الإقتصاد في الإعتقاد

أبو حامد الغزالي

الإقتصاد في الإعتقاد

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٦

عنه قبله فهو قديم ، فلا ينبغي أن يخاطب ويكلف بل ينبغي أن يعلم المسكين أنه ليس يدري ما يقوله ، ولا هو يفهم معنى الحرف ، ولا هو يعلم معنى الحادث ، ولو علمهما لعلم أنه في نفسه إذا كان مخلوقا كان ما يصدر عنه مخلوقا ، وعلم أن القديم لا ينتقل إلى ذات حادثة ، فلنترك التطويل في الجليات فإن قول القائل بسم الله إن لم تكن السين فيه بعد الباء لم يكن قرآنا بل كان خطأ ، وإذا كان بعد غيره ومتأخرا عنه فكيف يكون قديما ونحن نريد بالقديم ما لا يتأخر عن غيره أصلا.

الاستبعاد الرابع : قولهم : أجمعت الأمة على أن القرآن معجزة للرسول عليه‌السلام وأنه كلام الله تعالى ، فإنه سور وآيات ولها مقاطع ومفاتح؟ وكيف يكون للقديم مقاطع ومفاتح؟ وكيف ينقسم بالسور والآيات؟ وكيف يكون القديم معجزة للرسول عليه‌السلام والمعجزة هي فعل خارق للعادة؟ وكل فعل فهو مخلوق فكيف يكون كلام الله تعالى قديما؟

قلنا : أتنكرون أن لفظ القرآن مشترك بين القراءة والمقروء أم لا؟ فإن اعترفتم به فكل ما أورده المسلمون من وصف القرآن بما هو قديم ، كقولهم القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، أرادوا به المقروء وكل ما وصفوه به مما لا يحتمله القديم ، ككونه سورا وآيات ولها مقاطع ومفاتح ، أرادوا به العبارات الدالة على الصفة القديمة التي هي قراءة ، وإذا صار الاسم مشتركا امتنع التناقض ، فالاجماع منعقد على أن لا قديم إلا الله تعالى ، والله تعالى يقول (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (١). ولكن نقول : اسم القديم مشترك بين معنيين ، فإذا ثبت من وجه لم يستحل نفيه من وجه آخر ، فكذا يسمى القرآن وهو جواب عن كل ما يوردونه من الإطلاقات المتناقضة فإن أنكروا كونه مشتركا ، فنقول : أما إطلاقه

__________________

(١) سورة يس الآية : ٣٩ ، والعرجون : العذق اذا يبس واعوج.

٨١

لإرادة المقروء دل عليه كلام السلف رضي الله عنهم إن القرآن كلام الله سبحانه غير مخلوق ، مع علمهم بأنهم وأصواتهم وقراءاتهم وأفعالهم مخلوقة وأما إطلاقه لإرادة القراءة فقد قال الشاعر :

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا

يعني القراءة ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن) (١) والترنم يكون بالقراءة. وقال كافة السلف : القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقالوا : القرآن معجزة ، وهي فعل الله تعالى إذ علموا أن القديم لا يكون معجزا فبان أنه اسم مشترك. ومن لم يفهم اشتراك اللفظ ظن تناقضا في هذه الاطلاقات.

الاستبعاد الخامس : أن يقال : معلوم أنه لا مسموع الآن إلا الأصوات ، وكلام الله مسموع الآن بالإجماع وبدليل قوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٢) فنقول : إن كان الصوت المسموع للمشرك عند الإجارة هو كلام الله تعالى القديم القائم بذاته فأي فضل لموسى عليه‌السلام في اختصاصه بكونه كليما لله على المشركين وهم يسمعون؟ ولا يتصور عن هذا جواب إلا أن نقول : مسموع موسى عليه‌السلام صفة قديمة قائمة بالله تعالى ، ومسموع المشرك أصوات دالة على تلك الصفة ، وتبين به على القطع الاشتراك إما في اسم الكلام وهو تسمية الدلالات باسم المدلولات ، فإن الكلام هو كلام النفس

__________________

(١) في صحيح مسلم : «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي حسن الصوت بالقرآن يترنم به.»

(٢) سورة التوبة الآية : ٦.

٨٢

تحقيقا ، ولكن الألفاظ لدلالتها عليه أيضا تسمى كلاما كما تسمى علما ؛ إذ يقال سمعت علم فلان وإنما نسمع كلامه الدال على علمه. وأما في اسم المسموع فإن المفهوم المعلوم بسماع غيره قد يسمى مسموعا ، كما يقال : سمعت كلام الأمير على لسان رسوله ومعلوم أن كلام الأمير لا يقوم بلسان رسوله بل المسموع كلام الرسول الدال على كلام الأمير ، فهذا ما أردنا أن نذكره في إيضاح مذهب أهل السنة في كلام النفس المعدود من الغوامض ، وبقية أحكام الكلام نذكرها عند التعرض لأحكام الصفات.

٨٣

القسم الثاني من هذا القطب

(في أحكام الصفات عامة ما يشترك فيها أو يفترق وهي أربعة أحكام)

الحكم الأول :

إن الصفات السبعة التي دللنا عليها ليست هي الذات بل هي زائدة على الذات ، فصانع العالم تعالى عندنا عالم بعلم وحي بحياة وقادر بقدرة ، هكذا في جميع الصفات ، وذهبت المعتزلة والفلاسفة إلى إنكار ذلك ، وقالوا : القديم ذات واحدة قديمة ولا يجوز إثبات ذوات قديمة متعددة ، وإنما الدليل يدل على كونه عالما قادرا حيا لا على العلم والقدرة والحياة ، ولنعين العلم من الصفات حتى لا نحتاج إلى تكرير جميع الصفات ، وزعموا أن العلمية حال للذات وليست بصفة ، لكن المعتزلة ناقضوا في صفتين إذ قالوا إنه مريد بإرادة زائدة على الذات ومتكلم بكلام هو زائد على الذات ، إلا أن الإرادة يخلقها في غير محل والكلام يخلقه في جسم جماد ويكون هو المتكلم به ، والفلاسفة طرّدوا قياسهم في الإرادة ، وأما الكلام فإنهم قالوا إنه متكلم بمعنى أنه يخلق في ذات النبي عليه‌السلام سماع أصوات منظومة ، إما في النوم وإما في اليقظة ، ولا يكون لتلك الأصوات وجود من خارج البتة ، بل في سمع النبي ، كما يرى النائم أشخاصا لا وجود لها ، ولكن تحدث صورها في دماغه ، وكذلك يسمع أصواتا لا وجود لها حتى أن الحاضر عند النائم لا يسمع ، والنائم قد يسمع ، ويهوله الصوت الهائل ويزعجه وينتبه خائفا مذعورا. وزعموا أن النبي إذا كان عاني الرتبة في النبوة ينتهي صفاء نفسه إلى أن

٨٤

يرى في اليقظة صورا عجيبة ويسمع منها أصواتا منظومة فيحفظها ، ومن حواليه لا يرون ولا يسمعون ، وهذا المعني عندهم برؤية الملائكة وسماع القرآن منهم ، ومن ليس في الدرجة العالية في النبوة فلا يرى ذلك إلا في المنام ، فهذا تفصيل مذاهب الضلال ، والغرض إثبات الصفات والبرهان القاطع هو أن من ساعد على أنه تعالى عالم فقد ساعد على أن له علما ، فإن المفهوم من قولنا عالم ومن له علم واحد ، فإن العاقل يعقل ذاتا ويعقلها على حالة وصفة بعد ذلك ، فيكون قد عقل صفة وموصوفا والصفة علم مثلا ، وله عبارتان :

إحداهما طويلة وهي أن نقول هذه الذات قد قام بها علم والأخرى وجيزة أو جزت بالتصريف والاشتقاق ، وهي أن الذات عالمة كما نشاهد الانسان شخصا ونشاهد نعلا ونشاهد دخول رجله في النعل ، فله عبارة طويلة وهو أن نقول هذا الشخص رجله داخلة في نعله أو نقول هو منتعل ولا معنى لكونه منتعلا إلا أنه ذو نعل وما يظن من أن قيام العلم بالذات يوجب للذات حالة تسمى عالمية ، هوس محض ، بل العلم هي الحالة ، فلا معنى لكونه عالما إلا كون الذات على صفة وحال تلك الصفة الحال وهي العلم فقط ، ولكن من يأخذ المعاني من الألفاظ فلا بد أن يغلط.

فإذا تكررت الألفاظ بالاشتقاقات فاشتقاق صفة العالم من لفظ العلم أورث هذا الغلط ، فلا ينبغي أن يغتر به. وبهذا يبطل جميع ما قيل وطول من العلة والمعلول وبطلان ذلك جليّ بأول العقل لمن لم يتكرر على سمعه ترديد تلك الألفاظ ، ومن علق ذلك بفهمه فلا يمكن نزعه منه إلا بكلام طويل لا يحتمله هذا المختصر ، والحاصل هو أنّا نقول للفلاسفة والمعتزلة : هل المفهوم من قولنا عالم عين المفهوم من قولنا موجودا وفيه إشارة إلى وجود وزيادة ، فإن قالوا لا ، فإذا كل من قال هو موجود عالم ، كأنه قال هو موجود وهذا ظاهر الاستحالة ، وإذا

٨٥

كان في مفهومه زيادة فتلك الزيادة هل هي مختصة بذات الموجود أم لا؟ فإن قالوا لا فهو محال إذ يخرج به عن أن يكون وصفا له وإن كان مختصا بذاته فنحن لا نعني بالعلم إلا ذلك وهي الزيادة المختصة بالذات الموجودة الزائدة على الوجود التي يحسن أن يشتق للموجود بسببه منه اسم العالم ، فقد ساعدتم على المعنى وعاد النزاع إلى اللفظ ، وإن اردت إيراده على الفلاسفة قلت : مفهوم قولنا قادر مفهوم قولنا عالم أم غيره؟ فإن كان هو ذلك بعينه فكأنا قلنا قادر قادر ، فإنه تكرار محض ، وإن كان غيره فإذا هو المراد فقد أثبتم مفهومين أحدهما يعبر عنه بالقدرة والآخر بالعلم ورجع الإنكار إلى اللفظ.

فإن قيل : قولكم أمر مفهومه عين المفهوم من قولكم آمر وناه ومخبر أو غيره ، فإن كان عينه فهو تكرار محض ، وإن كان غيره فليكن له كلام هو أمر وآخر هو نهي وآخر هو خبر ، وليكن خطاب كل شيء مفارقا لخطاب غيره ، وكذلك مفهوم قولكم إنه عالم بالأعراض أهو عين مفهوم قولكم إنه عالم بالجواهر أو غيره؟ فإن كان عينه فليكن الإنسان العالم بالجوهر عالما بالعرض بعين ذلك العلم ، حتى يتعلق علم واحد بمتعلقات مختلفة لا نهاية لها ، وإن كان غيره فليكن لله علوم مختلفة لا نهاية لها وكذلك الكلام والقدرة والإرادة وكل صفة لا نهاية لمتعلقاتها ينبغي أن لا يكون لأعداد تلك الصفة نهاية ، وهذا محال ، فإن جاز أن تكون صفة واحدة تكون هي الأمر وهي النهي وهي الخبر وتنوب عن هذه المختلفات جاز ان تكون صفة واحدة تنوب عن العلم والقدرة والحياة وسائر الصفات ، ثم إذا جاز ذلك جاز أن تكون الذات بنفسها كافية ويكون فيها معنى القدرة والعلم وسائر الصفات من غير زيادة وعند ذلك يلزم مذهب المعتزلة والفلاسفة.

والجواب أن نقول : هذا السؤال يحرك قطبا عظيما من اشكالات الصفات ولا يليق حلها بالمختصرات ، ولكن إذا سبق القلم إلى إيراده فلنرمز إلى مبدأ الطريق في حله ، وقد كعّ عنه أكثر المحصلين وعدلوا إلى التمسك بالكتاب

٨٦

والإجماع ، وقالوا هذه الصفات قد ورد الشرع بها ، إذ دل الشرع على العلم وفهم منه الواحد لا محالة والزائد على الواحد لم يرد فلا يعتقده ، وهذا لا يكاد يشفي فإنه قد ورد بالأمر والنهي والخبر والتوراة والإنجيل والقرآن فما المانع من أن يقال : الأمر غير النهي والقرآن غير التوراة وقد ورد بأنه تعالى يعلم السر والعلانية والظاهر والباطن والرطب واليابس وهلم جرا إلى ما يشتمل القرآن عليه ..

فلعل الجواب ما نشير إلى مطلع تحقيقه وهو أن كل فريق من العقلاء مضطر إلى أن يعترف بأن الدليل قد دل على أمر زائد على وجود ذات الصانع سبحانه ، وهو الذي يعبر عنه بأنه عالم وقادر وغيره ، والاحتمالات فيه ثلاثة : طرفان وواسطة ، والاقتصاد أقرب إلى السداد ، أما الطرفان فأحدهما في التفريط وهو الاقتصار على ذات واحدة تؤدي جميع هذه المعاني وتنوب عنها كما قالت الفلاسفة ، والثاني طرف الإفراط وهو إثبات صفة لا نهاية لآحادها من العلوم والكلام والقدرة ، وذلك بحسب عدد متعلقات هذه الصفات ؛ وهذا إسراف لا صائر إليه إلا بعض المعتزلة وبعض الكرامية ، والرأي الثالث هو القصد والوسط ، وهو أن يقال : المختلفات لاختلافها درجات في التقارب والتباعد ؛ فرب شيئين مختلفين بذاتيهما كاختلاف الحركة والسكون واختلاف القدرة والعلم والجوهر والعرض ، ورب شيئين يدخلان تحت حد وحقيقة واحدة ولا يختلفان لذاتيهما وإنما يكون الاختلاف فيهما من جهة تغاير التعلق ؛ فليس الاختلاف بين القدرة والعلم كالاختلاف بين العلم بسواد والعلم بسواد آخر أو بياض آخر ، ولذلك إذ حددت العلم تجد دخل فيه العلم بالمعلومات كلها ، فنقول : الاقتصاد في الاعتقاد أن يقال : كل اختلاف يرجع إلى تباين الذوات بأنفسها فلا يمكن أن يكفي الواحد منها ، وينوب عن المختلفات ، فوجب أن يكون العلم غير القدرة وكذلك الحياة وكذا الصفات السبعة ، وأن تكون الصفات غير الذات من حيث أن المباينة بين الذات الموصوفة وبين الصفة أشد من المباينة بين الصفتين.

٨٧

وأما العلم بالشيء فلا يخالف العلم بغيره إلا من جهة تعلقه بالمتعلق ، فلا يبعد أن تتميز الصفة القديمة بهذه الخاصية وهو أن لا يوجب تباين المتعلقات فيها تباينا وتعددا ، فإن قيل فليس في هذا قطع دابر الإشكال ، لأنك إذ اعترفت بإختلاف ما بسبب اختلاف المتعلق ، فالإشكال قائم ، فما لك وللنظر في سبب الاختلاف بعد وجود الاختلاف ..

فأقول : غاية الناصر لمذهب معين أن يظهر على القطع ترجيح اعتقاده على اعتقاد غيره ، وقد حصل هذا على القطع ، إذ لا طريق إلا واحد من هذه الثلاث ، أو اختراع رابع لا يعقل ، وهذا الواحد إذا قوبل بطرفيه المتقابلين له علم على القطع رجحانه ، وإذ لم يكن بد من اعتقاد ولا معتقد إلا هذه الثلاث ، وهذا أقرب الثلاث ، فيجب اعتقاده وإن بقي ما يحبك في الصدر من اشكال يلزم على هذا ، واللازم على غيره أعظم منه وتعليل الإشكال ممكن إما قطعه بالكلية والمنظور فيه هي الصفات القديمة المتعالية عن افهام الخلق فهو أمر ممتنع إلا بتطويل لا يحتمله الكتاب ، هذا هو الكلام العام.

وأما المعتزلة فإنا نخصهم بالاستفراق بين القدرة والإرادة ، ونقول لو جاز ان يكون قادرا بغير قدرة جاز ان يكون مريدا بغير إرادة ولا فرقان بينهما.

فإن قيل : هو قادر لنفسه فلذلك كان قادرا على جميع المقدورات ولو كان مريدا لنفسه لكان مريدا لجملة المرادات ، وهو محال ، لأن المتضادات يمكن إرادتها على البدل لا على الجمع ، وأما القدرة فيجوز أن تتعلق بالضدين.

والجواب أن نقول : قولوا انه مريد لنفسه ثم يختص ببعض الحادثات المرادات كما قلتم قادر لنفسه ولا تتعلق قدرته إلا ببعض الحادثات ، فإن جملة أفعال الحيوانات والمتولدات خارجة عن قدرته وإرادته جميعا عندكم ، فإذا جاز ذلك في القدرة جاز في الإرادة أيضا.

٨٨

وأما الفلاسفة فإنهم ناقضوا في الكلام وهو باطل من وجهين. أحدهما قولهم إن الله تعالى متكلم مع انهم لا يثبتون كلام النفس ولا يثبتون الأصوات في الوجود ، وإنما يثبتون سماع الصوت بالحلق في اذن النبي من غير صوت من خارج ، ولو جاز ان يكون ذلك بما يحدث في دماغ غيره موصوفا بأنه متكلم لجاز ان يكون موصوفا بأنه مصوت ومتحرك لوجود الصوت والحركة في غيره ، وذلك محال ، والثاني أن ما ذكروه رد للشرع كله ؛ فإن ما يدركه النائم خيال لا حقيقة له ، فإذا رددت معرفة النبي لكلام الله تعالى إلى التخيل الذي يشبه اضغاث أحلام فلا يثق به النبي ولا يكون ذلك علما ، وبالجملة هؤلاء لا يعتقدون الدين والاسلام وانما يتجملون بإطلاق عبارات احتراز من السيف والكلام معهم في أصل الفعل ، وحدث العالم والقدرة فلا تشتغل معهم بهذه التفصيلات.

فإن قيل أفتقولون ان صفات الله تعالى غير الله تعالى؟ قلنا : هذا خطأ فإنا اذا قلنا الله تعالى ، فقد دللنا به على الذات مع الصفات لا على الذات بمجردها ، إذ اسم الله تعالى لا يصدق على ذات قد أخلوها عن صفات الالهية ، كما لا يقال الفقه غير الفقيه ويد زيد غير زيد ويد النجار غير النجار ، لأن بعض الداخل في الاسم لا يكون عين الداخل في الاسم ، فيد زيد ليس هو زيد ولا هو غير زيد بل كلا اللفظين محال. وهكذا كل بعض فليس غير الكل ولا هو بعينه الكل ، فلو قيل الفقه غير الانسان فهو تجوز ولا يجوز أن يقال غير الفقيه ، فإن الانسان لا يدل على صفة الفقه ، فلا جرم يجوز أن يقال الصفة غير الذات التي تقوم بها الصفة ، كما يقال العرض القائم بالجوهر هو غير الجوهر على معنى ان مفهوم اسمه غير مفهوم اسم الآخر. وهذا حصر جائز بشرطين :

أحدهما ، أن لا يمنع الشرع من اطلاقه ، وهذا مختص بالله تعالى ، والثاني ، أن لا يفهم من الغير ما يجوز وجوده دون الذي هو غيره بالإضافات إليه ،

٨٩

فانه إن فهم ذلك لم يمكن أن يقال سواد زيد غير زيد ، لأنه لا يوجد دون زيد ، قد انكشف بهذا ما هو حظ المعنى وما هو حظ اللفظ فلا معنى للتطويل في الجليات.

الحكم الثاني :

في الصفات : ندعي أن هذه الصفات كلها قائمة بذاته لا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته ، سواء كان في محل أو لم يكن في محل ، وأما المعتزلة فإنهم حكموا بأن الإرادة لا تقوم بذاته تعالى ، فإنها حادثة وليس هو محلا للحوادث ، ولا يقوم بمحل آخر لأنه يؤدي إلى أن يكون ذلك المحل هو المريد به ، فهي توجد لا في محل ، وزعموا أن الكلام لا يقوم بذاته لأنه حادث ولكن يقوم بجسم هو جماد حتى لا يكون هو المتكلم به ، بل المتكلم به هو الله سبحانه. أما البرهان على أن الصفات ينبغي أن تقوم بالذات فهو عند من فهم ما قدمناه مستغنى عنه ، فإن الدليل لما دل على وجود الصانع سبحانه دل بعده على أن الصانع تعالى بصفة كذا ولا نعني بأنه تعالى على صفة كذا ، إلّا أنه تعالى على تلك الصفة ، ولا فرق بين كونه على تلك الصفة وبين قيام الصفة بذاته. وقد بينا أن مفهوم قولنا عالم واحد وبذاته تعالى علم واحد ، كمفهوم قولنا مريد ، وقامت بذاته تعالى إرادة واحدة ، ومفهوم قولنا لم تقم بذاته إرادة وليس بمريد واحد. فتسميته الذات مريدة بإرادة لم تقم به كتسميته متحركا بحركة لم تقم به. وإذا لم تقم الإرادة به فسواء كانت موجودة أو معدومة فقول القائل إنه مريد لفظ خطأ ، لا معنى له ، وهكذا المتكلم ، فإنه متكلم باعتبار كونه محلا للكلام ، إذ لا فرق بين قولنا هو متكلم وبين قولنا قام الكلام به ، ولا فرق بين قولنا ليس بمتكلم وقولنا لم يقم بذاته كلام ، كما في كونه مصوتا ومتحركا ، فإن صدق على الله تعالى قولنا لم يقم بذاته كلام صدق قولنا ليس بمتكلم لأنهما عبارتان عن معنى واحد ، والعجب من قولهم إن الإرادة توجد لا في محل ، فإن جاز وجود صفة من الصفات لا في محل

٩٠

فليجز وجود العلم والقدرة والسواد والحركة ، بل الكلام فلم قالوا يخلق الأصوات في محل فلتخلق في غير محل ، وإن لم يعقل الصوت إلا في محل لأنه عرض وصفة فكذا الإرادة ، ولو عكس هذا لقيل إنه خلق كلاما لا في محل وخلق إرادة في محل لكان العكس كالطرد. ولكن لما كان أول المخلوقات يحتاج إلى الإرادة ، والمحل مخلوق ، لم يمكنهم تقدير محل الإرادة موجودا قبل الإرادة ؛ فإنه لا محل قبل الإرادة إلا ذات الله تعالى ولم يجعلوه محلا للحوادث. ومن جعله محلا للحوادث أقرب حال منهم فإن استحالة وجود إرادة في غير محل ، واستحالة كونه مريدا بإرادة لا تقوم به ، واستحالة حدوث إرادة حادثة به بلا إرادة تدرك ببديهة العقل أو نظره الجلي فهذه ثلاثة استحالات جلية ، واما استحالة كونه محلا للحوادث فلا يدرك إلا بنظر دقيق كما سنذكر.

الحكم الثالث :

إن الصفات كلها قديمة ، فإنها إن كانت حادثة كان القديم سبحانه محلا للحوادث ، وهو محال ، أو كان يتصف بصفة لا تقوم به وذلك أظهر استحالة ، كما سبق ، ولم يذهب أحد إلى حدوث الحياة والقدرة وإنما اعتقدوا ذلك في العلم بالحوادث وفي الإرادة وفي الكلام ونحن نستدل على استحالة كونه محلا للحوادث من ثلاثة أوجه :

الدليل الأول : إن كل حادث فهو جائز الوجود ، والقديم الأزلي واجب الوجود ، ولو تطرق الجواز إلى صفاته لكان ذلك مناقضا لوجوب وجوده فإن الجواز والوجوب يتناقضان. فكل ما هو واجب الذات فمن المحال أن يكون جائز الصفات وهذا واضح بنفسه.

الدليل الثاني : وهو الأقوى ، أنه لو قدر حلول حادث بذاته لكان لا يخلو إما أن يرتقي الوهم إلى حادث يستحيل قبله حادث ، أولا يرتقي إليه ، بل كان حادث ، فيجوز أن يكون قبله حادث ، فإن لم يرتق الوهم

٩١

إليه لزم جواز اتصافه بالحوادث أبدا ، ولزم منه حوادث لا أول لها ، وقد قام الدليل على استحالته ، وهذا القسم ما ذهب إليه أحد من العقلاء وإن ارتقى الوهم إلى حادث استحال قبله حدوث حادث فتلك الاستحالة لقبول الحادث في ذاته ، لا تخلو إما أن تكون لذاته أو لزائد عليه. وباطل أن يكون لزائد عليه ، فإن كل زائد يفرض ممكن تقدير عدمه ، فيلزم منه تواصل الحوادث أبدا وهو محال ، فلم يبق إلا أن استحالته من حيث أن واجب الوجود يكون على صفة يستحيل معها قبول الحوادث لذاته ، فإذا كان ذلك مستحيلا في ذاته أزلا ، استحال أن ينقلب المحال جائزا وينزل ذلك منزلة استحالته لقبول اللون أزلا ، فإن ذلك يبقى فيما لا يزال لأنه لذاته لا يقبل اللون باتفاق العقلاء ، ولم يجز أن تتغير تلك الاستحالة إلى الجواز فكذلك سائر الحوادث. فإن قيل : هذا يبطل يحدث العالم ، فإنه كان ممكنا قبل حدوثه ولم يكن الوهم يرتقي إلى وقت يستحيل حدوثه قبله ومع ذلك يستحيل حدوثه أزلا ولم يستحل على الجملة حدوثه.

قلنا هذا الإلزام فاسد ؛ فإنا لم نحل إثبات ذات تنبو عن قبول حادث لكونها واجبة الوجود ، ثم تتقلب إلى جواز قبول الحوادث. والعالم ليس له ذات قبل الحدوث موصوفة بأنها قابلة للحدوث أو غير قابلة حتى ينقلب إلى قبول جواز الحدوث ، فيلزم ذلك على مساق دليلنا ، نعم ، يلزم ذلك المعتزلة حيث قالوا للعالم ذات في العدم قديمة ، قابلة للحدوث ، يطرأ عليها الحدوث بعد أن لم يكن. فأما على أصلنا فغير لازم ، وإنما الذي نقوله في العالم أنه فعل وقدم الفعل محال ، لأن القديم لا يكون فعلا.

الدليل الثالث : هو أنا نقول : إذا قدرنا قيام حادث بذاته فهو قبل ذلك إما أن يتصف بضد ذلك الحادث أو بالانفكاك عن ذلك الحادث. وذلك الضد أو ذلك الانفكاك إن كان قديما استحال بطلانه وزواله لأن القديم لا يعدم وإن كان حادثا كان قبله حادث لا محالة ، وكذا قبل ذلك الحادث حادث يؤدي إلى حوادث لا أول لها وهو محال ، ويتضح ذلك

٩٢

بأن تفرض في صفة معينة كالكلام مثلا ، فإن الكرامية قالوا إنه في الأزل متكلم ، على معنى أنه قادر على خلق الكلام في ذاته ، ومهما أحدث شيئا في غير ذاته أحدث في ذاته قوله كن ولا بد أن يكون قبل إحداث هذا القول ساكتا ، ويكون سكوته قديما ، وإذا قال جهم أنه يحدث في ذاته علما فلا بد أن يكون قبله غافلا وتكون غفلته قديمة.

فنقول : السكوت القديم والغفلة القديمة يستحيل بطلانهما لما سبق من الدليل على استحالة عدم القديم. فإن قيل السكوت ليس بشيء إنما يرجع إلى عدم الكلام ، والغفلة ترجع إلى عدم العلم والجهل وأضداده ، فإذا وجد الكلام لم يبطل شيء إذ لم يكن شيء إلا الذات القديمة ، وهي باقية ، ولكن انضاف إليها موجود آخر وهو الكلام والعلم. فأما أن يقال : انعدم شيء فلان ويتنزل ذلك منزلة وجود العالم ، فإنه يبطل العدم القديم ولكن العدم ليس بشيء حتى يوصف بالقدم ويقدر بطلانه. والواجب من وجهين أحدهما أن قول القائل السكوت هو عدم الكلام وليس بصفة والغفلة عدم العلم وليست بصفة ، كقوله البياض هو عدم السواد وسائر الألوان وليس بلون ، والسكون هو عدم الحركة وليس بعرض ، وذلك محال ، والدليل الذي دل على استحالته بعينه يدل على استحالة هذا ، والخصوم في هذه المسألة معترفون بأن السكون وصف زائد على عدم الحركة ، فإن كل من يدعي أن السكون هو عدم الحركة لا يقدر على اثبات حدوث العالم ، فظهور الحركة بعد السكون إذا دل على حدوث المتحرك ، فكذلك ظهور الكلام بعد السكوت يدل على حدوث المتكلم ، من غير فرق ، إذ المسلك الذي به يعرف كون السكون معنى هو مضاد للحركة بعينه يعرف به كون السكوت معنى يضاد الكلام ، وكون الغفلة معنى يضاد العلم ، وهو أنا إذا أدركنا تفرقة بين حالتي الذات الساكنة والمتحركة فإن الذات مدركة على الحالتين ، والتفرقة مدركة بين الحالتين ولا نرجع التفرقة إلى زوال أمر وحدوث أمر فإن

٩٣

الشيء لا يفارق نفسه ، فدل ذلك على أن كل قابل للشيء فلا يخلو عنه ، أو عن ضده وهذا مطرد في الكلام ، وفي العلم ، ولا يلزم على هذا الفرق بين وجود العلم وعدمه ، فإن ذلك لا يوجب ذاتين ، فإنه لم تدرك في الحالتين ذات واحدة يطرأ عليها الوجود بل لا ذات للعالم قبل الحدوث ، والقديم ذات قبل حدوث الكلام ، علم على وجه مخالف للوجه الذي علم عليه بعد حدوث الكلام ، يعبر عن ذلك الوجه بالسكوت وعن هذا بالكلام ، فهما وجهان مختلفان ادركت عليهما ذات مستمرة الوجود في الحالتين وللذات هيئة وصفة وحالة بكونه ساكتا ، كما أن له هيئة بكونه متكلما ، وكما له هيئة بكونه ساكتا ومتحركا وأبيض وأسود وهذه الموازنة مطابقة لا مخرج منها ، الوجه الثاني في الانفصال هو أن يسلم أيضا أن السكوت ليس بمعنى ، وإنما يرجع ذلك إلى ذات منفكة عن الكلام ، فالانفكاك عن الكلام حال للمنفك لا محالة ينعدم بطريان الكلام ، فحال الانفكاك تسمى عدما أو وجودا أو صفة أو هيئة ، فقد انتفى الكلام والمنتفي قديم ، وقد ذكرنا أن القديم لا ينتفي سواء كان ذاتا أو حالا أو صفة ، وليست الاستحالة لكونه ذاتا فقط بل لكونه قديما ، ولا يلزم عدم العالم ، فإنه انتفى مع القديم لأن عدم العالم ليس بذات ولا حصل منه حال لذات حتى يقدر تغيرها وتبدلها على الذات والفرق بينهما ظاهر ، فإن قيل الأعراض كثيرة والخصم لا يدعي كون الباري محل حدوث شيء منها كالألوان والآلام واللذات وغيرها ، وإنما الكلام في الصفات السبعة التي ذكرتموها ولا نزاع من جملتها في الحياة والقدرة ، وإنما النزاع في ثلاثة : في القدرة والإرادة والعلم ، وفي معنى العلم السمع والبصر عند من يثبتهما ، وهذه الصفات الثلاثة لا بد أن تكون حادثة ، ثم يستحيل أن تقوم بغيره ، لأنه لا يكون متصفا بها فيجب أن تقوم بذاته فيلزم منه كونه محلا للحوادث.

أما العلم بالحوادث فقد ذهب جهم إلى أنها علوم حادثة وذلك لأن

٩٤

الله تعالى الآن عالم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا ، وهو في الأزل إن كان عالما بأنه كان قد وجد كان هذا جهلا لا علما ، واذا لم يكن عالما بأنه قد وجد كان جهلا لا علما ، وإذا لم يكن عالما وهو الآن عالم فقد ظهر حدوث العلم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا ، وهكذا القول في كل حادث ، وأما الإرادة فلا بد من حدوثها فإنها لو كانت قديمة لكان المراد معها ، فإن القدرة والإرادة مهما تمتا وارتفعت العوائق منها وجب حصول المراد ، فكيف يتأخر المراد عن الإرادة والقدرة من غير عائق؟ فلهذا قالت المعتزلة بحدوث إرادة في غير محل وقالت الكرامية بحدوثها في ذاته وربما عبروا عنه بأنه يخلق ايجادا في ذاته عند وجود كل موجود وهذا راجع إلى الإرادة.

وأما الكلام فكيف يكون قديما وفيه إخبار عما مضى ، فكيف قال في الأزل (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) ولم يكن قد خلق نوحا بعد ، وكيف قال في الأزل لموسى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (٢) ولم يخلق بعد موسى ، فكيف أمر ونهى من غير مأمور ولا منهي ، وإذا كان ذلك محالا ثم علم بالضرورة أنه آمر وناه ، واستحال ذلك في القدم ، علم قطعا أنه صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن ، فلا معنى لكونه محلا للحوادث إلا هذا. والجواب أنا نقول : مهما حللنا الشبهة في هذه الصفات الثلاثة انتهض منه دليل مستقل على إبطال كونه محلا للحوادث ، إذ لم يذهب إليه ذاهب إلا بسبب هذه الشبهة ، وإذا انكشف كان القول بها باطلا كالقول بأنه محل للألوان وغيرها مما لا يدل دليل على الانصاف بها ، فنقول : الباري تعالى في الأزل علم بوجود العالم في وقت وجوده وهذا العلم صفة واحدة

__________________

(١) سورة نوح الآية : ١.

(٢) سورة طه الآية : ١٢.

٩٥

مقتضاها في الأزل العلم بأن العالم يكون من بعد ، وعند الوجود العلم بأنه كائن وبعده العلم بأنه كان ، وهذه الأحوال تتعاقب على العالم ويكون مكشوفا لله تعالى تلك الصفة وهي لم تتغير ، وإنما المتغير أحوال العالم ، وإيضاحه بمثال وهو أنا إذا فرضنا للواحد منا علما بقدوم زيد عند طلوع الشمس وحصل له هذا العلم قبل طلوع الشمس ولم ينعدم بل بقي ولم يخلق له علم آخر عند طلوع الشمس فما حال هذا الشخص عند الطلوع ، أيكون عالما بقدوم زيد أو غير عالم؟ ومحال أن يكون غير عالم لأنه قدر بقاء العلم بالقدوم عند الطلوع ، وقد علم الآن الطلوع فيلزمه بالضرورة أن يكون عالما بالقدوم ، فلو دام عند انقضاء الطلوع فلا بد أن يكون عالما بأنه كان قد قدم والعلم الواحد أفاد الاحاطة بأنه سيكون وانه كائن وأنه قد كان ، فهكذا ينبغي أن يفهم علم الله القديم الموجب بالاحاطة بالحوادث ، وعلى هذا ينبغي أن يقاس السمع والبصر ، فإن كل واحد منهما صفة ينصف بها المرئي والمسموع عند الوجود من غير حدوث تلك الصفة ولا حدوث أمر فيها ، وإنما الحادث المسموع والمرئي ، والدليل القاطع على هذا هو أن الاختلاف بين الأحوال شيء واحد في انقسامه إلى الذي كان ويكون وهو كائن لا يزيد على الاختلاف بين الذوات المختلفة ، ومعلوم أن العلم لا يتعدد بتعدد الذوات فكيف يتعدد بتعدد أحوال ذات واحدة ، وإذا كان علم واحد يفيد الإحاطة بذوات مختلفة متباينة فمن أين يستحيل أن يكون علم واحد يفيد إحاطة بأحوال ذات واحدة بالإضافة إلى الماضي والمستقبل ، ولا شك أن جهما ينفي النهاية عن معلومات الله تعالى ثم لا يثبت علوما لا نهاية لها فيلزمه أن يعترف بعلم واحد يتعلق بمعلومات مختلفة فكيف يستبعد ذلك في أحوال معلوم واحد يحققه أنه لو حدث له علم بكل حادث لكان ذلك العلم لا يخلو إما أن يكون معلوما أو غير معلوم ، فإن لم يكن معلوما فهو محال ، لأنه حادث ، وإن جاز حادث لا يعلمه مع أنه في ذاته أولى بأن يكون متضحا له فبان

٩٦

يجوز ألا يعلم الحوادث المباينة لذاته أولى ، وإن كان معلوما فإما أن يفتقر إلى علم آخر وكذلك العلم يفتقر إلى علوم أخر لا نهاية لها ، وذلك محال. وإما ان يعلم الحادث والعلم بالحادث نفس ذلك العلم فتكون ذات العلم واحدة ولها معلومان : أحدهما ذات ، والآخر ذات الحادث ، فيلزم منه لا محالة تجويز علم واحد يتعلق بمعلومين مختلفين فكيف لا يجوز علم واحد يتعلق بأحوال معلوم واحد مع اتحاد العلم وتنزهه عن التغير. وهذا لا مخرج منه ؛ فأما الإرادة فقد ذكرنا أن حدوثها بغير إرادة أخرى محال ، وحدوثها بإرادة بتسلسل إلى غير نهاية ، وإن تعلق الإرادة القديمة بالأحداث غير محال ، ويستحيل أن تتعلق الإرادة بالقديم فلم يكن العالم قديما لأن الإرادة تعلقت باحداثه لا بوجوده في القدم ، وقد سبق إيضاح ذلك ، وكذلك الكرامي اذا قال يحدث في ذاته إيجادا في حال حدوث. العالم فبذلك يحصل حدوث العالم في ذلك الوقت ، فيقال له : وما الذي خصص الايجاد الحادث في ذاته بذلك الوقت ، فيحتاج إلى مخصص آخر فيلزمهم في الإيجاد ما لزم المعتزلة في الإرادة الحادثة ، ومن قال منهم إن ذلك الإيجاد هو قوله كن ، وهو صوت ، فهو محال من ثلاثة أوجه. أحدها : استحالة قيام الصوت بذاته ، والآخر : أن قوله كن حادث أيضا ، فان حدث من غير أن يقول له كن فليحدث العالم من غير أن يقال له كن ، فإن افتقر قوله كن في أن يكون ، إلى قول آخر ، افتقر القول الآخر إلى ثالث ، والثالث إلى رابع ، ويتسلسل إلى غير نهاية ، ثم لا ينبغي أن يناظر من انتهى عقله إلى أن يقول يحدث في ذاته بعدد كل حادث في كل وقت ، قوله كن فيجتمع آلاف آلاف أصوات في كل لحظة. ومعلوم أن النون والكاف لا يمكن النطق بهما في وقت واحد بل ينبغي أن تكون النون بعد الكاف لأن الجمع بين الحرفين محال وإن جمع ولم يرتب لم يكن قولا مفهوما ولا كلاما ، وكما يستحيل الجمع بين حرفين مختلفين فكذلك بين حرفين متماثلين ، ولا يعقل في أوان ألف ألف كاف

٩٧

كما لا يعقل الكاف والنون فهؤلاء حقهم أن يسترزقوا الله عقلا وهو أهم لهم من الاشتغال بالنظر ، والثالث : أن قوله كن خطاب مع العالم في حالة العدم أو في حالة الوجود ، فإن كان في حالة العدم فالمعدوم لا يفهم الخطاب ، فكيف يمتثل بأن يتكون بقوله كن؟ وإن كان في حالة الوجود فالكائن كيف يقال له كن؟ فانظر ما ذا يفعل الله تعالى بمن ضل عن سبيله فقد انتهى ركاكة عقله إلى أن لا يفهم المعني بقوله تعالى (إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) وأنه كناية عن نفاذ القدرة وكمالها حتى انجرّ بهم إلى هذه المخازي ، نعوذ بالله من الخزي والفضيحة يوم الفزع الأكبر يوم تكشف الضمائر وتبلى السرائر فيكشف إذ ذاك ستر الله عن خبائث الجهال ، ويقال للجاهل الذي اعتقد في الله تعالى وفي صفاته غير الرأى السديد (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢).

وأما الكلام فهو قديم ، وما استبعدوه من قوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (٣) ومن قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (٤) استبعاد مستنده تقديرهم الكلام صوتا وهو محال فيه ، وليس بمحال إذ فهم كلام النفس ، فإنا نقول يقوم بذات الله تعالى خبر عن إرسال نوح العبارة عنه قبل إرساله : إنا نرسله ، وبعد إرساله : إنا أرسلنا ، واللفظ يختلف باختلاف الأحوال والمعنى القائم بذاته تعالى لا يختلف ، فإن حقيقته أنه خبر متعلق بمخبر ذلك الخبر هو إرسال نوح في الوقت المعلوم وذلك لا يختلف باختلاف الأحوال كما سبق في العلم ، وكذلك قوله (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) لفظة تدل على الأمر والأمر اقتضاء وطلب يقوم بذات الأمر وليس شرط قيامه به أن يكون المأمور موجودا ولكن يجوز

__________________

(١) سورة النحل الآية : ٤٠.

(٢) سورة ق الآية : ٢٢.

(٣) سورة طه الآية : ١٢.

(٤) سورة نوح الآية : ١.

٩٨

أن يقوم بذاته قبل وجود المأمور ، فإذا وجد المأمور كان مأمورا بذلك الاقتضاء بعينه من غير تحدد اقتضاء آخر ، وكم من شخص ليس له ولد ويقوم بذاته اقتضاء طلب العلم منه على تقدير وجوده ، إذ يقدر في نفسه أن يقول لولده اطلب العلم وهذا الاقتضاء يتنجز في نفسه على تقدير الوجود. فلو وجد الولد وخلق له عقل وخلق له علم بما في نفس الأب من غير تقدير صياغة لفظ مسموع ، وقدر بقاء ذلك الاقتضاء على وجوده لعلم الابن أنه مأمور من جهة الأب بطلب العلم في غير استئناف اقتضاء متجدد في النفس ، بل يبقى ذلك الاقتضاء نعم العادة جارية بأن الابن لا يحدث له علم إلا بلفظ يدل على الاقتضاء الباطن ، فيكون قوله بلسانه أطلب العلم ، دلالة على الاقتضاء الذي في ذاته سواء حدث في الوقت أو كان قديما بذاته قبل وجود ولده ، فهكذا ينبغي أن يفهم قيام الأمر بذات الله تعالى فتكون الألفاظ الدالة عليه حادثة والمدلول قديما ووجود ذلك المدلول لا يستدعي وجود المأمور بل تصور وجوده مهما كان المأمور مقدر الوجود ، فإن كان مستحيل الوجود ربما لا يتصور وجود الاقتضاء ممن يعلم استحالة وجوده. فلذلك لا نقول إن الله تعالى يقوم بذاته اقتضاء فعل ممن يستحيل وجوده. بل ممن علم وجوده ، وذلك غير محال ، فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر وناه ، فإن قلتم أنه آمر فكيف يكون آمر لا مأمور له؟ وإن قلتم لا فقد صار آمرا بعد أن لم يكن.

قلنا : واختلف الأصحاب في جواب هذا ، والمختار أن تقول هذا نظر يتعلق أحد طرفيه بالمعنى والآخر بإطلاق الاسم من حيث اللغة ، فأما حظ المعنى فقد انكشف وهو أن الاقتضاء القديم معقول وإن كان سابقا على وجود المأمور كما في حق الولد ينبغي أن يقال اسم الأمر ينطلق عليه بعد فهم المأمور ووجوده أم ينطلق عليه قبله؟ وهذا أمر لفظي لا ينبغي للناظر أن يشتغل بأمثاله ، ولكن الحق أنه يجوز اطلاقه عليه كما جوزوا تسمية الله تعالى قادرا قبل وجود المقدور ، ولم يستبعدوا قادرا ليس له مقدور موجود بل قالوا

٩٩

القادر يستدعي مقدورا معلوما لا موجودا فكذلك الآمر يستدعي مأمورا معلوما موجودا والمعدوم معلوم الوجود قبل الوجود ، بل يستدعي الأمر مأمورا به كما يستدعي مأمورا ويستدعي آمرا أيضا والمأمور به يكون معدوما ولا يقال إنه كيف يكون آمر من غير مأمور به ، بل يقال له مأمور به هو معلوم وليس يشترط كونه موجودا ، بل يشترط كونه معدوما بل من أمر ولده على سبيل الوصية بأمر ثم توفي فأتى الولد بما أوصي به يقال امتثل أمر والده والأمر معدوم والأمر في نفسه معدوم ونحن مع هذا نطلق اسم امتثال الأمر ، فإذا لم يستبعد كون المأمور ممتثلا للأمر ولا وجود للأمر ولا للآمر ولم يستبعد كون الأمر أمرا قبل وجود المأمور به ، فمن أين يستدعي وجود المأمور؟ فقد انكشف من هذا حظ اللفظ والمعنى جميعا ولا نظر إلا فيهما ، فهذا ما أردنا أن نذكره في استحالة كونه محلا للحوادث إجمالا وتفصيلا.

الحكم الرابع :

إن الأسامي المشتقة لله تعالى من هذه الصفات السبعة صادقة عليه أزلا وأبدا ، فهو في القدم كان حيا قادرا عالما سميعا بصيرا متكلما ، وأما ما يشتق له من الأفعال كالرازق والخالق والمعز والمذل فقد اختلف في أنه يصدق في الأزل أم لا ، وهذا إذا كشف الغطاء عنه تبين استحالة الخلاف فيه.

والقول الجامع أن الأسامي التي يسمى بها الله تعالى أربعة :

الأول : أن لا يدل إلّا على ذاته كالموجود ، وهذا صادق أزلا وابدا.

الثاني : ما يدل على الذات مع زيادة سلب كالقديم ، فإنه يدل على وجود غير مسبوق بعدم أزلا ، والباقي فإنه يدل على الوجود وسلب العدم عنه آخرا وكالواحد فإنه يدل على الوجود وسلب الشريك ، وكالغنى فانه يدل على الوجود وسلب الحاجة فهذا أيضا يصدق أزلا وأبدا لأن ما يسلب عنه يسلب لذاته فيلازم الذات على الدوام.

١٠٠