أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

خالد بن الوليد رحمة الله عليه ولم يؤمن من العرب ألف في وقت واحد غيرهم.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه أنس بن مالك قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حائطا (٤) للأنصار ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وفي الحائط عنزة فسجدت له. فقال أبو بكر يا رسول الله كنا نحن أحق بالسجود لك من هذه العنزة ، فقال : «إنه لا ينبغي أن يسجد أحد لأحد ، ولو كان ينبغي أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (٥).

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه عبد الله بن أبي أوفى قال : بينما نحن قعود عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أتاه آت فقال يا رسول الله ناضح (٦) بني فلان قد دبر (٧) عليهم قال : فنهض ونهضنا معه ، فقلنا يا رسول الله لا تقربه فأنا نخافه عليك فدنا من البعير فلما رآه البعير سجد له فوضع يده على رأس البعير وقال هات السكين فوضعه في رأسه وأوصى به خيرا.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه جبير بن مطعم قال كنا جلوسا عند صنم لنا قبل أن يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهر فنحرنا جزورا فسمعنا صائحا يصيح اسمعوا إلى العجب ، ذهب استراق السمع لنبي بمكة اسمه أحمد مهاجر إلى يثرب ، فكان هذا من الآيات المنذرة والآثار المبشرة.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه بينما هو جالس في أصحابه إذ هو بجمل قد أقبل له رغاء فوقف فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون ما يقول هذا إنه ليقول إني لآل فلان لحي من الخزرج استعملوني وكدوني حتى كبرت وضعفت فلما لم يجدوا في حيلة يريدون ذبحي فأنا أستغيث بك منهم ، فأوقفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعث إليهم فاستوهبه منهم فوهبوه له وخلاه في الحي».

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه برد عن مكحول قال : بينما أهل دريح حي من

__________________

(٤) الحائط : البستان تحيط به الجدران.

(٥) رواه الشيخان.

(٦) الناضح : البعير يستعمل لنقل الماء.

(٧) دبر البعير : ثار وأزبد فاه وهاجم أصحابه.

١٤١

عرب اليمن في مجلسهم ، إذ أقبل عجل وسلم فسألهم وقال : أهل دريح أمر نجيح ببطن مكة يصيح بلسان فصيح بشهادة أن لا إله إلا الله فأجيبوه وقال : وفيه نزل قول الله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) (٨) فإن قيل فيجوز أن يكون ما سمع من كلام البهائم كالصدى يحكي كلام المتكلم فيظنه السامع كلام الصدى وهو كلام المتكلم ويكون ذلك بقوة يحدثها الله تعالى في المتهيّئ لذلك يخفى عن الأسماع والأبصار فعنه جوابان :

أحدهما : أن الصدى يحكي كلاما مسموعا إذا قابله قبل صوته فحكاه وليس كلام البهيمة مقابلا لكلام يحكيه فامتنع التشاكل.

والثاني : أن القوة المهيأة ليست من جنس قوى البشر فلا يكون في التفاضل إعجاز وإنما هي خارجة عن جنس قواهم فخرج عن قدرتهم ، وما خرج عن قدرة البشر كان معجزا لو صح هذا الاعتراض لبطل به الاعتراض.

__________________

(٨) سورة آل عمران الآية (١٩٣).

١٤٢

الباب الرابع عشر

في ظهور معجزه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشجر والجماد

ولئن كانت المعارف من الجمادات أبعد والكلام منها أغرب فليس بمستعد ولا مستغرب أن يحدث الله تعالى فيها من الآيات الخارجة عن العادة ما يحج الله تعالى به من استبصر ويمد به من استنصر.

فمن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حكاه أهل النقل عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه خطب على الناس خطبته المعروفة بالناصعة ، فقال فيها : الحمد لله الذي هو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب أيها الناس اتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ولا لفضله عندكم حسادا ولا تطيعوا أساس الفسوق وأحلاس العقوق فإن الله تعالى مختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم ، ألا ترون أنه اختبر الأولين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأنواع الشدائد وتعبدهم بألوان المجاهد ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله وأسبابا دللا (١) لعفوه فاحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (٢) بسوء الأفعال وذميم الأعمال أن تكونوا أمثالهم فلقد كانوا على أحوال مضطربة وأيد مختلفة وجماعة متفرقة في بلاء أزل وأطباق جهل من بنات موؤدة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة فانظروا إلى مواقع نعم الله

__________________

(١) دللا : ج دال : مرشد.

(٢) المثلات ج المثلة : العقوبة التي لعظمها تصبح مثلا.

١٤٣

عليهم حين بعث إليهم رسولا كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها وأسالت لهم جداول نعيمها فهم حكام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ويمضون الأحكام على من كان يمضيها فيهم ولقد كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أتاه الملأ من قريش فقالوا : يا محمد! إنك قد ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من أهل بيتك ونحن نسألك أمرا إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب ، قال لهم : «وما تسألون»؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله على كل شيء قدير فإن فعل الله ذلك لكم أتؤمنون وتشهدون بالحق»؟ قالوا : نعم ، قال : «فإني سأريكم ما تطلبون وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير وأن منكم من يطرح في القليب ومن يحزب الأحزاب» ، ثم قال : «أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ بإذن الله تعالى» ، قال علي رضي الله تعالى عنه : فو الذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصيف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر فرقة وألقت بعضها الأعلى عليه وببعض أغصانها على منكبيّ وكنت عن يمينه ، فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوا واستكبارا فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل نصفها كأعجب إقبال وأشده دويا فكادت تلتف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا كفرا وعتوّا ، فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره فرجع ، فقلت أنا : لا إله إلا الله فأنا أول مؤمن بك يا رسول الله وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقا لنبوتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم كلهم : با ساحر كذاب عجيب السحر خفيف فيه وهل يصدقك في أمرك هذا إلا مثل هذا ـ بعنونني ـ وهذا حكاه خطيبا على الإشهاد وقل أن يخلو جمع مثله ممن يعرف حق ذلك من باطله فكانوا بالموافقة مجمعين على صحته ولولاه لظهر الرد وإن ندر وهذا من أبلغ آيه وأظهر إعجاز له.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد هل من آية فيما تدعو إليه؟ قال : «نعم ، ائت تلك الشجرة فقل لها : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوك ، فمالت عن يمينها ويسارها

١٤٤

وبين يديها فتقطعت عروقها ثم جاءت تخد (٣) الأرض حتى وقفت بين يديه» فقال الأعرابي : مرها لترجع إلى منبتها ، فأمرها فرجعت إلى منبتها ، فقال الأعرابي : ائذن لي أسجد لك ، فقال :» لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» ، قال : فائذن لي أن أقبل يديك ورجليك ، فأذن له.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه يعلى بن شبابة قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسير فأراد أن يقضي حاجته فأمر وديتين فانضمت إحداهما إلى الأخرى ثم أمرهما بعد قضاء حاجته أن يرجعا إلى منبتهما فرجعتا.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه مر في غزوة الطائف في كثيف من طلح فمشى وهو وهو وسن من النوم فاعترضته سدرة (٤) فانفرجت السدرة له بنصفين فمر بين نصفيها ، وبقيت السدرة منفرجة على ساقين إلى قريب من أعصارنا هذه ، وكانت معروفة بذلك في مكانها يتبرك بها كل مارّ ويسمونها سدرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن والزبير وطلحة وسعيد فتحرك الجبل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسكن حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» ، فسكن الجبل.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه جابر بن عبد الله قال : كان في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصال لم يكن يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه ، ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه ثابت عن أنس قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(٣) تخد الأرض : تشقها وتجعل فيها مثل الأخدود.

(٤) السدرة : شجرة النبق.

١٤٥

فأخذ كفا من حصا فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في أيدينا فما سبحن في أيدينا.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما رواه جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعرف حجرا من مكة كان يسلّم عليّ».

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن عكاشة بن محصن انقطع سيفه بيده يوم بدر فدفع إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعة من خشب وقال : «قاتل بها الكفار يا عكاشة» ، فتحولت سيفا في يده ، فكان يقاتل به بحتى قتله طليحة في الردة.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يخطب إلى جذع كان يستند إليه ، فلما اتخذ منبرا تحول عن الجذع إليه ، فحن إليه الجذع حتى ضمه إليه فسكن.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن مكرزا العامري أتاه فقال : هل عندك من برهان نعرف به أنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا بتسع حصيات فسبحن في يده فسمع نغماتها من جمودتها ، وهذا أبلغ من إحياء عيسى للموتى.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه لما حاصر الطائف سموا له جذعة فكلمه منها الذراع ، فقالت : لا تأكلني فإني مسمومة ، وهذا نظير إحياء الموتى.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه أول ما أوحي إليه لم يمر بحجر ولا مدر إلا سلّم عليه بالنبوّة ، وهذا نظير قول الله تعالى لداود : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (٥).

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه حمزة بن عمرو الأسلمي قال : نفرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة ظلماء فأضاءت أصابعه.

ومن آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه إبراهيم بن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إنكم تعدون الآيات عذابا وإنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بركة ، لقد كنا نأكل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام.

فإن قيل : فقد يجوز أن يتخيل ذلك للناظر كما يتخيل لراكب السفينة سير

__________________

(٥) سورة سبأ الآية (١٠).

١٤٦

النخل والشجر ، فعنه جوابان :

أحدهما : أنه وإن تخيل ذلك لراكب السفينة فهو غير متخيل لغيره من قائم وقاعد وهذا متحقق عند كل مشاهد على اختلاف أحواله.

والثاني : أن راكب السفينة يعلم أنه تخيل له غير معلوم وهذا معلوم غير متخيل.

وإن قيل : فقد يجوز أن يكون في خواص الجواهر ما يجذب النخل والشجر كما في خاص حجر المغناطيس أن يجذب الحديد فعنه جوابان :

أحدهما : أنه قد علم خاصية حجر المغناطيس وظهر ولم يعلم ذلك في غيره فلم يوجد ولو كان ذلك موجودا لكان الملوك عليه أقدر ولكان مذخورا في خزائنهم كادخار كل مستغرب ومستظرف ولجاز ادعاء مثله في قلب الأعيان وإبطال الحقائق.

والثاني : أنه لو كان ذلك لخاصية الجوهر جاذبا كان بظهوره جاذبا وبملاقاته للنخل والشجر فاعلا ولا ينقل إليه عن غيره وكل هذا فيه معدوم وإن كان في حجر المغناطيس موجودا.

١٤٧
١٤٨

الباب الخامس عشر

في بشائر الأنبياء عليهم‌السلام بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن لله تعالى عونا على أوامره وإغناء عن نواهيه فكان أنبياء الله تعالى معانين على تأسيس النبوّة بما تقدمه من بشائرها وتبديه من أعلامها وشعائرها ليكون السابق مبشرا ونذيرا واللاحق مصدقا وظهيرا فتدوم بهم طاعة الخلق وينتظم بهم استمرار الحق وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم بما أطلعه الله تعالى على غيبه ليكون عونا للرسول وحثا على القبول.

فمن ذلك بشائر موسى عليه‌السلام في التوراة : فأولها ؛ في الفصل التاسع من السفر الأول (لما هربت هاجر من سارة تراءى لها ملك وقال : يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى سيدتك فاخضعي لها ، فإن الله سيكثر زرعك وذريتك حتى لا يحصون كثرة ، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه إسماعيل لأن الله تعالى قد سمع خشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهذا لم يكن في ولد إسماعيل إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم كانوا قبله مقهورين فصاروا به قاهرين).

ومنها : قوله في هذا السفر لإبراهيم حين دعاه في إسماعيل (وباركت عليه وكثرته وعظمته جدا جدا وسيلد اثنى عشر عظيما وأجعله لأمة عظيمة) وليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنها : في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس عن موسى عليه

١٤٩

السلام (إن الرب إلهكم قال إني أقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم أجعل كلامي على فمه فأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي فأنا أنتقم منه) ومعلوم أن أخا بني إسرائيل هم بنو إسماعيل وليس منهم من ظهر كلام الله تعالى على فمه غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومنها : في الفصل العشرين من هذا السفر (أن الرب جاء من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران ومعه عن يمينه ربوات جيش القديسين فمنحهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة) فمجيء الله تعالى من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى ، وإشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى لأنه كان في ساعير أرض الخليل في قرية ناصرة ، واستعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفاران هي جبال في مكة في قول الجميع ، فإن ناكروا كان دفعا لما في التوراة ولأنه لم يستعل الدين كاستعلائه منها فاندفع الإنكار بالعيان.

فصل من البشائر به

كان بين موسى وعيسى من الأنبياء الذين أوتوا الكتاب باتفاق أهل الكتابين عليهم ستة عشر نبيا ظهرت كتبهم في بني إسرائيل فبشر كثير منهم بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فمنهم : شعيا (٢) بن أموص قال في الفصل الثاني والعشرين (قومي فأزهري مصباحك) يعني مكة (فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامته عليك فتسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك ارفعي

__________________

(١) لأن القرآن وحده من بين الكتب السماوية قد انزل من لدنه تعالى لفظا ومعنى.

وقد قال عن نبيه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، لتفاصيل أوفى في هذا الباب يمكن للقارىء الكريم الرجوع إلى كتابنا «قصص القرآن الكريم».

(٢) سفر إشعياء.

١٥٠

بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم يستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بعيد وتسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم حتى تعمرك الإبل المؤبلة وتضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ يحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام قاذار) يعني غنم العرب لأنهم من ولد قاذار (٣) بن إسماعيل (ويرتفع إلى مديحي ما يرضينني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا) وهذه الصفات كلها موجودة بمكة فكان ما دعا إليها هو الحق ومن قام بها هو المحق.

وفي فصل آخر من كتابه : (قال لي الرب فامض فاقم على المنظرة تخبرك بما ترى فرأى راكبين أحدهما راكب حمار) يعني عيسى (والآخر راكب جملا) يعني محمدا (فبينما هو كذلك إذ أقبل أحد الراكبين وهو يقول هوت بابل وتكسرت آلهتها المنجورة على الأرض فهذا الذي سمعت الرب إله إسرائيل قد أنبأتكم).

وفي الفصل (٤) السادس عشر منه (لتفرح أرض البادية العطشى بمنتهج البراري والفلوات ولتسر وتزهو مثل الوعل فإنها بأحمد محاسن لبنان ، ويكمل حسن الدساكر والرياض وسترون جلال الله تعالى بها) قال شعيا وسلطانه على كتفه يريد علامة نبوته على كتفه. وهذه صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبادية الحجاز.

وفي الفصل التاسع عشر منه : (هتف هاتف من البدو فقال خلوا الطريق للرب وسهلوا سبيل الهنا في القفر فستمتلئ الأودية مياها وتفيض فيضا وتنخفض الجبال والروابي انخفاضا وتصير الآكام (٥) دكاكا ، والأرض الوعرة مذللة ملسا ، وتظهر كرامات الرب ويراها كل أحد.

وفي الفصل العشرين منه وهو مذكور في ثلاث وخمسين ومائة من مزامير داود : (لترتاح البوادي وقراها ، ولتصير أرض قاذار مروجا ، ويسيح سكان

__________________

(٣) قيدار أو قيذار على اختلاف الروايات.

(٤) الفصل هو ما نسميه تبعا لتسميتهم الإصحاح حيثما استشهدنا به أو ذكرناه.

(٥) الآكام : التلال والجبال.

١٥١

الكهوف ولتهتفوا من قلال الجبال بمحمد الرب وليرفعوا تسابيحه ، فإن الرب يأتي كالجبار الملتظي المتكبر وهو يزجر ويقتل أعداءه) وأرض قاذار هي أرض العرب لأنهم ولد قاذار. والمروج ما صار حول مكة من النخل والشجر والعيون.

وفي الفصل الحادي والعشرين منه أيضا : (أن الضعفاء والمساكين يستسقون ماء ولا ماء لهم فقد جفت ألسنتهم من الظمأ وأنا الرب أجيب يومئذ دعوتهم ولن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال الأنهار وأجري بين القفار والعيون وأحدث في البدو أجساما وأجري في الأرض العطشى ماء معينا وأنبت في البلاقع القفار الصنوبر والآس والزيتون وأغرس في القاع الصفصف البر ليروها جميعا ثم يتدبروا ويعلموا أن يد الله صنعت ذلك وقدوس إسرائيل ابتدعه) وهذه صفات بلاد العرب فيما أحدث الله تعالى لهم فيها بإسلامهم

ومن بشائر نوال بن نوتال (٦) من أنبياء بني إسرائيل

مثل الصبح المسلط على الجبال شعب عظيم عزيز لم يكن مثله قط ولا يكون بعده مثله إلى أبد الأبد ، أمامه نار تتأجج وخلفه لهيب وتلتهب الأرض بين يديه مثل فردوس عدن فإذا جاز فيها وعبرها تركها برية خاوية رؤيته كرؤية الجبل رجالته فر سراع مثل الفرسان أصواتهم كصوت لهب النار الذي يحرق الهشيم رجفت الأرض أمامهم وتزعزعت السماء وأظلمت الشمس وغاب نور النجوم والرب أسمع صوتا بين يدي أجناده لأن عسكره كثير جدا وعمل قوله عزيز لأن نور الرب عظيم مرهوب جدا) وهذا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

من بشائر عويديا (٧) من أنبياء بني إسرائيل

وفي كتابه : (قد سمعنا خبرا من قبل الرب وأرسل رسولا إلى الشعوب ثم

__________________

(٦) هو يوئيل بن فثوئيل ، والمقطع المذكور هنا هو من الإصحاح الثاني من سفره المذكور في أسفار إسرائيل مع خلاف بسيط بالترجمة دون اختلاف في المعنى. من العدد (٢) إلى (١١).

(٧) وسفره إصحاح واحد والعبارة الواردة من أوله.

١٥٢

يتقدم إليه بالحرب أيها الساكن في بحر الكهف ومحله في الموضع الأعلى لأن يوم الرب قريب من جميع الشعوب). فهذا مرموز في نبوّته.

من بشائر ميخاء (٨) من أنبياء بني إسرائيل في كتابه

(فأما الآن فيستسلم إلى الوقت الذي تلد فيه الوالدة ويقوم فيرعاهم) يعني الرب (وبكرامة اسم الله ربه ويقبلون بهم إلى من سيعظم سلطانه إلى أقطار الأرض ويكون على عهده الإسلام).

من بشائر حبقوق (٩) من أنبياء بني إسرائيل

(جاء الله من طور سيناء واستعلن القدوس من جبال فاران وانكسفت لبهاء محمد وانخسفت من شعاع المحمود وامتلأت الأرض من محامده لأن شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعده وتسير المنايا أمامه وتصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وبحث عنهم فتصفصفت الجبال القديمة واتضعت الروابي الدهرية وتزعزع سور أرض مدين ولقد جاز المساعي القديمة قطع الرأس من حب الأثيم ودمغت رءوس سلاطينه بغضبه) ومعلوم أن محمدا ومحمودا صريح في اسمه وهما يتوجهان إلى من انطلق عليه اسم المحمد وهو بالسريانية موشيحا أي محمد ومحمود ولهذا إذا أراد السرياني أن يحمد الله تعالى قال شريحا لإلهنا.

من بشائر حزقيال (١٠) من أنبياء بني إسرائيل

في كتابه : (إن الذي يظهر من البادية فيكون فيه حتف اليهود كالكرمة أخرجت ثمارها وأغصانها عن مياه كثيرة وتفرعت منها أغصان مشرقة على

__________________

(٨) سفر ميخا والعبارتان من الإصحاح الخامس.

(٩) المقطع المذكور هو من سفر حبقوق الإصحاح الثالث.

وفي الترجمة التي بين أيدينا يبدأ المقطع بالقول : «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران إلخ ..» والقدوس هنا هو المحمّد أو المحمود.

(١٠) وفي سفر حزقيال بشارات عديدة بالرسول الكريم غير هذه أيضا.

١٥٣

أغصان الأكابر والسادات وبسقت فلم تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة وضرب بها على الأرض فأخرجت ثمارها وأتت نار فأكلتها فكذلك غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى وخرج من أغصانه الفاضلة نار فأكلت ثمار تلك حتى لم يبق منها عصا قوية ولا قضيب ينهض بأمر السلطان).

من بشائر يرصفينا (١١) من أنبياء بني إسرائيل

في كتابه : (أيها الناس ترجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة فقد حان أن أظهر حكمي بحشر الأمم وجميع الملوك لأصب عليهم سخطي وتكبري ، هناك أجدد للأمم اللغة المختارة ليرفعوا اسم الرب جميعا وليعبدوه في ربقة واحدة معا وليأتوا بالذبائح من مغاراتها تكون) ومعلوم أن اللغة العربية هي المختارة لأنها طبقت الأرض وانتقلت أكثر اللغات إليها حتى صار ما عداها نادرا.

من بشائر زكريا (١٢) بن يوحنا من أنبياء بني إسرائيل

في كتابه : (رجع الملك الذي ينطق على لساني وأيقظني كالرجل الذي يستيقظ من نومه وقال لى : ما الذي رأيت ، فقلت : منارة من ذهب وكفة على رأسها ورأيت على الكفة سبعة سرج لكل سراج منها سبعة أفواه وفوق الكفة شجرتا زيتون إحداهما عن يمين الكفة والأخرى عن يسارها ، فقلت للملك الذي ينطق على لساني : ما هذه يا سيدي ، فرد الملك عليّ وقال لي : أما تعلم ما هذه؟ فقلت : ما أعلم ، فقال لي : هذا قول الرب في زربايال) يعني محمدا (وهو يدعى باسمي وأنا أستجيب له للنصح والتطهير وأصرف عن الأرض أنبياء الزور والأرواح النجسة لا بقوة ولا بعز ولكن بروحي ، بقول الرب القوي) ويعني بشجرتي الزيتون ، الدين والملك ، وزربايال هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

من بشائر دانيال من أنبياء بني إسرائيل

في كتابه : (رأيت على سحاب السماء المسمى كهيئة إنسان جاء فانتهى

__________________

(١١) هو سفر صفينا ، والمقطع المذكور من الإصحاح الثالث من العدد ٨ وما بعد.

(١٢) هو آخر أسفار اليهود المسماة العهد القديم.

١٥٤

إلى عتيق الإمام وقدموه بين يديه فحوله الملك والسلطان والكرامة أن تعبد له جميع الشعوب والأمم واللغات سلطانه دائم إلى الأبد له يتعبد كل سلطان ويمضي ألفان وثلاثمائة ينقضي عقاب الذنوب يقوم ملك منيع الوجه في سلطانه عزيز القوة لا تكون عزته تلك بقوة نفسه وينجح فيما يريد ويجوز في شعب الاطهار ويهلك الأعزاء ويؤتى بالحق الذي لم يزل قبل العالمين) وفي هذا دليل على أمرين :

أحدهما : صدق الخبر لوجوده على حقه.

والثاني : صحة نبوّته لظهور الخبر في صحته.

من بشائره في رؤيا بختنصر (١٣)

وهو أن بختنصر رأى في السنة الثانية من ملكه رؤيا ارتاع منها ونسيها ، فأحضر من في ممالكه من الكهنة والمنجمين وكان قد ملك الأقاليم السبعة ، وسألهم عن الرؤيا وتأويلها ، فقالوا له : اذكرها لنا حتى نذكر تأويلها لك ، فأمر بقتلهم إن لم يذكروها وتأويلها.

وكان دانيال النبي قد سباه من اليهود فاستمهل في أمرهم ورغب إلى الله تعالى في اطلاعه على الرؤيا وتأويلها ، فأطلعه الله تعالى على ذلك ، فأتى بختنصر وقال : أيها الملك إنك كلفت هؤلاء ما لا يعلمه إلا الله وقد رغبت إليه فأطلعني عليه ورؤياك التي رأيتها أن قلبك جاش واختلج بما يحدث بعدك في آخر الزمان فعرفك مبدي السرائر ما يكون أنك أيها الملك رأيت صنما عظيما قائما قبالتك له منظر رائع رأسه من الذهب الابريز وصدره وذراعاه من فضة وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعض رجليه من حديد وبعضها من خزف ، ورأيت حجرا انقطع من جبل عظيم بغير يد إنسان فضرب ذلك الصنم فهشمه حتى صار كالرماد ألوت به ريح عاصف حتى لم يعرف له مكان ثم عظم الحجر الصلد الذي صك الصنم حتى صار جبلا عظيما امتلأت منه الأرض كلها ، فهذه الرؤيا وأنا معبرها ، أما الصنم فهم الملوك فأنت الرأس الذهب ويقوم من

__________________

(١٣) سفر دانيال.

١٥٥

بعدك من هو دونك ألين منك.

فأما المملكة الثالثة التي هي مثل النحاس فتسقط على الأرض كلها وأما المملكة الرابعة التي هي مثل الحديد فتكون عزيزة كما أن الحديد يهشم الجميع فكذلك هذه تسحق وتغلب الكل.

وأما الأرجل والأصابع التي رأيت أن منها من خزف الفخار ومنها من حديد فإن المملكة تكون مختلفة ومتفرقة يكون منها أصل من جوهر الحديد وخلط من خزف الفخار فيكون بعض المملكة قويا وبعضها واهيا كسيرا لا يأتلف بعضها ببعض كما لا يختلط الحديد بالخزف.

وأما الحجر الواقع من الجبل فإن إله السماء يرسل مملكة من عنده لأنه لم تقطع الحجر يد إنسان في زمان هذه الممالك يهلكها ويبقى إلى آخر الدهر ولا يكون لأمة أخرى مملكة ولا سلطان إلا دقه كما يدق الحجر الحديد والنحاس والفضة والذهب فعرّفك الله العظيم ما يكون بعدك في آخر الأيام ، فهذه رؤياك وتأويلها.

فخر بختنصر على وجهه ساجدا لدانيال وقال : إن إلهكم هذا هو إله الآلهة ورب الأملاك حقا وهو مبدي السرائر ، وجعل دانيال رأسا مؤمرا على أرض بابل ، ومعلوم أنه لم يرسل الله تعالى سلطانا أزال به الممالك وملأ به الأرض ودام له الأمر إلا بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

من بشائر أرميا بن برخنا من أنبياء بني إسرائيل في أيام بختنصر

لما قتل أهل الرس نبيهم ، قال ابن عباس : أمر الله تعالى أن يأمر بختنصر أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم ، فأمره بذلك فدخل بختنصر بلاد العرب ، فقتل وسبى حتى انتهى إلى تهامة فأتى بمعد بن عدنان فأمر بقتله ، فقال له النبي : «لا تفعل فإن في صلب هذا نبيا يبعث في آخر الزمان يختم الله به الأنبياء» ، فخلى سبيله وحمله معه حتى أتى حصونا باليمن فهدمها وقتل أهلها وزوّج معدا بأجمل امرأة منهم في زمانها وخلفه بتهامة حتى نسل بها ، قال ابن عباس : وفي ذلك نزل قوله تعالى : (وَكَمْ

١٥٦

قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) (١٤).

من بشائر داود في الزبور

(سبحان الذي هيكله الصالحون يفرح إسرائيل بخالقه وبيوت صيلون من أجل أن الله اصطفى له أمته وأعطاه النصر وسدد الصالحين منه بالكرامة يسبحونه على مضاجعهم ويكبّرون الله بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال). ومعلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين ومحمد هو المنتقم بها من الأمم.

وفيه : (أن الله أظهر من صيفون أكليلا محمودا) وصيفون : العرب ، والإكليل : النبوة ، ومحمود هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي مزمور آخر منه : (أنه يجوز من بحر إلى بحر ومن لدن الأنهار إلى الأنهار إلى منقطع الأرض وأن تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم وتلحس أعداؤه التراب ، تأتيه الملوك بالقرابين وتسجد وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ويرأف بالضعفاء والمساكين وأنه يعطى من ذهب بلاد سبأ ويصلى عليه في كل وقت ويبارك عليه في كل يوم ويدوم ذكره إلى الأبد). ومعلوم أنه لم يكن هذا إلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي مزمور آخر : قال داود : اللهم ابعث جاعل السنّة حتى يعلم الناس أنه بشر ، أي ابعث نبيا يعلم الناس أن المسيح بشر لعلم داود أن قوما سيدعون في المسيح ما ادعوه ، وهذا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

من بشائر المسيح به في الإنجيل

قال المسيح عليه‌السلام للحواريين : (أنا ذاهب وسيأتيكم البارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له وهو يشهد عليّ وأنتم

__________________

(١٤) سورة الأنبياء الآية (١١).

١٥٧

تشهدون لأنكم معي من قبل الناس وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به).

وفي نقل يوحنا عنه : (أن البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا ولكنه مما يسمع به يكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب).

وفي نقل آخر عنه : (أن البارقليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء إني سائل أن يبعث إليكم بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء).

وفي نقل آخر عنه : (أن البشير ذاهب والبارقليط بعده يحيي لكم الأسرار ويقيم لكم كل شيء وهو يشهد لي كما شهدت له فإني لأجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل). والبارقليط بلغتهم لفظ من الحمد ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أحمد وأنا محمود وأنا محمد.

فهذه من بشائر الأنبياء عن الكتب الإلهية المتناصرة بصحة نبوته المتواترة الأخبار بانتشار دعوته وتأييد شريعته ، ولعل ما لم يصل إلينا منها أكثر ، فمنهم من عيّنه باسمه ، ومنهم من ذكره بصفته ، ومنهم من عزاه إلى قومه ، ومنهم من أضافه إلى بلده ، ومنهم من خصه بأفعاله ، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره ، وقد حقق الله تعالى جميعها فيه حتى صار جليا بعد الاحتمال ويقينا بعد الارتياب.

فإن قيل : مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم وهم مأمورون بالرأفة والرحمة ومحمد جاء بالسيف وسفك الدماء وقتل النفوس فصار منافيا لما جاء به موسى وعيسى فزال عن حكمهما في النبوّة لمخالفتهما في السيرة فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : ان الله تعالى بعث كل نبي بحسب زمانه ، فمنهم من بعثه بالسيف لأن السيف أنجع ، ومنهم من بعثه باللطف لأن اللطف أنفع ، كما خالف بين معجزاتهم بحسب أزمانهم ، فبعث موسى بالعصا في زمان السحر ، وبعث عيسى بإحياء الموتى في زمان الطب ، وبعث محمد بالقرآن في زمان الفصاحة ، لأن الناس في بدء أمرهم يتعاطفون مع القلة ثم يتنافرون

١٥٨

ويتحاسدون مع الكثرة ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل».

والجواب الثاني : أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيرا ، واللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شرا لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية والحقوق الدينية ، ولذلك جاء الشرع بالقتل والحدود ليستقر به الخير وينتفي به الشر لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة فكان القهر لها أبلغ في انقيادها من الرغبة وكانت العرب أكثر الناس شرا وعتوا لكثرة عددهم وقوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أنفع من اللطف.

والجواب الثالث : أنه لم يكن في جهاده بالسيف بدعا من الرسل ولا أول من أثخن في أعداء الله تعالى.

وقبل هذا إبراهيم عليه‌السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها وحاربهم حتى هزمهم بأحزابه وأتباعه.

وهذا يوشع بن نون قتل نيفا وثلاثين ملكا من ملوك الشام وأباد من مدنها ما لم يبق له أثر ولا من أهلها صافر من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم أتاوة وساق الغنائم.

وغزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلا ولا امرأة إلا قتلهم ، وهو موجود في كتبهم.

ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدأ بالاستدعاء وحارب بعد الآباء.

روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متنصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء كان أشدهم في ذلك غضبا وما خيّر بين أمرين ، إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحث الناس على الصفح والتعاطف.

روى أسيد بن عبد الرحمن عن فروة بن مجاهد عن عقبة بن عامر قال : لقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك واعف

١٥٩

عمن ظلمك ، فهل يكون أحنى على الخلق ممن يأمرهم بمثل هذا ، وإنما تطلبت الملحدة بمثل هذا الاعتراض القدح في النبرّات فإنهم لم يعفوا نبيا من القدح في معجزاته والطعن على سيرته حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به على موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بشعر نظمه فقال :

وفالق البحر لم يفلق جوانبه

إذ ضاع فيه ضياع الحر في السفل

ومدع يدعي الأشياء خلقته

ما باله زال والأشياء لم تزل

وآخر يدعي بالسيف حجته

هل حجة السيف إلّا حجة البطل

فحضرني حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها فقال :

قل للذي جاء بالتكذيب للرسل

ورد معجزهم بالزيغ والدغل

وقال في ذاك أبياتا مزخرفة

ليوقع الناس في شك من الملل

ضياع موسى دليل من أدلته

من بعد ما صار فرق البحر كالجبل

ليعلم الناس أن الله فالقه

وأن موسى ضعيف تاه في السبل

والمعجز الحق في فلق المياه له

وجعله البر ما يحتاط بالحيل

وابن البتول فإن الله نزهه

عما ذكرت من الدعوى على الجمل

ما كان منه سوى طير يقدره

طينا وربي أحياه ولم يزل

وقال إني بإذن الله فاعله

وإذن ربي يحيي الخلق لا عملي

وصاحب السيف كان السيف حجته

بعد البيان عن الإعجاز والمثل

وجاء مبتديا بالنصح مجتهدا

بمعجزات لها حارت أولو النحل

منها كتاب مبين نظمه عجب

فيه من الغيب ما أوحى إلى الرسل

فأفحم الشعراء الملفقين به

لما تحداهم بالرفق في مهل

وأنبع الماء عذبا من أنامله

من غير صخرة كانت ولا وشل

وشارف القوم وافاداه وكلمه

وقال أنى من قتلي على وجل

والذئب قد أخبر الراعي بمبعثه

فجاء يشهد في الإسلام في عجل

والجذع حن إليه حين فارقه

حنين ذات جؤار ساعة الهبل

وأخبر الناس عما في ضمائرهم

مفصلا بجواب غير محتمل

١٦٠