الإقتصاد في الإعتقاد

أبو حامد الغزالي

الإقتصاد في الإعتقاد

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٦

حيث يسكن الخلق وينمحي عن القلوب ذكرهم ، ويصفوا لذكر الله تعالى قلب الداعي ، فمثل هذا الدعاء هو المرجو الاستجابة لا ما يصدر عن غفلة القلوب عند تزاحم الاشتغال.

(الدعوى التاسعة) : ندعي أن الله سبحانه وتعالى مرئي ، خلافا للمعتزلة ، وإنما أوردنا هذه المسألة في القطب الموسوم بالنظر في ذات الله سبحانه وتعالى لأمرين : أحدهما أن ننفي الرؤية عما يلزم على نفي الجهة ، فأردنا أن نبين كيف يجمع بين نفي الجهة وإثبات الرؤية. والثاني أنه سبحانه وتعالى عندنا مرئي لوجوده ووجود ذاته ، فليس ذلك إلا لذاته ، فإنه ليس لفعله ولا لصفة من الصفات ، بل كل موجود ذات فواجب أن يكون مرئيا ، كما أنه واجب أن يكون معلوما ، ولست أعني به أنه واجب أن يكون معلوما ومرئيا بالفعل بل بالقوة ، أي هو من حيث ذاته مستعد لأن تتعلق الرؤية به ، وإنه لا مانع ولا محيل في ذاته له ، فإن امتنع وجود الرؤية فلأمر آخر خارج عن ذاته ، كما نقول : الماء الذي في النهر مرو ، والخمر الذي في الدن مسكر ، وليس كذلك لأنه يسكر ويروي عند الشرب ولكن معناه أن ذاته مستعدة لذلك فإذا فهم المراد منه فالنظر في طرفين :

ـ أحدهما في الجواز العقلي ، والثاني في الوقوع الذي لا سبيل إلى دركه الا بالشرع ، ومهما دل الشرع على وقوعه فقد دل أيضا لا محالة على جوازه ولكنّا ندل بمسلكين واقعين عقليين على جوازه.

المسلك الأول ، هو أنا نقول أن الباري سبحانه موجود وذات ، وله ثبوت وحقيقة ، وإنما يخالف سائر الموجودات في استحالة كونه حادثا أو موصوفا بما يدل على الحدوث ، أو موصوفا بصفة تناقض صفات الالهية من العلم والقدرة وغير هما ، فكل ما يصح لموجود فهو يصح في حقه تعالى إن لم يدل على الحدوث ولم يناقض صفة من صفاته. والدليل عليه تعلق العلم به ؛ فانه لما لم يؤذ إلى تغير في ذاته ولا إلى مناقضة صفاته ولا إلى الدلالة

٤١

على الحدوث ، سوّى بينه وبين الأجسام والأعراض في جواز تعلق العلم بذاته وصفاته. والرؤية نوع علم لا يوجب تعلقه بالمرئي تغير صفة ولا يدل على حدوث ، فوجب الحكم بها على كل موجود ، فان قيل : فكونه مرئيا يوجب كونه بجهة وكونه بجهة يوجب كونه عرضا أو جوهرا وهو محال ، ونظم القياس أنه إن كان مرئيا فهو بجهة من الرأي وهذا اللازم محال فالمفضي إلى الرؤية محال.

قلنا : أحد الأصلين من هذا القياس مسلّم لكم ، وهو أن هذا اللازم محال ، ولكن الأصل الأول وهو ادعاء هذا اللازم على اعتقاد الرؤية ممنوع.

فنقول لم قلتم انه إن كان مرئيا فهو بجهة من الرأي ، أعلمتم ذلك بضرورة ، أم بنظر؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة ، وأما النظر فلا بد من بيانه. ومنتهاهم أنهم لم يروا إلى الآن شيئا إلا وكان بجهة من الرأي مخصوصة ، فيقال : وما لم ير فلا يحكم باستحالته ، ولو جاز هذا لجاز للمجسم أن يقول إنه تعالى جسم ، لأنه فاعل ، فإننا لم نر إلى الآن فاعلا إلا جسما. أو يقول إن كان فاعلا وموجودا فهو إما داخل العالم وإما خارجه ، وإما متصل وإما منفصل ، ولا تخلو عنه الجهات الست ، فإنه لم يعلم موجود إلا وهو كذلك فلا فضل بينكم وبين هؤلاء. وحاصله يرجع إلى الحكم بأن ما شوهد وعلم ينبغي أن لا يعلم غيره الا على وفقه ، وهو كمن يعلم الجسم وينكر العرض ويقول : لو كان موجودا لكان يختص بحيز ويمنع غيره من الوجود بحيث هو كالجسم. ومنشأ هذا إحالة موجودات اختلاف الموجودات في حقائق الخواص مع الاشتراك في أمور عامة ، وذلك بحكم لا اصل له ، على أن هؤلاء لا يغفل عن معارضتهم بأن الله يرى نفسه ويرى العالم وهو ليس بجهة من نفسه ولا من العالم ، فإذا جاز ذلك فقد بطل هذا الخيال. وهذا مما يعترف به أكثر المعتزلة ولا يخرج عنه لمن اعترف به ومن أنكر منهم فلا يقدر على انكار رؤية الانسان نفسه في المرآة ، ومعلوم أنه ليس في مقابلة نفسه فإن زعموا أنه لا يرى نفسه وإنما يرى صورة محاكية لصورته منطبعة في المرآة

٤٢

انطباع النفس في الحائط ، فيقال إن هذا ظاهر الاستحالة : فإن من تباعد عن مرآة منصوبة في حائط بقدر ذراعين يرى صورته بعيدة عن جرم المرآة بذراعين ، وإن تباعد بثلاثة أذرع فكذلك ، فالبعيد عن المرآة بذراعين كيف يكون منطبعا في المرآة وسمك المرآة ربما لا يزيد على سمك شعيرة؟ فإن كانت الصورة في شيء وراء المرآة فهو محال ، إذ ليس وراء المرآة الا جدار أو هواء أو شخص آخر هو محجوب عنه ، وهو لا يراه. وكذا عن يمين المرآة ويسارها وفوقها وتحتها وجهات المرآة الست ، وهو يرى صورة بعيدة عن المرآة بذراعين ، فلنطلب هذه الصورة من جوانب المرآة : فحيث وجدت فهو المرئي ولا وجود لمثل هذه الصورة المرئية في الأجسام المحيطة بالمرآة إلا في جسم والناظر ، فهو المرئي إذا بالضرورة. وقد تطلب المقابلة والجهة ولا ينبغي أن تستحقر هذا الإلزام فإنه لا مخرج للمعتزلة عنه ، ونحن نعلم بالضرورة أن الانسان لو لم يبصر نفسه قط ولا عرف المرآة وقيل له أن يمكن أن تبصر نفسك في مرآة الحكم بأنه محال ، وقال لا يخلو إما أن أرى نفسي وأنا في المرآة فهو محال ، أو أرى مثل صورتي في جرم المرآة وهو محال ، أو في جرم وراء المرآة وهو محال ، أو المرآة في نفسها صورة وللأجسام المحيطة بها جسم صور ، ولا تجتمع صورتان في جسم واحد إذ محال أن يكون في جسم واحد صورة إنسان وحديد وحائط وإن رأيت نفسي حيث أنا فهو محال ، إذ لست في مقابلة نفسي فكيف أرى نفسي ، ولا بد بين المقابلة بين الرائي والمرئي وهذا التقسيم صحيح عند المعتزلي ومعلوم أنه باطل ، وبطلانه عندنا لقوله إني لست في مقابلة نفسي فلا أراها وإلا فسائر أقسام كلامه صحيحة ، فبهذا يستبين ضيق حوصلة هؤلاء عن التصديق بما لم يألفوه ولم تأنس به حواسهم.

المسلك الثاني ، وهو الكشف البالغ أن تقول إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق ، وظن أنّا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرأي عند النظر إلى الأجسام والألوان

٤٣

وهيهات! فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه ، ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق ، ونسبكه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى ، فإن نفي من معانيه معنى لم يستحل في حق الله سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقة ، أثبتناه في حق الله سبحانه وقضينا بأنه مرئي حقيقة ، وإن لم يكى إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل. وتحصيله ، أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين ، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات ، فلنظر إلى حقيقة معناه ومحله ، وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو ، فنقول : أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية ، فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو بالجبهة مثلا لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا ، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة ، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم.

ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا إن أدركنا الشيء بالقلب ، أو بالدماغ إن أدركنا الشيء بالدماغ ، وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين.

وأما المتعلق بعينه فليس ركنا في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية ، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية ، ولو كان لتعلقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية ، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركنا لوجود هذه الحقيقة ، وإطلاق هذا الاسم ، بل الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود ؛ أيّ موجود كان وأيّ ذات كان. فإذا الركن الذي الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه ، فلنبحث عن الحقيقة ما هي ، ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالإضافة إلى التخيل ، فإنّا نرى الصديق مثلا ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على

٤٤

سبيل التخيل والتصور ، ولكنّا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته ولا ترجع تلك التفرقة إلى إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق وليس بينهما افتراق ، إلا أن هذه الحالة الثانية كالاستكمال لحالة التخيل ، وكالكشف لها ، فتحدث فيها صورة الصديق عند فتح البصر حدوثا أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال. والحادثة في البصر بعينها تطابق بيان الصورة الحادثة في الخيال ، فاذا التخيل نوع إدراك على رتبة ، ووراءه رتبة أخرى هي أتم منه في الوضوح والكشف ، بل هي كالتكميل له ، فنسمي هذا الاستكمال بالإضافة إلى الخيال رؤية وإبصارا ، وكذا من الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته ، وكل ما لا صورة له ، أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال ؛ فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الادراك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل ؛ فإن كان ذلك ممكنا سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالإضافة إلى العلم رؤية ، كما سميناه بالإضافة إلى التخيل رؤية ، ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغير هما ، وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته ، بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة كلها.

فنحن نقول إن ذلك غير محال فإنه لا محيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له. إلا أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم ، والنفس في شغل البدن وكدورة صفائه ، فهو محجوب عنه ، وكما لا يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما في العين سببا بحكم اطّراد العادة لامتناع الإبصار للمتخيلات فلا يبعد أن تكون كدورة النفس وتراكم حجب الاشغال بحكم اطراد العادة مانعا من إبصار المعلومات. فإذا بعثر ما في القبور

٤٥

وحصل ما في الصدور ، وزكيت القلوب بالشراب الطهور ، وصفيت بأنواع التصفية والتنقية ، لم يمتنع أن تشتغل بسببها لمزيد استكمال واستيضاح في ذات الله سبحانه أو في سائر المعلومات ، يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة الإبصار عن التخيل ، فيعبر عن ذلك بلقاء الله تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات. فلا مشاحة فيها وبعد إيضاح المعاني. وإذا كان ذلك ممكنا بأن خلقت هذه الحالة في العين ، كان اسم الرؤية بحكم وضع اللغة عليه أصدق وخلقه في العين غير مستحيل. كما أن خلقها في القلب غير مستحيل فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية. علم أن العقل لا يحيله بل يوجبه ، وأن الشرع قد شهد له فلا يبقى للمنازعة وجه إلا على سبيل العناد أو المشاحنة في إطلاق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها. ولنقتصر في هذا الموجز على هذا القدر.

ـ الطرف الثاني في وقوعه شرعا ، وقد دل الشرع على وقوعه ومداركه كثيرة ، ولكثرتها يمكن دعوى الإجماع على الأولين في ابتهالهم إلى الله سبحانه في طلب لذة النظر إلى وجهه الكريم. ونعلم قطعا من عقائدهم أنهم كانوا ينتظرون ذلك وأنهم كانوا قد فهموا جواز انتظار ذلك وسؤاله من الله سبحانه ، بقرائن أحوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجملة من ألفاظه الصريحة التي لا تدخل في الحصر ، بالاجماع الذي يدل على خروج المدارك عن الحصر. ومن أقوى ما يدل عليه سؤال موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أرني أنظر أليك) (١) فإنه يستحيل أن يخفى عن نبي من أنبياء الله تعالى انتهى منصبه إلى أن يكلمه الله سبحانه شفاها أن يجهل من صفات ذاته تعالى ما عرفه المعتزلة. وهذا معلوم على الضرورة ، فإن الجهل بكونه ممتنع الرؤية عند الخصم يوجب التفكير أو التضليل وهو جهل بصفة ذاته لأن استحالتها عندهم لذاته ولأنه

__________________

(١) سورة الاعراف الآية : ١٤٣.

٤٦

ليس بجهة فكيف لم يعرف موسى عليه أفضل الصلاة أنه ليس بجهة ، أو كيف عرف أنه ليس بجهة ولم يعرف أن رؤية ما ليس بجهة محال؟ فليت شعري ما ذا يضمر الخصم ويقدره من ذهول موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أيقدره معتقدا أنه جسم في جهة ذو لون ، واتهام الأنبياء صلوات الله سبحانه وتعالى عليهم وسلامه كفر صراح ، فإنه تكفير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن القائل بأن الله سبحانه جسم وعابد الوثن والشمس واحد! أو يقول علم استحالة كونه بجهة ، ولكنه لم يعلم أن ما ليس بجهة فلا يرى ، وهذا تجهيل للنبي عليه أفضل السلام لأن الخصم يعتقد أن ذلك من الجليات لا من النظريات. فأنت الآن أيها المسترشد مخير من أن تميل إلى تجهيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، أو إلى تجهيل المعتزلي ، فاختر لنفسك ما أليق بك والسلام.

فإن قيل : إن دلّ هذا لكم فقد دلّ عليكم ، لسؤاله الرؤية في الدنيا ودلّ عليكم قوله تعالى (لَنْ تَرانِي) (١) ودل قوله سبحانه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢).

قلنا : أما سؤاله الرؤية في الدنيا فهو دليل على عدم معرفته بوقوع وقت ما هو جائز في نفسه ، والأنبياء كلهم عليهم أفضل السلام لا يعرفون من الغيب إلا ما عرّفوا ، وهو القليل ، فمن أين يبعد أن يدعو النبي عليه أفضل السلام كشف غمة وإزالة بلية وهو يرتجي الإجابة في وقت لم تسبق في علم الله تعالى الإجابة فيه ، وهذا من ذلك الفن.

وأما قوله سبحانه (لَنْ تَرانِي) (١) فهو دفع لما التمسه ، وإنما التمس في الآخرة ، فلو قال أرني انظر إليك في الآخرة ، فقال لن تراني ، لكان ذلك دليلا على نفي الرؤية ، ولكن في حق موسى صلوات الله سبحانه وسلامه

__________________

(١) سورة الاعراف الآية : ١٤٣.

(٢) سورة الانعام الآية : ١٠٣.

٤٧

عليه في الخصوص لا على العموم ، وما كان أيضا دليلا على الاستحالة ، فكيف وهو جواب عن السؤال في الحال؟

وأما قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (١) أي لا تحيط به ولا تكتنفه من جوانبه كما تحيط الرؤية بالأجسام ، وذلك حق ، أو هو عام فأريد به في الدنيا ، وذلك أيضا حق ، وهو ما أراده بقوله سبحانه (لَنْ تَرانِي) (٢) في الدنيا. ولنقتصر على هذا القدر في مسألة الرؤية ، ولينظر المنصف كيف افترقت الفرق وتخربت إلى مفرط ومفرّط.

أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود إلا في جهة ، فأثبتوا الجهة حتى ألزمتهم بالضرورة الجسمية والتقدير والاختصاص بصفات الحدوث. وأما المعتزلة فانهم نفوا الجهة ولم يتمكنوا من إثبات الرؤية دونها ، وخالفوا به قواطع الشرع ، وظنوا أن في إثباتها اثبات الجهة ، فهؤلاء تغلغلوا في التنزيه محترزين من التشبيه ، فأفرطوا. والحشوية أثبتوا الجهة احترازا من التعطيل فشبهوا ، فوفق الله سبحانه أهل السنة للقيام بالحق ، فتفطنوا للمسلك القصد وعرفوا أن الجهة منفية لأنها للجسمية تابعة وتتمة ، وأن الرؤية ثابتة لأنها رديف العلم وفريقه ، وهي تكملة له ؛ فانتفاء الجسمية أوجب انتفاء الجهة التي من لوازمها ، وثبوت العلم أوجب ثبوت الرؤية التي هي من روادفه وتكملاته ومشاركة له في خاصيته ، وهي أنها لا توجب تغييرا في ذات المرئي ، بل تتعلق به على ما هو عليه كالعلم ، ولا يخفى عن عاقل أن هذا هو الاقتصاد في الاعتقاد.

(الدعوى العاشرة) : ندعي أنه سبحانه واحد. فإن كونه واحدا يرجع إلى ثبوت ذاته ونفي غيره. فليس هو نظر في صفة زائدة على الذات ، فوجب ذكره في هذا القطب.

__________________

(١) سورة الانعام الآية : ١٠٣.

(٢) سورة الاعراف الآية : ١٤٣.

٤٨

فنقول : الواحد قد يطلب ويراد به أنه لا يقبل القسمة ، أي لا كمية له ولا جزء ولا مقدار ، والباري تعالى واحد بمعنى سلب الكمية المصححة للقسمة عنه ؛ فإنه غير قابل للانقسام. إذ الانقسام لما له كمية ، والتقسيم تصرف في كمية بالتفريق والتصغير ، وما لا كمية له لا بتصور انقسامه ، وقد يطلق ويراد أنه لا نظير له في رتبته كما تقول الشمس واحدة ، والباري تعالى أيضا بهذا المعنى واحد ؛ فإنه لا ندّ له ، فأما انه لا ضدّ له فظاهرا ، إذ المفهوم من الضد هو الذي يتعاقب مع الشيء على محل واحد ولا تجامع وما لا محل له فلا ضد له ، والباري سبحانه لا محل له فلا ضدّ له.

وأما قولنا لا ندّ له ، نعني به أن ما سواه هو خالقه لا غير ، وبرهانه أنه لو قدر له شريك لكان مثله في كل الوجوه أو أرفع منه أو كان دونه. وكل ذلك محال ، فالمفضي إليه محال ، ووجه استحالة كونه مثله من كل وجه أن كل اثنين هما متغايران ، فإن لم يكن تغاير لم تكن الاثنينية معقولة ، فإنّا لا نعقل سوادين إلا في محلين ، أو في محل واحد في وقتين ، فيكون أحدهما مفارقا للآخر ومباينا له ومغايرا إما في المحل وإما في الوقت ، والشيئان تارة يتغايران بتغاير الحدّ والحقيقة ، كتغاير الحركة واللون فإنهما وإن اجتمعا في محل واحد في وقت واحد فهما اثنان ، إذ أحدهما مغاير للآخر بحقيقته ، فإن استوى اثنان في الحقيقة والحد كالسوادين ، فيكون الفرق بينهما إما في المحل أو في الزمان ؛ فإن فرض سوادان مثلا في جوهر واحد في حالة واحدة كان محالا إذ لم تعرف الاثنينية ، ولو جاز أن يقال هما اثنان ولا مغايرة ، لجاز أن يشار إلى إنسان واحد ويقال أنه انسانان بل عشرة وكلها متساوية متماثلة في الصفة والمكان وجميع العوارض واللوازم ، من غير فرقان ، وذلك محال بالضرورة ، فإن كان ندّ الله سبحانه متساويا له في الحقيقة والصفات استحال وجوده ، إذ ليس مغايره بالمكان إذ لا مكان ولا زمان فإنهما قديمان ، فاذا لا فرقان ، وإذا ارتفع كل فرق ارتفع العدد بالضرورة ، ولزمت الوحدة. ومحال أن يقال يخالفه بكونه أرفع منه. فإن الأرفع هو الإله والإله عبارة عن

٤٩

أجلّ الموجودات وأرفعها ، والآخر المقدر ناقص ليس بالإله ، ونحن إنما نمنع العدد في الإله ، والإله هو الذي يقال فيه بالقول المطلق أنه أرفع الموجودات وأجلها ، وإن كان أدنى منه كان محالا ، لأنه ناقص ونحن نعبر بالإله عن أجل الموجودات فلا يكون الاجل إلا واحدا ، وهو الإله ولا يتصور اثنان متساويان في صفات الجلال ، إذ يرتفع عند ذلك الافتراق ويبطل العدد كما سبق.

فان قيل : بم تنكرون على من لا ينازعكم في إيجاد من يطلق عليه اسم الإله ، مهما كان الإله ، عبارة عن أجل الموجودات ، ولكنه يقول العالم كله بجملته ليس بمخلوق خالق واحد ، بل هو مخلوق خالقين ، أحدهما مثلا خالق السماء والآخر خالق الأرض ، أو احدهما خالق الجمادات والآخر خالق الحيوانات وخالق النبات : فما المحيل لهذا؟ فإن لم يكن على استحالة هذا دليل ، فمن أين ينفعكم قولكم أن اسم الإله لا يطلق على هؤلاء؟ فإن هذا القائل يعبر بالإله عن الخالق ، أو يقول أحدهما خالق الخير والآخر خالق الشر ، أو أحدهما خالق الجواهر والآخر خالق الأعراض ، فلا بدّ من دليل على استحالة ذلك.

فنقول : يدل على استحالة ذلك أن هذه التوزيعات للمخلوقات على الخالقين في تقدير هذا السائل لا تعدو قسمين : إما أن تقتضي تقسيم الجواهر والأعراض جميعا حتى خلق أحدهما بعض الأجسام والأعراض دون البعض ، أو يقال كل الأجسام من واحد وكل الأعراض من واحد ، وباطل أن يقال إن بعض الأجسام بخلقها واحد كالسماء مثلا دون الأرض ؛ فإنا نقول خالق السماء هل هو قادر على خلق الأرض أم لا ، فإن كان قادرا كقدرته ، لم يتميز أحدهما في القدرة عن الآخر ، فلا يتميز في المقدور عن الآخر فيكون المقدور بين قادرين ولا تكون نسبته إلى أحدهما بأولى من الآخر ، وترجع الاستحالة إلى ما ذكرناه من تقدير تزاحم متماثلين من غير فرق ، وهو محال. وإن لم يكن قادرا عليه فهو محال لأن الجواهر متماثلة وأكوانها التي

٥٠

هي اختصاصات بالأحياز متماثلة ، والقادر على الشيء قادر على مثله إذ كانت قدرته قديمة بحيث يجوز أن يتعلق بمقدورين وقدرة كل واحد منهما تتعلق بعدة من الاجسام والجواهر ، فلم تتقيد بمقدور واحد ، وإذا جاوز المقدور الواحد على خلاف القدرة الحادثة ، لم يكن بعض الاعداد بأولى من بعض ، بل يجب الحكم بنفي النهاية عن مقدوراته ويدخل كل جوهر ممكن وجوده في قدرته.

والقسم الثاني أن يقال : أحدهما يقدر على الجوهر والآخر على الأعراض وهما مختلفان ، فلا تجب من القدرة على أحدهما القدرة على الآخر ، وهذا محال ، لأن العرض لا يستغني عن الجوهر ، والجوهر لا يستغني عن العرض ، فيكون فعل كل واحد منهما موقوفا على الآخر ، فكيف يخلقه وربما لا يساعده خالق الجوهر على خلق الجوهر عند إرادته لخلق العرض ، فيبقى عاجزا متحيرا والعاجز لا يكون قادرا. وكذلك خالق الجوهر إن أراد خلق الجوهر بما خالفه خالق العرض فيمتنع على الآخر خلق الجوهر فيؤدي ذلك إلى التمانع.

فإن قيل : مهما أراد واحد منهما خلق جوهر ساعده الآخر على العرض وكذا بالعكس. قلنا : هذه المساعدة هل هي واجبة لا يتصور في العقل خلافها فإن أوجبتموها فهو تحكم ، بل هو أيضا مبطل للقدرة ، فإن خلق الجوهر من واحد كأنه يضطر الآخر إلى خلق العرض ، وكذا بالعكس ؛ فلا تكون له قدرة على الترك ولا تتحقق القدرة مع هذا. وعلى الجملة فترك المساعدة إن كان ممكنا فقد تعذر العقل وبطل معنى المقدرة والمساعدة إن كانت واجبة صار الذي لا بد له من مساعدة مضطرا لا قدرة له.

فان قيل. فيكون أحدهما خالق الشر والآخر خالق الخير ،

قلنا : هذا هوس ، لأن الشرّ ليس شرا لذاته ، بل هو من حيث ذاته مساو للخير ومماثل له ، والقدرة على الشيء قدرة على مثله ، فإن إحراق بدن المسلم بالنار شر ، وإحراق بدن الكافر خير ودفع شر ، والشخص الواحد

٥١

إذا تكلم بكلمة الإسلام انقلب الإحراق في حقه شرا ، فالقادر على إحراق لحمه بالنار عند سكوته عن كلمة الإيمان لا بدّ أن يقدر على إحراقه عند النطق بها ، لأن نطقه بها صوت ينقضي لا يغير ذات اللحم ، ولا ذات النار ، ولا ذات الاحتراق ، ولا يغلب جنسا فتكون الاحتراقات متماثلة ، فيجب تعلق القدرة بالكل ويقتضي ذلك تمانعا وتزاحما ، وعلى الجملة : كيفما فرض الأمر تولد منه اضطراب وفساد وهو الذي أراد الله سبحانه بقوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) فلا مزيد على بيان القرآن. ولنختم هذا القطب بالدعوى العاشرة فلم يبق مما يليق بهذا الفن الا بيان استحالة كونه سبحانه محلا للحوادث ، وسنشير إليه في أثناء الكلام في الصفات ردّا على من قال بحدوث العلم والإرادة وغيرهما.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية : ٢

٥٢

القطب الثاني

(في الصفات ، وفيه سبعة دعاوى)

إذ ندعى أنه سبحانه قادر عالم حي مريد سميع بصير متكلم ، فهذه سبعة صفات. ويتشعب عنها نظر في أمرين أحدهما ما به تخص آحاد الصفات ، والثاني ما تشترك فيه جميع الصفات. فلنفتح البداية بالقسم الأول وهو إثبات اصل الصفات وشرح خصوص أحكامها.

القسم الأول

الصفة الأولى ، القدرة :

ندعي أن محدث العالم قادر ، لأن العالم فعل محكم مرتب متقن منظوم مشتمل على أنواع من العجائب والآيات ، وذلك يدل على القدرة ، ونرتب القياس فنقول : كل فعل محكم فهو صادر من فاعل قادر ، والعالم فعل محكم فهو إذا صادر من فاعل قادر ، ففي أي الأصلين النزاع؟

فإن قيل فلم قلتم أن العالم فعل محكم ، قلنا : عنينا بكونه محكما ترتبه ونظامه وتناسبه ، فمن نظر في أعضاء نفسه الظاهرة والباطنة ظهر له من عجائب الاتقان ما يطول حصره ، فهذا أصل تدرك معرفته بالحس والمشاهدة فلا يسع جحده. فإن قيل : فبم عرفتم الأصل الآخر وهو أن كل فعل مرتب محكم ففاعله قادر؟ قلنا : هذا مدركه ضرورة العقل ؛

٥٣

فالعقل يصدق به بغير دليل ولا يقدر العاقل على جحده ، ولكنا مع هذا نجرد دليلا يقطع دابر الجحود والعناد ، فنقول : نعني بكونه قادرا أن الفعل الصادر منه لا يخلو إما أن يصدر عنه لذاته أو لزائد عليه ، وباطل أن يقال صدر عنه لذاته ، اذ لو كان كذلك لكان قديما مع الذات فدل أنه صدر لزائد على ذاته ، والصفة الزائدة التي بها تهيأ للفعل الموجود نسميها قدرة ، إذ القدرة في وضع اللسان عبارة عن الصفة التي يتهيأ الفعل للفاعل وبها يقع الفعل ، فإن قيل ينقلب عليكم هذا في القدرة فإنها قديمة والفعل ليس بقديم ، قلنا سيأتي جوابه في أحكام الإرادة فيما يقع الفعل به. وهذا الوصف مما دل عليه التقسيم القاطع الذي ذكرناه ، ولسنا نعني بالقدرة إلا هذه الصفة ، وقد أثبتناها فلنذكر احكامها ، ومن حكمها أنها متعلقة بجميع المقدورات ، وأعني بالمقدورات الممكنات كلها التي لا نهاية لها ، ولا يخفى أن الممكنات لا نهاية لها فلا نهاية اذا للمقدورات ، ونعني بقولنا لا نهاية للممكنات أن خلق الحوادث بعد الحوادث لا ينتهي إلى حد يستحيل في العقل حدوث حادث بعده ، فالإمكان مستمر أبدا والقدرة واسعة لجميع ذلك ، وبرهان هذه الدعوى وهي عموم تعلق القدرة أنه قد ظهر أن صانع كل العالم واحد ، فإما أن يكون له بإزاء كل مقدور قدرة والمقدورات لا نهاية لها فتثبت قدرة متعددة لا نهاية لها وهو محال كما سبق في إبطال دورات لا نهاية لها ، وإما أن تكون القدرة واحدة فيكون تعلقها مع اتحادها بما يتعلق به من الجواهر والأعراض مع اختلافها لأمر تشترك فيه ولا يشترك في أمر سوى الامكان ، فيلزم منه أن كل ممكن فهو مقدور لا محالة وواقع بالقدرة.

وبالجملة ، إذا صدرت منه الجواهر والأعراض استحال أن لا يصدر منه أمثالها ، فإن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ لم يمتنع التعدد في المقدور لنسبته إلى الحركات كلها والألوان كلها على وتيرة واحدة فتصلح لخلو حركة بعد حركة على الدوام ، وكذا لون بعد لون وجوهر بعد جوهر

٥٤

وهكذا .. وهو الذي عنيناه بقولنا إن قدرته تعالى متعلقة بكل ممكن فان الإمكان لا ينحصر في عدد. ومناسبة ذات القدرة لا تختص بعدد دون عدد ولا يمكن أن يشار إلى حركة فيقال أنها خارجة عن إمكان تعلق القدرة بها ، مع أنها تعلقت بمثلها اذ بالضرورة تعلم أن ما وجب للشيء وجب لمثله ويتشعب عن هذا ثلاثة فروع.

الفرع الأول : إن قال قائل هل تقولون أن خلاف المعلوم مقدور؟

قلنا : هذا مما اختلف فيه ، ولا يتصور الخلاف فيه إذا حقق وأزيل تعقيد الألفاظ وبيانه أنه قد ثبت أن كل ممكن مقدور وأن المحال ليس بمقدور ، فانظر أن خلاف المعلوم محال أو ممكن ولا تعرف ذلك إلا اذا عرفت معنى المحال والممكن وحصلت حقيقتهما وإلا فإن تساهلت في النظر ، ربما صدق على خلاف المعلوم أنه محال وأنه ممكن وأنه ليس بمحال ، فاذا صدق أنه محال وأنه ليس بمحال والنقيضان لا يصدفان معا.

فاعلم أن تحت اللفظ اجمالا وإنما ينكشف لك ذلك بما اقوله وهو أن العالم مثلا يصدق عليه أنه واجب وأنه محال وأنه ممكن. أما كونه واجبا فمن حيث أنه إذا فرضت إرادة القديم موجودة وجودا واجبا كان المراد أيضا واجبا بالضرورة لا جائزا ، اذ يستحيل عدم المراد مع تحقق الإرادة القديمة وأما كونه محالا فهو أنه لو قدر عدم تعلق الإرادة بايجاده فيكون لا محالة حدوثه محالا إذ يؤدي إلى حدوث حادث بلا سبب وقد عرف أنه محال. وأما كونه ممكنا فهو أن تنظر إلى ذاته فقط ، ولا تعتبر معه لا وجود الإرادة ولا عدمها ، فيكون له وصف الإمكان ، فاذا الاعتبارات ثلاثة :

الأول أن يشترط فيه وجود الإرادة وتعلقها فهو بهذا الاعتبار واجب.

الثاني أن يعتبر فقد الإرادة فهو بهذا الاعتبار محال.

الثالث أن نقطع الالتفات عن الإرادة والسبب فلا نعتبر وجوده

٥٥

ولا عدمه ونجرد النظر إلى ذات العالم فيبقى له بهذا الاعتبار الأمر الثالث وهو الإمكان ، ونعني به أنه ممكن لذاته ، أي إذا لم نشترط غير ذاته كان ممكنا فظهر منه أنه يجوز أن يكون الشيء الواحد ممكنا محالا ، ولكن ممكنا باعتبار ذاته محالا باعتبار غيره ، ولا يجوز أن يكون ممكنا لذاته محالا لذاته ، فهما متناقضان فنرجع إلى خلاف المعلوم فنقول : إذا سبق في علم الله تعالى إماتة زيد صبيحة يوم السبت مثلا فنقول : خلق الحياة لزيد صبيحة يوم السبت ممكن أم ليس بممكن؟ فالحق فيه أنه ممكن ومحال ؛ أي هو ممكن باعتبار ذاته إن قطع الالتفات إلى غيره ، ومحال لغيره لا لذاته وذلك إذا اعتبر معه الالتفات إلى تعلق ذاتها وهو ذات العلم ، إذ ينقلب جهلا ، ومحال أن ينقلب جهلا فبان أنه ممكن لذاته محال للزوم استحالة في غيره. فاذا قلنا حياة زيد في هذا الوقت مقدورة ، لم نرد به إلا أن الحياة من حيث أنها حياة ليس بمحال ، كالجمع بين السواد والبياض. وقدرة الله تعالى من حيث أنها قدرة لا تنبو عن التعلق بخلق الحياة ولا تتقاصر عنه لفتور ولا ضعف ولا سبب في ذات القدرة ، وهذان أمران يستحيل إنكارهما ، أعني نفي القصور عن ذات القدرة وثبوت الإمكان لذت الحياة من حيث أنها حياة فقط من غير التفات الى غيرها ، والخصم إذا قال غير مقدور على معنى أن وجوده يؤدي إلى استحالة فهو صادق في هذا المعنى ، فإنا لسنا ننكره ويبقى النظر في اللفظ هل هو صواب من حيث اللغة إطلاق هذا الاسم عليه أو سلبه ، ولا يخفى أن الصواب إطلاق اللفظ فإن الناس يقولون فلان قادر على الحركة والسكون ، إن شاء تحرك وإن شاء سكن ، ويقولون إن له في كل وقت قدرة على الضدين ويعلمون أن الجاري في علم الله تعالى وقوع أحدهما ، فالاطلاقات شاهدة لما ذكرناه وحظ المعنى فيه ضروري لا سبيل الى جحده.

الفرع الثاني : إن قال قائل إذا ادعيتم عموم القدرة في تعلقها بالممكنات ، فما قولكم في مقدورات الحيوان وسائر الأحياء من المخلوقات ، أهي

٥٦

مقدورة لله تعالى أم لا؟ فإن قلتم ليست مقدورة ، فقد نقضتم قولكم إن تعلق القدرة عام ، وإن قلتم إنها مقدورة له لزمكم إثبات مقدور بين قادرين وهو محال ، وإنكار كون الإنسان وسائر الحيوان قادرا فهو مناكرة للضرورة ومجاحدة لمطالبات الشريعة ، إذ تستحيل المطالبة بما لا قدرة عليه ويستحيل أن يقول الله لعبده ينبغي أن تتعاطى ما هو مقدور لي وأنا مستأثر بالقدرة عليه ولا قدرة لك عليه.

فنقول : في الانفصال قد تحزب الناس في هذا أحزابا ، فذهبت المجبرة إلى انكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة والحركة الاختيارية ، ولزمها أيضا استحالة تكاليف الشرع ، وذهبت المعتزلة إلى انكار تعلق قدرة الله تعالى بأفعال العباد من الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين وزعمت أن جميع ما يصدر منها من خلق العباد واختراعهم لا قدرة لله تعالى عليها بنفي ولا إيجاب فلزمتها شناعتان عظيمتان :

إحداهما انكار ما أطبق عليه السلف رضي الله عنهم من أنه لا خالق إلا الله ولا مخترع سواه ، والثانية نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه من الحركات ، فإن الحركات التي تصدر من الإنسان وسائر الحيوان لو سئل عن عددها وتفاصيلها ومقاديرها لم يكن عنده خبر منها ، بل الصبي كما ينفصل من المهد يدب إلى الثدي باختياره ويمتص ، والهرة كما ولدت تدب إلى ثدي أمها وهي مغمضة عينها ، والعنكبوت تنسج من البيوت أشكالا غريبة يتحير المهندس في استدارتها وتوازي أضلاعها وتناسب ترتيبها وبالضرورة تعلم انفكاكها عن العلم بما تعجز المهندسون عن معرفته ، والنحل تشكل بيوتها على شكل التسديس فلا يكون فيها مربع ولا مدور ولا مسبع ولا شكل آخر وذلك لتميز شكل المسدس بخاصية دلت عليها البراهين الهندسية لا توجد في غيرها ، وهو مبني على اصول أحدها ، أن أحوى الأشكال وأوسعها الشكل المستدير

٥٧

المنفك عن الزوايا الخارجة عن الاستقامة ، والثاني ، أن الأشكال المستديرة إذا وضعت متراصة بقيت بينها فرج معطلة لا محالة ، والثالث ، أن أقرب الأشكال القليلة الأضلاع إلى المستديرة في الاحتواء هو شكل المسدس ، والرابع أن كل الأشكال القريبة من المستديرة كالمسبع والمثمن والمخمس إذا وضعت جملة متراصة متجاورة بقيت بينها فرج معطلة ولم تكن متلاصقة ، وأما المربعة فإنها متلاصقة ولكنها بعيدة عن احتواء الدوائر لتباعد زواياها عن أوساطها ، ولما كان النحل محتاجا إلى شكل قريب من الدوائر ليكون حاويا لشخصه فإنه قريب من الاستدارة ، وكان محتاجا لضيق مكانه وكثرة عدده إلى أن لا يضيع موضعا بفرج تتخلل بين البيوت ولا تتسع لأشخاصها ولم يكن في الأشكال مع خروجها عن النهاية شكل يقرب من الاستدارة وله هذه الخاصية وهو التراص والخلو عن بقاء الفرج بين أعدادها إلا المسدس ، فسخرها الله تعالى لاختيار الشكل المسدس في صناعة بيتها ؛ فليت شعري أعرف النحل هذه الدقائق التي يقصر عن دركها أكثر عقلاء الإنس أم سخره لنيل ما هو مضطر إليه الخالق المنفرد بالجبروت وهو في الوسط مجري فتقدير الله تعالى يجري عليه وفيه ، وهو لا يدريه ولا قدرة له على الامتناع عنه. وإن في صناعات الحيوانات من هذا الجنس عجائب لو أوردت منها طرفا لامتلأت الصدور من عظمة الله تعالى وجلاله ، فتعسا للزائغين عن سبيل الله المغترين بقدرتهم القاصرة ومكنتهم الضعيفة الظانين أنهم مساهمون الله تعالى في الخلق والاختراع وإبداع مثل هذه العجائب والآيات. هيهات هيهات! ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوت جبار الارض والسموات فهذه أنواع الشناعات اللازمة على مذهب المعتزلة فانظر الآن إلى أهل السنة كيف وفقوا للسداد ورشحوا للاقتصاد في الاعتقاد ، فقالوا : القول بالجبر محال باطل ، والقول بالاختراع اقتحام هائل ، وإنما الحق إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين فلا يبقى

٥٨

إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال كما سنبينه.

فإن قيل فما الذي حملكم على اثبات مقدور بين قادرين؟

قلنا : البرهان القاطع على أن الحركة الاختيارية مفارقة للرعدة ، وإن فرضت الرعدة مرادة للمرتعد ومطلوبة له أيضا ولا مفارقة إلا بالقدرة ، ثم البرهان القاطع على أن كل ممكن تتعلق به قدرة الله تعالى وكل حادث ممكن وفعل العبد حادث فهو إذا ممكن فإن لم تتعلق به قدرة الله تعالى فهو محال ، فإنا نقول : الحركة الاختيارية من حيث أنها حركة حادثة ممكنة مماثلة لحركة الرعدة فيستحيل أن تتعلق قدرة الله تعالى بإحداهما وتقصر عن الأخرى وهي مثلها ، بل يلزم عليه محال آخر وهو أن الله تعالى لو أراد تسكين يد العبد إذا أراد العبد تحريكها فلا يخلو إما أن توجد الحركة والسكون جميعا أو كلاهما لا يوجد فيؤدي إلى اجتماع الحركة والسكون أو الى الخلو عنهما ، والخلو عنهما مع التناقض يوجب بطلان القدرتين ، إذ القدرة ما يحصل بها المقدور عند تحقق الإرادة وقبول المحل ، فإن ظن الخصم أن مقدور الله تعالى يترجح لأن قدرته أقوى فهو محال ، لأن تعلق القدرة بحركة واحدة لا تفضل تعلق القدرة الأخرى بها ، إذ كانت فائدة القدرتين الاختراع وإنما قوته باقتداره على غيره واقتداره على غيره غير مرجح في الحركة التي فيها الكلام ، إذ حظ الحركة من كل واحدة من القدرتين أن تصير مخترعة بها والاختراع يتساوى فليس فيه أشد ولا أضعف حتى يكون فيه ترجيح ، فاذا الدليل القاطع على إثبات القدرتين ساقنا إلى إثبات مقدور بين قادرين.

فإن قيل : الدليل لا يسوق إلى محال لا يفهم وما ذكرتموه غير مفهوم.

قلنا : علينا تفهيمه وهو أنا نقول اختراع الله سبحانه للحركة في

٥٩

العبد معقول دون أن تكون الحركة مقدورة للعبد ، فمهما خلق الحركة وخلق معها قدرة عليها كان هو المستبد بالاختراع للقدرة والمقدور جميعا. فخرج منه أنه منفرد بالاختراع وأن الحركة موجودة وأن المتحرك عليها قادر وبسبب كونه قادرا فارق حاله حال المرتعد فاندفعت الإشكالات كلها ، وحاصله أن القادر الواسع القدرة هو قادر على الاختراع للقدرة والمقدور معا ، ولما كان اسم الخالق والمخترع مطلقا على من أوجد الشيء بقدرته وكانت القدرة والمقدور جميعا بقدرة الله تعالى ، سمي خالقا ومخترعا. ولم يكن المقدور مخترعا بقدرة العبد وإن كان معه فلم يسم خالقا ولا مخترعا ووجب أن يطلب لهذا النمط من النسبة اسم آخر مخالف فطلب له اسم الكسب تيمنا بكتاب الله تعالى ، فإنه وجد إطلاق ذلك على أعمال العباد في القرآن وأما اسم الفعل فتردد في إطلاقه ولا مشاحة في الأسامي بعد فهم المعاني.

فإن قيل : الشأن في فهم المعنى وما ذكرتموه غير مفهوم ، فإن القدرة المخلوقة الحادثة إن لم يكن لها تعلق بالمقدور لم تفهم ؛ إذ قدرة لا مقدور لها محال ، كعلم لا معلوم له. وإن تعلقت به فلا يعقل تعلق القدرة بالمقدور إلا من حيث التأثير والايجاد وحصول المقدور به. فالنسبة بين المقدور والقدرة نسبة المسبب إلى السبب وهو كونه به ، فإذا لم يكن به لم تكن علاقة فلم تكن قدرة ، إذ كل ما لا تعلق له فليس بقدرة إذ القدرة من الصفات المتعلقة.

قلنا : هي متعلقة ، وقولكم أن التعلق مقصور على الوقوع به يبطل بتعلق الإرادة والعلم ، وإن قلتم أن تعلق القدرة مقصور على الوقوع بها فقط فهو أيضا باطل ، فإن القدرة عندكم تبقى إذا فرضت قبل الفعل ، فهل هي متعلقة أم لا؟ فإن قلتم لا فهو محال ، وإن قلتم نعم فليس المعني بها وقوع المقدور بها ، إذ المقدور بعد لم يقع فلا بد من إثبات نوع آخر من التعلق سوى الموقوع بها ، إذ التعلق عند الحدوث يعبر عنه بالوقوع

٦٠