أعلام النبوّة

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي

أعلام النبوّة

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي


المحقق: سعيد محمد اللحام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

ولكن اجعل لي ولك المدد ، قال : «ليس ذلك لك ،» ، فقال : قم يا محمد إلى هاهنا ، فقام إليه فوضع عامر يده بين منكبيه ثم أومأ إلى أربد أن اضرب فسل أربد سيفه قريبا من ذراع ، ثم أمسك الله يده فلم يستطع أن يسله ولا يغمده ، فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أربد فرآه على ما هو عليه فقال : «اللهم اكفنيهما بما شئت اللهم أهد بني عامر واغن الدين عن عامر» فانطلقا وعامر يقول : والله لأملأنها عليك خيلا دهما (١٥) ووردا (١٦) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأبى الله ذلك وأبناء قيلة ، يعني الأنصار» ثم قال عامر لأربد : ويلك لم أمسكت عنه ، فقال : والله ما هممت به مرة إلّا رأيتك ولا أرى غيرك أفأضربك بالسيف وسارا.

فأما عامر فطرح الله عليه الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول : أغدة كغدة البكر (١٧) في بيت امرأة من بني سلول ، وركب فرسه فركضه (١٨) حتى مات.

وأما أربد فقدم على قومه فقالوا : ما وراءك يا أربد ، فقال : والله لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذا حتى أقتله ، ثم خرج بعد مقالته بيوم أو يومين ومعه جمال له تتبعه ، فأرسل الله عليه وعلى جماعته صاعقة أحرقتهم ، وقيل : نزل في صاعقته قول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) (١٩) يعني خوفا من الصواعق وطمعا في المطر ، وفيه يقول لبيد بن ربيعة وهو أخو أربد لأمه :

أخشى على أربد الحتوف ولا

أرهب نوء السماك والأسد

أفجعني الرعد والصواعق بالفا

رس يوم الكريهة النجد

__________________

(١٥) خيلا دهما : خيلا سودا.

(١٦) الورد : الخيل لونها ما بين الكميت والأشقر.

(١٧) البكر : البعير.

(١٨) ركضه : رماه وداسه.

(١٩) سورة الرعد الآية (١٢).

١٠١

كل بني حرة مصيرهم

قل وإن أكثرت من العدد

أن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا

يوما يصيروا للهلك والنكد

فإن قيل : فهذا أخبار آحاد لا يقطع بمثلها قيل : العداوة ظاهرة والطلب معلوم والسلامة موجودة فلم تدفع جملة الأخبار ولم يصح في جميعها توهم الكذب وإن جاز في آحادها توهم الكذب كالمحكى من سخاء حاتم وشجاعة عنترة.

١٠٢

الباب التاسع

فيما شوهد من معجزات أفعاله

إن الله تعالى قدر لعباده أفعالا كما قدر لهم أجساما وآجالا انتهى إلى غاية أعجزهم عن تجاوزها لتكون أفعالهم مقصورة على عرف مألوف وحد معروف يتواصلون بها إلى مصالحهم فيعلمون أن ما تجاوزها وخرج عن عرفها من أفعال الله تعالى فيهم لا من أفعالهم إن أظهرها في أحدهم دل على اختصاصه بالله تعالى دونهم فكان بها ممتازا وإليه تعالى منحازا ليخص بطاعة إلهية كما اختص بأفعال لاهوتية فلذلك صارت الأفعال المعجزة شاهدة على صحة النبوّة.

فمن أعلامه : ما رواه البخاري عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال : قلت لجابر بن عبد الله حدثني بحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعته منه أرويه عنك ، فقال جابر : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق نحفر فلبثنا ثلاثة أيام لم نطعم طعاما ولا نقدر عليه فعرضت في الخندق كدية (١) غليظة لا يعمل فيها الفأس فجئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت هذه كدية قد عرضت في الخندق ورششنا عليها الماء فقام وبطنه معصب بالحجر (٢) فأخذ المعول والمسحاة ثم سمى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل (٣) فلما رأيت ذلك منه قلت يا رسول الله ائذن لي فأذن لي فجئت إلى

__________________

(١) كدية : صخرة صلبة.

(٢) وكانوا يعصبون بطونهم بالحجارة من الجوع فيخف ألمهم.

(٣) كثيبا أهيل : تلا صغيرا من رمل خفيف ناعم.

١٠٣

امرأتي فقلت ثكلتك أمك إني رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا لا صبر لي عليه فما عندك ، قالت عندي صاع من شعير وعناق (٤) ، قال فطحنا الشعير وذبحنا العناق وطبخناها وجعلناها في البرمة (٥) وعجنا العجين ثم رجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلبثت ساعة ثم استأذنت ثانية فأذن لي فجئت فإذا بالعجين قد أمكن فأمرتها بالخبز وجعلت القدر على الأثافي (٦) ثم جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشاورته وقلت عندنا طعيم لنا فإن رأيت أن تقوم معي أنت ورجل أو رجلان معك فعلت فقال : «ما هو وكم هو» قلت : صاع من شعير وعناق ، فقال : «ارجع إلى أهلك فقل لها لا تنزع البرمة من الأثافي ولا يخرج الخبز من التنور حتى آتي» ، ثم قال للناس : «قوموا إلى بيت جابر» ، فاستحييت حياء لا يعلمه إلّا الله تعالى فقلت لامرأتي قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه أجمعين ، فقالت : أكان سألك كم الطعام ، قلت : نعم ، قالت : الله ورسوله أعلم قد أخبرته بما كان عندنا ، فذهب عني بعض ما أجده وقلت لها صدقت ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل ثم قال لأصحابه : «لا تضاغطوا (٧)» ثم برّك (٨) على التنور والبرمة ، فجعلنا نأخذ من التنور الخبز ونأخذ من البرمة اللحم فنثرد ونغرف ونقرب إليهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليجلس على الصحفة سبعة أو ثمانية» فلما أكلوا كشفنا التنور والبرمة فإذا هما قد عادا إلى أملأ مما كانا عليه حتى شبع المسلمون كلهم وبقيت طائفة من الطعام ، فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الناس قد أصابهم مخمصة (٩) فكلوا وأطعموا» ، فلم نزل يومنا نأكل ونطعم ، قال فأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة أو قال مائتين أقل من الثمانمائة ، وهذا نظير معجزة عيسى عليه‌السلام في المائدة.

__________________

(٤) العناق : انثى الماعز الصغيرة لم تتم السنة.

(٥) البرمة : وعاء من الفخار.

(٦) الأثافي : ثلاثة أحجار توضع عليها القدر وتوقد تحتها النار.

(٧) لا تصاغطوا : لا تتدافعوا للدخول.

(٨) برّك : دعا بالبركة.

(٩) مخمصة : جوع.

١٠٤

ومن أعلامه : ما رواه مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء ، قالت : نعم ، فأخرجت أقراصا (١٠) من شعير ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم أرسلني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجدته في المسجد معه الناس فقمت عليهم فقال لي رسول الله : «أرسلك أبو طلحة»؟ قلت : نعم ، قال : «للطعام»؟ قلت : نعم ، فقال لمن معه : «قوموا» ، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم ، فقالت : الله ورسوله أعلم ، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقبل معه حتى دخلا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أم سليم هلمي ما عندك» ، فجاءت بذلك الخبز فأمر به ففت وعصرت أم سليم عكة (١١) لها ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء أن يقول ثم قال : «ائذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال : «ائذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال : «ائذن لعشرة» ، حتى أكل القوم وشبعوا وخرجوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا والمعجز فيه مع إطعام العدد الكثير من الطعام اليسير ما أخبر به أنس بن مالك مما جاء فيه.

ومن أعلامه : ما رواه أنيس بن أبي يحيى عن إسحاق بن سالم عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : «أدع لي أصحابك» يعني أصحاب الصفة (١٢) ، قال : فجعلت أتبعهم رجلا رجلا أوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذنا فأذن لنا ووضعت بين أيدينا صحفة أظن فيها صنيعا قدر مد من الشعير فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده فقال : «خذوا بسم الله» ، فأكلنا ما شئنا ثم رفعنا أيدينا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وضعت الصحفة : «والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام غير شيء ترونه» ، فقيل

__________________

(١٠) اقراصا : أرغفة صغيرة سميكة.

(١١) عكة : وعاء من جلد يحفظ فيه السمن والدهن.

(١٢) الصفة : مقعد حجري مظلل كان بجانب المسجد وأصحاب الصفة فقراء المهاجرين.

١٠٥

لأبي هريرة : قدر كم كانت حين فرغتم قال : مثلها حين وضعت إلّا أن فيها أثر الأصابع.

ومن أعلامه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حصل بالحديبية وهي جافة قال للناس : «انزلوا». فقالوا : يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهما فدفعه إلى البراء بن عازب وقال : «اغرز هذا السهم في بعض قلب (١٣) الحديبية وهي جافة» ، ففعل فجاش الماء (١٤) ونادى الناس بعضهم بعضا من أراد الماء. فقال أبو سفيان قد ظهر بالحديبية قليب فيه ماء ثم قال لسهيل بن عمرو : قم بنا إلى ما فعل محمد فأشرفا على القليب والعيون تحت السهم فقالا : ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرحيل قال للناس : خذوا حاجتكم من الماء ثم قال للبراء : اذهب فرد السهم ، فلما فرغوا وارتحلوا أخذ البراء السهم فجف الماء كأنه لم يكن هناك ماء وهذا نظير ما أعطى موسى من الحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا.

ومثله ما روي أنه في غزوة بني المصطلق دعا بركوة جافة ثم تفل فيها ثم قلبها فتفجرت من بين أصابعه عيون حتى شرب الخيل والإبل وملئ كل سقاء.

ومن أعلامه : أن قوما شكوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملوحة مائها فقام بأصحابه حتى أشرف على بئرهم فتفل فيها ثم انصرف فانفجرت بالماء الزلال وكانت غائرة وأنها على حالها اليوم ويتوارثها أهلها ويعدونها من أعظم مفاخرهم ، ولما بلغ ذلك قوم مسيلمة سألوه مثلها فتفل فيها (١٥) فصار ماؤها أجاجا كبول الحمار وهي اليوم على حالها.

وجاءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة بصبي لها قد تمعط (١٦) شعره فمسح رأسه بيده فاستوى

__________________

(١٣) قلب : منحدرات أو أمكنة واطئة.

(١٤) جاش الماء : نبع.

(١٥) فيها : في بئر لهم.

(١٦) تمعط شعره : سقط وضعف.

١٠٦

شعره فبلغ ذلك قوم مسيلمة فأتوه بصبي مثله فمسح رأسه فصلع وبقي نسله صلعا إلى وقتنا هذا.

ومن أعلامه : ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما غزونا خيبر ومعنا من يهود فدك جماعة ، فلما أشرفنا على القاع إذا نحن بالوادي والماء يقلع الأشجار ويهدهد الجبال فقدرنا الماء فإذا هو أربع عشرة قامة فقال بعض الناس : يا رسول الله ، العدو من ورائنا والوادي قدامنا فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجد ودعا ثم قال : «سيروا على اسم الله» ، فعبرت الخيل والإبل والرجال فكان الفتح والغلبة له وهذا نظير فلق البحر لموسى.

نوع آخر من أعلامه : روى الحسن أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني قدمت من سفر لي فبينا بنت خماسية تدرج حولي في وصيفها وحليها أخذت بيدها فانطلقت بها إلى وادي فلان فطرحتها فيه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيها «ما كان اسمها». فقال : فلانة. فقال النبي «يا فلانة أجيبي بإذن الله» ، فخرجت الصبية وهي تقول : لبيك يا رسول الله وسعديك ، فقال لها : «إن أبويك قد أساءا فإن أحببت أن أردك إليهما» ، فقالت : لا حاجة لي فيهما وجدت الله خير أب منهما.

وهذا نظير ما فعله عيسى عليه‌السلام من إحياء الموتى.

ومن أعلامه : أن طفيلا العامري جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكا إليه الجذام فدعا بركوة ثم تفل فيها وأمره أن يغتسل بها فاغتسل فقام صحيحا.

وأتاه حسان بن عمرو الخزاعي مجذوما فدعا له بماء فتفل فيه ثم أمره فصبه على نفسه فخرج من علته كأن لم تكن به قط فرجع ودعا قومه إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم.

وأتاه قيس اللخمي وهو من سادات قومه وبه برص فتفل عليه فما بقي عليه إلّا مقدار الحبة.

١٠٧

وهذا نظير ما كان من عيسى ابن مريم عليه‌السلام في إبراء الأكمه (١٧) والأبرص (١٨).

ومن أعلامه : ما رواه سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انصرف ليلة من العشاء فأضاءت له برقة فنظر إلى قتادة بن النعمان فعرفه فقال : يا نبي الله كانت ليلة مطيرة فأحببت أن أصلي معك فأعطاه عرجونا وقال : «خذ هذا يستضيء لك ليلتك فإذا أتيت بيتك فإن الشيطان قد خلفك فانظر في الزاوية على يسارك» ، فدخلت فنظرت حيث قال فإذا أنا بسواد معلق به حتى سبقني. وفي هذا الخبر معجزات من فعل وقول.

ومن أعلامه : أن أبا قتادة بن ربعي جاءه يوم أحد وقد انقلعت إحدى عينيه وتعلقت على وجهه فقال يا رسول الله صلى الله تعالى عليك إن لي امرأة وأخشى أن يقضي هذا عندها فردها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى موضعها فكانت أحسن عينيه.

ومثله ما رواه عروة بن الزبير أن زبيرة أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها أصابك اللات والعزى فرد الله عليها بصرها فقال عظماء قريش : لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زبيرة فأنزل الله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (١٩).

ومن أعلامه : أن جرهدا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين يديه طبق فأدنى يده الشمال ليأكل وكانت اليمنى مصابة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل باليمنى» فقال : يا رسول الله إنها مصابة ، فنفث عليها فما اشتكاها بعد إلى ساعته (٢٠).

وأبصر رجلا يأكل بشماله فقال : «كل بيمينك» ، فقال : لا أستطيع.

فقال : «لا استطعت» فما وصلت إلى فيه بعد وكان كلما رفع اللقمة إلى فيه ذهبت في شق آخر.

__________________

(١٧) الأكمه : المسلوب العقل الممسوح العين.

(١٨) الأبرص : المصاب بداء البرص وهو مرض يصيب الجلد.

(١٩) سورة الأحقاف الآية (١١).

(٢٠) إلى ساعته : إلى وفاته.

١٠٨

ومن أعلامه : شاة أم معبد الخزاعية وكانت مجهودة عجفاء وضراء فمسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرعها فدرت لبنا وامتلأت سمنا وبقيت على حالها إلى أن وافاها أجلها وأهدت له أم شريك عكة فيها سمن فأخذ منه شيئا (٢١) ورد العكة عليها فلم تزل العكة تصب سمنا مدة طويلة ، إلى أمثال هذا ونظائره.

فإن قيل : لا يثبت إعجاز النبوّات بمثل هذا من أخبار الآحاد فعنه جوابان :

أحدهما : أن رواة الآحاد قد أضافوه إليه في جمع كثير قد شاهدوه وسمعوا راويه فصدقوه ولم يكذبوه وفي الممتنع إمساك العدد الكثير عن رد الكذب كما يمتنع افتعالهم للكذب ولئن جاز اتفاقهم على الصدق مع الكثرة والافتراق وامتنع اتفاقهم على الكذب فلأن دواعي الصدق عامة متناصرة ودواعي الكذب خاصة متنافرة ، ولذلك كان صدق أكذب الناس أكثر من كذبه لأنه لا يجد من الصدق بدا ويجد من الكذب بدا.

والثاني : أنها أخبار وردت من طرق شتى وأمور متغايرة فامتنع أن يكون جميعها كذبا وإن كان في آحادها مجوز فصار مجموعها من التواتر ومفترقها من الآحاد فصار متواتر مجموعها حجة وإن قصر مفترق آحادها عن الحجة والله تعالى أعلم.

__________________

(٢١) شيئا : كمية قليلة.

١٠٩
١١٠

الباب العاشر

فيما سمع من معجزات أقواله

والمعجزات من القول هو الإخبار عن غائب لا يعلم به غير مخبره فيكون على صدقه دليلا لأن الخبر ما احتمل الصدق والكذب ، وحقيقة الخبر ما كان عن ماض فأما المستقبل فيطلق اسم الخبر عليه مجازا ، فإن أضيف المستقبل إلى فعل المخبر كان وعدا يصح من نبي وغير نبي وإن أضيف إلى فعل غيره كان من العيوب المعجزة لا يصح إلّا من نبي مبعوث وعن وحي منزل إذا تكرر عاريا عن الأسباب المنذرة ولئن ظهر خبر من غير نبي فهو بالاتفاق عن حدس إن صح في خبر لم يصح في كل خبر ويصح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل خبر لأنه من الله تعالى المحيط بعلم الغيوب كما قال لنبيه : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١).

وفي خزائن الله هاهنا تأويلان :

أحدهما : خزائن الرزق فأغنى وأفقر.

والثاني : خزائن العذاب فاعجل وأخر ، وفي قوله ولا أعلم الغيب تأويلان :

أحدهما : علم الخزائن على ما مضى من التأويلين.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية (٥٠).

١١١

والثاني : علم ما غاب عن ماض ومستقبل إلّا أن المستقبل لا يعلمه إلّا الله تعالى ومن أطلعه عليه من أنبيائه وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من وجهين إما من مخلوق معاين أو من خالق مخبر فكانت الأخبار المستقبلة من آيات الله تعالى المعجزة فأما الماضية فإن علم بها غير المخبر لم تكن معجزة وإن لم يعلم بها أحد كانت آية معجزة. وفي قوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (١) تأويلان :

أحدهما : أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد وإن قدرت عليه الملائكة.

والثاني : أنه من البشر وليس بمهلك لينفي عن نفسه غلو النصارى في المسيح.

وفي نفيه أن يكون ملكا تأويلان :

أحدهما : أنه دفع عن نفسه الملائكة تفضيلا لهم على الأنبياء.

والثاني : أني لست ملكا في السماء فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة ويغيب عن البشر وإن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما يشاهده الملائكة.

وفي قوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (٢) تأويلان :

أحدهما : لن أخبركم إلّا بما أطلعني الله عليه.

والثاني : لن أفعل إلّا ما أمرني الله به : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (٣) فيه تأويلان :

أحدهما : العالم والجاهل.

والثاني : المؤمن والكافر فثبت بما قررناه أن في الأقوال معجزة كالأفعال فكانت من أعلام النبوّة وآيات الرسل ونحن نذكر منها ما اختص بقول الرسول دون ما تضمنه القرآن معجز في الخبر وغير الخبر.

__________________

(١) سورة الأنعام من الآية (٥٠).

(٢) سورة الأنعام من الآية (٥٠) وسورة يونس من الآية (١٥).

(٣) سورة الأنعام من الآية (٥٠).

١١٢

أقسام مجيء الأخبار

ومجيء الأخبار ينقسم إلى أربعة أقسام ، اخبار استفاضة وأخبار تواتر وأخبار آحاد بقرائن وأخبار آحاد مجردة ، فأما أخبار الاستفاضة والتواتر فقد أطلق أهل العلم ذكرهما ولم يفرقوا بينهما وهما عندي مفترقان لأن اختلاف الأسماء موضوع لاختلاف المسمى فكان حملها على حقيقة الاختلاف أولى من حملها على مجاز الائتلاف فأخبار الاستفاضة ما بدأت منتشرة عن كل مخبر من بر وفاجر عن قصد وغير قصد ويتحققها كل سامع من عالم وجاهل فلا يختلف فيها مخبر ولا يتشكك فيها سامع ويستوي طرفاها ووسطها فتكون أوائلها كأواخرها وتناهيها وهو أقوى الأخبار ورودا وأبلغها ثبوتا.

وأما أخبار التواتر فهو ما أخبر به الواحد بعد الواحد حتى كثروا وبلغوا عددا ينتفي عن مثلهم المواطأة على الكذب والاتفاق على الغلط ولا يعرض في خبرهم شط ولا توهم فيكون من أوله من أخبار الآحاد وفي آخره من أخبار التواتر فيصير مخالفا لأخبار الاستفاضة في أوله وموافقا لها في آخره ويكون الفرق بين خبر الاستفاضة وخبر التواتر من ثلاثة أوجه :

أحدها : ما ذكرناه من اختلافها في الابتداء والانتهاء.

والثاني : أن أخبار الاستفاضة قد تكون عن غير قصد وأخبار التواتر لا تكون إلّا عن قصد.

والثالث : أن أخبار الاستفاضة لا يعتبر فيها عدالة المخبرين ويعتبر في أخبار التواتر عدالة المخبرين ثم يستوي الخبران في انتفاء الشك عنهما ووقوع العلم بهما ومثال الاستفاضة في أحكام الشرع إعداد الصلوات ومثال التواتر في أحكام الشرع نصب الزكوات واختلف في وقوع العلم بهما هل هو علم اضطرار أو علم اكتساب على وجهين :

أحدهما : أنه علم اكتساب وقع عن استدلال وهو قول بعض أصحاب الشافعي وبعض المتكلمين لأن العلم بخبرهم يقترن بصفات تختص بهم فصار طلب الصفات استدلالا يوصل إلى العلم بخبرهم.

١١٣

واختلف القائلون بهذا هل اكتسب العلم به من الخبر أو المخبر على وجهين :

أحدهما : من الخبر لأنه المقصود.

والثاني : من المخبر لأنه المبلغ فهذا قول من جعله علم استدلال.

والوجه الثاني : وهو قول الأكثرين من الفقهاء والمتكلمين أنه علم اضطرار أدرك ببداية العقول لأن العلم به قد يسبق إلى اليقين من غير نظر ويستقر في القلوب من غير انتقال.

واختلف القائلون بهذا في علمه بالاضطرار هل هو من فعل المخبر أو من فعل الله تعالى على وجهين :

أحدهما : أنه من فعل المخبر لوصوله إليه بنفسه وهو قول أكثر الفقهاء.

والوجه الثاني : أنه من فعل الله تعالى لأنه الملجئ إليه ، وهو قول أكثر المتكلمين واختلف من قال بهذا منهم على وجهين :

أحدهما : أنه من فعل الله تعالى في الخبر.

والثاني : أنه من فعله في المخبر والذي أراه أولى أن أخبار الاستفاضة توجب علم الاضطرار وأخبار التواتر توجب علم الاستدلال لاستغناء الإفاضة عن نظر واحتياج التواتر إلى نظر مع وقوع العلم بهما ، وزعمت الإمامية أنه لا يقع العلم بأخبار الاستفاضة والتواتر إلّا أن يكون في المخبرين إمام معصوم أو يصدقهم عليه إمام معصوم.

وحكي : عن ضرار بن عمرو أن حجة الاستفاضة والتواتر لا تقوم بعد الرسل بنقل أقوالهم وأفعالهم إلّا بإجماع الأمة على صدقهم أو صحة نقلهم ، وكلا القولين مدفوع بقضايا العقول لأنها تضطر إلى العلم بها كعلم الاضطرار بالمشاهدات ومدركات الحواس لأن الأخبار بالبلاد أن فيها مكة والصين يعلم بالاضطرار كما يعلم بالمشاهدة وكما يعلم الإنسان أن تحته أرضا وسماء فوقه لوجود أنفسنا عالمة بها على سواء ولما في غرائز الفطر من ذلك.

١١٤

قال طفيل الغنوي وهو أعرابي بطبع سليم من التكلف وبديهة خلصت من التعمق والتعسف ما يدل على وقوع العلم بأخبار الاستفاضة والتواتر :

تأوبني هم من الليل منصب

وجاء من الأخبار ما لا يكذب

تظاهرن حتى لم تكن لي ريبة

ولم يك فيما أخبروا متعقب (٤)

فصل

وأما أخبار الآحاد فضربان :

أحدهما : أن يقترن بها ما يوجب العلم بمضمونها وقد يكون ذلك من خمسة أوجه :

أحدها : أن يصدقه عليه من يقطع بصدقه كالرسول أو من أخبر الرسول بصدقه فيعلم به صدق المخبر وصحة الخبر.

والثاني : أن تجتمع الأمة على صدقه فيعلم بإجماعهم أنه صادق في خبره.

والثالث : أن يجمعوا على قبوله والعمل به فيكون دليلا على صدق خبره.

والرابع : أن يكون الخبر مضافا إلى حال قد شاهدها عدد كثير وسمعوا رواية الخبر فلم ينكروه على المخبر فيدل على صحة الخبر وصدق المخبر.

والخامس : أن يقترن بالخبر دلائل العقول فإن كان مضافا إليها كان صدقا لازما لأن ما وافقها لا يكون إلّا حقا وإن كان مضافا إلى غيرها لم يدل موافقها على صدق الخبر وإن أوجب صحة ما تضمنه الخبر.

والضرب الثاني : أن ينفرد خبر الواحد عن قرينة تدل على صدقه فهي أمارة توجب عليه الظن ولا تقتضي العلم ، يقوى إذا تطاول به الزمان فلم يعارض بردّ ولا مخالفة وأن تكرر في معناها ما يوافقها صار جميعها متواترا وإن كان أفرادها آحادا وإذا استقر هذا الأصل في الأخبار ولم يخرج المروي من إعلام

__________________

(٤) أي لم يترك إمكانية للتعقيب والتعقيب الإضافة أو الشرح والتعليق والمتعقب هو من يفعل ذلك.

١١٥

الرسول عنها وقد ذكرنا ما روي من أفعاله وسنذكر ما روي من أقواله :

فمنها : ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» فصدّق الله خبره وحقق ما ذكره ، وملك أمته أقطار الأرض حتى دان له بشرعه من في المشرق والمغرب.

وقال عليه‌السلام لعدي بن حاتم : «لا يمنعك من هذا الدين ما ترى من جهد أهله وضعف أصحابه فلكأنهم ببيضاء المدائن قد فتحت عليهم ولكأنهم بالظعينة تخرج من الحيرة حتى تأتي مكة بغير خفارة لا يخاف إلّا الله» فأبصر عدي ذلك كله ، وهذا لا يكون إلّا من اطلاع الله تعالى له على غيبه وتحقيقه لوعده في قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (٥).

ومن أعلامه : ما رواه البراء بن عازب ، قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفر الخندق فعرضت لنا صخرة عظيمة لا يأخذ فيها المعول فأخذ المعول وقال بسم الله وضرب ضربة فكسر ثلثها وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام» ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس» ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر وقال : «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن» فصدّق الله قوله وأعطاه ما فتح له.

وروى كعب بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم رحما وذمة» يعني أن أم إسماعيل بن إبراهيم كانت منهم.

ومن أعلامه : أنه كتب إلى كسرى كتابا يدعوه إلى الإسلام وبدأ باسمه قبل اسمه فلما قرأه أنف لنفسه (٦) من ابتدائه باسمه فمزق كتابه فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «تمزق ملكه».

ثم كتب كسرى في الوقت إلى عامله باليمن باذان ويكنى أبا مهران أن

__________________

(٥) سورة التوبة الآية (٣٣).

(٦) أنف لنفسه : أخذه الكبر.

١١٦

احمل إلى هذا الذي يذكر أنه نبي وبدأ باسمه قبل اسمي ودعاني إلى غير ديني ، فبعث إليه فيروز بن الديلمي مع جماعة من أصحابه وكتب معهم كتابا يذكر فيه ما كتب به كسرى ، فأتاه فيروز بمن معه وقال له : إن ربي ـ يعني كسرى ـ أمرني أن أحملك إليه فاستنظره ليلة ، فلما كان من الغد حضر فيروز سحبا فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة سلط عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل فأمسك ريثما يأتيك الخبر» ، فراع ذلك فيروز وهاله وعاد فيروز إلى باذان فأخبره ، فقال له باذان : كيف وجدت نفسك حين دخلت إليه؟ فقال : والله ما هبت أحدا قط كهيبة هذا الرجل ، فقال باذان : إن كان ما قاله حقا فهو نبي ، فلم يرعه إلّا ورود الخبر عليه بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة ، فأسلم باذان وفيروز ومن معهم من الأبناء ، وظهر العنسي بما افتراه من الكذب فأرسل إلى فيروز أن اقتله ، قتله الله ، فقتله ، وفي هذا الخبر من آيات الغيوب ما لا يعلمه إلّا الله أو من أطلعه عليه.

ومن أعلامه : أنه رأى ذراعي سراقة بن مالك بن جعشم دقيقين أشعرين فقال : «كيف بك إذا ألبست بعدي سواري كسرى» ، فلما فتحت فارس دعاه عمر وألبسه سواري كسرى وقال له : قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن جعشم.

ومن أعلامه : ما رواه جابر بن عبد الله قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «أن النجاشي أصحمة قد توفي هذه الساعة فاخرجوا بنا إلى المصلى نصلي عليه فصلى عليه وكبّر أربعا فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) (٧). الآية.

ثم جاء الخبر بموت النجاشي من تجار وردوا المدينة.

ومثله ما روي أن ريحا هبت بتبوك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا لموت منافق عظيم النفاق قد مات في ذلك الوقت».

__________________

(٧) سورة آل عمران الآية (١٩٩).

١١٧

ومن أعلامه : أنه قال لأصحابه : «اليوم نصرت العرب على العجم وبي نصروا» فجاء خبر الوقعة بذي قار وما أدال الله تعالى فيه العرب من العجم حين قتلت فيه بنو شيبان وبكر بن وائل من الفرس من قتلوا وكان أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وجاءهم الخبر أنه كان في الساعة من اليوم الذي أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن أعلامه : أنه كشف الله تعالى له ما غاب عنه في جيش مؤتة ، فقال لأصحابه : «أخذ الراية زيد بن حارثة وتقدم فقتل ومضى شهيدا ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب وتقدم فقتل ومضى شهيدا» ووقف وقفة ثم قال : «وأخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة وتقدم فقتل ومضى شهيدا» لأن عبد الله بن رواحة توقف عن أخذ الراية بعد قتل جعفر زمانا ثم أخذها ، قال : «ثم ارتضى المسلمون خالد بن الوليد فكشف العدو عنهم حتى خلصوا» ، ثم قام إلى بيت جعفر بن أبي طالب فاستخرج ولده ودمعت عيناه ونعى جعفر إلى أهله وجاءت الأخبار بأنهم قتلوا في ذلك اليوم على ما وصفه.

ومن أعلامه : قوله في ليلة الإسراء حين اصبح : «مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما وإذا اناء فيه ماء وقد غطوا عليه فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ورددت الغطاء كما كان وآية ذلك أن عيرهم الآن تقبل من موضع كذا يقدمها (٨) جمل أورق (٩) عليه غرارتان (١٠) إحداهما سوداء والأخرى ورقاء» ، فابتدر القوم الثنية فوجدوا ما وصف ، وسألهم عن الإناء فوجدوا الأمر كما قال.

ومن أعلامه : أنه رأى عليا كرم الله وجهه في غزاة العشيرة على التراب ومعه عمار فقال لهما : «ألا أخبركما بأشقى الناس» ، قال : بلى ، قال : «أشقى الناس أحمر ثمود وعاقر الناقة والذي يخضب ، يا علي هذه من هذه» ، وأشار إلى لحيته من رأسه ، وقال لعمار : «تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من الدنيا صاع من لبن» ، فكان من قتل ابن ملجم لعنه الله لعلي كرم

__________________

(٨) يقدمها : يتقدمها.

(٩) جمل أورق : في لونه بياض إلى سواد.

(١٠) غرارتان : مثنى غرارة وهي كيس من قماش

١١٨

الله وجهه ما كان وقتل عمار يوم صفين ، فلما ذكر الخبر لمعاوية لم ينكره ودفعه عن نفسه بأن قال : إنما قتله من جاء به.

ومثله ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر زيد بن صوحان فقال : «زيد وما زيد بسبقه عضو منه إلى الجنة» ، فقطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله ، وقال : «الخلافة بعدي ثلاثون وما بعد ذلك ملك».

نوع آخر من أعلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه نزل بجيشه في غزوة تبوك على غير ماء وهم نحو ثلاثين ألفا فعطشوا وشكوا ذلك إليه فبعث أبا قتادة وأبا طلحة وسماك بن خرشنة وسعد بن عبادة يلتمسون الماء فغابوا إلى قائم الظهيرة (١١) ثم رجعوا ولم يجدوا شيئا ، وبلغ العطش من الناس والخيل والدواب ، فصلى بأصحابه متيمما ، فلما فرغ شكوا إليه العطش فبعث أسيد بن حضير وأسامة يلتمسون الماء من الأعراب ، فقال المنافقون : أن محمدا يخبر باخبار السماء وهو لا يدري الطريق إلى الماء ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فأخبره بقولهم وسماهم له ، فشكى ذلك إلى سعد بن عبادة فقال سعد : إن شئت ضربت أعناقهم ، فقال : «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا» ، ثم قال لأبي الهيثم بن التيهان وأبي قتادة وسهيل بن بيضاء يستعرضون الطريق ويأخذون على الكثيب فتقفوا ساعة فإن عجوزا من الأعراب تمر بكم على ناقة لها معها سقاء من ماء فاطعموها واشتروا منها بما عزّ وهان (١٢) وجيئوا بها مع الماء» ، فمضوا حتى بلغوا الموضع الذي وصف لهم فإذا بالمرأة فقالوا : تبيعينا هذا الماء؟ قالت : أنا وأهلي أحوج إلى الماء منكم ، فطلبوا إليها أن تأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الماء فأبت وقالت : إن هذا لساحر ، خير الأشياء أن لا أراه ولا يراني فشدوا وثاقها حتى جاءوا بها مع الماء ، فلما وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلوا عنها ، وقال لها : تبيعين هذا الماء»؟ قالت : إن أهلي أحوج إليه منكم ، قال : «فأذني لنا فيه وليصيرن ذلك كما جئت به» ، قالت :

__________________

(١١) قائم الظهيرة : أي عند ما الشمس متعامدة مع الأرض فيتطابق كل شيء مع ظله وبعده تميل الشمس إلى الزوال.

(١٢) بما عزّ وهان : بالغالي والرخيص ، أي بأي ثمن تريده.

١١٩

شأنكم ، فقال لأبي قتادة : «هات الميضأة (١٣)» ، فقربت إليه فحل السقاء (١٤) وتفل فيه وصب في الميضأة فوضع يده فيه ثم قال : «ادنوا فخذوا» ، فجعل الماء يزيد والناس يأخذون حتى ما أبقوا معهم سقاء إلّا ملئوه وأرووا خليهم وأبلهم والميضأة ملأى ثم زاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السقاء حتى ملأه وبقي في الميضأة ثلثاه ثم توضئوا كلهم حين أصبحوا وهو يزيد ولا ينقص.

ومن أعلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن ناقة له ضلت في توجهه إلى تبوك فتفرّق الناس في طلبها وكان عنده عمارة بن حزم وفي رحل عمارة زيد بن اللصيت وكان يهوديا قد أسلم ونافق ، فقال زيد في رحل عمارة : يزعم محمد أنه نبي يخبركم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن منافقا يقول أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء ولا يدري أين ناقته ، والله لا أعلم إلّا ما علمني ربي وقد أعلمني أنها في الوادي في شعب كذا حبستها سمرة (١٥) بزمامها» ، فبادر الناس فوجدوها كذلك فأتوه بها ، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله وقال : لقد عجبت مما ذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رجل كان في رحله مع زيد بن اللصيت : أن زيدا قال هذا قبل أن تطلع علينا ، فوجأ عمارة زيدا في عنقه وقال : إنك لداهية في رحلي اخرج يا عدو الله منه ، ولأجل ما لقيه في غزاة تبوك من الجهد قال لأصحابه : «ألا أسرّكم» ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إن الله تعالى أعطاني الليلة الكنزين فارس والروم وأمدني بالملوك ملوك حمير يجاهدون في سبيل الله ويأكلون فيء الله» ، فكان ذلك.

ومن أعلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه بعث خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل من كندة فقال خالد : يا رسول الله كيف لي به وسط بلاد كلب وإنما أنا في عدد يسير؟ فقال : ستجده يصيد البقر فتأخذه ، فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة قمراء صائفة وهو على سطح له من شدة الحر مع امرأته فأقبلت البقر تحك بقرونها باب

__________________

(١٣) الميضأة : وعاء ماء الوضوء.

(١٤) فحل السقاء : أكبر الأوعية.

(١٥) السمرة واحد السمر وهو شجر صغير تأكل النوق من ورقه.

١٢٠