدا محالك

إن كنت تاركهم وكع

بتنا فأمر ما بدا لك

فلئن فعلت فإنه

أمر يتم به فعالك

اسمع بارجس من أرا

دوا العدو وانتهكوا حلالك

جروا جميع بلادهم

والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم

جهلا وما رقبوا جلالك

وتوجه الجيش إلى مكة من طريق منى والفيل معهم إذا بعث على الحرم أحجم وإذا أعدل عنه أقدم فوقعوا بالمغمس ، فقال أبو الطيب بن مسعود في ذلك وقيل بل قاله عبد المطلب :

إن آيات ربنا ساطعات

ما يماري بها إلّا الكفور

حبس الفيل بالمغمس حتى

مر يعوي كأنه معقور

٢٠٦

وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر ، فقال عبد المطلب. إن هذه غريبة بأرضنا ما هي نجدية ولا تهامية ولا حجازية وإنها لأشباه اليعاسيب ، وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة ، فلما أظلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا فأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى اليمن فمات في طريقه بعد أن كان يسقط من جسده عضو عضو حتى هلك ، ولما تأخر القوم عنهم واستعجم خبرهم عليهم قال عبد المطلب :

يا رب لا نرجوا لهم سواكا

يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا

امنعهم أن يخربوا قراكا

وبعث ابنه عبد الله ليأتيه بخبرهم فوجد جميعهم قد شدختهم الأحجار حتى هلكوا ، فعاد راكضا إلى عبد المطلب وأصحابه وأخذوا أموالهم ، فكانت أول أموال بني عبد المطلب ، فأنشأ مرتجزا يقول :

أنت منعت الجيش والأفيالا

وقد رعوا بمكة الأخيالا

وقد خشينا منهم القتالا

وكل أمر لهم معضالا

شكرا وحمدا لك ذا الجلالا

وآية الرسول من قصة الفيل : أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل وبعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ووافق من شهور الروم العشرين من شباط في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنو شروان.

وحكى أبو جعفر الطبري أن مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنو شروان (فكانت آيته) في ذلك من وجهين :

أحدهما : أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا ووليدا.

والثاني : أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو ثائل

٢٠٧

بالزندقة أو مانع من الرجعة (١) ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.

فإن قيل : فكيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكا ولم يمنع الحجّاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها ، فقال فيها على ما حكي عنه :

كيف تراه ساطعا غباره

والله فيما يزعمون جاره

وقال راميها بالمنجنيق :

قطارة مثل الفنيق المزبد

أرمي بها أعواد كل مسجد

قيل : فعل الحجّاج كان بعد استقرار الدين فاستغنى عن آيات تأسيسه ، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنذر بهدمها فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية ، فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم.

ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم ، فزادوهم تشريفا وتعظيما ، وقامت قريش لهم بالوفادة والسدانة والسقاية ، والوفادة : مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون به طعاما للناس أيام منى ، فصاروا أئمة ديانين وقادة متبعين ، وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين.

وروى هشام بن محمد الكلبي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج في الجاهلية تاجرا إلى الشام فمرّ بزنباع بن روح وكان عشارا فأساء إليه في اجتيازه وأخذ مكسه فقال عمر بعد انفصاله :

متى ألف زنباع بن روح ببلدة

إلى النصف منها يقرع السن بالندم

ويعلم أنا من لؤي بن غالب

مطاعين في الهيجا مضاريب في التهم

فبلغ ذلك زنباعا فجهز جيشا لغزو مكة ، فقيل له : إنها حرم الله ما

__________________

(١) مانع من الرجعة : منكر للبعث والقيامة

٢٠٨

أرادها أحد بسوء إلّا هلك كأصحاب الفيل فكفّ زنباع ، فقال :

تمنى أخو فهر لقاي ودونه

قراطبة مثل الليوث الحواظر

فو الله لو لا الله لا شيء غيره

وكعبته راقت إليكم معاشري

لأقتل منكم كل كهل معمم

وأسبي نساء بين جمع الأباعر

فبلغ ذلك عمر رضوان الله تعالى عليه فأجابه وقال :

ألم تر أن الله أهلك من بغى

علينا قديما في قديم المعاشر

وأردى أبا مكسوم أبرهة الذي

أتانا مغيرا كالفنيق المخاطر

بجمع كثير يحرج العين وسطه

على رأسه تاج على رأس باكر

فما راعنا من ذلك العبد كيده

وكنا به من بين لاه وساخر

وقال سأبغي البيت هدما ولا أرى

بمكة ماش بين تلك المشاعر

فرداه رب العرش عنا رداءه

ولم ينجه إعظامه بالمرائر

فأهلكه والتابعين له معا

وأسرى به من ناصر ومسامر

وليس لنا فاعلم وليس لبيتنا

سوى الله من مولى عزيز وناصر

فدونك زرنا تلق مثل الذي لقوا

جميعهم من دار عين وحاسر

وكان شأن الفيل رادعا لكل باغ ودافعا لكل طاغ وقد عاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل منهم حكيم ابن حزام وحاطب بن عبد العزى ونوفل بن معاوية لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين منها ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام.

مولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ولما حملت آمنة بنت وهب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثت أنها أتيت ، فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا ورأيت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى من أرض الشام.

قالت أم عثمان بن العاص شهدت ولادة آمنة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ليلا فما شيء أنظر إليه من البيت إلّا نور وإنني أنظر إلى النجوم تدنو وإني أقول لتقعن عليّ ولما وضعته تركت عليه في ليلة ولادته جفنة فانقلبت عنه فكان من آياته أن لم

٢٠٩

تحوه وأرسلت إلى جده عبد المطلب أن قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه فقيل إن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في جوف الكعبة فقام عنده يدعو ويشكر بما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها وقال : قد رأى فيه سمات المجد وتوسم فيه أمارات السؤدد أن محمدا لن يموت حتى يسود العرب والعجم وأنشأ يقول :

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردان

أعيذه بالواحد المنان

من كل ذي عيب وذي شنآن

حتى أراه شامخ البنيان

طفولته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ولم يزل موفور البركة على كل لائذ به وكافل له فروى جهم بن أبي الجهم عن عبد الله بن جعفر قال : لما ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمت حليمة بنت الحرث ابن عبد العزى تلتمس الرضعاء في سنة شيبة قالت ومعنا شارف والله ما يبض لنا بقطرة من لبن ومعي بني لي منه وما نجد في ثديي ما نعلله إلّا أنا نرجو الغيث وكانت لنا غنم فنحن نرجوها فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلّا عرض عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم تقبله وكرهناه ليتمه فأخذ كل صاحبي رضعاء ولم أجد غيره فأخذته وأتيت به رحلي فو الله إن هو إلّا أن ثبت في الرحل وأمسيت فأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت اخاه ، وقام أبوه إلى شارفنا تلك ليمسه بيده فإذا هي حافل فحلبها ما رواني من لبنها وروى الغلمان فقال : يا حليمة لقد أصبنا نسمة مباركة ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا فركبت أتاني وحملته معي فوالذي نفس حليمة بيده لقد طفت بالركب حتى أن النسوة ليقلن يا حليمة امسكي عنا أهذه أتانك التي خرجت عليها قلت نعم : فقلت والله إني لأرجو أن أكون قد حملت عليها غلاما مباركا قالت : فكان الله يزيدنا به في كل يوم خيرا وإن غنمنا لتعود من الرعي بطانا حفلا ، وتعود غنم الناس خماصا جياعا.

قال : فبينا هو يلعب خلف البيوت وأخوه في بهم لنا إذ أتاني أخوه يشتد فقال : إن أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثوبان أبيضان فأخذاه فأضجعاه

٢١٠

وشقا بطنه ، فخرجت أنا وأبوه فوجدناه قائما قد انتقع لونه فلما رآنا أجهش إلينا باكيا قالت فالتزمته أنا وأبوه وقلنا له ما لك فقال : جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني وصنعا بي يلم رداءه كما هو قال أنس بن مالك جاءه جبريل فصرعه ، فشق بطنه ، فاستخرج القلب ، ثم شق القلب فاستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه.

قال أنس : قد كنت أنظر إلى المخيط في صدره ، ثم إن زوج حليمة قال لها : يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك ، فاحتملته حليمة حتى قدمت به على أمه آمنة فقالت أمه ما أقدمك به يا ظئر ، قالت : قد قضيت الذي عليّ وتخوّفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين قالت : ما هذا شأنك ، فاصدقيني فأخبرتها حليمة بحاله وقالت : تخوّفت عليه الشيطان ، فقالت أمه كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وأن له لشأنا وأني رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى ووقع حين ولدته وأنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه في السماء دعيه فانطلقي راشدة وفي هذا الخبر من آياته ما تذعن النفوس بصحة نبوّته.

نشأته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وروى محمد بن إسحاق قال حدثني بعض أصحابنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لقد رأيتني وأنا غلام يفع بمكة مع غلمان قريش نحمل حجارة على أعناقنا وقد حملنا أزرنا فوطأنا على رقابنا إذ دفعني دافع ما أراه وقال : اشدد عليك إزارك ، فشددت إزاري ، وهذا من نذر الصيانة ليكون عليها ناشئا ولها آلفا

في كفالة أبي طالب

وروى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما هممت بشيء مما كان في الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة : لو أبصرت إلى غنمي حتى أدخل مكة فاسمر بها ما يسمر الشباب ، فقال ادخل ، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور

٢١١

مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فقلت ما هذا قالوا فلان بن فلان تزوج فلانة ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلّا مس الشمس ، قال فجئت صاحبي ، فقال ما فعلت ، فقلت : ما صنعت شيئا وأخبرته الخبر ، قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ، فقال افعل ، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذنيّ فو الله ما أيقظني إلّا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر ، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته». فهذه أحوال عصمته قبل الرسالة ، وصده عن دنس الجهالة ، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم ومن الأدناس أسلم وكفى بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة أن أمهل ومن الأتقياء البررة أن أغفل ومن أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة على النظرة ، وقد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص وطهره من الأدناس فانتفت عنه تهم الظنون وسلم من ازدراء العيون ليكون الناس إلى إجابته أسرع وإلى الانقياد له أطوع.

شبابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ولما نشأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قريش على أحمد هدى وصيانة وأكمل عفاف وأمانة سمّوه الأمين بعد اختباره وقدموه لفضله ووقاره ، وتشاوروا في هدم الكعبة وبنائها لقصر سمكها وكان فوق القامة وسعة حيطانها وكان يتهافت ، فأرادوا تجديدها وتعليتها وخافوا من الإقدام على هدمها وكان للكعبة كنز وجدوه عند دويك مولى لبني مليح من خزاعة وأخذته قريش منه وقطعت يده واتهموا به الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أن يكون قد تولى أخذه وأودعه عند دويك ، فنافروه إلى كاهنة من كهان العرب فسجعت عليه من كهانتها أن لا يدخل مكة عشر سنين بما استحل من حرمة الكعبة ، فكان يجول حول مكة حتى استوفى العشر ، وكان يظهر في الكعبة حية يخاف الناس منها لا يدنو منها أحد إلّا اخزألت وفتحت فاها فتوقوها إلى أن علت ذات يوم على جدار الكعبة فسقط طائر فاختطفها.

٢١٢

فقالت قريش : إنا لنرجوا أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، وكان البحر قد قذف سفينة على ساحل جدة لرجل من تجار الروم ، وكان بمكة نجار من القبط ، فهيأ لهم تسقيف الكعبة بخشب السفينة ، فلما أزمعوا على هدمها قام أبو وهب بن عمير وكان خال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذا شرف وقدر فأخذ حجرا من الكعبة فوثب الحجر من يده حتى عاد في موضعه ، فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّا طيبا ولا تدخلوا فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس ، وتصورت قريش أن عود الحجر من يد أبي وهب إلى موضعه أن الله تعالى قد كره هدمها فهابوه.

وقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول وقام عليها وهو يقول : اللهم لا نريد إلّا الخير ، ثم هدم الركنين فتربص الناس به تلك الليلة ، وقال : ننتظر فإن أصيب لم تهدم وإن لم يصب هدمناها وقد رضي ما صنعنا ، فأصبح الوليد من ليلته وعاد إلى عمله وتحاصت قريش الكعبة فكان شق البيت لبني عبد مناف وزهرة وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وتيم وقبائل انضمت إليه من قريش وكان شق الحجر والحطيم لبني عبد الدار وبني عبد العزّى وبني عدي وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم حتى انتهوا إلى الأساس فأفضوا إلى حجارة خضر قيل أنها كانت على قبر إسماعيل فضربوا المعول بين حجرين فلما تحركا انتقضت (٢) مكة بأسرها فكفوا وانتهوا إلى أصل الأساس وجمعت كل قبيلة حجارة ما هدمت وبنوا حتى انتهوا إلى ركن الحجر فتنازعت القبائل فيمن يضع الحجر في موضعه من الركن فأقبلوا حتى مكثوا أربع ليال أو خمسا ثم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا فقال أبو أمية بن المغيرة وكان أمين قريش في وقته : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول رجل يدخل من باب هذا المسجد. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : هذا محمد وهو الأمين ، فقالوا قد رضينا به ، لما قد استقر في نفوسهم من فضله وأمانته ، فلما وصل إليهم أخبروه ، فقال : ائتوني ثوبا ، فأتوه بثوب ، فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده وقال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب

__________________

(٢) انتقضت : ارتجت واهتزت.

٢١٣

وليرفعوه جميعا ففعلوا ، فلما بلغ الحجر إلى موضعه وضعه فيه بيده ، فكان هذا الفعل من مستحسن أفعاله وآثاره والرضاء به من أمارات طاعته.

وكان ذلك بعد عام الفجار بخمس عشرة سنة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة ، فكان ذلك تأسيسا لما يريده الله تعالى به من كرامته وتوطئة لقبول ما تحمله من رسالته والله أعلم بمغيب ما استأثر من علمه.

٢١٤

الباب العشرون

في شرف أخلاقه وكمال فضائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

المهيأ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل وأفضل الأعمال لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها ووافقها وتنفرد مما باينها وخالفها ، ولا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى وعباده تبعث على مصالح الخلق وطاعة الخالق فكان أفضل الخلق بها أخص وأكملهم بشروطها أحق بها وأمسّ ولم يكن في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما دانى طرفيه من قاربه في فضله ولا داناه في كماله خلقا وخلقا وقولا وفعلا وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١).

فإن قيل : فليست فضائله دليلا على نبوّته ولم يسمع بنبي احتج بها على أمته ولا عوّل عليها في قبول رسالته لأنه قد يشارك فيها حتى يأتي بمعجز يخرق العادة فيعلم بالمعجز أنه نبي لا بالفضل.

قيل : الفضل من أماراتها وإن لم يكن من معجزاتها ولأن تكامل الفضل معوز فصار كالمعجز ولأن من كمال الفضل اجتناب الكذب وليس من كذب في ادعاء النبوّة بكامل الفضل فصار كمال الفضل موجبا للصدق والصدق موجبا لقبول القول فجاز أن يكون من دلائل الرسل.

__________________

(١) سورة القلم الآية (٤).

٢١٥

وجوه كماله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

فإذا وضح هذا فالكمال المعتبر في الشر يكون من أربعة أوجه :

أحدها : كمال الخلق.

والثاني : كمال الخلق.

والثالث : فضائل الأقوال.

والرابع : فضائل الأعمال

اعتدال صورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

فأما الوجه الأول :

في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف.

أحدها : السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم الداعية إلى التقديم والتسليم وكان أعظم مهيب في النفوس حتى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياضهم (٢) بصولة الأكاسرة ومكاثرة الملوك الجبابرة فكان في نفوسهم أهيب وفي أعينهم أعظم وإن لم يتعاظم بأهبة ولم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفا وبالوطاء معروفا.

طلاقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والثاني : الطلاقة الموجبة للإخلاص والمحبة الباعثة على المصافاة والمودة وقد كان محبوبا ولقد استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتى لم يقله مصاحب (٣) ولم يتباعد منه مقارب وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب البارد على الظمأ.

ميل القلوب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والثالث : حسن القبول الجالب لممايلة القلوب حتى تسرع إلى طاعته

__________________

(٢) ارتياضهم : اعتيادهم من ارتاض أي عوّد نفسه وتدرّب.

(٣) يقله من القلى : المعاداة أو ترك الصحبة بسبب النفور.

٢١٦

وتذعن بموافقته ، وقد كان قبول منظره مستوليا على القلوب ولذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتى لم ينفر منه معاند ولا استوحش منه مباعد إلّا من ساقه الحسد إلى شقوته وقاده الحرمان إلى مخالفته.

ميل النفوس إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والرابع : ميل النفوس إلى متابعته وانقيادها لموافقته وثباته على شدائده ومصابرته فما شذ عنه معها من أخلص ولا ند عنه فيها من تخصص ، وهذه الأربعة من دواعي السعادة وقوانين الرسالة وقد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها واستحق ما يقتضيها.

الوجه الثاني في كمال أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وأما الوجه الثاني : في كمال أخلاقه فيكون بست خصال :

رجاحة عقله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إحداهن : رجاحة عقله وصحة وهمه وصدق فراسته ، وقد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه وصواب تدبيره وحسن تألفه وأنه ما استفعل في مكيدة ولا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الإعجاز في المبادي فيكشف عيوبها ويحل خطوبها وهذا لا ينتظم إلّا بأصدق وهم وأوضح جزم.

ثباته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشدائد

والخصلة الثانية : ثباته في الشدائد وهو مطلوب وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يجوز في شديدة ولا يشكين لعظيمة أو كبيرة ويقدر على الخلاص أو بالشر وهو لا يزداد إلّا اشتدادا وصبرا ، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهدد الصياصي وهو مع الضعيف يصابر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي.

وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد ولقد أتت عليّ

٢١٧

ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال».

وروى عبد الرحمن بن زيد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما شبع آل محمد من الشعير يومين حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى امتنع أن يريد به الدنيا وقد زويت عنه وما ذاك إلّا لطلب الآخرة ومستحيل ممن كذب في ادعائه إليها أن يستوحشها أو كذب على الله تعالى أن يثاب إليها.

زهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا

والخصلة الثالثة : زهده في الدنيا وإعراضه عنها وقناعته بالبلاغ (٤) منها فلم يمل إلى نضارتها ولم يله لحلاوتها.

وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة بن عبد الرحمن قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت أعطيت خزائن الأرض ما لم يعط أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك ولا ينقصك في الآخرة شيئا ، قال : «اجمعوها لي في الآخرة» ، فنزلت : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (٥).

وروى هلال بن أبي خباب عن عكرمة عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على حصير قد أثر في جسمه ، فقال له : يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوطأ من هذا ، فقال : «ما لي وللدنيا ما لي وللدنيا والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلّا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها».

وروى حميد بن بلال بن أبي بردة قال : أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء ملبدا وإزارا غليظا وقالت : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذين.

__________________

(٤) قناعته بالبلاغ منها أي بما بالكاد يسد الرمق.

(٥) سورة الفرقان الآية (١٠).

٢١٨

هذا وقد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق (٦) ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان (٧) وهو أزهد الناس فيما يقتني ويدخر وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر لم يخلف عينا ولا دينا ولا حفر نهرا ولا شيد قصرا ولم يورث ولده وأهله متاعا ولا مالا ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها.

وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه تريد الميراث فمنعها ، فقالت : من يرثك ، قال : ولدي وأهلي ، فقالت : فلا ترث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنته؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنا لا نورث ما تركنا فهو صدقة» ، فمن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوله ، فأنا أعوله ، ومن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق عليه فأنا أنفق عليه.

وحث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الزهد في الدنيا والإعراض عن التلبس بها ليكون عونا على السلامة من تباعتها وصرف النفوس عن شهواتها.

وروى عبد المطلب بن حاطب عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب دنياه أضر بآخرته فآثروا ما يبقى على ما يفنى».

وروي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

وروى أبو حكيم عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت» (٨).

وروى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عجبا كل العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور».

__________________

(٦) عذار العراق : ما انفسخ عن الطف أي أطراف سهوله القريبة من أرض جزيرة العرب.

(٧) شحر عمان : ساحل البحر بين عمان وعدن.

(٨) هاروت وماروت يقال أنهما ملاكان سقطا في التجربة عند ما نزلا إلى الأرض ولنا ما ذكر القرآن الكريم من أنهما يعلمان الناس السحر في بابل.

٢١٩

وروى عوف عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما مثل الدنيا كمثل الماشي على الماء ، هل يستطيع الذي يمشي على الماء أن لا تبتل قدماه».

وهذه الدواعي والوصايا ما اقتدى به خلفاؤه في زهده وانتقلوا بالأمور من بعده ، فكان أبو بكر يتخلل عباءة له ، وهو خليفة ، فسمي ذا الخلالين ، وكان عمر يلبس مرقعة من صوف فيها رقاع من آدم ويطوف في الأسواق على عاتقه درة يؤدب بها الناس ويمر بالنوى فيلقطه ويلقيه في منازل الناس حتى ينتفعوا به ويطوف وحده في الليل عسسا ويتطلع غوامض الأمور تجسسا ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وكان عثمان يقوم الليل كله يختم القرآن في ركعة ، وجاد بماله وفدى الخلق بنفسه وقال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد ، واشترى علي رضي الله تعالى عنه وهو خليفة قميصا بثلاثة دارهم وقطع كمه من موضع الرسغين وقال : الحمد لله الذي هذا من رياشه ، ولم يزل يأكل الخشب (٩) ويلبس الخشن ، وفرق الأموال حتى رش بيت المال ونام فيه وقال : يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري ، وحقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها ويكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة بها ويقنع في العاجل وقد سلب الآجل بالميسور النزر ورضي بالعيش الكدر.

وقد روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في شهر رمضان قدمي غداءك المبارك وقالت ربما لم يكن إلّا تمرتين.

وروى عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فسألهما فقال : «ما أخرجكما» ، فقالا : الجوع ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا أخرجني الجوع» ، فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل وقام فذبح لهم شاة ، فقال له : نكب عن ذات الدّر (١٠) واستعذب لهم ماء علق على نخلة

__________________

(٩) يأكل الخشب : أي الطعام القاسي الجافي مع أن التنعم بإمكانه.

(١٠) ذات الدر : التي يعيشون من لبنها.

٢٢٠