الإقتصاد في الإعتقاد

أبو حامد الغزالي

الإقتصاد في الإعتقاد

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٦

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي اجتبى من صفوة عباده عصابة الحق واهل السنة ، وخصهم من بين سائر الفرق بمزايا اللطف والمنة ، وافاض عليهم من نور هدايته ما كشف به عن حقائق الدين ، وأنطق ألسنتهم بحجته التي قمع بها ضلّال الملحدين ، وصفّى سرائرهم من وساوس الشياطين ، وطهّر ضمائرهم عن نزغات الزائغين ، وعمر أفئدتهم بأنوار اليقين حتى اهتدوا بها إلى أسرار ما أنزله على لسان نبيه وصفيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد المرسلين ، واطلعوا على طريق التلفيق بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول ؛ وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول. وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد ، واتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر. وان من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع ، ما أتوا به إلّا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الافراط ، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط. بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم ؛ فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وانى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر ، وينكر مناهج البحث والنظر ، أو لا يعلم انه لا مستند للشرع إلّا قول سيد البشر

٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر ، وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر ، وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر؟ أو لا يعلم ان العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر؟ هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والاذاء. ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء. فاخلق بأن يكون طالب الاهتداء. المستغني إذا استغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء. فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن ، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان ، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور ، والملاحظ بالعين العور لأحدهما على الخصوص متدل بحبل غرور. وسيتضح لك أيها المشوق إلى الاطلاع على قواعد عقائد أهل السنة ، المقترح تحقيقها بقواطع الأدلة ، انه لم يستأثر بالتوفيق للجمع بين الشرع والتحقيق فريق سوى هذا الفريق. فاشكر الله تعالى على اقتفائك لآثارهم وانخراطك في سلك نظامهم وعيارهم واختلاطك بفرقتهم ؛ فعساك أن تحشر يوم القيامة في زمرتهم. نسأل الله تعالى أن يصفي أسرارنا عن كدورات الضلال ، ويغمرها بنور الحقيقة ، وأن يخرس ألسنتنا عن النطق بالباطل ، وينطقها بالحق والحكمة إنه الكريم الفائض المنة الواسع الرحمة.

باب

ولنفتح الكلام ببيان اسم الكتاب ، وتقسيم المقدمات والفصول والأبواب. أما اسم الكتاب فهو «الاقتصاد في الاعتقاد». وأما ترتيبه فهو مشتمل على أربع تمهيدات تجري مجرى التوطئة والمقدمات ، وعلى أربع أقطاب تجري مجرى المقاصد والغايات.

٤

التمهيد الأول : في بيان أن هذا العلم من المهمات في الدين.

التمهيد الثاني : في بيان أنه ليس مهما لجميع المسلمين بل لطائفة منهم مخصوصين.

التمهيد الثالث : في بيان أنه من فروض الكفايات لا من فروض الأعيان.

التمهيد الرابع : في تفصيل مناهج الأدلة التي أوردتها في هذا الكتاب.

وأما الأقطاب المقصودة فأربعة وجملتها مقصورة على النظر في الله تعالى. فإنا إذا نظرنا في العالم لم ننظر فيه من حيث أنه عالم وجسم وسماء وأرض ، بل من حيث أنه صنع الله سبحانه. وان نظرنا في النبي عليه‌السلام لم ننظر فيه من حيث أنه انسان وشريف وعالم وفاضل ؛ بل من حيث أنه رسول الله. وان نظرنا في أقواله لم ننظر من حيث أنها أقوال ومخاطبات وتفهيمات ؛ بل من حيث أنها تعريفات بواسطته من الله تعالى ، فلا نظر إلّا في الله ولا مطلوب سوى الله وجميع أطراف هذا العلم يحصرها النظر في ذات الله تعالى وفي صفاته سبحانه وفي أفعاله عزوجل وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاءنا على لسانه من تعريف الله تعالى. فهي إذن أربعة أقطاب :

القطب الأول : النظر في ذات الله تعالى. فنبين فيه وجوده وانه قديم وأنه باق وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا محدود بحد ولا هو مخصوص بجهة ، وأنه مرئي كما أنه معلوم وأنه واحد ؛ فهذه عشرة دعاوى نبينها في هذا القطب.

القطب الثاني : في صفات الله تعالى. ونبين فيه أنه حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم وأن له حياة وعلما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما ، ونذكر أحكام هذه الصفات ولوازمها وما يفترق فيها وما يجتمع فيها من الأحكام ، وأن هذه الصفات زائدة على الذات وقديمة وقائمة بالذات ولا يجوز أن يكون شيء من الصفات حادثا.

٥

القطب الثالث : في أفعال الله تعالى. وفيه سبعة دعاوى وهو انه لا يجب على الله تعالى التكليف ولا الخلق ولا الثواب على التكليف ولا رعاية صلاح العباد ولا يستحيل منه تكليف ما لا يطاق ولا يجب عليه العقاب على المعاصي ولا يستحيل منه بعثه الأنبياء عليهم‌السلام ؛ بل يجوز ذلك. وفي مقدمة هذا القطب بيان معنى الواجب والحسن والقبيح.

القطب الرابع : في رسل الله ، وما جاء على لسان رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحشر والنشر والجنة والنار والشفاعة وعذاب القبر والميزان والصراط. وفيه أربعة أبواب :

الباب الأول : في إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الباب الثاني : فيما ورد على لسانه من أمور الآخرة.

الباب الثالث : في الإمامة وشروطها.

الباب الرابع : في بيان القانون في تكفير الفرق المبتدعة.

التمهيد الأول

(في بيان ان الخوض في هذا العلم مهم في الدين)

اعلم أن صرف الهمة إلى ما ليس بمهم ، وتضييع الزمان بما عنه بد هو غاية الضلال ونهاية الخسران سواء كان المنصرف إليه بالهمة من العلوم أو من الأعمال ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع. وأهم الأمور لكافة الخلق نيل السعادة الأبدية واجتناب الشقاوة الدائمة ، وقد ورد الأنبياء وأخبروا الخلق بأن لله تعالى على عباده حقوقا ووظائف في أفعالهم وأقوالهم وعقائدهم. وأن من لم ينطق بالصدق لسانه ولم ينطو على الحق ضميره ولم تتزين بالعدل جوارحه فمصيره إلى النار وعاقبته للبوار. ثم لم يقتصروا على مجرد الإخبار بل استشهدوا على صدقهم بأمور غريبة وأفعال عجيبة خارقة للعادات

٦

خارجة عن مقدورات البشر ، فمن شاهدها أو سمع أحوالها بالأخبار المتواترة سبق إلى عقله إمكان صدقهم ، بل غلب على ظنه ذلك بأول السماع قبل أن يمعن النظر في تمييز المعجزات عن عجائب الصناعات. وهذا الظن البديهي أو التجويز الضروري ينزع الطمأنينة عن القلب ويحشوه بالاستشعار والخوف ويهيجه للبحث والافتكار ويسلب عنه الدعة والقرار ويحذره مغبة التساهل والإهمال ويقرر عنده أن الموت آت لا محالة وأن ما بعد الموت منطو عن أبصار الخلق وأن ما أخبر به هؤلاء غير خارج عن حيز الإمكان. فالحزم ترك التواني في الكشف عن حقيقة هذا الأمر. فما هؤلاء مع العجائب التي أظهروها في إمكان صدقهم قبل البحث عن تحقيق قولهم بأقل من شخص واحد يخبرنا عن خروجنا من دارنا ومحل استقرارنا بأن سبعا من السباع قد دخل الدار فخذ حذرك واحترز منه لنفسك جهدك ، فإنا بمجرد السماع اذا رأينا ما أخبرنا عنه في محل الامكان والجواز لم نقدم على الدخول وبالغنا في الاحتراز فالموت هو المستقر والوطن قطعا ، فكيف لا يكون الاحتراز لما بعده مهما؟ فإذن أهم المهمات أن نبحث عن قوله الذي قضى الذهن في بادئ الرأي وسابق النظر بامكانه أهو محال في نفسه على التحقيق أو هو حق لا شك فيه؟ فمن قوله ان لكم ربا كلفكم حقوقا وهو يعاقبكم على تركها ويثيبكم على فعلها وقد بعثي رسولا إليكم لأبين ذلك لكم ، فيلزمنا لا محالة ان نعرف ان لنا ربا أم لا. وإن كان فهل يمكن أن يكون حيا متكلما حتى يأمر وينهى ويكلف ويبعث الرسل ، وإن كان متكلما فهل هو قادر على أن يعاقب ويثيب إذا عصيناه أو أطعناه ، وإن كان قادرا فهل هذا الشخص بعينه صادق في قوله أنا الرسول إليكم. فإن اتضح لنا ذلك لزمنا لا محالة ، إن كنا عقلاء ، أن نأخذ حذرنا وننظر لأنفسنا ونستحقر هذه الدنيا المنقرضة بالإضافة إلى الآخرة الباقية فالعاقل من ينظر لعاقبته ولا يغتر بعاجلته. ومقصود هذا العلم إقامة البرهان على وجود الرب تعالى وصفاته وأفعاله وصدق الرسل كما فصلناه في الفهرست. وكل ذلك مهم لا محيص عنه لعاقل.

٧

فان قلت اني لست منكرا هذا الانبعاث للطلب من نفسي ولكني لست أدري أنه ثمرة الجبلة والطبع وهو مقتضى العقل أو هو موجب الشرع إذ للناس كلام في مدارك الوجوب ؛ فهذا انما تعرفه في آخر الكتاب عند تعرضنا لمدارك الوجوب. والاشتغال به الآن فضول بل لا سبيل بعد وقوع الانبعاث إلى الانتهاض لطلب الخلاص. فمثال الملتفت إلى ذلك مثال رجل لدغته حية أو عقرب وهي معاودة اللدغ والرجل قادر على الفرار ولكنه متوقف ليعرف ان الحية جاءته من جانب اليمين أو من جانب اليسار ، وذلك من أفعال الأغبياء الجهال نعوذ بالله من الاشتغال بالفضول مع تضييع المهمات والأصول.

التمهيد الثاني

(في بيان الخوض في هذا العلم وإن كان مهما فهو في حق بعض الخلق ليس

بمهم بل المهم لهم تركه)

اعلم أن الأدلة التي نحررها في هذا العلم تجري مجرى الأدوية التي يعالج بها مرض القلوب. والطبيب المستعمل لها إن لم يكن حاذقا ثاقب العقل رصين الرأي كان ما يفسده بدوائه أكثر مما يصلحه. فليعلم المحصل لمضمون هذا الكتاب والمستفيد لهذه العلوم أن الناس أربع فرق :

الفرقة الأولى : آمنت بالله وصدّقت رسوله واعتقدت الحق وأضمرته واشتغلت إما بعبادة وإما بصناعة ؛ فهؤلاء ينبغي أن يتركوا وما هم عليه ولا تحرك عقائدهم بالاستحثاث على تعلم هذا العلم ، فإن صاحب الشرع صلوات الله عليه لم يطالب العرب في مخاطبته إياهم بأكثر من التصديق ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهاني. وهذا مما علم ضرورة من مجاري أحواله في تزكيته إيمان من سبق من أجلاف

٨

العرب إلى تصديقه ببحث وبرهان ؛ بل بمجرد قرينة ومخيلة سبقت إلى قلوبهم فقادتها إلى الإذعان للحق والانقياد للصدق فهؤلاء مؤمنون حقا فلا ينبغي أن تشوش عليهم عقائدهم ، فإنه إذا تليت عليهم هذه البراهين وما عليها من الاشكالات وحلها لم يؤمن أن تعلق بأفهامهم مشكلة من المشكلات وتستولي عليها ولا تمحى عنها بما يذكر من طرق الحل. ولهذا لم ينقل عن الصحابة الخوض في هذا الفن لا بمباحثة ولا بتدريس ولا تصنيف ، بل كان شغلهم بالعبادة والدعوة إليها وحمل الخلق على مراشدهم ومصالحهم في أحوالهم وأعمالهم ومعاشهم فقط.

الفرقة الثانية : طائفة مالت عن اعتقاد الحق كالكفرة والمبتدعة. فالجافي الغليظ منهم الضعيف العقل الجامد على التقليد الممتري على الباطل من مبتدأ النشوء إلى كبر السن لا ينفع معه إلا السوط والسيف. فأكثر الكفرة أسلموا تحت ظلال السيوف إذ يفعل الله بالسيف والسنان ما لا يفعل بالبرهان واللسان.

وعن هذا إذا استقرأت تواريخ الأخبار لم تصادف ملحمة بين المسلمين والكفار إلّا انكشفت عن جماعة من أهل الضلال مالوا إلى الانقياد ، ولم تصادف مجمع مناظرة ومجادلة انكشفت إلا عن زيادة إصرار وعناد. ولا تظنن أن هذا الذي ذكرناه غض من منصب العقل وبرهانه ولكن نور العقل كرامة لا يخص الله بها إلّا الآحاد من أوليائه ، والغالب على الخلق القصور والاهمال ، فهم لقصورهم لا يدركون براهين العقول كما لا تدرك نور الشمس أبصار الخفافيش. فهؤلاء تضر بهم العلوم كما تضر رياح الورد بالجعل. وفي مثل هؤلاء قال الامام الشافعي رحمه‌الله :

فمن منح الجهال علما أضاعه

ومن منع المستوجبين فقد ظلم

الفرقة الثالثة : طائفة اعتقدوا الحق تقليدا وسماعا ولكن خصّوا في الفطرة بذكاء وفطنة فتنبهوا من أنفسهم لإشكالات تشككهم في عقائدهم وزلزلت عليهم طمأنينتهم ، او قرع سمعهم شبهة من الشبهات

٩

وحاكت في صدورهم. فهؤلاء يجب التلطف بهم في معالجتهم باعادة طمأنينتهم وإماطة شكوكهم بما أمكن من الكلام المقنع المقبول عندهم ولو بمجرد استبعاد وتقبيح أو تلاوة آية أو رواية حديث أو نقل كلام من شخص مشهور عندهم بالفضل. فإذا زال شكه بذلك القدر فلا ينبغي أن يشافه بالأدلة المحررة على مراسم الجدال ، فإن ذلك ربما يفتح عليه أبوابا أخر من الإشكالات. فإن كان ذكيا فطنا لم يقنعه الا كلام يسبر على محك التحقيق. فعند ذلك يجوز أن يشافه بالدليل الحقيقي وذلك على حسب الحاجة وفي موضع الاشكال على الخصوص.

الفرقة الرابعة : طائفة من أهل الضلال يتفرس فيهم مخائل الذكاء والفطنة ويتوقع منهم قبول الحق بما اعتراهم في عقائدهم من الريبة أو بما يلين قلوبهم لقبول التشكيك بالحبلة والفطرة. فهؤلاء يجب التلطف بهم في استمالتهم إلى الحق وإرشادهم إلى الاعتقاد الصحيح لا في معرض المحاجة والتعصب ، فإن ذلك يزيد في دواعي الضلال ويهيج بواعث التمادي والإصرار. وأكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحري والادلاء ، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزراء. فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في نفوسهم الاعتقادات الباطلة وعسر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نظروا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولو لا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عمن له قلب عاقل. والمجادلة والمعاندة داء محض لا دواء له ، فليتحرز المتدين منه جهده وليترك الحقد والضغينة وينظر إلى كافة خلق الله بعين الرحمة ، وليستعن بالرفق واللطف في ارشاد من ضل من هذه الأمة. وليتحفظ من النكد الذي يحرك داعية الضلال ، وليتحقق أن مهيج داعية الاصرار بالعناد والتعصب معين على الاصرار على البدعة ومطالب بعهده اعانته في القيامة.

١٠

التمهيد الثالث

(في بيان الاشتغال بهذا العلم من فروض الكفايات)

اعلم أن التبحر في هذا العلم والاشتغال بمجامعه ليس من فروض الأعيان وهو من فروض الكفايات. فأما أنه ليس من فروض الأعيان فقد اتضح لك برهانه في التمهيد الثاني. إذ تبين أنه ليس يجب على كافة الخلق إلا التصديق الجزم وتطهير القلب عن الريب والشك في الإيمان. وإنما تصير إزالة الشك فرض عين في حق من اعتراه الشك.

فإن قلت فلم صار من فروض الكفايات وقد ذكرت أن أكثر الفرق يضرهم ذلك ولا ينفعهم؟ فاعلم أنه قد سبق أن ازالة الشكوك في أصول العقائد واجبة ، واعتوار الشك غير مستحيل وإن كان لا يقع إلّا في الأقل. ثم الدعوة إلى الحق بالبرهان مهمة في الدين. ثم لا يبعد أن يثور مبتدع ويتصدى لإغواء أهل الحق بافاضة الشبهة فيهم فلا بد ممن يقاوم شبهته بالكشف ويعارض إغواءه بالتقبيح ، ولا يمكن ذلك إلا بهذا العلم. ولا تنفك البلاد عن أمثال هذه الوقائع ، فوجب أن يكون في كل قطر من الأقطار وصقع من الأصقاع قائم بالحق مشتغل بهذا العلم يقاوم دعاة المبتدعة ويستميل المائلين عن الحق ويصفي قلوب أهل السنة عن عوارض الشبهة. فلو خلا عنه القطر خرج به أهل القطر كافة ، كما لو خلا عن الطبيب والفقيه. نعم من أنس من نفسه تعلم الفقه أو الكلام وخلا الصقع عن القائم بهما ولم يتسع زمانه للجمع بينهما واستفتي في تعيين ما يشتغل به منهما ؛ أوجبنا عليه الاشتغال بالفقه فإن الحاجة إليه أعم والوقائع فيه أكثر فلا يستغني أحد في ليله ونهاره عن الاستعانة بالفقه. واعتوار الشكوك المحوجة إلى علم الكلام باد بالإضافة إليه كما أنه لو خلا البلد عن الطبيب والفقيه كان التشاغل بالفقه أهم ؛ لأنه يشترك في الحاجة إليه الجماهير والدهماء. فأما الطب فلا

١١

يحتاج إليه الأصحاء. والمرضى أقل عددا بالإضافة إليهم ، ثم المريض لا يستغني عن الفقه كما لا يستغني عن الطب وحاجته إلى الطب لحياته الفانية وإلى الفقه لحياته الباقية وشتان بين الحالتين. فاذا نسبت ثمرة الطب إلى ثمرة الفقه علمت ما بين الثمرتين. ويدلك على أن الفقه أهم العلوم اشتغال الصحابة رضي الله عنهم بالبحث عنه في مشاورتهم ومفاوضاتهم. ولا يغرنك ما يهول به من يعظم صناعة الكلام من أنه الأصل والفقه فرع له فانها كلمة حق ولكنها غير نافعة في هذا المقام ، فإن الأصل هو الاعتقاد الصحيح والتصديق الجزم وذلك حاصل بالتقليد والحاجة إلى البرهان ودقائق الجدل نادرة. والطبيب أيضا قد يلبس فيقول وجودك ثم وجودك ثم وجود بدنك موقوف على صناعتي وحياتك منوطة بي فالحياة والصحة أولا ثم الاشتغال بالدين ثانيا. ولكن لا يخفى ما تحت هذا الكلام من التمويه وقد نبهنا عليه.

التمهيد الرابع

(في بيان مناهج الأدلة التي انتهجناها في هذا الكتاب)

اعلم أن مناهج الأدلة متشعبة وقد أوردنا بعضها في كتاب محك النظر وأشبعنا القول فيها في كتاب معيار العلم. ولكنا في هذا الكتاب نحترز عن الطرق المتغلقة والمسالك الغامضة قصدا للايضاح وميلا إلى الإيجاز واجتنابا للتطويل. ونقتصر على ثلاثة مناهج :

المنهج الأول : السير والتقسيم وهو ان نحصر الأمر في قسمين ثم يبطل أحدهما فيلزم منه ثبوت الثاني ، كقولنا : العالم إما حادث وإما قديم ، ومحال أن يكون قديما فيلزم منه لا محالة أن يكون حادثا أنه حادث وهذا اللازم هو مطلوبنا وهو علم مقصود استفدناه من علمين آخرين أحدهما قولنا : العالم إما قديم أو حادث فإن الحكم بهذا الانحصار علم.

١٢

والثاني : قولنا ومحال أن يكون قديما فإن هذا علم آخر.

والثالث : هو اللازم منهما وهو المطلوب بأنه حادث. وكل علم مطلوب ، فلا يمكن أن يستفاد الا من علمين هما أصلان ولا كل أصلين ، بل إذا وقع بينهما ازدواج على وجه مخصوص وشرط مخصوص ، فإذا وقع الازدواج على شرطه أفاد علما ثالثا وهو المطلوب ، وهذا الثالث قد نسميه دعوى إذا كان لنا خصم ، ونسميه مطلوبا إذا كان لم يكن لنا خصم ، لأنه مطلب الناظر ونسميه فائدة وفرعا بالإضافة إلى الأصلين فإنه مستفاد منهما. ومهما أقر الخصم بالأصلين يلزمه لا محالة الاقرار بالفرع المستفاد منهما وهو صحة الدعوى.

المنهج الثاني : أن نرتب أصلين على وجه آخر مثل قولنا : كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهو أصل ، والعالم لا يخلو عن الحوادث فهو أصل آخر ، فيلزم منهما صحة دعوانا وهو أن العالم حادث وهو المطلوب فتأمل. هل يتصور أن يقر الخصم بالأصلين ثم يمكنه إنكار صحة الدعوى فتعلم قطعا أن ذلك محال.

المنهج الثالث : أن لا نتعرض لثبوت دعوانا ، بل ندعي استحالة دعوى الخصم بأن نبين أنه مفض إلى المحال وما يفضي إلى المحال فهو محال لا محالة. مثاله : قولنا إن صح قول الخصم أنّ دورات الفلك لا نهاية لها لزم منه صحة قول القائل أنّ ما لا نهاية له قد انقضى وفرغ منه ، ومعلوم أن هذا اللازم محال فيعلم منه لا محالة أن المفضي إليه محال وهو مذهب الخصم. فههنا أصلان : أحدهما قولنا إن كانت دورات الفلك لا نهاية لها فقد انقضى ما لا نهاية له ، فإن الحكم بلزوم انقضاء ما لا نهاية له ـ على القول بنفي النهاية عن دورات الفلك ـ علم ندعيه ونحكم به ، ولكن يتصور فيه من الخصم إقرارا وإنكار بأن يقول : لا أسلّم أنه يلزم ذلك. والثاني قولنا إن هذا اللازم محال فانه أيضا أصل يتصور فيه إنكار بأن يقول : سلمت الأصل الأول ولكن لا أسلم هذا الثاني وهو استحالة انقضاء ما لا نهاية له ، ولكن

١٣

لو أقرّ بالأصلين كان الاقرار بالمعلوم الثالث اللازم منهما واجبا بالضرورة ؛ وهو الاقرار باستحالة مذهبه المفضي إلى هذا المحال.

فهذه ثلاث مناهج في الاستدلال جلية لا يتصور إنكار حصول العلم منها ، والعلم الحاصل هو المطلوب والمدلول ، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا العلم هو الدليل. والعلم بوجه لزوم هذا المطلوب من ازدواج الأصلين علم بوجه دلالة الدليل. وفكرك الذي هو عبارة عن إحضارك الأصلين في الذهن وطلبك التفطن لوجه لزوم العلم الثالث من العلمين الأصلين هو النظر ؛ فإذن عليك في درك العلم المطلوب وظيفتان ؛ إحداهما : إحضار الأصلين في الذهن وهذا يسمى فكرا ، والآخر : تشوقك إلى التفطن لوجه لزوم المطلوب من ازدواج الأصلين وهذا يسمى طلبا. فلذلك قال من جرّد التفاته إلى الوظيفة الأولى حيث أراد حدّ النظر أنه الفكر. وقال من جرّد التفاته إلى الوظيفة الثانية في حد النظر أنه طلب علم أو غلبة ظن. وقال من التفت إلى الأمرين جميعا أنه الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو غلبة ظن. فهكذا ينبغي أن تفهم الدليل والمدلول ووجه الدلالة وحقيقة النظر ودع عنك ما سوّدت به أوراق كثيرة من تطويلات وترديد عبارات لا تشفي غليل طالب ولا تسكن لهمة متعطش ولن يعرف قدر هذه الكلمات الوجيزة الا من انصرف خائبا عن مقصده بعد مطالعة تصانيف كثيرة. فان رجعت الآن في طلب الصحيح إلى ما قيل في حد النظر دل ذلك على انك تخص من هذا الكلام بطائل ولن ترجع منه إلى حاصل ، فإنك إذا عرفت أنه ليس هاهنا إلا علوم ثلاثة : علمان هما أصلان يترتبان ترتبا مخصوصا ، وعلم ثالث يلزم منهما وليس عليك فيه الا وظيفتان : إحداهما إحضار العلمين في ذهنك ، والثانية التفطن لوجه العلم الثالث منهما. والخيرة بعد ذلك أليك في اطلاق لفظ النظر في ان تعبر به عن الفكر الذي هو احضار العلمين ، أو عن التشوف الذي هو طلب التفطن لوجه لزوم العلم الثالث ، او عن الامرين جميعا ، فان العبارات مباحة والاصطلاحات لا مشاحة فيها.

١٤

فان قلت غرضي أن أعرف اصطلاح المتكلمين وأنهم عبروا بالنظر عما ذا ، فاعلم أنك اذا سمعت واحدا يجد النظر بالفكر ، وآخر بالطلب ، وآخر بالفكر الذي هو يطلب به ، لم تسترب في اختلاف اصطلاحاتهم على ثلاثة أوجه. والعجب ممن لا يتفطن هذا ويفرض الكلام في حد النظر.

مسألة خلافية : ويستدل بصحة واحد من الحدود وليس يدري أن حظ المعنى المعقول من هذه الأمور لا خلاف فيه وأن الاصطلاح لا معنى للخلاف فيه. وإذا أنت امعنت النظر واهتديت السبيل عرفت قطعا أن اكثر الأغاليط نشأت من ضلال من طلب المعاني من الألفاظ ، ولقد كان من حقه ان يقدر المعاني أولا ثم ينظر في الالفاظ ثانيا ، ويعلم أنها اصطلاحات لا تتغير بها المعقولات. ولكن من حرم التوفيق استدبر الطريق ، ونكل عن التحقيق.

فإن قلت : إني لا استريب في لزوم صحة الدعوى من هذين الأصلين إذا أقر الخصم بهما على هذا الوجه ، ولكن من أين يجب على الخصم الاقرار بهما ومن أين تقتضي هذه الأحوال المسلمة الواجبة التسليم؟ فاعلم أن لها مدارك شتى ولكن الذي نستعمله في هذا الكتاب نجتهد أن لا يعلم ستة :

الأول منها : الحسيات ، أعني المدرك بالمشاهدة الظاهرة والباطنة ، مثاله أنّا إذا قلنا مثلا كل حادث فله سبب ، وفي العالم حوادث فلا بدلها من سبب. فقولنا : في العالم حوادث ، أصل واحد يجب الإقرار به ، فإنه يدرك بالمشاهدة الظاهرة حدوث أشخاص الحيوانات والنباتات والغيوم والامطار ومن الأعراض الأصوات والألوان. وان تخيل أنها منتقلة ، فالانتقال حادث ونحن لم ندع إلا حادثا ولم نعين أن ذلك الحادث جوهر أو عرض أو انتقال أو غيره. وكذلك يعلم بالمشاهدة الباطنة حدوث الآلام والافراح والغموم في قلبه فلا يمكنه انكاره.

١٥

الثاني : العقل المحض ، فإنّا إذا قلنا : العالم أما قديم مؤخر ، وإما حادث مقدم ، وليس وراء القسمين قسم ثالث ، وجب الاعتراف به على كل عاقل. مثاله أن تقول : كل ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ، والعالم لا يسبق الحوادث فهو حادث ، فأحد الأصلين قولنا أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث.

ويجب على الخصم الإقرار به ، لان ما لا يسبق الحادث إما أن يكون مع الحادث أو بعده ولا يمكن قسم ثالث. فإن ادعى قسما ثالثا كان منكرا لما هو بديهي في العقل ، وإن انكر أن ما هو مع الحادث أو بعده ليس بحادث فهو أيضا منكر للبديهة.

الثالث : التواتر ، مثاله أنّا نقول محمد صلوات الله وسلامه عليه صادق لأن كل من جاء بالمعجزة فهو صادق ، وقد جاء هو بالمعجزة فهو إذا صادق. فإن قيل أنّا لا نسلم أنه جاء بالمعجزة فنقول : قد جاءنا بالقرآن والقرآن معجزة ، فاذا قد جاء بالمعجزة. فإن سلّم الخصم أحد الاصلين وهو أن القرآن معجزة ، اما بالطوع او بالدليل ، وأراد إنكار الأصل الثاني وهو أنه قد جاء بالقرآن ، وقال لا أسلم أن القرآن مما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، لم يمكنه ذلك لان التواتر يحصل العلم به كما حصل لنا العلم بوجوده وبدعواه النبوة وبوجود مكة ووجود موسى وعيسى وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم اجمعين.

الرابع : أن يكون الأصل مثبتا بقياس آخر يستند بدرجة واحدة أو درجات كثيرة إما الى الحسيات أو العقليات أو المتواترات ، فإن ما هو فرع الأصلين يمكن أن يجعل اصلا في قياس آخر. مثاله أنّا بعد أن نفرغ من الدليل على حدوث العالم يمكننا أن نجعل حدوث العالم أصلا في نظم قياس ، مثلا ان نقول كل حادث فله سبب والعالم حادث فإذا له سبب ، فلا يمكنهم انكار كون العالم حادثا بعد أن أثبتنا بالدليل حدوثه.

١٦

الخامس : السمعيات ، مثاله انا ندعي مثلا ان المعاصي بمشيئة الله تعالى ، ونقول كل كائن فهو بمشيئة الله تعالى والمعاصي كائنة فهي إذا بمشيئة الله تعالى ؛ فأما قولنا هي كائنة فمعلوم وجودها بالحس ، وكونها معصية بالشرع ، واما قولنا كل كائن بمشيئة الله تعالى فاذا انكر الخصم ذلك منعه الشرع مهما كان مقرا بالشرع أو كان قد اثبت عليه بالدليل فإنّا نثبت هذا الاصل بإجماع الأمة على صدق قول القائل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فيكون السمع مانعا من الانكار.

السادس : أن يكون الاصل مأخوذا من معتقدات الخصم ومسلماته. فإنه وإن لم يقم لنا عليه دليل او لم يكن حسيا ولا عقليا ، انتفعنا باتخاذه إياه أصلا في قياسنا وامتنع عليه الإنكار الهادم لمذهبه. وامثلة هذا مما تكثر فلا حاجة الى تعيينه. فإن قلت : فهل من فرق بين هذه المدارك في الانتفاع بها في المقاييس النظرية؟ فاعلم أنها متفاوتة في عموم الفائدة ، فإن المدارك العقلية والحسية عامة مع كافة الخلق إلّا من لا عقل له ولا حس له وكان الأصل معلوما فالحس الذي فقده كالأصل المعلوم بحاسة البصر إذا استعمل مع الأكمه فإنه لا ينفع ، والاكمه اذا كان هو الناظر لم يمكنه أن يتخذ ذلك اصلا ، وكذلك المسموع في حق الاصم. وأما المتواتر فإنه نافع ولكن في حق من تواتر إليه ، فاما من لم يتواتر إليه ممن وصل إلينا في الحال من مكان بعيد لم تبلغه الدعوة فأردنا أن نبين له بالتواتر أن نبينا وسيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما وعلى آله وصحبه تحدى بالقرآن ، لم يقدر عليه ما لم يمهله مدة من يتواتر عنده ، ورب شيء يتواتر عند قوم دون قوم ، فقول الشافعي رحمه‌الله تعالى في مسألة قتل المسلم بالذمي متواتر عند الفقهاء من أصحابه دون العوام من المقلدين وكم من مذهب له في أحاد المسائل لم يتواتر عند اكثر الفقهاء وأما الأصل المستفاد من قياس آخر فلا ينفع الا مع من قدر معه ذلك القياس.

١٧

وأما مسلمات المذاهب فلا تنفع الناظر وإنما تنفع المناظر مع من يعتقد ذلك المذهب. وأما السمعيات فلا تنفع إلا من يثبت السمع عنه ، فهذه مدارك علوم هذه الأصول المفيدة بترتيبها ونظمها العلم بالأمور المجهولة المطلوبة وقد فرغنا من التمهيدات فلنشتغل بالاقطاب التي هي مقاصد الكتاب.

١٨

القطب الأول

(في النظر في ذات الله تعالى وفيه عشر دعاوى)

(الدعوى الأولى) : وجوده تعالى وتقدس ، برهانه أنا نقول كل حادث فلحدوثه سبب ، والعالم حادث فيلزم منه إن له سببا ، ونغني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى. ونعني بكل موجود سوى الله تعالى الأجسام كلها وأعراضها ، وشرح ذلك بالتفصيل أنا لا نشك في أصل الوجود ، ثم نعلم أن كل موجود اما متحيزا أو غير متحيز ، وأن كل متحيز إن لم يكن فيه ائتلاف فنسميه جوهرا فردا ، وإن ائتلف إلى غيره سميناه جسما ، وإن غير المتحيز اما أن يستدعي وجوده جسما يقوم به ونسميه الأعراض ، أو لا يستدعيه وهو الله سبحانه وتعالى. فاما ثبوت الأجسام وأعراضها. فمعلوم بالمشاهدة ، ولا يلتفت إلى من ينازع في الأعراض وإن طال فيها صياحه وأخذ يلتمس منك دليلا عليه ، فإن شغبه ونزاعه والتماسه وصياحه ، إن لم يكن موجودا فكيف نشتغل بالجواب عنه والإصغاء إليه ، وإن كان موجودا فهو لا محالة غير جسم المنازع إذ كان جسما موجودا من قبل ، ولم يكن التنازع موجودا فقد عرفت أن الجسم والعرض مدركان بالمشاهدة. فإما موجود ليس بجسم ولا جوهر متحيز ولا عرض فيه فلا يدرك بالحس ونحن ندعي وجوده وندعي أن العالم موجود به ، وبقدرته ، وهذا يدرك بالدليل لا بالحس ، والدليل ما ذكرناه ، فلنرجع إلى تحقيقه. فقد جمعنا فيه اصلين فلعل الخصم ينكرهما ، فنقول له : في أي الأصلين تنازع؟ فإن قال إنما أنازع في قولك إن كل حادث

١٩

فله سبب فمن اين عرفت هذا ، فنقول : إن هذا الأصل يجب الاقرار به ، فإنه أوليّ ضروري في العقل ، ومن يتوقف فيه فإنما يتوقف لأنه ربما لا ينكشف له ما نريده بلفظ الحادث ، ولفظ السبب ، وإذا فهمهما صدّق عقله بالضرورة بأن لكل حادث سببا. فانا نعني بالحادث ما كان معدوما ثم صار موجودا فنقول وجوده قبل ان وجد كان محالا أو ممكنا. وباطل أن يكون محالا لأن المحال لا يوجد قط ، وإن كان ممكنا فلسنا نعني بالممكن إلا ما يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد ولكن لم يكن موجودا لأنه ليس يجب وجوده لذاته إذ لو وجد وجوده لذاته لكان واجبا لا ممكنا. بل قد افتقر وجوده الى مرجح لوجوده على العدم حتى يتبدل العدم بالوجود ، فإذا كان استمرار عدمه من حيث أنه لا مرجح للوجود على العدم ، فمن لم يوجد المرجح لا يوجد الوجود ، ونحن لا نريد بالسبب إلا المرجح : والحاصل أن المعدوم المستمر العدم لا يتبدل عدمه بالوجود ما لم يتحقق أمر من الأمور يرجح جانب الوجود على استمرار العدم ، وهذا إذا حصل في الذهن معنى لفظه كان العقل مضطرا الى التصديق به. فهذا بيان اثبات هذا الأصل وهو على التحقيق شرح للفظ الحادث والسبب لاقامة دليل عليه.

فإن قيل لم تنكرون على من ينازع في الأصل الثاني ، وهو قولكم أن العالم حادث ، فنقول : ان هذا الأصل ليس بأوليّ في العقل ، بل نثبته ببرهان منظوم من أصلين آخرين هو أنا نقول إذ قلنا أن العالم حادث أردنا بالعالم الآن ، الأجسام والجواهر فقط ، فنقول كل جسم فلا يخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فيلزم منه أن كل جسم فهو حادث ففي أي الأصلين النزاع؟

فإن قيل لم قيل أن كل جسم او متحيز فلا يخلو عن الحوادث؟ قلنا : لانه لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان ، فإن قيل : ادعيتم وجودهما ثم حدوثهما ، فلا نسلم الوجود ولا الحدوث ، قلنا هذا سؤال

٢٠