أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

ونبأ الروم من نصر يكون لها

من بعد سبعة أعوام على جدل

والفرس أخبرها عن قتل صاحبها

برويز إذ جاءه فيروز في شغل

وإن تقصيت ما جاء النبي به

طال النشيد ولم آمن من الملل

١٦١
١٦٢

الباب السادس عشر

في هتوف الجن بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والجن من العالم المميز يأكلون ويتناكحون ويتناسلون ويموتون وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار وإن تميزوا بأفعال وآثار إلّا أن يخص الله تعالى برؤيتهم من يشاء ، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية وما تخيلوه من آثارهم الخفية قال الله تعالى فيما وصفه من إنشاء الخلق : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١) يريد بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) ـ آدم ـ أبا البشر عليه‌السلام وفي الصلصال وجهان :

أحدهما : أنه الطين النابت.

والثاني : أنه الطين الذي لم تمسه النار والحمأ جمع حمأة وفيها وجهان.

أحدهما : أنه المنصوب القائم فيكون صفة للإنسان.

والثاني : أنه المنسوب فيكون تمييزا للجنس وقوله : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) يعني من قبل آدم ، لأن آدم خلق آخر الخلق. وفي الجان وجهان :

والثاني : أنه أبو الجن فآدم أبو البشر والجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين وفي قوله : (مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢) وجهان :

__________________

(١) سورة الحجر الآيتان (٢٦ ـ ٢٧).

(٢) سورة الحجر من الآية (٢٧).

١٦٣

أحدهما : من نار الشمس.

والثاني : نار الصواعق بين السماء وبين حجاب دونها فلم يختلفوا في أن الجن يتناسلون ويموتون ومنهم مؤمن ومنهم كافر.

واختلف في الشياطين فزعم قوم أنهم كفار الجن يتناسلون ويموتون ، وزعم آخرون أنهم غير الجن وأنهم من ولد إبليس ، واختلف من قال بهذا في تناسلهم وموتهم فذهب فريق إلى أنهم يتناسلون ويموتون ، وذهب آخرون إلى أنهم كإبليس لا يموتون إلّا معه وأن تناسلهم انقطع بإنظار إبليس إلى يوم يبعثون فإن أنكر قوم خلق الجن ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية قهرتهم براهين العقول وحجج القياس لأن الله تعالى أنشأ خلق العالم من أربعة أجرام جعلها أصولا لما خلق من العالم الحي وهي الأرض والماء والهواء والنار ، والعالم نوعان اتفاقا علوي وسفلي ، فالعالم السفلي نوعان خلقهما من جرمين :

أحدهما : من الأرض وهو ما عليها من الحيوان.

والثاني : من الماء وهو ما فيه من السموك وهما هابطان لهبوط الأرض والماء وظاهران لظهور أصلهما واستمر القياس فيهما.

وبقي العالم العلوي جرمان : الهواء والنار وقد استقر خلق الملائكة من الهواء فاقتضى معقول القياس أن يكون خلق الجن من النار لتكون الأجرام الأربعة أصولا لخلق أجناس أربعة.

ولعلو الهواء كان عالمه من الملائكة علويا ولخفائه كان خفيا لا يهبط إلّا عن أمر إلهي ولا يعاين إلّا بمعونة إلهية.

ولعلو النار في أصل هابط كان لعالمه من الجن علو وهبوط ولخفاء كمونها خفي عالمها عن العيان إلّا بمعونة إلهية فصار اصلان من الأربعة محسوسين بالعيان وهما على الأرض وفي الماء وأصلان معقولين بالقياس وهما الملائكة والجن ولو لا أن دافع ذلك عادل عن الدلائل الشرعية لما عدلنا إلى هذا الاستدلال الخارج عن البراهين الشرعية.

١٦٤

فصل

فإذا ثبت خلق الجن بما دللنا عليه من شرع ومعقول فهم مكلفون لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحداهم بالقرآن بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٣) وقال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (٤) وفي صرفهم وجهان :

أحدهما : أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ما هذا الحادث في السماء إلا لحادث في الأرض وتخيلوا به تجديد النبوة فجابوا الأرض حتى وقفوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن مكة عامدا إلى عكاظ وهو يصلي الفجر فاستمعوا القرآن ورأوه كيف يصلي ويقتدي به أصحابه فعلموا أنه لهذا الحادث صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب ، وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه.

وحكى عكرمة أن السورة التي كان يقرؤها (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (٥).

والوجه الثاني : أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله تعالى حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة فنزل عليه جبريل بهذه الآية وأخبره بوفود الجن وأمره بالخروج إليهم فخرج ومعه ابن مسعود حتى جاء الحجون عند شعيب أبي ذر قال ابن مسعود : فخط على خطا وقال : لا تجاوزه ، ومضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى لم أره ، فعلى الوجه الأول لم يعلم بهم حتى أتوه ، وعلى الوجه الثاني أعلمه جبريل قبل إتيانهم ، واختلف أهل العلم في رؤيته لهم وقراءته عليهم.

فحكي سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرهم ولم يقرأ

__________________

(٣) سورة الإسراء الآية (٨٨).

(٤) سورة الأحقاف الآية (٢٩).

(٥) سورة العلق الآية (١).

١٦٥

عليهم وإنما سمعوا قراءته حين مروا به مصليا.

وحكي عن ابن مسعود أنه رآهم وقرأ عليهم القرآن.

وفي قوله : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) (٦) وجهان :

أحدهما : فلما حضروا قراءته القرآن قالوا : أنصتوا لسماعه.

والوجه الثاني : فلما حضروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : أنصتوا لسماع قوله ، فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين وفيه وجهان :

أحدهما : فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين به.

والثاني : لما فرغ من قراءته القرآن ولوا إلى قومهم منذرين وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) (٧) في فصاحته وبلاغته.

والثاني : عجبا في حسن مواعظه.

وفي قوله (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) (٨) وجهان :

أحدهما : إلى مراشد الأمور.

والثاني : إلى معرفة الله تعالى ، فثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عامّ الرسالة إلى الإنس والجن فلم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولا من الإنس واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم فجوزه قوم لقول الله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (٩) ومنع آخرون منه وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس وحملوا قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (١٠) على الذين لما سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين فأما كفارهم فيدخلون النار ، وأما مؤمنوهم فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثوابا على إيمانهم ، فقال الضحاك : ومن جوّز أن يكون رسلهم منهم يدخلون الجنة.

__________________

(٦) سورة الأحقاف الآية (٢٩).

(٧) سورة الجن الآية (١).

(٨) سورة الجن الآية (٢).

(٩) سورة الأنعام الآية (١٣٠).

(١٠) سورة الأنعام الآية (١٣٠).

١٦٦

وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصا منها ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا كالبهائم ، فأما استراقهم للسمع فقد كانوا في الجاهلية قبل بعث الرسول يسترقونه ولذلك كانت الكهانة في الإنس لإلقاء الجن إليهم ما استرقوه من السمع في مقاعد كانت لهم يقربون فيها من السماء كما قال الله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) (١٠) ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء فينقلونها إلى الكهنة (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (١١) يعني بالشهب الكواكب المحرقة وبالرصد الملائكة ، فأما استراقهم للسمع بعد بعث الرسول فقد اختلف فيه أهل العلم على قولين :

أحدهما : أنه زال استراقهم للسمع ولذلك زالت الكهانة.

والثاني : أن استراقهم باق بعد بعث الرسول ، وكان قبل الرسول لا تأخذهم الشهب لقول الله تعالى : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (١٢) والذي يستمعونه أخبار الأرض دون الوحي لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٣).

واختلف على هذا في أخذ الشهب لهم هل يكون قبل استراقهم للسمع أو بعده ، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الشهب تأخذهم قبل استراق السمع حتى لا يصل إليهم لانقطاع الكهانة بهم وتكون الشهب منعا عن استراقه.

وذهب آخرون منهم إلى أن الشهب تأخذهم بعد استراقه وتكون الشهب عقابا على استراقه.

وفيها : إذا أخذتهم قولان :

أحدهما : أنها تقتلهم ولذلك انقطعت الكهانة بهم.

والثاني : أنها تجرح وتحرق ولا تقتل ولذلك عادوا لاستراقه بعد الاحتراق ولو لا بقاؤهم لانقطع الاسترقاق بعد الاحتراق ويكون ما يلقونه من السمع إلى

__________________

(١٠) سورة الجن الآية (٩).

(١١) سورة الجن الآية (٩).

(١٢) سورة الحجر الآية (٩).

١٦٧

الجن دون الإنس لانقطاع الكهانة عن الإنس وفي الشهاب الذي يأخذهم قولان :

أحدهما : أنه نور يمتد لشدة ضيائه ثم يعود.

والقول الثاني : أنه نار تحرقهم ولا تعود ، فهذا خطب الجن فيما هم عليه من نعت وحكم.

هتوف الجن (١٣)

فأما هتوفهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو من آيات نبوّته فإن كان قبل مبعثه كان من نذر آياته الصادرة عن إلهام فمن هتوفهم بنبوّته ما حكاه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن العباس رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رجل من خثعم قال لا تحل حلالا ولا تحرم حراما وكانت تعبد أصناما فبينا نحن عند صنم منها ذات ليلة نتقاضى إليه في أمر قد شجر بيننا إذ صاح من جوف الصنم صائح يقول :

يا أيها الركب ذوو الأحكام

ما أنتم وطائش الأحلام

ومسندو الحكم إلى الأصنام

هذا نبي سيد الأنام

يصدع بالحق وبالإسلام

أعدل ذي حكم من الأحكام

ويتبع النور على الأظلام

سيعلن في البلد الحرام

قد طهر الناس من الآثام

قال الخثعمي ففزعنا منه وخرجت إلى مكة وأسلمت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن بشائر هتوفهم : ما رواه عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال : بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ذات يوم جالسا ، إذ مر به رجل ، فقيل له : أتعرف هذا المار يا أمير المؤمنين قال : ومن هو قالوا هذا سواد بن قارب رجل من أهل اليمن وكان له رئي من الجن فأرسل إليه عمر ، فقال :

__________________

(١٣) هتوف الجن : مناديهم الذي يتحدث إلى البشر.

١٦٨

أنت سواد بن قارب قال : نعم يا أمير المؤمنين. فقال : أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : نعم يا أمير المؤمنين. بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان ، إذ أتاني رئى من الجن فضربني برجله وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول :

عجبت للجن وتطلى بها

وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما صادق الجن ككذّابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم

ليس قدامها كأذنابها

فقلت له دعني فأنا أمسيت ناعسا ولم أرفع بما قال رأسا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول :

عجبت للجن وتخبارها

وشدها العيش بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما مؤمنو الجن ككفارها

فارحل إلى الصفوة من هاشم

بين روابيها وأحجارها

فقلت : دعني فقد أمسيت ناعسا ولم أرفع بما قال رأسا ، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال : قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي ، واعقل إن كنت تعقل ، قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول :

عجبت للجن وتجساسها

وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما خير الجن كأنجاسها

فارحل إلى الصفوة من هاشم

واسم بعينيك إلى رأسها

قال : فأصبحت وقد امتحن الله تعالى قلبي للإسلام فرحلت ناقتي واتيت المدينة فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فقلت : اسمع مقالي يا رسول الله ، قال : «هات» ، فأنشأت :

١٦٩

أتاني نجي بين هدو ورقدة

ولم أك فيما قد نجوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة

أتاك رسول من لؤي بن غالب

فشمرت من ذيل الإزار ووسطت

بي الذعلب الوجناء بين السباسب

فأشهد أن الله لا شيء غيره

وأنك مأمون على كل غائب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى

وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة

سواك بمغن عن سواد بن قارب

ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في وجوههم ، قال : فوثب إليه عمر فالتزمه وقال : قد كنت أحب أن أسمع منك هذا الحديث فهل يأتيك رئيك اليوم؟ فقال : مذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن.

ومن بشائر هتوفهم : ما رواه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب حدث يوما في مجلس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : خرجنا قبل مظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهرين إلى الأبطح بمكة معنا عجل نريد ذبحه ونحن نفر فلما ذبحناه وتصابّ دمه ومات إذ صاح من جوفه صائح يقول : يا ذريح يا ذريح صائح يصيح بصوت فصيح نبي يظهر الحق يفيح يقول لا إله إلّا الله ، فصاح كذلك ثلاث مرات ثم هدأ صوته وتفرقنا ورعبنا منه فلم يلبث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ظهر ، فقال رجل من القوم : لا تعجب يا أمير المؤمنين خرجت وأصحاب لي في تجارة لنا ونحن أربعة نفر نريد الشام حتى إذا كنا ببعض أودية الشام قرمنا إلى اللحم قرما شديدا قبل مظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بظبية قد عرضت لنا مكسورة القرن فلم نزل بها حتى أخذناها ، قال : فو الله إننا نتآمر بذبحها إذ هتف هاتف فقال :

يا أيها الركب السراع الأربعة

خلوا سبيل الظبية المروعة

فإنها لطفلة ذات دعة

خلوا عن العضبان فقدامي سعة

ثم قال : خلوا عنها ، فو الله لقد رأيت هذا الوادي وما يمر فيه أقل من خمسين رجلا حتى كنتم به ، قال : فأرسلناها ، فلما أمسينا أخذ بأزمة رواحلنا

١٧٠

حتى أتي بنا إلى حاضر لجب كثير الأهل فأطعمنا من الثريد ما أذهب قرمنا ثم خرجنا حتى قضى الله تجارتنا فصحبنا رجل من يهود ، فلما كنا بذلك الوادي هتف هاتف فقال :

إياك لا تعجل وخذها موبقه

فإن شر السير سير الحقحقه

قد لاح نجم فاستوى في مشرقه

يكشف عن ظلما عبوس موبقه

يدعو إلى ظل جنان مونقه

فقال اليهودي : تدرون ما يقول هذا الصارخ؟ قلنا : ما يقول؟ قال : يخبر أن نبيا قد ظهر خلافكم بمكة ، فقدمنا فوجدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة.

ومن بشائر هتوفهم : ما حكاه أبو عيسى ، قال : سمعت قريش في الليل هاتفا على أبي قبيس يقول :

فإن يسلم السعد أن يصبح محمد

بمكة لا يخشى خلاف مخالف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان : من السعدان سعد بكر وسعد تميم ، فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول :

أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا

ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا

على الله في الفردوس منية عارف

فإن ثواب الله للطالب الهدى

جنان من الفردوس ذات زخارف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان : هما والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

ومن بشائر هتوفهم : ما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ما علم المشركون من أهل مكة أين يوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هاجر إلى المدينة حتى هتف هاتف بعد ذلك بأيام فقال :

جزى الله خيرا والجزاء فريضة

رفيقين حلّا خيمتي أم معبد

هما دخلا بالهدى واهتدى به

فأفلح من أمسى رفيق محمد

ليهن بني كعب محل فتاتهم

ومقعدها للمسلمين بمرصد

وقالت أسماء : ما علم المشركون من أهل مكة بوقعة بدر حتى هتف

١٧١

هاتف من جبال مكة وفتيان يسمرون بمكة فقال :

أزال الحنيفيون بدرا بوقعة

سينقض منها ملك كسرى وقيصرا

أصاب رجالا من لؤي وجردت

حرائر يضر بن الترائب حسرا

ألا ويح من أمسى عدو محمد

لقد ذاق حزنا في الحياة وحسرا

وأصبح في هامي العجاج معفرا

تناوبه الطير الجياع وتنفرا

فعلموا بذلك وظهر الخبر من الغد ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه (١٤) ولا يحج قوله (١٥) فخروجه عن العادة نذير وتأثيره في النفوس بشير وقد قبلها السامعون وقبول الأخبار يؤكد صحتها ويؤكد حجتها.

فإن قيل : إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة جاز أن تكون دليلا على صحة الكهانة ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن دلائل النبوة غيرها وإنما هي من البشائر بها ، وفرق بين الدلالة والبشارة ، أخبارا.

والثاني : أن الكهانة عن مغيب والبشارة عن معين ، فالعيان معلوم والغائب موهوم.

__________________

(١٤) لا يرى شخصه : لا مكانة مرموقة له

(١٥) لا يحج بقوله : لا يحتج بقوله.

١٧٢

الباب السابع عشر

فيما هجست به النفوس من إلهام العقول بنبوته عليه‌السلام

العقل إلهي ركّبه الله تعالى في النفوس الناطقة فهو ينذر بالخواص الكائنة حدسا ويعلم بعد الوجود مسا فقل حادث إلّا تقدم نذيره وبحسب خاطره يكون تأثيره ولا حادث أعظم مما جدده الله تعالى بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقتضى أن تكون بشائر نبوته أشهر وشواهد آياته أظهر.

فمن الهواجس بنبوته : أن كعب بن لؤي بن غالب كان يجتمع إليه الناس في كل جمعة وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية يوم العروبة فسماه كعب يوم الجمعة وكان يخطب فيه الناس ويقول بعد خطبته : حرمكم عظّموه وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج به نبي كريم والله لو كنت فيه ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت تنصب الخيل ولا رقلت أرقال الفحل ثم يقول :

يا ليتني شاهد فحواء دعوته

حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

ومن هواجس الإلهام : ما حكاه ابن قتيبة أن أبا كريب ابن أسعد الحميري آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة وقال :

شهدت على أحمد أنه

رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عم

ومن هواجس الإلهام : ما حكاه عبيد الجرهمي وكان كبير السن عالما

١٧٣

بأخبار الأمم أن تبعا الأصغر وهو تبع بن حسان بن تبع سائر بيثرب فنزل في سفح أحد وذهب إلى اليهود فقتل منهم ثلاثمائة وخمسين رجلا صبرا وأراد خرابها فقام إليه رجل من اليهود كبير السن فقال : أيها الملك مثلك لا يقتل على الغضب ولا يقبل قول الزور ، أمرك أعظم من أن يطير بك برق أو تسرع بك لجاج فإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية ، قال : ولم؟ قال : لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من هذه الثنية ـ يعني البيت الحرام ـ فكفّ تبّع ومضى إلى مكة ومعه هذا اليهودي ورجل آخر عالم من اليهود فكسا البيت ونحر عنده ستة آلاف جزور وأطعم الناس وقال :

قد كسونا البيت الذي حرّم الله

ملاء معضدا وبرودا

وقيل أنه ملك ثلاثمائة وعشرين سنة.

ومن هواجس الإلهام : ما روى هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان يهودي يسكن مكة فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضر مجلس قريش فقال : يا معاشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقال القوم : والله ما نعلم ، قال : الله أكبر أما إذ أخطأكم فلا بأس انظروا واحفظوا ما أقول لكم ، ولد في هذه الليلة نبي بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنها عرف وثن ، فتصارع القوم عن مجلسهم وهم متعجبون من قوله ، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا : ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا ، فانطلق القوم إلى اليهودي فأخبروه ، فقال : اذهبوا بي حتى أنظر إليه ، فأدخلوه عن آمنة وقالوا : اخرجي إلينا ابنك ، فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى اليهودي تلك الشامة فوقع مغشيا عليه فلما أفاق قالوا له : ما لك؟ قال : ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل يا معشر قريش والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب ، وكان في القوم الذين أخبرهم اليهودي بذلك هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعبيدة بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة فعصمه الله تعالى منهم.

ومثله : أنه كان لقريش في الجاهلية عيد يجتمع فيه النساء دون الرجال

١٧٤

فاجتمعوا فيه فوقف عليهن يهودي ، وفيهن خديجة فقال لهن : يا معشر نساء قريش يوشك أن يبعث فيكن نبي فأيتكن استطاعت أن تكون له أرضا فلتفعل فحصبنه ووقر ذلك في نفس خديجة حتى حققه الله لها فكانت أول من آمن به.

ومثله : أن جماعة من النصارى قدموا من الشام تجارا إلى مكة فنزلوا بين الصفا والمروة فرأوه وهو ابن سبع سنين فعرفه بعضهم بصفته في كتبهم وسمته في فراستهم فقال له من أنت وابن من أنت. فقال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال : من رب هذه ، وأشار إلى الجبال ، فقال : الله ربها لا شريك له. فقال له : من رب هذه وأشار إلى السماء ، فقال : الله ربها لا شريك له.

فقال له النصراني : فهل له رب غيره فقال : لا تشككني في الله ما له شريك ولا ضد ، فقام بالتوحيد في صغيره وفصح النصراني بخبره وأنذر بنبوّته.

ومثله : أنه كان في كفالة جده عبد المطلب وكان أحب إليه من جميع أولاده فلما حضرته الوفاة وصى به إلى عمه أبي طالب لأنه كان أخا عبد الله لأبيه وأمه وأنشأ يقول :

وصيت من كنيته بطالب

عبد مناف وهو ذو تجارب

يا ابن الحبيب أكرم الأقارب

يا ابن الذي مذ غاب غير آئب

فتقبل أبو طالب الوصية وكان قد سمع من راهب إنذارا فأنشأ يقول :

لا توصين بلازم واجب

فلست بالآنس غير الراغب

بأن حمد الله قول الراهب

إني سمعت أعجب العجائب

من كل حبر عالم وكاتب

ومات عبد المطلب بعد ثمان سنين من مولده فتكفله عمه أبو طالب وخرج به إلى الشام في تجارة له وهو ابن تسع سنين فنزل تحت صومعة بالشام عند بصرى وكان في الصومعة راهب يقال له بحيرا قرأ كتب أهل الكتاب وعرف ما فيها من الأنباء والإمارات ، فرأى بحيرا من صومعته غمامة قد أظلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشمس فنزل إليه وجعل يتفقد جسده حتى رأى خاتم النبوّة بين كتفيه وسأله عن حاله في منامه ويقظته ، فأخبره بها فوافقت ما عنده في الكتب

١٧٥

وسأل أبا طالب عنه فقال : ابني ، فقال : كلا ، فقال : ابن أخي مات أبوه وهو حمل ، قال : صدقت ، وعمل لهم ولمن معهم طعاما لم يكن يعمله لهم من قبل ، وقال : احفظوا هذا من اليهود والنصارى فإنه سيد العالمين وسيبعث نبيا إليهم أجمعين وإن عرفوه معكم قتلوه فقالوا كيف عرفت هذا قال : السحابة التي أظلته ورأيت خاتم النبوّة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة على النعت المذكور ، ورأيت المدر والشجر يسجدان له ولا يسجدان إلّا لنبي.

وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان في رعيه الإبل قد سبقه القوم إلى ظل شجرة فلما جلس مال ظل الشجرة عليه فقال لهم : هذا من آيات نبوّته ، وأن الروم إن رأوه عرفوه بصفته فيقتلوه ، ثم التفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم وقال : ما جاء بكم ، قالوا : جئنا لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلّا بعث فيه ناس ونحن آخر من بعث إلى طريقك هذا ، فقال لهم : هل خلفتم خلفكم أحدا هو خير منكم ، قالوا : لا ، قال : أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ، قالوا : لا ، قال :

فارجعوا فتابعوه على الرجوع ، وزودهم الراهب حتى أسرع به أبو طالب.

فكانت هذه البشائر من رهبان النصارى وما تقدم من أخبار اليهود وقد توارد عليها جميعهم مع اختلاف معتقدهم وتغاير كتبهم من أوائل الشهود على تعيين النبوّة فيه.

أما عن كتب نعت فيها فأصابوه على النعت فكان إنذارا إلهيا تواردت عليه الخواطر لأن ما هجست به النفوس من أمر كان وما تخيلته العقول ظهر وبان لأن القلوب طلائع الأقدار ، والعقول مرايا الأسرار.

ومن هواجس الإلهام : ما حدثنا أبو الحسن محمد بن علي بن محفل رحمه‌الله قال : حدثنا عمر بن حماد الفقيه ، قال : حدثنا عمر بن محمد بن بحير السمرقندي قال : حدثنا أحمد بن عبد ربه الضبي قال : أخبرنا عبد الرحمن بن نوح بن عبيد قال : حدثنا عمر بن بكير قال : حدثني أحمد بن القاسم عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رحمة الله عليه قال : لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنين أتى وفود العرب وأشرافها

١٧٦

وشعراؤها لتهنئته ومدحه وذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وعبد الله بن جدعان وأسد ابن خويلد بن عبد العزى في ناس من أشراف قريش فلما قدموا عليه إذ هو في رأس قصر يقال له غمدان وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت :

اشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا

في رأس غمدان دار منك محلال

قال : فاستأذنوا عليه فأذن لهم فدخلوا عليه فإذا الملك مضمخ بالعنبر يرى وبيص الطيب من مفرقه عليه بردان متزر بأحدهما مرتد بالآخر سيفه بين يديه وعن يمينه وعن يساره الملوك وأبناء الملوك والمقاول قال : فدنا عبد الملك واستأذن في الكلام فقال : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم فقد أذنا لك فقال عبد المطلب إن الله أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن وأنت أبيت اللعن ملك للعرب وربيعها الذي يخصب به وأنت أيها الملك رأس العرب الذي إليه تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد سلفك خير سلف وأنت لنا منهم خير خلف فلن يحمل ذكر من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشف الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفد التعزية ، فقال ابن ذي يزن : فأيهم أنت أيها المتكلم ، فقال : أنا عبد المطلب بن هاشم قال : ابن أختنا قال : نعم ابن أختكم ، قال : ادن فأدناه على القوم وعليه فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا نحلا يعطي عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم فأنتم أهل الليل وأهل النهار لكم الكرامة ما أقمتم والحباء (١) إذا ظعنتم (٢).

قال : ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه

__________________

(١) الحباء : العطاء والهبة.

(٢) ظعنتم : سافرتم أو رحلتم.

١٧٧

ولا يأذن لهم بالانصراف.

قال : ثم انتبه انتباهه فأرسل إلى عبد المطلب فأعلاه وأدنى مجلسه وقال : يا عبد المطلب إني مفوّض إليك من سر علمي ما لو كان غيرك لم أبح له ، ولكن رأيتك معدنه وأطلعتك فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ فيه أمره إني أجده في الكتاب المكنون والعم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيره خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة.

قال عبد المطلب : أيها الملك فمثلك من سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر.

قال : إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة ، فقال له عبد المطلب أبيت اللعن لقد أتيت بخبر ما أتى بمثله وافد فلولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من بشارته إياي ما ازداد به سرورا.

قال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه أحمد ، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل منا له أنصارا ، يعز بهم أولياءه ويذل لهم أعداءه يضرب بهم الناس عن عرض ويستفتح بهم كرائم الأرض يكسر الأوثان ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان ، قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله.

قال عبد المطلب : أيها الملك عز جدك وعلا عقبك وطاب ملكك وطال عمرك فهل الملك سارّي بإفصاح فقد أوضح بعد الإيضاح ، فقال ابن يزن والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب أنك يا عبد المطلب لجده غيره الكذب.

قال : فخر عبد المطلب ساجدا فقال ابن ذي يزن ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك. فقال : نعم أيها الملك

١٧٨

كان لي ابن وكنت به معجبا رفيقا أو رقيقا فزوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف فأتت بغلام سميته محمدا مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه بين كتفيه شامة وفيه كل ما ذكرت من علامة.

قال ابن ذي يزن : إن الذي قلت لك لكما قلت لك فاحتفظ بابنك واحذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا فاطو ما ذكرته دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن يداخلهم النفاسة من أن تكون لك الرئاسة فيبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم ولو لا أني أعلم أن الموت يجتاحني قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكي فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره ولو لا أني أقيه الآيات واحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه ذكره وأوطيت أسنان العرب عقبه ولكني صارف ذلك أليك بغير تقصير ممن معك ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشرة إماء سود وحلتين من حلل البرود وخمسة أرطال ذهب ، وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنيرا ولعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال له : إذا حال الحول فائتني بأمره وما يكون من خبره.

قال : فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول ، قال : فكان عبد المطلب كثيرا يقول : يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كان كثيرا فإنه إلى نفاد ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره وشرفه ، فإذا قيل له : وما ذاك؟ قال : ستعلمون ما أقول لكم ولو بعد حين.

ومن هواجس الإلهام : أنه نشأ في قريش على أحسن هدى وطريقة وأشرف خلق وطبيعة وأصدق لسان ولهجة حتى سمته قريش في حداثته الأمين تأسيسا لما سيكون.

وكانت خديجة بنت خويلد ذات شرف ويسار وكان لها متاجر ومضاربات ، فلما عرفت أمانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق لهجته أبضعته مالا يتجر به إلى الشام مضاربا وأنفذت معه مولاها ميسرة ليخدمه في طريقه فنزل ذات يوم

١٧٩

تحت صومعة راهب فرأى الراهب من ظهور كرامة الله تعالى له ما علم أنه لا يكون إلّا لنبي فقال لميسرة : من هذا؟ فقال : رجل من قريش من أهل الحرم ، فقال : إنه نبي ، فكان ميسرة يراه إذا ركب تظلّه غمامة تقيه حر الشمس.

فلما قدم على خديجة قص ميسرة عليها حديث الراهب وما شاهده من ظل الغمامة وما تضاعف من ربح التجارة فتنبهت به على عظم شأنه وشواهد برهانه فرغبت خديجة في نكاحه ، وكان قد خطبها أشراف قريش فامتنعت ، وسفر بينهما في النكاح ميسرة وقيل مولاه بولده وخافت امتناع أبيها عليه فعقرت له ذبيحة وألبسته حبرة وغلفته بطيب وعبير وسقته خمرا حتى سكر وحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه عمه حمزة بن عبد المطلب ، واختلف في حضور عمه أبي طالب فقال الأكثرون : حضر مع حمزة وخطبها من أبيها فأجابه وزوّجه وهو ابن خمسة وعشرين سنة وخديجة ابنة أربعين سنة ودخل بها من ليلته ، فلما أصبح خويلد وصحا رأى آثار ما عليه ، فقال : ما هذا العقير والعبير والحبر؟ فيل : زوّجت خديجة بمحمد ، قال : ما فعلت؟ قيل له : قبيح بك هذا وقد دخل بها ، فرضي ، ولأجل ذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرفع إليّ نكاح نشوان إلّا أجزته» ، وقامت خديجة رضي الله تعالى عنها بأمره حتى كفته أمور دنياه ، فكان ذلك عونا من الله تعالى ولطفا تفضل به عليه منّا وإسعافا.

ومن هواجس الإلهام : ما حكاه عامر بن ربيعة قال : سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول : أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل من بني عبد المطلب ولا أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي ، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرأه مني السلام وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت : هلم ، قال : هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليس يفارق عينيه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه واسمه أحمد ، وهذا البلد مولده ثم يخرجه قومه منها ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكل من أسأله عنه من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه مثل ما نعت لك

١٨٠