أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي
المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨
الحصن ، فقال أكيدر : والله ما رأيت بقرا جاءتنا ليلا غير هذه الليلة لقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردتها شهرا أو أكثر ، ثم نزل فركب بالرجال والآلة ، فلما فصلوا من الحصن وخيل خالد تنظر إليهم لا يصهل منها فرس ولم يتحرك فساعة فصل أخذته الخيل فاستؤسر أكيدر.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : أنه لما قاضى سهيل بن عمرو بالحديبية حين صدته قريش عن العمرة وكتبت بينه وبينه القضية (١٦) قال لعلي كرم الله وجهه اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله ما صددتك ولكن أقدمك لشرفك اكتب محمد بن عبد الله ، فقال : يا علي امح رسول الله ، فقال علي : لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة ، فمدّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده إلى الموضع فمحاه وقال لعلي ستسام مثلها فتجيب ، فقيل له مثلها يوم الحكمين حين ذكر في كتاب التحكيم هذا ما تحاكم عليه علي أمير المؤمنين فقال له عمرو : لو سلمنا إنك أمير المؤمنين ما نازعناك ، فمحا أمير المؤمنين ، ولما قال سهيل ذلك قال عمر : يا رسول الله دعني أنزع ثنيي سهل لنلثغ لسانه فلا يقوم علينا خطيبا أبدا.
وكان سهيل أعلم الشفة (١٧) السفلى فكان خطيبا بينا ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : دعه يا عمر فعسى أن يقوم لك مقاما تحمده ، فكان من حسن قيامه بمكة حين هاج أهلها بموت رسول الله صلىاللهعليهوسلم واستخفى عتاب بن أسيد ما حمد أثره.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما حكاه السدي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأصحابه : «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فأتاه الحطم بن هند البكري وحده وخلف خيله خارجة من المدينة فدعاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم د فقال : «إلى ما تدعو»؟ فأخبره فقال : أنظرني فلي من أشاوره ، فخرج من عنده فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعتب غادر» ، فمر بسرح من سرح المدينة فاستاقه وانطلق مرتجزا يقول :
__________________
(١٦) اتفاقية صلح الحديبية.
(١٧) أعلم الشفة : متدلية كأنها علامة فارقة.
لقد لفها الليل سواق حطم |
|
ليس براعي إبل ولا غنم |
ولا بجزار على ظهر وضم |
|
باتوا نياما وابن هند لم ينم |
باتت يناسيها غلام كالزلم |
|
مدلج الساقين ممسوح القدم |
ثم أقبل عام قابل حاجا قد قلد الهدي فأراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يبعث إليه فنزل عليه قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) (١٨) فقال له ناس من أصحابه : هذا صاحبنا خل بيننا وبينه. فقال إنه من قلّد.
نوع آخر من أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما روى عاصم بن عمرو عن قتادة قال : لما رجع المشركون إلى مكة من بدر قال عمير بن وهب الجمحي لصفوان بن أمية : قبح الله العيش بعد قتلي بدر والله لو لا دين عليّ لا أجد له قضاء وعيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه قتلته فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق.
فقال له صفوان : دينك عليّ وعيالك أسوة عيالي فاعمد لشأنك فجهزه وحمله على بعير فشحذ عمير سيفه وسمّه وسار إلى المدينة فدخلها متقلدا سيفه فبصر به عمر رضي الله تعالى عنه فوثب إليه ووضع حمائل سيفه في عنقه وأدخله على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : هذا عدو الله عمير بن وهب ، فقال تأخر عنه يا عمر ثم قال له ما أقدمك. قال : لفداء أسيري عندكم. قال : فما بال السيف. قال : قبحها الله وهل أغنت من شيء وإنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي ، فقال له : فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر؟ ففزع عمير وقال ما ذا شرطت له. قال : تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك والله تعالى حائل بينك وبين ذلك.
فقال عمير : أشهد أنك لرسول الله وإنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله كنا نكذبك بالوحي من السماء وهذا الحديث كان سرا بيني وبين صفوان كما قلت لم يطلع عليه أحد غيري.
__________________
(١٨) سورة المائدة الآية (٢)
فقال عمر : والله لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع وهو الساعة أحب إلي من بعض ولدي فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «علموا أخاكم القرآن وأطلقوا له أسيره» فقال عمير : إني كنت جاهدا في إطفاء نور الله وقد هداني الله فله الحمد فأذن لي فألحق قريشا فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام فأذن له فلحق بمكة ودعاهم فأسلم معه بشر كثير وحلف صفوان أن لا يكلمه أبدا.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما حكاه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قال : ما كان أحد أبغض إليّ من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكيف لا يكون كذلك وقد قتل منا ثمانية كل منهم يحمل اللواء فلما فتح الله تعالى مكة يئست مما كنت أتمناه من قتله وقلت في نفسي قد دخلت العرب في دينه فمتى أدرك ثأري منه فلما اجتمعت هوزان بحنين قصدتهم لأجد منه غرة فأقتله فلما انهزم الناس عنه وبقي مع من ثبت معه جئت من ورائه فرفعت السيف حتى كدت أحطه غشى فؤادي ورفع لي شواظ من نار فلم أطق ذلك وعلمت أنه ممنوع فالتفت إلي وقال ادن يا شيب فقاتل ووضع يده في صدري فصار أحب الناس إلي وتقدمت فقاتلت بين يديه ولو عرض لي أبي لقتلته في نصرته فلما انقضى القتال دخلت عليه فقال لي : الذي أراد الله بك خير مما أردته لنفسك وحدثني بجميع ما زورته في نفسي (١٩) فقلت ما اطلع على هذا أحد إلا الله فأسلمت.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما رواه محمد بن إبراهيم بن شرحبيل عن أبيه قال : كان النضير بن الحرث بن كلدة يصف شدة عداوته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لقتله لأخيه النضر بن الحرث قال وكنت شهدت بدرا فرأيت قلة المسلمين وكثرة قريش فلما نشب القتال رأيت المسلمين أضعاف قريش فانهزمت قريش ورأيت يومئذ رجالا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يأسرون ويقتلون فهربت مذعورا ثم خرجت معه بعد الفتح إلى هوزان لأصيب منه غرة فلما انهزم المسلمون صعدت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا هو في وجه العدو واقف على بغلة شهباء حوله رجال بيض الوجوه فأقبلت عامدا إليه فصاحوا بي إليك إليك فرعب فؤادي وأرعدت جوارحي فقلت هذا مثل يوم بدر أن الرجل لعلى حق وأنه معصوم فأدخل الله في
__________________
(١٩) ما زورته في نفسي : ما راودني من أفكار.
قلبي الإسلام ثم التقيت برسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد رجوعه من الطائف فحين رآني قال : «النضير؟» قلت : لبيك. قال : «هذا خير لك مما أردت يوم حنين ما حال الله بينك وبينه».
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : أنه قال لعمه العباس وقد أسر يوم بدر : أفد نفسك وابنيّ أخيك عقيلا ونوفلا وحليفك فإنك ذو مال فقال : يا رسول الله إني كنت مسلما وأخرجت. فقال : «الله أعلم بإسلامك فأين المال الذي وضعته بمكة عند أم الفضل حين خرجت وليس معكما أحد فقلت إن أصبت في سفري فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولقثم كذا.
فقال : والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسول الله ففدى نفسه وابني أخيه وحليفه فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله سيعوضك خيرا إن كان ما قلته عن إسلامك حقا» ، فعوضه الله تعالى مالا جما.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا أراد الذهاب إلى أم فروة الأنصارية قال لأصحابه : «انطلقوا بنا إلى الشهيدة فنزورها» ، وأمر أن يؤذن لها ويقام وأن تؤم أهل دارها في الفرائض فقتلها في أيام عمر رضي الله عنه غلام وجارية كانا لها فصلبهما عمر رضي الله تعالى عنه فكانا أول من صلب في الإسلام فقال عمر : صدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «انطلقوا نزور الشهيدة».
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يحتجم فلما فرغ قال : «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فاهرقه حيث لا يراك أحد» ، فلما برز عنه عمد إلى الدم فحساه فلما رجع قال : «يا عبد الله ما صنعت»؟ قال : جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خاف عن الناس قال : «لعلك شربت الدم»؟ قال : نعم؟ قال : «ويل للناس منك وويل لك من الناس» ، إلى أمثال ذلك من نظائره التي يطول الكتاب بذكره حتى كان المنافقون لا يخوضون في شيء من أمره إلّا أطلعه الله عليه فكان يخبرهم به حتى كان بعضهم يقول لصاحبه أسكت وكف فو الله لو لم يكن عنده إلّا
الحجارة لأخبرته حجارة البطحاء.
فإن قيل : فليس في ذكر ما كان ويكون إعجاز نبوّة يقهر ولا آية رسالة تظهر لأن المنجمين يخبرون بذلك ولا يكون من إعجاز الأنبياء وآيات الرسل فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن المنجم يعمل على حساب ويرجع على استدلال ولا يبتكر قولا إلّا بعدهما وأخبار الرسل عن بديهة تخلو من سبب وتعري عن استدلال.
والثاني : أن من خلا من علم النجوم لم يصح الإخبار عنها ولم يتعاط محمد صلىاللهعليهوسلم علم النجوم ولا خالط أهلها فيكون مخبرا عنها فبطل أن يخبر بها إلّا عن علّام الغيوب المطلع على ضمائر القلوب.
والثالث : أن المنجم يصيب في الأقل ويخطئ في الأكثر ويستحسن منه الصواب ولا يستقبح منه الخطأ وأخبار الرسل كلها صدق لا يتخللها كذب وصواب ولا يعتورها زلل.
الباب الحادي عشر
فيما أكرم به صلىاللهعليهوسلم من إجابة أدعيته
إن الله تعالى لما فضل الأنبياء على جميع خلقه مما فوّض إليهم من القيام بحقه تميزوا بطلب المصلحة فخصوا بإجابة الأدعية ليكونوا عونا على ما كلفهم وآية على من أنكرهم فدخل بهذا الامتياز في أقسام الإعجاز.
فمن أعلامه صلىاللهعليهوسلم في الإجابة : أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما تلا : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) قال عتبة بن أبي لهب : كفرت بالذي دنا فتدلى ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» يعني الأسد فخرج عتبة مع أصحابه في عير إلى الشام حتى إذا كانوا في طريقهم زأر الأسد فجعلت فرائص عتبة ترتعد فقال أصحابه : من أي شيء ترتعد فو الله ما نحن وأنت إلّا سواء ، فقال : إن محمدا دعا عليّ وما ترد له دعوة ولا أصدق منه لهجة ، فوضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه ، وحاط القوم أنفسهم بمتاعهم وجعلوه وسطهم وناموا فجاء الأسد يستشهي رءوسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فهشمه هشمة كانت إياها فقال وهو بآخر رمق : ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : أن المستهزئين به من قريش وهم سبعة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وفكيهة ابن عامر الفهري ، والحرث بن الطلاطلة ، والأسود بن الحرث ، وابن عيطلة ،
__________________
(١) سورة النجم الآية (١).
كانوا يكثرون منه الاستهزاء ويواصلون عليه الأذاء وكان لا يقرأ إلّا مستسرا ولا يدعو إلّا مستخفيا فنزل عليه قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٢) أي لا تجهر بها فيؤذوك ولا تخافت بها عن أصحابك فلا يسمعوك وابتغ بين الجهر والأسرار سبيلا ، فأذن لأصحابه حين اشتد بهم الأذى في الهجرة إلى أرض الحبشة لأن ملكها كان منصفا ورغب إلى الله تعالى أن يكفيه أمرهم فنزل عليه قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٣).
وقي قوله : فاصدع بما تؤمر تأويلان :
أحدهما : امض لما تؤمر به من إبطال الشرك.
والثاني : أظهر ما تؤمر به من الحق.
وفي قوله : وأعرض عن المشركين تأويلان :
أحدهما : استهزئ بهم.
والثاني : لا تهتم باستهزائهم إنا كفيناك المستهزئين يعني بما عجّله من إهلاكهم.
فأما الوليد بن المغيرة فإنه ارتدى فعلق بردائه شوك فذهب يجلس عليه فقطع أكحله فنزف فمات لوقته.
وأما العاص بن وائل فوطئ على شوكة فتساقط لحمه من عظامه فمات من يومه.
وأما الأسود بن عبد يغوث فقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا عليه بالعمى وثكل ولده فأتى بغصن فيه شوك فأصاب عينه فسالت حدقتاه على وجهه وقتل ولده زمعة يوم بدر فأعمى الله بصره وأثكله ولده.
وأما فكيهة بن عامر فخرج يريد الطائف ففقد ولم يوجد.
__________________
(٢) سورة الإسراء الآية (١١).
(٣) سورة الحجر الآية (٩٤).
واما الحرث بن الطلاطلة فإنه خرج لبعض حوائجه فضربه السموم في الطريق فاسود منه ومات.
وأما الأسود بن الحرث فأكل حوتا مملوحا فأصابه عطش فلم يتمالك من شرب الماء حتى انشق بطنه ومات.
وأما ابن عطية فاستسقى (٤) فمات.
ومثله ما رواه ابن مسعود قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم نصلي في ظل الكعبة وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزورا في ناحية مكة فبعثوا فجاءوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد فجاءت فاطمة فطرحته عنه ، فلما انصرف قال : «اللهم عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط».
قال عبد الله بن مسعود : فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : أن خباب بن الأرت أتاه حين اشتد الأذى من قريش فقال : يا رسول الله ادع لنا ربك أن يستنصر لنا على مضر ، فقال : «إنكم تعجلون لقد كان الرجل ممن قبلكم يمشط بأمشاط الحديد حتى يخلص إلى ما دون عظمه من لحم أو عصب ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه وأنكم تعجلون ، والله ليمضي هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه» ، ثم دعا عليهم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، فقطع الله عنهم المطر حتى مات الشجر وذهب الثمر وأجدبت الأرض وماتت المواشي واشتووا القد وأكلوا العلهز (٥) ، فلما انتهت بهم الموعظة استعطفوه فعطف ورغب إلى الله تعالى فمطروا.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما رواه ابن عباس قال : قيل لعمر حدثنا عن شأن جيش العسرة؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قيظ
__________________
(٤) استسقى : أصابه داء الاستسقاء وهو مرض يسبب احتفاظ الجسم بالماء فتتلف أعضاؤه الداخلية ويموت.
(٥) العلهز : القراد الضخم ، طعام من الدم والوبر وهو يؤكل في المجاعات.
شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى خشينا أن تنقطع رقابنا فكان الرجل يذهب ليلتمس الماء فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى كان الرجل ينحر بعيره فيعصره فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على صدره فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله! إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا ، قال : «أتحب ذلك»؟ قال : نعم ، فرفع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده فلم يرجعها حتى مالت السحاب فأظلت وأمطرت حتى رووا وملئوا ما معهم من الأوعية ، فذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر (٦).
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما رواه مسلم الملالي عن أنس بن مالك قال : أتى أعرابي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال يا رسول الله! لقد أتيناك وما لنا بعير يئط ولا صبي يصطبح ثم أنشد :
أتيناك والعذراء بدمي لبانها |
|
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل |
وألقى بكفيه الصبي استكانة |
|
من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلي |
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا |
|
سوى الحنظل العامي والعلهز السفلي |
وليس لنا إلّا إليك فرارنا |
|
وأين فرار الناس إلّا إلى الرسل |
فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم يجر ردائه حتى صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : «اللهم اسقنا غيثا مغيثا سحا طبقا غير رائث تنبت به الزرع وتملأ به الضرع وتحيي به الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون» ، فما استتم الدعاء حتى التقت السماء بأروقتها فجاء أهل البطانة يضجون : يا رسول الله! الغرق ، فقال : «حوالينا ولا علينا» ، فانجاب السحاب عن المدينة كالإكليل ، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه وقال : «لله در أبي طالب لو كان حيا لقرّت عيناه من الذي ينشدنا شعره» ، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : يا رسول الله! كأنك أردت قوله :
وابيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
يعوذ به الهلاك من آل هاشم |
|
فهم عنده في نعمة وفواضل |
__________________
(٦) أي كانت خاصة بهم لم تتجاوزهم.
كذبتم وبيت الله نبرى محمدا |
|
ولما نقاتل دونه ونناضل |
ونسلمه حتى نصرع حوله |
|
ونذهل عن أبنائنا والحلائل |
وقام رجل من كنانة وأنشد :
لك الحمد والحمد ممن شكر |
|
سقينا بوجه النبي المطر |
دعا الله خالقه دعوة |
|
وأشخص معها إليه البصر |
فلم يك إلّا كلقاء الردى |
|
وأسرع حتى رأينا الدرر |
وفاق العز إلى جم البعاق |
|
أغاث به الله عليا مضر |
وكان كما قاله عمه |
|
أبو طالب أبيض ذو غرر |
به الله يسقي صوب الغمام (٧) |
|
وهذا العيان لذاك الخبر |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت».
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما أظهره الله تعالى من كرامته في عمه العباس حين استسقى به عمر رضي الله تعالى عنه متوسلا إليه بعمه فخرج يستسقي به وقد أجدب الناس ، فقال : اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وبقية آبائه وكبير رجاله فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين إليك مستغفرين.
فقال العباس وعيناه ينضحان : اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس من روحك إلّا القوم الكافرون. فنشأت السحاب وهطلت السماء فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون هنيا لك ساقي الحرمين فقال حسان بن ثابت :
سأل الإمام وقد تتابع جدبنا |
|
فسقى الغمام بغرة العباس |
عم النبي وصنو والده الذي |
|
ورث النبي بذاك دون الناس |
أحيا الإله به البلاد فأصبحت |
|
مخضرة الأجناب بعد اليأس |
فقال الفضل بن العباس بن أبي لهب يفتخر لذلك :
__________________
(٧) صوب الغمام وصيب الغمام : ماء الغيوم أي المطر.
بعمي سقى الله الحجاز وأهله |
|
عشية يستسقي بشيبته عمر |
توجه العباس في الجدب راغبا |
|
فما كر حتى جاد بالديمة المطر |
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما روي أن أسماء بنت عميس قالت لفاطمة أن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما كان عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد أوحي إليه فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس أو كادت تغيب ثم إنه سري عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أصليت يا أبا الحسن»؟ قال : لا. فقال : «اللهم رد على علي الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد».
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى اليمن فقلت يا رسول الله تبعثني وأنا حدث السن لا علم لي بالقضاء؟ قال : «انطلق فإن الله تعالى سيهدي قلبك ويثبت لسانك». قال علي رضي الله تعالى عنه : فما شككت في قضاء بين اثنين ولذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أقضاكم علي» ، ومثله قوله لابن عباس وهو يومئذ غلام : «اللهم فقّهه في الدين وعلمه التأويل فخرج أفقه الناس في الدين وأعلمهم بالتأويل حتى سمي البحر لسعة علمه.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما رواه أبو العالية عن أبي هريرة قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتميرات فقلت ادع الله لي بالبركة فيهن فصفهن على يدي ثم دعا بالبركة فيهن ثم قال اجعلهن في المزور فإذا أردت شيئا فأدخل يدك فيه ولا تنثره. قال أبو هريرة فلقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله وكنا نأكل منه ونطعم وكان لا يفارق حقوي فلما كان يوم قتل عثمان انقطع فذهب.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما رواه جعيل الأشجعي قال : غزوت مع رسول الله في بعض غزواته فقال : «سر يا صاحب الفرس» ، فقلت : يا رسول الله هي عجفاء ضعيفة فرفع مخنقة معه فضربها بها وقال : «اللهم بارك له فيها». قال : فلقد رأيتني ما أمسك رأسها أن تقدم الناس ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة وهي أوبأ أرض فيه فقال : «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وصححها لنا وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها إلى الجحفة» (٨) ، فصارت كذلك.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : أنه أخذ يوم بدر كفا من حصى وتراب ورمى به في وجوه القوم وقال : «شاهت الوجوه» ، فتفرق الحصى في المشركين ولم يصل ذلك الحصى والتراب أحدا إلّا قتل أو أسر ، وفيه نزل قول الله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٩).
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : أن الطفيل بن عمرو الدوسي قدم مكة وكان شاعرا لبيبا فقالت قريش له : احذر محمدا فإن قوله كالسحر يفرّق بين المرء وبين زوجه ، فأتاه في بيته وقال : يا محمد اعرض أمرك ، فعرض عليه الإسلام وتلا عليه القرآن فأسلم وقال : يا رسول الله! إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا عليهم ، فقال : «اللهم أجعل له آية» ، فخرجت حتى إذا كنت بثنية وقع نور بين عيني مثل المصباح ، فقلت : اللهم في غير وجهي أخشى أن يظنوا بي أنها مثلة فتحول ، فوقع في رأس سوطي ، فجعل الحاضرون يرون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط من الثنية ، ثم دعوت رؤساء قومي إلى الإسلام فأبطئوا ، فجئت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله! إنهم قد غلبوني على دوس ، فادع الله عليهم ، فقال : «اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم» ، فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم حتى أسلموا.
ومن أعلامه صلىاللهعليهوسلم : ما رواه أبو نهيك الأزدي عن عمرو بن أخطب قال : استسقى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ماء فأتيته بإناء فيه ماء وفيه شعرة ، فرفعتها ثم ناولته
__________________
(٨) الجحفة : موضع بعيد عن المدينة كانت تسكنه اليهود. والحديث رواه الشيخان.
(٩) سورة الأنفال الآية (١٧).
فقال : «اللهم جملة» ، قال : فرأيته بعد ثلاث وتسعين ما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء.
ونهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن ينقي الرجل شعره في الصلاة ، فرأى رجلا ينقي شعره في الصلاة فقال : «قبح الله شعرك» ، فصلع مكانه.
فإن قيل : فإجابة الأدعية لا تكون معجزة للنبوّة لأنه قد تجاب دعوة غير الأنبياء.
قيل : أدعية الأنبياء مجابة على العموم في جميعها ، وأدعية غيرهم إن أجيبت فعلى الخصوص في بعضها ، لأن الأنبياء منطقون بالحق ، فإذا نطقت ألسنتهم بالدعاء صادف ما أمروا به فأجيبوا إليه ، وغيرهم قد ينطق بالحق وبغيره ، فإن أجيبت أدعيتهم ، فهو تفضل يقف على مشيئة الله تعالى.
الباب الثاني عشر
في إنذاره صلىاللهعليهوسلم بما سيحدث بعده
روى فضالة بن أبي فضالة الأنصاري قال : خرجت مع أبي إلى ينبع عائد لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكان بها مريضا فقال له أبي ، يا أبا الحسن ما يقيمك بهذا البلد لا آمن أن يصيبك أجلك فلا يكن أحد يليك إلا أعراب جهينة ، فلو احتملت إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك فقال : يا أبا فضالة! أخبرني حبيبي وابن عمي رسول الله صلىاللهعليهوسلم إني لا أموت حتى أؤمر ولا أموت حتى أقتل الفئة الباغية ولا أموت حتى تخضب هذه من هذه وضرب بيده على لحيته وهامته قضاء مقضيا وعهدا معهودا وقد خاب من افترى.
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه أبو سلمة عن أبي هريرة قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمارية القبطية في بيت حفصة بنت عمر فوجدتها معه تضاحكه فقالت : يا رسول الله في بيتي من دون بيوت نسائك قال : فإنها علي حرام أن أمسها ، ثم قال لها يا حفصة ألا أبشرك قلت بلى بأبي أنت وأمي قال : «يلي هذا الأمر من بعدي أبو بكر أبوك اكتمي هذا عليه» فخرجت حتى دخلت على عائشة فقالت : لها الا أبشرك يا ابنة أبي بكر فقالت : بما ذا ، فذكرت ذلك لها وقالت قد استكتمني فاكتميه فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) (١) الآيات.
__________________
(١) سورة التحريم الآية (١).
ومن إنذاره : ما رواه معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى اليمن فخرج معي يوصيني فلما فرغ قال : يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد هذا ولعلك تمر بمسجدي ومنبري فبكى معاذ ثم التفت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأقبل بوجهه نحو المدينة وقال : إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنفسهم أولى الناس بي وليس كذلك ، إن أولى الناس بي المتقون من كانوا أو حيثما كانوا ، اللهم إني لا أحل لهم فساد ما أصلحت.
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه عبد الله بن عباس قال : كنت قاعدا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ أقبل عثمان ، فلما دنا منه قال : يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة تقع قطة من دمك عليّ فسيكفيكهم الله يغبطك أهل المشرق والمغرب وتبعث يوم القيامة أميرا على مخذول.
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله».
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما روي أنه قال لفاطمة رضي الله تعالى عنها : إنك أول أهل بيتي لحاقا بي ونعم السلف أنا لك ، فكانت أول من مات بعده من أهل بيته صلىاللهعليهوسلم.
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لنسائه : «ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأذنب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت تقتل».
فقيل : إن عائشة رضي الله عنها لما وصلت إلى مياه بني عامر ليلا نبحتها الكلاب فقالت : ما هذا؟ قالوا : الحوأب ، قالت : ما أظنني إلا راجعة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لنا ذات يوم : «كيف بإحداكن إذا نبح عليها كلاب الحوأب».
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه ثابت عن الحسن البصري قال : كان الحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما يجيء ورسول الله صلىاللهعليهوسلم ساجد فيجلس على عنقه
فإذا أراد أن يرفع رأسه أخذه فوضعه في حجره ثم قال : إن ابني هذا سيد وأن الله تعالى سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يوحى إليه فبرك على ظهره وهو منكب ولعب على ظهره ، فقال جبريل : يا محمد إن أمتك ستفتن بعدك ويقتل ابنك هذا من بعدك ، ومد يده فأتاه بتربة بيضاء وقال : في هذه الأرض يقتل ابنك اسمها الطف ، فلما ذهب جبريل خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أصحابه والتربة في يده وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وحذيفة وعمار وأبو ذر وهو يبكي ، فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال : «أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه».
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : أن الحجاج لما قتل عبد الله بن الزبير دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر فقال لها : إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟
قالت : ما لي من حاجة ولكن انتظر حتى أحدثك شيئا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يخرج من ثقيف كذاب ومبير (٢) أما الكذاب فقد رأيناه ـ يعني المختار ـ وأما المبير فأنت» ، فقال الحجاج : أنا مبير المنافقين.
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه عبد الملك بن عمير قال : قال معاوية رضي الله تعالى عنه : والله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صلىاللهعليهوسلم لي : «يا معاوية إن وليت فأحسن».
ومن إنذاره صلىاللهعليهوسلم : ما رواه عبد الله بن عباس عن أبيه أن النبي صلىاللهعليهوسلم نظر إليه مقبلا فقال : «هذا عمي أبو الخلفاء الأربعين أجود قريش كفا وأن من ولده السفاح والمنصور والمهدي يا عم بي فتح الله هذا الأمر وبرجل من ولدك يختم» إلى كثير من نظائر هذا.
__________________
(٢) مبير : تصغير مبر ، والمبر بالشيء : الضابط له ، وتطلق على الجواد العنود أو البغل الشموس.
الباب الثالث عشر
في معجزة صلىاللهعليهوسلم بما ظهر من البهائم
إذا كان الإعجاز خارقا للعادة لم يمتنع فيه ظهور ما خالفها وإذا كانت البهائم مسلوبة الإفهام مفقودة الكلام فليس بمستنكر إذا أراد الله تعالى بها إظهار معجز أن يعطيها من المعرفة أن تنطق بما ألهمها وتخبر بما أعلمها ثم سلبها ذلك فتعود إلى طبعها كما أحل في الشجرة كلاما سمعه موسى وفي العصا أن صارت حية تسعى لتكون من باهر الآيات وقاهر المعجزات.
فمن آياته صلىاللهعليهوسلم : أن رجلا كان في غنمه يرعاها فأغفلها ساعة من نهاره فخاتله (١) ذئب فأخذ منها شاة فأقبل يلهف فطرح الذئب الشاة ثم كلمه بكلام فصيح فقال : ويحك لم تمنعني رزقا رزقنيه الله تعالى؟ فجعل أهبان يصفق بيديه ويقول : تالله ما رأيت كاليوم «ذئب يتكلم!» فقال الذئب : أنتم عجب وفي شأنكم عبرة هذا محمد يدعو إلى الحق ببطن مكة وأنتم لاهون عنه ، فهدي الرجل لرشدة وأقبل حتى أسلم وحدّث القوم بقصته ، وبقي لعقبه شرف يفخرون به على العرب ويقول مفتخرهم : أنا ابن مكلم الذئب.
ومن آياته صلىاللهعليهوسلم : ما رواه أبو سعيد الخدري قال : بينما راع يرعى في الحرة غنما إذ جاء ذئب إلى شاة من غنمه فانتهرها فحال الراعى بين الذئب والشاة فأقعى الذئب على عريمة ذنبه وقال للراعي : ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق
__________________
(١) خاتله : غافله وخادعه.
ساقه الله إليّ ، فقال الراعي : العجب من ذئب يقعى على ذنبه يكلمني بكلام الإنس ، فقال له الذئب : ألا أحدثك بأعجب من هذا؟ هذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين الحرتين (٢) يحدث الناس بأنباء ما قد سبق ، فأخذ الراعي الشاة فأتى بها المدينة ، وأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فخرج إلى الناس ، فقال للراعي : «قم فحدثهم» ، فقام يحدثهم فقال : «صدق الراعي وكان اسمه عميرا الطائي فسمي مسلم الذئب».
ومن آياته صلىاللهعليهوسلم : ما روى ابن عمر عن أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي قد صاد ضبا (٣) وجعله في كمه ليذهب به فيأكله ، فلما رأى الجماعة قال : ما هذا قالوا : النبي صلىاللهعليهوسلم ، فجاء يشق الناس وقال : «واللات والعزى ما أحد أبغض إليّ منك ، ولو لا أن تسمينى قومي عجولا لعجلت بقتلك» ، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أقوم فأقتله فقال : «يا عمر أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا ، ثم قال للاعرابي : ما حملك على ما قلت» فقال : واللات والعزى لا آمنت أو يؤمن بك هذا الضب وأخرج الضب من كمه فطرحه بين يدي النبي صلىاللهعليهوسلم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا ضب» ، فأجابه الضب بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعا لبيك وسعديك يا زين من يوافي القيامة قال : «من تعبد؟» قال : الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي الجنة رحمته وفي النار عقابه قال : «فمن انا يا ضب؟» قال : رسول رب العالمين ، وخاتم النبيين ، وقد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك فقال الأعرابي لا لا أتبع أثرا بعد عين والله لقد جئتك وما على ظهر الأرض أحد أبغض إليّ منك وإنك اليوم أحب إليّ من نفسي ومن والدي وإني لأحبك بداخلي وخارجي وسري وعلانيتي أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ؛ فقال صلىاللهعليهوسلم : «الحمد لله الذي هداك بي إن هذا الدين يعلو ولا يعلى» ، فرجع الأعرابي إلى قومه فأخبرهم بالقصة وكان من بني سليم ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ألف إنسان منهم فأمرهم أن يكونوا تحت راية
__________________
(٢) والمدينة بين حرتين ، والحرة الأرض ذات الحجارة السوداء.
(٣) الضب : حيوان صحراوي صغير الحجم.