الإقتصاد في الإعتقاد

أبو حامد الغزالي

الإقتصاد في الإعتقاد

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٦

به والتعلق قبل ذلك مخالف له فهو نوع آخر من التعلق ، فقولكم إن تعلق القدرة به نمط واحد خطأ وكذلك القادرية القديمة عندهم فإنها متعلقة بالعلم في الأزل وقبل خلق العالم ، فقولنا أنها متعلقة صادق وقولنا أن العالم واقع بها كاذب ، لأنه لم يقع بعد فلو كانا عبارتين عن معنى واحد لصدق أحدهما حيث يصدق الآخر.

فإن قيل : معنى تعلق القدرة قبل وقوع المقدور أن المقدور إذا وقع بها. قلنا : فليس هذا تعلقا في الحال بل هو انتظار تعلق ، فينبغي أن يقال القدرة موجودة وهي صفة لا تعلق لها ولكن ينتظر لها تعلق إذا وقع وقع المقدور بها ، وكذا القادرية ويلزم عليه محال ، وهو أن الصفة التي لم تكن من المتعلقات صارت من المتعلقات وهو محال.

فإن قيل : معناه أنها متهيئة لوقوع المقدور بها.

قلنا : ولا معنى للتهيؤ إلا انتظار الوقوع بها ، وذلك لا يوجب تعلقا في الحال ، فكما عقل عندكم قدرة موجودة متعلقة بالمقدور والمقدور غير واقع بها عقل عندنا أيضا قدرة كذلك والمقدور غير واقع بها ولكنه واقع بقدرة الله تعالى ، فلم يخالف مذهبنا هاهنا مذهبكم إلا في قولنا أنها وقعت بقدرة الله تعالى ، فاذا لم يكن من ضرورة وجود القدرة ولا تعلقها بالمقدور وجود المقدور بها ؛ فمن أين يستدعي عدم وقوعها بقدرة الله تعالى ووجوده بقدرة الله تعالى لا فضل له على عدمه من حيث انقطاع النسبة عن القدرة الحادثة إذ النسبة ، إذا لم تمتنع بعدم المقدور ، فكيف تمتنع بوجود المقدور؟ وكيف ما فرض المقدور موجودا أو معدوما فلا بد من قدرة متعلقة لا مقدور لها في الحال.

فإن قيل : فقدرة لا يقع بها مقدور ، والعجز ، بمثابة واحدة ،

قلنا : إن عنيتم به أن الحالة التي يدركها الإنسان عند وجودها مثل ما يدركها عند العجز في الرعدة فهو مناكرة للضرورة وإن عنيتم أنها بمثابة

٦١

العجز في أن المقدور لم يقع بها فهو صدق ولكن تسميته عجزا خطأ وإن كان من حيث القصور إذا نسبت إلى قدرة الله تعالى ظن أنه مثل العجز. وهذا كما أنه لو قيل القدرة قبل الفعل ، على أصلهم ، مساوية للعجز من حيث أن المقدور غير واقع بها لكان اللفظ منكرا من حيث أنها حالة مدركة يفارق إدراكها في النفس إدراك العجز ، فكذلك هذا ، ولا فرق وعلى الجملة فلا بدّ من إثبات قدرتين متفاوتتين ، إحداهما أعلى والأخرى بالعجز أشبه مهما أضيفت إلى الأعلى ، وأنت بالخيار بين أن تثبت للعبد قدرة توهم نسبة العجز للعبد من وجه ، وبين أن تثبت لله سبحانه ذلك تعالى الله عما يقول الزائغون ، ولا تستريب إن كنت منصفا في أن نسبة القصور والعجز بالمخلوقات أولى بل لا يقال أولى لاستحالة ذلك في حق الله تعالى فهذا غاية ما يحتمله هذا المختصر من هذه المسألة.

الفرع الثالث : فإن قال قائل : كيف تدعون عموم تعلق القدرة بجملة الحوادث وأكثر ما في العالم من الحركات وغيرها متولدات يتولد بعضها من بعض بالضرورة ، فإن حركة اليد مثلا بالضرورة تولد حركة الخاتم ، وحركة اليد في الماء تولد حركة الماء ، وهو مشاهد ، والعقل أيضا يدل عليه إذ لو كانت حركة الماء والخاتم بخلق الله تعالى لجاز أن يخلق حركة اليد دون الخاتم وحركة اليد دون الماء ، وهو محال ، وكذا في المتولدات مع انشعابها.

فنقول : ما لا يفهم لا يمكن التصرف فيه بالرد والقبول ، فإن كون المذهب مردودا أو مقبولا بعد كونه معقولا. والمعلوم عندنا من عبارة التولد أن يخرج جسم من جوف جسم كما يخرج الجنين من بطن الأم والنبات من بطن الارض ، وهذا محال في الأعراض ؛ إذ ليس لحركة اليد جوف حتى تخرج منه حركة الخاتم ولا هو شيء حاو لأشياء حتى يرشح منه بعض ما فيه ، فحركة الخاتم إذا لم تكن كامنة في ذات حركة اليد فما معنى تولدها منها؟ فلا بد من تفهيمه ، وإذا لم يكن هذا مفهوما فقولكم

٦٢

إنه مشاهد حماقة ، إذ كونها حادثة معها مشاهد لا غير ، فأما كونها متولد منها فغير مشاهد ، وقولكم إنه لو كان بخلق الله تعالى لقدر على أن يخلق حركة اليد دون الخاتم وحركة اليد دون الماء فهذا هوس يضاهي قول القائل لو لم يكن العلم متولدا من الإرادة لقدر على أن يخلق الإرادة دون العلم او العلم دون الحياة ، ولكن نقول : المحال غير مقدور ووجود المشروط دون الشرط غير معقول ، والإرادة شرطها العلم والعلم شرطه الحياة وكذلك شرط شغل الجوهر لحيز فراغ ذلك الحيز ، فإذا حرك الله تعالى اليد فلا بد أن يشغل بها حيزا في جوار الحيز الذي كانت فيه. فما لم يفرغه كيف يشغله به؟ ففراغه شرط اشتغاله باليد ، إذ لو تحرك ولم يفرغ الحيز من الماء بعدم الماء أو حركته لاجتمع جسمان في حيز واحد وهو محال ، فكان خلو أحدهما شرطا للآخر فتلازما فظن أن أحدهما متولد من الآخر وهو خطأ فاما اللازمات التي ليست شرطا فعندنا يجوز أن تنفك عن الاقتران بما هو لازم لها ، بل لزومه بحكم طرد العادة كاحتراق القطن عند مجاورة النار وحصول البرودة في اليد عند مماسة الثلج ، فإن كل ذلك مستمر بجريان سنة الله تعالى ، وإلا فالقدرة من حيث ذاتها غير قاصرة عن خلق البرودة في الثلج والمماسة في اليد مع خلق الحرارة في اليد بدلا عن البرودة ، فاذا ما يراه الخصم متولدا قسمان :

أحدهما شرط فلا يتصور فيه إلا الاقتران ، والثاني ليس بشرط فيتصور فيه غير الاقتران إذ خرقت العادات.

فإن قال قائل لم تدلوا على بطلان التولد ولكن أنكرتم فهمه وهو مفهوم ، فإنا لا نريد به ترشح الحركة من الحركة بخروجها من جوفها ولا تولد برودة من برودة الثلج بخروج البرودة من الثلج وانتقالها أو بخروجها من ذات البرودة ، بل نعني به وجود موجود عقيب موجود وكونه موجودا وحادثا به فالحادث نسميه متولدا والذي به الحدوث نسميه

٦٣

مولدا وهذه التسمية مفهومة فما الذي يدل على بطلانه؟

قلنا : إذا أقررتم بذلك دل على بطلانه ما دل على بطلان كون القدرة الحادثة موجودة فإنا إذا أحلنا أن نقول حصل مقدور بقدرة حادثة فكيف لا يخيل الحصول بما ليس بقدرة واستحالته راجعة إلى عموم تعلق القدرة ، وإن خروجه عن القدرة مبطل لعموم تعلقها وهو محال ثم هو موجب للعجز والتمانع كما سبق.

نعم ، وعلى المعتزلة القائلين بالتولد مناقضات في تفصيل التولد لا تحصى ، كقولهم إن النظر يولد العلم ، وتذكره لا يولده إلى غير ذلك مما لا نطول بذكره ، فلا معنى للإطناب فيما هو مستغنى عنه. وقد عرفت من جملة هذا أن الحادثات كلها ، جواهرها وأعراضها الحادثة منها في ذات الأحياء والجمادات ، واقعة بقدرة الله تعالى ، وهو المستبد باختراعها ، وليس تقع بعض المخلوقات ببعض بل الكل يقع بالقدرة وذلك ما أردنا أن نبين من إثبات صفة القدرة لله تعالى وعموم حكمها وما اتصل بها من الفروع واللوازم.

الصفة الثانية ، العلم :

ندعي أن الله تعالى عالم بجميع المعلومات الموجودات والمعدومات ؛ فإن الموجودات منقسمة إلى قديم وحادث ، والقديم ذاته وصفاته ومن علّم غيره فهو بذاته وصفاته أعلم ، فيجب ضرورة أن يكون بذاته عالما وصفاته إن ثبت أنه عالم بغيره ، ومعلوم أنه عالم بغيره لأن ما ينطلق عليه اسم الغير فهو صنعه المتقن وفعله المحكم المرتب وذلك يدل على قدرته على ما سبق ، فإن من رأى خطوطا منظومة تصدر على الاتساق من كاتب ثم استراب في كونه عالما بصنعة الكتابة كان سفيها في استرابته ، فاذا قد ثبت أنه عالم بذاته وبغيره.

فإن قيل فهل لمعلوماته نهاية؟ قلنا : لا ؛ فإن الموجودات في الحال

٦٤

وإن كانت متناهية فالممكنات في الاستقبال غير متناهية ، ونعلم أن الممكنات التي ليست بموجودة أنه سيوجدها أولا يوجدها ، فيعلم إذا ما لا نهاية له بل لو أردنا أن نكثر على شيء واحد وجوها من النسب والتقديرات لخرج عن النهاية والله تعالى عالم بجميعها.

فإنا نقول مثلا ضعف الاثنين أربعة ، وضعف الأربعة ثمانية ، وضعف الثمانية ستة عشر ، وهكذا نضعف ضعف الاثنين وضعف ضعف الضعف ولا يتناهى ، والإنسان لا يعلم من مراتبها إلا ما يقدره بذهنه ، وسينقطع عمره ويبقى من التضعيفات ما لا يتناهى ، فإذا معرفة أضعاف أضعاف الاثنين ، وهو عدد واحد ، يخرج عن الحصر وكذلك كل عدد ، فكيف غير ذلك من النسب والتقديرات ، وهذا العلم مع تعلقه بمعلومات لا نهاية لها واحد كما سيأتي بيانه من بعد مع سائر الصفات.

الصفة الثالثة ، الحياة :

ندعي أنه تعالى حي وهو معلوم بالضرورة ، ولم ينكره أحد ممن اعترف بكونه تعالى عالما قادرا ، فإن كون العالم القادر حيا ضروري إذ لا بعني بالحي إلا ما يشعر بنفسه ويعلم ذاته وغيره ، والعالم بجميع المعلومات والقادر على جميع المقدورات كيف لا يكون حيا ، وهذا واضح والنظر في صفة الحياة لا يطول.

الصفة الرابعة ، الإرادة :

ندعي أن الله تعالى مريد لأفعاله وبرهانه أن الفعل الصادر منه مختص بضروب من الجواز لا يتميز بعضها من البعض إلا بمرجح ، ولا تكفي ذاته للترجيح ، لأن نسبة الذات إلى الضدين واحدة فما الذي خصص أحد الضدين بالوقوع في حال دون حال؟ وكذلك القدرة لا تكفي فيه ، إذ نسبة القدرة إلى الضدين واحدة ، وكذلك العلم لا يكفي خلافا للكعبي

٦٥

حيث اكتفى بالعلم عن الإرادة لأن العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثر فيه ولا يغيره.

فإن كان الشيء ممكنا في نفسه مساويا للممكن الآخر الذي في مقابلته فالعلم يتعلق به على ما هو عليه ولا يجعل أحد الممكنين مرجحا على الآخر. بل نعقل الممكنين ويعقل تساويهما ، والله سبحانه وتعالى يعلم أن وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه كان ممكنا ، وأن وجوده بعد ذلك وقبل ذلك كان مساويا له في الإمكان لأن هذه الامكانات متساوية ، فحق العلم أن يتعلق بها كما هو عليه فإن اقتضت صفة الإرادة وقوعه في وقت معين تعلق العلم بتعيين وجوده في ذلك الوقت لعلة تعلق الإرادة به فتكون الإرادة للتعيين علة ويكون العلم متعلقا به تابعا له غير مؤثر فيه ، ولو جاز أن يكتفى بالعلم عن الإرادة لاكتفي به عن القدرة ، بل كان ذلك يكفي في وجود أفعالنا حتى لا نحتاج إلى الإرادة ، إذ يترجح أحد الجانبين بتعلق علم الله تعالى به وكل ذلك محال.

فإن قيل : وهذا ينقلب عليكم في نفس الإرادة ، فإن القدرة كما لا تناسب أحد الضدين فالإرادة القديمة أيضا لا تتعين لأحد الضدين ، فاختصاصها بأحد الضدين ينبغي أن يكون بمخصص ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية ، إذ يقال الذات لا تكفي للحدوث ، إذ لو حدث من الذات لكان مع الذات غير متأخر فلا بد من القدرة والقدرة لا تكفي إذ لو كان للقدرة لما اختص بهذا الوقت وما قبله وما بعده في النسبة إلى جواز تعلق القدرة بها على وتيرة ، فما الذي خصص هذا الوقت فيحتاج إلى الإرادة؟

فيقال : والإرادة لا تكفي ، فإن الإرادة القديمة عامة التعلق كالقدرة ، فنسبتها إلى الأوقات واحدة ونسبتها إلى الضدين واحدة ، فإن وقع الحركة مثلا بدلا عن السكون لأن الإرادة تعلقت بالحركة لا بالسكون.

فيقال : وهل كان يمكن أن يتعلق بالسكون؟

٦٦

فإن قيل : لا ، فهو محال ؛ وإن قيل : نعم ، فهما متساويان ؛ أعني الحركة والسكون في مناسبة الإرادة القديمة فما الذي أوجب تخصيص الإرادة القديمة بالحركة دون السكون فيحتاج إلى مخصص ثم يلزم السؤال في مخصص المخصص ويتسلسل الى غير نهاية ..

قلنا : هذا سؤال غير معقول حير عقول الفرق ولم يوفق للحق إلا أهل السنة فالناس فيه أربع فرق :

قائل يقول إن العالم وجد لذات الله سبحانه وتعالى وإنه ليس للذات صفة زائدة البتة ، ولما كان الذات قديمة كان العالم قديما وكانت نسبة العالم إليه كنسبة المعلول الى العلة ، ونسبة النور الى الشمس ، والظل إلى الشخص ؛ وهؤلاء هم الفلاسفة.

وقائل يقول إن العالم حادث ولكن حدث في الوقت الذي حدث فيه لا قبله ولا بعده لإرادة حادثة حدثت له لا في محل فاقتضت حدوث العالم ، وهؤلاء هم المعتزلة.

وقائل يقول حدث بإرادة حادثة حدثت في ذاته ، وهؤلاء هم القائلون بكونه محلا للحوادث. وقائل يقول حدث العالم في الوقت الذي تعلقت الإرادة القديمة بحدوثه في ذلك الوقت ، من غير حدوث إرادة ومن غير تغير صفة القديم ، فانظر إلى الفرق وانسب مقام كل واحد الى الآخر. فإنه لا ينفك فريق عن إشكال لا يمكن حله إلا إشكال أهل السنة فإنه سريع الانحلال.

أما الفلاسفة فقد قالوا بقدم العالم ، وهو محال ؛ لأن الفعل يستحيل أن يكون قديما ؛ إذ معنى كونه فعلا أنه لم يكن ثم كان ، فإن كان موجودا مع الله أبدا فكيف يكون فعلا؟ بل يلزم من ذلك دورات لا نهاية لها على ما سبق ، وهو محال من وجوه ، ثم إنهم مع اقتحام هذا الإشكال لم يتخلصوا من أصل السؤال وهو أن الإرادة لم تعلقت بالحدوث

٦٧

في وقت مخصوص لا قبله ولا بعده ، مع تساوي نسب الأوقات إلى الإرادة ، فإنهم إن تخلصوا عن خصوص الوقت لم يتخلصوا عن خصوص الصفات ، إذ العالم مخصوص بمقدار مخصوص ووضع مخصوص ، وكانت نقائضها ممكنة في العقل ، والذات القديمة لا تناسب بعض الممكنات دون بعض ، ومن أعظم ما يلزمهم فيه ، ولا عذر لهم عنه أمران أوردناهما في كتاب تهافت الفلاسفة ولا محيص لهم عنهما البتة :

أحدهما ، أن حركات الأفلاك بعضها مشرقية أي من المشرق إلى المغرب ، وبعضها مغربية أي من مغرب الشمس إلى المشرق ، وكان عكس ذلك في الإمكان مساويا له ، إذ الجهات في الحركات متساوية ، فكيف لزم من الذات القديمة أو من دورات الأفلاك وهي قديمة عندهم أن تتعين جهة عن جهة تقابلها وتساويها من كل وجه؟ وهذا لا جواب عنه.

الثاني ، أن الفلك الأقصى الذي هو الفلك التاسع عندهم المحرك لجميع السماوات بطريق القهر في اليوم والليلة مرة واحدة يتحرك على قطبين شمالي وجنوبي ، والقطب عبارة عن النقطتين المتقابلتين على الكرة الثابتتين عند حركة الكرة على نفسها ، والمنطقة عبارة عن دائرة عظيمة على وسط الكرة بعدها من النقطتين واحد.

فنقول : جرم الفلك الأقصى متشابه ، وما من نقطة إلا ويتصور أن تكون قطبا ، فما الذي أوجب تعيين نقطتين من بين سائر النقط التي لا نهاية لها عندهم ، فلا بد من وصف زائد على الذات من شأنه تخصيص الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة ، وقد استوفينا تحقيق الالتزامين في كتاب التهافت. وأما المعتزلة فقد اقتحموا أمرين شنيعين باطلين :

أحدهما ، كون الباري تعالى مريدا بإرادة حادثة لا في محل ، وإذا لم تكن الإرادة قائمة به فقول القائل إنه مريدها هجر من الكلام ، كقوله إنه مريد بإرادة قائمة بغيره.

٦٨

والثاني ، أن الإرادة لم حدثت في هذا الوقت على الخصوص ، فإن كانت بإرادة أخرى فالسؤال في الإرادة الأخرى لازم ، ويتسلسل إلى غير نهاية ، وإن كان ليس بإرادة فليحدث العالم في هذا الوقت على الخصوص لا بإرادة ، فإن افتقار الحادث إلى الإرادة لجوازه لا لكونه جسما أو اسما أو إرادة أو علما ، والحادثات في هذا متساوية ، ثم لم يتخلصوا من الإشكال إذ يقال لهم لم حدثت الإرادة في هذا الوقت على الخصوص ولم حدثت إرادة الحركة دون إرادة السكون ، فإن عندهم يحدث لكل حادث إرادة حادثة متعلقة بذلك الحادث فلم لم تحدث إرادة تتعلق بضده؟

وأما الذين ذهبوا إلى حدوث الإرادة في ذاته تعالى لا متعلقة بذلك الحادث فقد دفعوا أحد الإشكالين وهو كونه مريدا بإرادة في غير ذاته ولكن زادوا إشكالا آخر وهو كونه محلا للحوادث ، وذلك يوجب حدوثه ، ثم قد بقيت عليهم بقية الإشكال ولم يتخلصوا من السؤال.

وأما أهل الحق فإنهم قالوا إن الحادثات تحدث بإرادة قديمة تعلقت بها فميزتها عن أضدادها المماثلة لها ، وقول القائل إنه لم تعلقت بها وأضدادها مثلها في الامكان ، هذا سؤال خطأ فإن الإرادة ليست إلا عبارة عن صفة شأنها تمييز الشيء على مثله.

فقول القائل لم ميزت الإرادة الشيء عن مثله ، كقول القائل لم أوجب العلم انكشاف المعلوم ، فيقال : لا معنى للعلم إلا ما أوجب انكشاف المعلوم ، فقول القائل لم أوجب الانكشاف كقوله لم كان العلم علما ، ولم كان الممكن ممكنا ، والواجب واجبا ، وهذا محال ؛ لأن العلم علم لذاته وكذا الممكن والواجب وسائر الذوات ، فكذلك الإرادة وحقيقتها تمييز الشيء عن مثله.

فقول القائل لم ميزت الشيء عن مثله كقوله لم كانت الإرادة

٦٩

إرادة والقدرة قدرة ، وهو محال ، وكل فريق مضطر إلى اثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة ، فكان أقوم الفرق قيلا وأهداهم سبيلا من أثبت هذه الصفة ولم يجعلها حادثة ، بل قال هي قديمة متعلقة بالأحداث في وقت مخصوص ، فكان الحدوث في ذلك الوقت لذلك ، وهذا مما لا يستغني عنه فريق من الفرق وبه ينقطع التسلسل في لزوم هذا السؤال.

والآن فكما تمهد القول في أصل الإرادة فاعلم انها متعلقة بجميع الحادثات عندنا من حيث أنه ظهر أن كل حادث فمخترع بقدرته ، وكل مخترع بالقدرة محتاج إلى إرادة تصرف القدرة إلى المقدور وتخصصها به ، فكل مقدور مراد ، وكل حادث مقدور ، فكل حادث مراد والشر والكفر والمعصية حوادث ، فهي إذا لا محالة مرادة ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فهذا مذهب السلف الصالحين ومعتقد أهل السنة أجمعين وقد قامت عليه البراهين.

وأما المعتزلة فإنهم يقولون إن المعاصي كلها والشرور حادثة بغير إرادته ، بل هو كاره لها ، ومعلوم أن أكثر ما يجري في العالم المعاصي فإذا ما يكرهه أكثر مما يريده فهو إلى العجز والقصور أقرب بزعمهم ، تعالى رب العالمين عن قول الظالمين.

فإن قيل : فكيف يأمر بما لا يريد؟ وكيف يريد شيئا وينهى عنه؟ وكيف يريد الفجور والمعاصي والظلم والقبيح ومريد القبيح سفيه؟

قلنا : إذا كشفنا عن حقيقة الأمر وبينا أنه مباين للإرادة وكشفنا عن القبيح والحسن وبينا أن ذلك يرجع إلى موافقة الأعراض ومخالفتها ، وهو سبحانه منزه عن الأعراض فاندفعت هذه الإشكالات وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

٧٠

الصفة الخامسة والسادسة في السمع والبصر :

ندعي ان صانع العالم سميع بصير ، ويدل عليه الشرع والعقل ، أما الشرع فيدل عليه آيات من القرآن كثيرة كقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١) وكقول إبراهيم عليه‌السلام (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٢) ونعلم أن الدليل غير منقلب عليه في معبوده وأنه كان يعبد سميعا بصيرا ولا يشاركه في الإلزام.

فإن قيل : إنما أريد به العلم.

قلنا : إنما تصرف ألفاظ الشارع عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأفهام إذا كان يستحيل تقديرها على الموضوع ، ولا استحالة في كونه سميعا بصيرا ، بل يجب أن يكون كذلك ، فلا معنى للتحكم بإنكار ما فهمه أهل الإجماع من القرآن.

فإن قيل : وجه استحالته انه إن كان سمعه وبصره حادثين كان محلا للحوادث ، وهو محال ، وإن كانا قديمين فكيف يسمع صوتا معدوما وكيف يرى العالم في الأزل والعالم معدوم والمعدوم لا يرى؟

قلنا : هذا السؤال يصدر عن معتزلي أو فلسفي ، أما المعتزلي فدفعه هين ، فإنه سلم أنه يعلم الحادثات ، فنقول : يعلم الله الآن ان العالم كان موجودا قبل هذا فكيف علم في الأزل أنه يكون موجودا وهو بعد لم يكن موجودا؟ فإن جز إثبات صفة تكون عند وجود العالم علما بأنه كائن ، وفعله بأنه سيكون وبعده بأنه كان وقبله بأنه سيكون ، وهو لا يتغير عبر عنه بالعلم بالعالم والعلمية ، جاز ذلك في السمع والسمعية والبصر والبصرية ، وإن صدر من فلسفي فهو منكر لكونه عالما بالحادثات المعينة الداخلة في الماضي والحال

__________________

(١) سورة الشورى الآية : ١١.

(٢) سورة مريم الآية : ٤٢.

٧١

والمستقبل ، فسبيلنا أن ننقل الكلام إلى العلم ونثبت عليه جواز علم قديم متعلق بالحادثات كما سنذكره ، ثم إذا ثبت ذلك في العلم قسنا عليه السمع والبصر.

وأما المسلك العقلي ، فهو أن نقول : معلوم أن الخالق أكمل من المخلوق ، ومعلوم أن البصير أكمل ممن لا يبصر ، والسميع أكمل ممن لا يسمع ، فيستحيل أن يثبت وصف الكمال للمخلوق ولا نثبته للخالق. وهذان أصلان يوجبان الإقرار بصحة دعوانا ففي أيهما النزاع؟

فإن قيل : النزاع في قولكم واجب أن يكون الخالق أكمل من المخلوق.

قلنا : هذا مما يجب الاعتراف به شرعا وعقلا ، والأمة والعقلاء مجمعون عليه ، فلا يصدر هذا السؤال من معتقد ، ومن اتسع عقله لقبول قادر يقدر على اختراع ما هو أعلى وأشرف منه فقد انخلع عن غريزة البشرية ونطق لسانه بما ينبو عن قبوله قلبه إن كان يفهم ما يقوله ، ولهذا لا نرى عاقلا يعتقد هذا الاعتقاد.

فإن قيل : النزاع في الأصل الثاني ، وقولكم إن البصير أكمل وإن السمع والبصر كمال.

قلنا : هذا أيضا مدرك ببديهة العقل ، فإن العلم كمال والسمع والبصر كمال ثان للعلم ، فإنا بينا أنه استكمال للعلم والتخيل ، ومن علم شيئا ولم يره ثم رآه استفاد مزيد كشف وكمال فكيف يقال إن ذلك حاصل للمخلوق وليس بحاصل للخالق أو يقال إن ذلك ليس بكمال ، فإن لم يكن كمالا فهو نقص أو لا هو نقص ولا هو كمال ، وجميع هذه الأقسام محال ، فظهر ان الحق ما ذكرناه.

فإن قيل : هذا يلزمكم في الإدراك الحاصل بالشم والذوق واللمس لأن فقدها نقصان ووجودها كمال في الإدراك ، فليس كمال علم من علم الرائحة ككمال علم من أدرك بالشم ، وكذلك بالذوق فأين العلم بالطعوم من إدراكها بالذوق.

٧٢

والجواب ان المحققين من أهل الحق صرحوا بإثبات أنواع الإدراكات مع السمع والبصر والعلم الذي هو كمال في الإدراك دون الأسباب التي هي مقترنة بها في العادة من المماسة والملاقاة ، فإن ذلك محال على الله تعالى ، كما جوزوا ادراك البصر من غير مقابلة بينه وبين المبصر ، وفي طرد هذا القياس دفع هذا السؤال ولا مانع منه ولكن لما لم يرد الشرع إلا بلفظ العلم والسمع والبصر فلم يمكن لنا إطلاق غيره.

وأما ما هو نقصان في الإدراك فلا يجوز في حقه تعالى البتة. فإن قيل يجر هذا إلى إثبات التلذذ والتألم ، فالخدر الذي لا يتألم بالضرب ناقص ، والعنين الذي لا يتلذذ بالجماع ناقص ، وكذا فساد الشهوة نقصان ، فينبغي أن نثبت في حقه شهوة ، قلنا هذه الأمور تدل على الحدوث وهي في أنفسها إذا بحث عنها نقصانات ، وهي محوجة إلى أمور توجب الحدوث ، فالألم نقصان ، ثم هو محوج إلى سبب هو ضرب ، والضرب مماسة تجري بين الأجسام ، واللذة ترجع إلى زوال الألم اذا حققت أو ترجع إلى درك ما هو محتاج إليه ومشتاق إليه ، والشوق والحاجة نقصان ، فالموقوف على النقصان ناقص ، ومعنى الشهوة طلب الشيء الملائم ولا طلب إلا عند فقد المطلوب ولا لذة إلا عند نيل ما ليس بموجود ، وكل ما هو ممكن وجوده لله فهو موجود فليس يفوته شيء حتى يكون بطلبه مشتهيا وبنيله ملتذا ، فلم تتصور هذه الأمور في حقه تعالى وإذا قيل إن فقد التألم والإحساس بالضرب نقصان في حق الخدر ، وإن إدراكه كمال وإن سقوط الشهوة من معدته نقصان ، وثبوتها كمال أريد به أنه كمال بالإضافة إلى ضده الذي هو مهلك في حقه ، فصار كمالا بالإضافة إلى الهلاك لأن النقصان خير من الهلاك فهو إذا ليس كمالا في ذاته بخلاف العلم وهذه الادراكات.

الصفة السابعة ، الكلام :

ندعي أن صانع العالم متكلم كما أجمع عليه المسلمون ، واعلم أن من

٧٣

أراد إثبات الكلام بأن العقل يقضي بجواز كون الخلق مرددين تحت الأمر والنهي وكل صفة جائزة في المخلوقات تستند إلى صفة واجبة في الخالق ، فهو في شطط ، إذ يقال له : إن أردت جواز كونهم مأمورين من جهة الخلق الذين يتصور منهم الكلام ، فمسلم ، وإن أردت جوازه على العموم من الخلق والخالق فقد أخذت محل النزاع مسلما في نفس الدليل وهو غير مسلم. ومن أراد إثبات الكلام بالإجماع أو بقول الرسول فقد سام نفسه خطة خسف لأن الإجماع يستند إلى قول الرسول عليه‌السلام ومن أنكر كون الباري متكلما فبالضرورة ينكر تصور الرسول ، إذ معنى الرسول المبلغ لرسالة المرسل ، فإن لم يكن للكلام متصور في حق من ادعى أنه مرسل كيف يتصور الرسول؟ ومن قال أنا رسول الأرض أو رسول الجبل إليكم فلا يصغى إليه لاعتقادنا استحالة الكلام والرسالة من الجبل والأرض ، ولله المثل الأعلى ، ولكن من يعتقد استحالة الكلام في حق الله تعالى استحال منه أن يصدق الرسول إذ المكذب بالكلام لا بد ان يكذب بتبليغ الكلام ، والرسالة عبارة عن تبليغ الكلام ، والرسول عبارة عن المبلغ ، فلعل الأقوم منهج ثالث وهو الذي سلكناه في اثبات السمع والبصر في أن الكلام للحي اما ان يقال هو كمال أو يقال هو نقص ، أو يقال لا هو نقص ولا هو كمال. وباطل ان يقال هو نقص أو هو لا نقص ولا كمال فثبت بالضرورة أنه كمال ، وكل كمال وجد للمخلوق فهو واجب الوجود للخالق بطريق الأولى كما سبق.

فإن قيل : الكلام الذي جعلتموه منشأ نظركم هو كلام الخلق ، وذلك إما أن يراد به الأصوات والحروف أو يراد به القدرة على ايجاد الأصوات والحروف في نفس القادر أو يراد به معنى ثالث سواهما ، فإن أريد به الأصوات والحروف فهي حوادث ومن الحوادث ما هي كمالات في حقنا ولكن لا يتصور قيامها في ذات الله سبحانه وتعالى ، وإن قام بغيره لم يكن هو متكلما به بل كان المتكلم به المحل الذي قام به ؛ وإن أريد به القدرة على

٧٤

خلق الأصوات فهو كمال ولكن المتكلم ليس متكلما باعتبار قدرته على خلق الأصوات فقط بل باعتبار خلقه للكلام فى نفسه ، والله تعالى قادر على خلق الأصوات فله كمال القدرة ولكن لا يكون متكلما به إلا إذا خلق الصوت في نفسه ، وهو محال إذ يصير به محلا للحوادث فاستحال أن يكون متكلما ؛ وإن أريد بالكلام أمر ثالث فليس بمفهوم وإثبات ما لا يفهم محال.

قلنا : هذا التقسيم صحيح والسؤال في جميع أقسامه معترف به إلا في إنكار القسم الثالث ، فإنا معترفون باستحالة قيام الأصوات بذاته وباستحالة كونه متكلما بهذا الاعتبار ، ولكنا نقول الإنسان يسمى متكلما باعتبارين أحدهما بالصوت والحرف والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت وحرف ، وذلك كمال وهو في حق الله تعالى غير محال ، ولا هو دال على الحدوث. ونحن لا نثبت في حق الله تعالى إلا كلام النفس ، وكلام النفس لا سبيل إلى إنكاره في حق الإنسان زائدا على القدرة والصوت حتى يقول الانسان زوّرت البارحة في نفسي كلاما ويقال في نفس فلان كلام وهو يريد أن ينطق به ويقول الشاعر :

لا يعجبنك من أثير خطه

حتى يكون مع الكلام أصيلا

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وما ينطق به الشعراء يدل على أنه من الجليات التي يشترك كافة الخلق في دركها فكيف ينكر.

فإن قيل : كلام النفس بهذا التأويل معترف به ولكنه ليس خارجا عن العلوم والإدراكات وليس جنسا برأسه البتة ، ولكن ما يسميه الناس كلام النفس وحديث النفس هو العلم بنظم الألفاظ والعبارات وتأليف المعاني المعلومة على وجه مخصوص فليس في القلب إلا معاني معلومة وهي العلوم وألفاظ مسموعة هي معلومة بالسماع ، وهو أيضا علم معلوم اللفظ. وينضاف إليه تأليف المعاني والألفاظ على ترتيب. وذلك فعل يسمى فكرا وتسمى

٧٥

القدرة التي عنها يصدر الفعل قوة مفكرة ، فإن أثبتم في النفس شيئا سوى نفس الفكر الذي هو ترتيب الألفاظ والمعاني وتأليفها ، وسوى القوة المفكرة التي هي قدرة عليا وسوى العلم بالمعاني مفترقها ومجموعها ، وسوى العلم بالألفاظ المرتبة من الحروف مفترقها ومجموعها فقد أثبتم أمرا منكرا لا نعرفه ، وإيضاحه أن الكلام إما أمر أو نهي أو خبر أو استخبار.

أما الخبر فلفظ يدل على علم في نفس المخبر ، فمن علم الشيء وعلم اللفظ الموضوع للدلالة على ذلك الشيء كالضرب مثلا فإنه معنى معلوم يدرك بالحس ، ولفظ الضرب الذي هو مؤلف من الضاد والراء والباء الذي وضعته العرب للدلالة على المعنى المحسوس وهي معرفة أخرى ، فكان له قدرة على اكتساب هذه الأصوات بلسانه ، وكانت له إرادة للدلالة وإرادة لاكتساب اللفظ ثم منه قوله ضرب ولم يفتقر إلى أمر زائد على هذه الامور. فكل أمر قدرتموه سوى هذا فنحن نقدر نفيه ، ويتم مع ذلك قولك ضرب ويكون خبرا وكلاما ، وأما الاستخبار فهو دلالة على أن في النفس طلب معرفة ، وأما الأمر فهو دلالة على أن في النفس طلب فعل المأمور وعلى هذا يقاس النهي وسائر الأقسام من الكلام ولا يعقل أمر آخر خارج عن هذا وهذه الجملة ، فبعضها محال عليه كالأصوات وبعضها موجود لله كالارادة والعلم والقدرة ، وأما ما عدا هذا نغير مفهوم.

والجواب أن الكلام الذي نريده معنى زائد على هذه الجملة ولنذكره في قسم واحد من أقسام الكلام وهو الأمر حتى لا يطول الكلام.

فنقول : قول السيد لغلامه قم ، لفظ يدل على معنى ، والمعنى المدلول عليه في نفسه هو كلام ، وليس ذلك شيئا مما ذكرتموه ، ولا حاجة إلى الإطناب في التقسيمات وإنما بتوهم رده ما أراد إلى الأمر أو إلى إرادة الدلالة ومحال أن يقال إنه إرادة الدلالة ، لأن الدلالة تستدعي مدلولا والمدلول غير الدليل وغير إرادة الدلالة ، ومحال أن يقال إنه إرادة الآمر ، لأنه قد

٧٦

يأمر وهو لا يريد الامتثال بل يكرهه ، كالذي يعتذر عند السلطان إلهام بقتله توبيخا له على ضرب غلامه ، بأنه إنما ضربه لعصيانه ، وآيته أنه يأمره بين يدي الملك فيعصيه ، فإذا أراد الاحتجاج به وقال للغلام بين يدي الملك قم فإني عازم عليك بأمر جزم لا عذر لك فيه ولا يريد أن تقوم فهو في هذا الوقت آمر بالقيام قطعا ، وهو غير مريد للقيام قطعا ، فالطلب الذي قام بنفسه الذي دل لفظ الأمر عليه هو الكلام وهو غير إرادة القيام وهذا واضح عند المصنف.

فإن قيل هذا الشخص ليس بآمر على الحقيقة ولكنه موهم أنه أمر ، قلنا : هذا باطل من وجهين : أحدهما ، أنه لو لم يكن آمرا لما تمهد عذره عند الملك ولقيل له أنت في هذا الوقت لا يتصور منك الأمر لأن الأمر هو طلب الامتثال ويستحيل أن تريد الآن الامتثال وهو سبب هلاكك ، فكيف تطمع في أن تحتج بمعصيتك لأمرك وأنت عاجز عن أمره إذ أنت عاجز عن إرادة ما فيه هلاكك وفي امتثاله هلاكك؟ ولا شك في أنه قادر على الاحتجاج وأن حجته قائمة وممهدة لعذره ، وحجته بمعصية الأمر ، فلو تصور الأمر مع تحقق كراهة الامتثال لما تصور احتجاج السيد بذلك البتة ، وهذا قاطع في نفسه لمن تأمله ، والثاني ، هو أن هذا الرجل لو حكى الواقعة للمفتيين وحلف بالطلاق الثلاث إني أمرت العبد بالقيام بين يدي الملك بعد جريان عقاب الملك فعصى ، لأفتى كل مسلم بأن طلاقه غير واقع وليس للمفتي أن يقول أنا أعلم أنه يستحيل أن تريد في مثل هذا الوقت امتثال الغلام وهو سبب هلاكك ، والأمر هو إرادة الامتثال فإذا ما أمرت هذا لو قاله المفتي فهو باطل بالاتفاق ، فقد انكشف الغطاء ولاح وجود معنى هو مدلول اللفظ زائدا على ما عداه من المعاني ، ونحن نسمي ذلك كلاما وهو جنس مخالف للعلوم والإرادات والاعتقادات ، وذلك لا يستحيل ثبوته لله تعالى بل يجب ثبوته فإنه نوع كلام فإذا هو المعني بالكلام القديم.

وأما الحروف فهي حادثة وهي دلالات على الكلام والدليل غير المدلول

٧٧

ولا يتصف بصفة المدلول ، وإن كانت دلالته ذاتية كالعالم فإنه حادث ويدل على صانع قديم فمن أين يبعد أن تدل حروف حادثة على صفة قديمة مع أن هذه دلالة بالاصطلاح؟ ولما كان كل كلام النفس دقيقا زلّ على ذهن أكثر الضعفاء فلم يثبتوا إلا حروفا وأصواتا ويتوجه لهم على هذا المذهب أسئلة واستبعادات نشير إلى بعضها ليستدل بها على طريق الدفع في غيرها.

الاستبعاد الأول : قول القائل كيف سمع موسى كلام الله تعالى ؛ أسمع صوتا وحرفا؟ فإن قلتم ذلك فإذا لم يسمع كلام الله فإن كلام الله ليس بحرف. وإن لم يسمع حرفا ولا صوتا فكيف يسمع ما ليس بحرف ولا صوت؟

قلنا : سمع كلام الله تعالى وهو صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى ليس بحرف ولا صوت ، فقولكم كيف سمع كلام الله تعالى كلام من لا يفهم المطلوب من سؤال كيف ، وإنه ما ذا يطلب به وبما ذا يمكن جوابه فلتفهم ذلك حتى تعرف استحالة السؤال. فنقول : السمع نوع إدراك ، فقول القائل كيف سمع كقول القائل كيف أدركت بحاسة الذوق حلاوة السكر ، وهذا السؤال لا سبيل إلى شفائه إلا بوجهين أحدهما أن نسلم سكرا إلى هذا السائل حتى يذوقه ويدرك طعمه وحلاوته ، فنقول أدركت أنا كما أدركته أنت الآن وهذا هو الجواب الشافي والتعريف التام. والثاني أن يتعذر ذلك إما لفقد السكر أو لعدم الذوق في السائل للسكر ، فنقول : أدركت طعمه كما أدركت أنت حلاوة العسل فيكون هذا جوابا صوابا من وجه وخطأ من وجه. أما وجه كونه صوابا فإنه تعريف بشيء يشبه المسئول عنه من وجه ، وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه وهو أصل الحلاوة ، فإن طعم العسل يخالف طعم السكر وإن قاربه من بعض الوجوه وهو أصل الحلاوة ، وهذا غاية الممكن. فإن لم يكن السائل قد ذاق حلاوة شيء أصلا تعذر جوابه وتفهيم ما سأل عنه وكان كالعنين يسأل عن لذة الجماع وقط ما أدركه فيمتنع تفهيمه ، إلا أن نشبهه له الحالة التي يدركها المجامع بلذة الأكل فيكون خطأ من وجه إذ لذة الجماع والحالة التي يدركها المجامع لا تساوي الحالة التي

٧٨

يدركها الآكل إلا من حيث أن عموم اللذة قد شملها فإن لم يكن قد التذ بشيء قط تعذر أصل الجواب ، وكذلك من قال كيف سمع كلام الله تعالى فلا يمكن شفاؤه في السؤال إلا بأن نسمعه كلام الله تعالى القديم وهو متعذر ، فإن ذلك من خصائص الكليم عليه‌السلام ، فنحن لا نقدر على إسماعه أو تشبيه ذلك بشيء من مسموعاته وليس في مسموعاته ما يشبه كلام الله تعالى ، فإن كل مسموعاته التي ألفها أصوات والأصوات لا تشبه ما ليس بأصوات فيتعذر تفهيمه ، بل الأصم لو سأل وقال كيف تسمعون أنتم الأصوات وهو ما سمع قط صوتا لم نقدر على جوابه ، فإنا إن قلنا كما تدرك أنت المبصرات فهو إدراك في الاذن كإدراك البصر في العين كان هذا خطأ ، فإن إدراك الأصوات لا يشبه إبصار الألوان ، فدل أن هذا السؤال محال بل لو قال القائل كيف يرى رب الأرباب في الآخرة ، كان جوابه محالا لا محالة لأنه يسأل عن كيفية ما لا كيفية له ، إذ معنى قول القائل كيف هو أي مثل أي شيء هو مما عرفناه. فإن كان ما يسأل عنه غير مماثل لشيء مما عرفه ، كان الجواب محالا ولم يدل ذلك على عدم ذات الله تعالى. فكذلك تعذر هذا لا يدل على عدم كلام الله تعالى بل ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه صفة قديمة ليس كمثلها شيء ، كما أن ذاته ذات قديمة ليس كمثلها شيء ، وكما ترى ذاته رؤية تخالف رؤية الأجسام والأعراض ولا تشبهها فيسمع كلامه سماعا يخالف الحروف والأصوات ولا يشبهها.

الاستبعاد الثاني : أن يقال كلام الله سبحانه حال في المصاحف أم لا ، فإن كان حالا فكيف حمل القديم في الحادث؟ فإن قلتم لا ، فهو خلاف الإجماع ، اذ احترام المصحف مجمع عليه حتى حرم على المحدث مسه وليس ذلك إلّا لأن فيه كلام الله تعالى.

فنقول : كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب

٧٩

مقروء بالألسنة ، وأما الكاغذ والحبر والكتابة والحروف والأصوات كلها حادثة لأنها أجسام وأعراض في أجسام فكل ذلك حادث ، وإن قلنا إنه مكتوب في المصحف ، أعني صفة تعالى القديم ، لم يلزم أن تكون ذات القديم في المصحف ، كما أنا إذا قلنا النار مكتوبة في الكتاب لم يلزم منه ان تكون ذات النار حالة فيه ، إذ لو حلت فيه لاحترق المصحف ، ومن تكلم بالنار فلو كانت ذات النار بلسانه لاحترق لسانه ، فالنار جسم حار وعليه دلالة هي الأصوات المقطعة تقطيعا يحصل منه النون والألف والراء ، فالحار المحرق ذات المدلول عليه لا نفس الدلالة ، فكذلك الكلام القديم القائم بذات الله تعالى هو المدلول لا ذات الدليل والحروف أدلة وللأدلة حرمة إذ جعل الشرع لها حرمة فلذلك وجب احترام المصحف لأن فيه دلالة على صفة الله تعالى.

الاستبعاد الثالث : إن القرآن كلام الله تعالى أم لا؟ فإن قلتم لا فقد خرقتم الإجماع ، وإن قلتم نعم فما هو سوى الحروف والأصوات. ومعلوم أن قراءة القارئ هي الحروف والأصوات ، فنقول : هاهنا ثلاثة ألفاظ : قراءة ، ومقروء ، وقرآن ، أما المقروء فهو كلام الله تعالى ، أعني صفته القديمة القائمة بذاته ، وأما القراءة : فهي في اللسان عبارة عن فعل القارئ الذي كان ابتدأه بعد أن كان تاركا له ، ولا معنى للحادث إلا أنه ابتدأ بعد أن لم يكن ، فإن كان الخصم لا يفهم هذا من الحادث فلنترك لفظ الحادث والمخلوق ، ولكن نقول : القراءة فعل ابتدأه القارئ بعد أن لم يكن يفعله وهو محسوس ، وأما القرآن ، فقد يطلق ويراد به المقروء فان أريد به ذلك فهو قديم غير مخلوق وهو الذي أراده السلف رضوان الله عليهم بقولهم القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، أي المقروء بالألسنة ، وإن أريد به القراءة التي هي فعل القارئ ففعل القارئ لا يسبق وجود القارئ وما لا يسبق وجود الحادث فهو حادث ، وعلى الجملة : من يقول ما أحدثته باختيارى من الصوت وتقطيعه وكنت ساكنا

٨٠