الإقتصاد في الإعتقاد

أبو حامد الغزالي

الإقتصاد في الإعتقاد

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٦

أن العقل هو الموجب من حيث أنه بسماع كلامه ودعواه يتوقع عقابا فيحمله العقل على الحذر ولا يحصل إلا بالنظر فيوجب عليه النظر. قلنا : الحق الذي يكشف الغطاء في هذا من غير اتباع وهم وتقليد أمر هو أن الوجوب كما بان عبارة عن نوع رجحان في الفعل ، والموجب هو الله تعالى لأنه هو المرجح ، والرسول مخبر عن الترجيح ، والمعجزة دليل على صدقه في الخبر ، والنظر سبب في معرفة الصدق ، والعقل آلة النظر ، والفهم معنى الخبر ، والطبع مستحث على الحذر بعد فهم المحذور بالعقل ، فلا بد من طبع يخالفه العقوبة للدعوة ويوافقه الثواب الموعود ليكون مستحثا ، ولكن لا يستحث ما لم يفهم المحذور ولم يقدره ظنا أو علما ، ولا يفهم إلا بالعقل والعقل لا يفهم الترجيح بنفسه بل بسماعه من الرسول ، والرسول لا يرجح الفعل على الترك بنفسه بل الله هو المرجح والرسول مخبر ، وصدق الرسول لا يظهر بنفسه بل المعجز ، والمعجزة لا تدل ما لم ينظر فيها ، والنظر بالعقل ، فإذا قد انكشفت المعاني ، والصحيح في الألفاظ أن يقال : الوجوب هو الرجحان والموجب هو الله تعالى ، والمخبر هو الرسول ، المعرف للمحذور وصدق الرسول هو العقل ، والمستحث على سلوك سبب الخلاص وهو الطبع ، وكذلك ينبغي أن يفهم الحق في هذه المسألة ولا يلتفت إلى الكلام المعتاد الذي لا يشفي الغليل ولا يزيل الغموض.

الدعوى السابعة :

ندعي أن بعثة الأنبياء جائز ، وليس بمحال ولا واجب ، وقالت المعتزلة إنه واجب ، وقد سبق وجه الرد عليهم ، وقالت البراهمة إنه محال. وبرهان الجواز أنه مهما قام الدليل على أن الله تعالى متكلم وقام الدليل على أنه قادر لا يعجز على أن يدل على كلام النفس بخلق ألفاظ وأصوات ورقوم أو غيرها من الدلالات ، وقد قام دليل على جواز إرسال الرسل ، فإنا لسنا نعني به إلا أن يقوم بذات الله تعالى خبر عن الأمر النافع في الآخرة والأمر الضار

١٢١

بحكم إجراء العادة ، ويصدر منه فعل هو دلالة الشخص على ذلك الخبر وعلى أمره بتبليغ الخبر ، ويصدر منه فعل خارق للعادة مقرونا بدعوى ذلك الشخص الرسالة ، فليس شيء من ذلك محالا لذاته ، فإنه يرجع إلى كلام النفس وإلى اختراع ما هو دلالة على الكلام وما هو مصدق للرسول وإن حكم باستحالة ذلك من حيث الاستقباح والاستحسان ، فقد استأصلنا هذا الأصل في حق الله تعالى ثم لا يمكن أن يدعي قبح إرسال الرسول على قانون الاستقباح ، فالمعتزلة مع المصير إلى ذلك لم يستقبحوا هذا فليس إدراك قبحه ولا إدراك امتناعه في ذاته ضروريا فلا بد من ذكر سببه ، وغاية ما هو به ثلاثة شبه :

الأولى : قولهم : إنه لو بعث النبي بما تقتضيه العقول ففي العقول غنية عنه وبعثة الرسول عبث ، وذلك وعلى الله محال ، وإن بعث بما يخالف العقول استحال التصديق والقبول.

الثانية : إنه يستحيل العبث لأنه يستحيل تعريف صدقه ، لأن الله تعالى لو شافه الخلق بتصديقه وكلمهم جهارا فلا حاجة إلى رسول ، وإن لم يشافه به فغايته الدلالة على صدقه بفعل خارق للعادة ، ولا يتميز ذلك عن السحر والطلسمات وعجائب الخواص وهي خارقة للعادات عند من لا يعرفها ، وإذا استويا في خرق العادة لم يؤمن ذلك فلا يحصل العلم بالتصديق.

الثالثة : إنه إن عرف تمييزها عن السحر والطلسمات والتخيلات فمن أين يعرف الصدق؟ ولعل الله تعالى أراد إضلالنا وإغواءنا بتصديقه ولعل كل ما قال النبي إنه مسعد فهو مشقي ، وكلما قال مشقي فهو مسعد ، ولكن الله أراد أن يسوقنا إلى الهلاك ويغوينا بقول الرسول ، فإن الإضلال والإغواء غير محال على الله تعالى عندكم ، إذ العقل لا يحسن ولا يقبح ؛ وهذه أقوى شبهة ينبغي أن يجادل بها المعتزلي عند رومه إلزام القول بتقبيح العقل ، إذ يقول : إن لم يكن الاغواء قبيحا فلا يعرف صدق الرسل قط

١٢٢

ولا يعلم أنه ليس باضلال ، والجواب أن نقول :

أما الشبهة الأولى فضعيفة ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرد مخبرا بما لا تشتغل العقول بمعرفته ، ولكن تستقل بفهمه إذا عرف ، فإن العقل لا يرشد إل النافع والضار من الأعمال والأقوال والأخلاق والعقائد ، ولا يفرق بين المشقى والمسعد ، كما لا يستقل بدرك خواص الأدوية والعقاقير ، ولكنه إذا عرّف فهم وصدّق وانتفع بالسماع فيجتنب الهلاك ويقصد المسعد ، كما ينتفع بقول الطبيب في معرفة الداء والدواء ، ثم كما يعرف صدق الطبيب بقرائن الأحوال وأمور أخر ، فكذلك يستدل على صدق الرسول عليه‌السلام بمعجزات وقرائن وحالات فلا فرق.

فأما الشبهة الثانية ، وهو عدم تمييز المعجزة عن السحر والتخيل ، فليس كذلك ، فان أحدا من العقلاء لم يجوز انتهاء السحر إلى إحياء الموتى ، وقلب العصا ثعبانا ، وفلق القمر ، وشق البحر ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وأمثال ذلك. والقول الوجيز إن هذا القائل إن ادعى أن كل مقدور لله تعالى فهو ممكن تحصيله بالسحر فهو قول معلوم الاستحالة بالضرورة ، وإن فرّق بين فعل قوم وفعل قوم فقد تصور تصديق الرسول بما يعلم أنه ليس من السحر ويبقى النظر بعده في أعيان الرسل عليهم‌السلام وآحاد المعجزات وأن ما أظهروه من جنس ما يمكن تحصيله بالسحر أم لا ، ومهما وقع الشك فيه لم يحصل التصديق به ما لم يتحد به النبي على ملأ من أكابر السحرة ولم يمهلهم مدة المعارضة ولم يعجزوا عنه ، وليس الآن من غرضنا آحاد المعجزات.

وأما الشبهة الثالثة ، وهو تصور الإغواء من الله تعالى والتشكيك لسبب ذلك ، فنقول : مهما علم وجه دلالة المعجزة على صدق النبي ، علم أن ذلك مأمون عليه ، وذلك بأن يعرف الرسالة ومعناها ويعرف وجه الدلالة فنقول : لو تحدّى إنسان بين يدي ملك على جنده أنه رسول الملك إليهم وأن الملك أوجب طاعته عليهم في قسمة الأرزاق والاقطاعات ، فطالبوه

١٢٣

بالبرهان والملك ساكت ، فقال : أيها الملك إن كنت صادقا في ما ادعيته فصدقني بأن تقوم على سريرك ثلاث مرات على التوالي وتقعد على خلاف عادتك ؛ فقام الملك عقيب التماسه على التوالي ثلاث مرات ثم قعد ، حصل للحاضرين علم ضروري بأنه رسول الملك قبل أن يخطر ببالهم أن هذا الملك من عادته الإغواء أم يستحيل في حقه ذلك ، بل لو قال الملك صدقت وقد جعلت رسولا ووكيلا لعلم أنه وكيل ورسول ، فاذا خالف العادة بفعله كان ذلك كقوله أنت رسولي ، وهذا ابتداء نصب وتولية وتفويض ، ولا يتصور الكذب في التفويض وإنما يتصور في الإخبار ، والعلم يكون هذا تصديقا وتفويضا ضروريا ، ولذلك لم ينكر أحد صدق الأنبياء من هذه الجهة ، بل أنكروا كون ما جاء به الأنبياء خارقا للعادة وحملوه على السحر والتلبيس أو أنكروا وجود رب متكلم آمر ناه مصدق مرسل ، فأما من اعترف بجميع ذلك واعترف بكون المعجزة فعل الله تعالى حصل له العلم الضروري بالتصديق ، فإن قيل : فهب أنهم رأوا الله تعالى بأعينهم وسمعوه بآذانهم وهو يقول هذا رسولي ليخبركم بطريق سعادتكم وشقاوتكم ، فما الذي يؤمنكم أنه أغوى الرسول والمرسل إليه وأخبر عن المشقى بأنه مسعد وعن المسعد بأنه مشقى فان ذلك غير محال إذا لم تقولوا بتقبيح العقول؟ بل لو قدر عدم الرسول ولكن قال الله تعالى شفاها وعيانا ومشاهدة : نجاتكم في الصوم والصلاة والزكاة وهلاككم في تركها ، فبم نعلم صدقه؟ فلعله يلبس علينا ليغوينا ويهلكنا ، فإن الكذب عندكم ليس قبيحا لعينه وإن كان قبيحا فلا يمتنع على الله تعالى ما هو قبيح وظلم ، وما فيه فيه هلاك الخلق أجمعين ، والجواب : إن الكذب مأمون عليه ، فإنه إنما يكون في الكلام وكلام الله تعالى ليس بصوت ولا حرف حتى يتطرق إليه التلبيس بل هو معنى قائم بنفسه سبحانه ، فكل ما يعلمه الإنسان يقوم بذاته خبر عن معلومه على وفق علمه ولا يتصور الكذب فيه ، وكذلك في حق الله تعالى ، وعلى الجملة : الكذب في كلام النفس محال وفي ذلك الأمن عمّا قالوه ، وقد اتضح

١٢٤

بهذا أن الفعل مهما علم أنه فعل الله تعالى وأنه خارج عن مقدور البشر واقترن بدعوى النبوة حصل العلم الضروري بالصدق وكان الشك من حيث الشك في أنه مقدور البشر أم لا ، فأما بعد معرفته كونه من فعل الله تعالى لا يبقى للشك مجال أصلا البتة ، فان قيل فهل تجوزون الكرامات؟ قلنا : اختلف الناس فيه ، والحق ذلك جائز فإنه يرجع إلى خرق الله تعالى العادة بدعاء إنسان أو عند حاجته وذلك مما لا يستحيل في نفسه لأنه ممكن ، ولا يؤدي إلى محال آخر ، فإنه لا يؤدي إلى بطلان المعجزة لأن الكرامة عبارة عما يظهر من غير اقتران التحدي به ، فان كان مع التحدي فإنا نسميه معجزة ويدل بالضرورة على صدق المتحدي ؛ وإن لم تكن دعوى فقد يجوز ظهور ذلك على يد فاسق لأنه مقدور في نفسه ؛ فإن قيل : فهل من المقدور إظهار معجزة على يد كاذب؟ قلنا : المعجزة مقرونة بالتحدي منه سبحانه نازلة منزلة قوله صدقت وأنت رسول ، وتصديق الكاذب محال لذاته وكل من قال له أنت رسولي صار رسولا وخرج عن كونه كاذبا ، فالجمع بين كونه كاذبا وبين ما ينزل منزلة قوله أنت رسولي محال لأن معنى كونه كاذبا أنه ما قيل له أنت رسولي ، ومعنى المعجزة أنه قيل له أنت رسولي ؛ فإن فعل الملك على ما ضربنا من المثال كقوله أنت رسولي بالضرورة ، فاستبان أن هذا غير مقدور لأنه محال والمحال لا قدرة عليه. فهذا تمام هذا القطب ولنشرع في إثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثبات ما اخبر هو عنه والله أعلم.

١٢٥

القطب الرابع

وفيه أربعة أبواب :

الباب الأول : في اثبات نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الباب الثاني : في بيان ان ما جاء به من الحشر والنشر والصراط والميزان وعذاب القبر حق ، وفيه مقدمة وفصلان.

الباب الثالث : فيه نظر في ثلاثة اطراف.

الباب الرابع : في بيان من يجب تكفيره من الفرق ومن لا يجب ، والاشارة إلى القوانين التي ينبغي ان يعول عليها في التكفير ، وبه اختتام الكتاب.

١٢٦

الباب الأول

(في اثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم)

وإنما نفتقر إلى إثبات نبوته ، على الخصوص ، وعلى ثلاثة فرق :

الفرقة الأولى ، العيسوية : حيث ذهبوا إلى أنه رسول إلى العرب فقط لا إلى غيرهم ، وهذا ظاهر البطلان فإنهم اعترفوا بكونه رسولا حقا ، ومعلوم أن الرسول لا يكذب ، وقد ادعى هو أنه رسول مبعوث إلى الثقلين ، وبعث رسوله إلى كسرى وقيصر وسائر ملوك العجم وتواتر ذلك منه فما قالوه محال متناقض.

الفرقة الثانية ، اليهود : فإنهم انكروا صدقه لا بخصوص نظر فيه وفي معجزاته ، بل زعموا أنه لا نبي بعد موسى عليه‌السلام ، فأنكروا نبوة محمد وعيسى عليهما‌السلام ، فينبغي أن تثبت عليهم نبوة عيسى لأنه ربما يقصر فهمهم عن درك إعجاز القرآن ولا يقصرون عن درك إعجاز إحياء الموتى وإبراء الاكمه والأبرص فيقال لهم ما الذي حملكم على التفريق بين من يستدل على صدقه بإحياء الموتى وبين من يستدل بقلب العصا ثعبانا؟ ولا يجدون إليه سبيلا البتة ، إلا أنهم ضلوا بشبهتين : إحداهما ، قولهم : النسخ محال في نفسه لأنه يدل على البدء والتغيير وذلك محال على الله تعالى. والثانية لفهم بعض الملحدة أن يقولوا : قد قال موسى عليه‌السلام : عليكم بديني ما دامت السموات

١٢٧

والارض ، وإنه قال إني خاتم الأنبياء.

أما الشبهة الاولى فبطلانها بفهم النسخ ، وهو عبارة عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت المشروط استمراره بعد لحقوق خطاب يرفعه ، وليس من المحال أن يقول السيد لعبده قم مطلقا ، ولا يبين له مدة القيام ، وهو يعلم أن القيام مقتضى منه إلى وقت بقاء مصلحته في القيام ، ويعلم مدة مصلحته ولكن لا ينبه عليها ، ويفهم العبد أنه مأمور بالقيام مطلقا وأن الواجب الاستمرار عليه أبدا إلا أن يخاطبه السيد بالقعود ؛ فإذا خاطبه بالقعود قعد ولم يتوهم بالسيد أنه بدا له أو ظهرت له مصلحة كان لا يعرفها ، والآن قد عرفها ، بل يجوز أن يكون قد عرف مدة مصلحة القيام وعرف أن الصلاح في أن لا ينبه العبد عليها ويطلق الأمر له إطلاقا حتى يستمر على الامتثال ، ثم إذا تغيرت مصلحته أمره بالقعود ، فهكذا ينبغي أن يفهم اختلاف أحكام الشرائع ، فإن ورود النبي ليس بناسخ لشرع من قبله بمجرد بعثته ، ولا في معظم الأحكام ، ولكن في بعض الأحكام كتغير قبلة وتحليل محرم وغير ذلك ، وهذه المصالح تختلف بالأعصار والأحوال فليس فيه ما يدل على التغير ولا على الاستبانة بعد الجهل ولا على التناقض ، ثم هذا إنما يستمر لليهود إذ لو اعتقدوا أنه لم يكن شريعة من لدن آدم إلى زمن موسى لم ينكروا وجود نوح وابراهيم وشرعهما ، ولا يتميزون فيه عمن ينكر نبوة موسى وشرعه وكل ذلك إنكار ما علم على القطع بالتواتر.

وأما الشبهة الثانية فسخيفة من وجهين. أحدهما ، أنه لو صح ما قالوه عن موسى لما ظهرت المعجزات على يد عيسى ، فان ذلك تصديق بالضرورة ، فكيف يصدق الله بالمعجزة من يكذب موسى وهو أيضا مصدق له ، أفتنكرون معجزة عيسى وجودا أو تنكرون إحياء الموتى دليلا على صدق المتحدي؟ فإن أنكروا شيئا منهم لزمهم في شرع موسى لزوما لا يجدون عنه محيصا ، وإذا اعترفوا به لزمهم تكذيب من نقل إليهم من موسى عليه‌السلام قوله إني خاتم الأنبياء. والثاني : أن هذه الشبهة إنما لقنوها بعد بعثة نبينا محمد عليه‌السلام وبعد وفاته ، ولو كانت صحيحة لاحتج اليهود بها وقد حملوا بالسيف على الاسلام ، وكان

١٢٨

رسولنا عليه‌السلام مصدقا بموسى عليه‌السلام وحاكما على اليهود بالتوراة في حكم الرجم وغيره ، فلا عرض عليه من التوراة ذلك ، وما الذي صرفهم عنه ومعلوم قطعا أن اليهود لم يحتجوا به لأن ذلك لو كان لكان مفحما لا جواب عنه ولتواتر نقله ، ومعلوم أنهم لم يتركوه مع القدرة عليه ولقد كانوا يحرصون على الطعن في شرعه بكل ممكن حماية لدمائهم وأموالهم ونسائهم ، فإذا ثبت عليهم نبوة عيسى أثبتنا نبوة نبينا عليه‌السلام بما نثبتها على النصارى.

الفرقة الثالثة ، وهم يجوزون النسخ ولكنهم ينكرون نبوة نبينا من حيث أنهم ينكرون معجزته في القرآن ، وفي إثبات نبوته بالمعجزة طريقتان :

الطريقة الأولى ، التمسك بالقرآن. فإنا نقول : لا معنى للمعجزة إلا ما يقترن بتحدّي النبيّ عند استشهاده على صدقه على وجه يعجز الخلق عن معارضته ، وتحديه على العرب مع شغفهم بالفصاحة واغراقهم فيها متواتر ، وعدم المعارضة معلوم ، إذ لو كان لظهر ، فإن أرذل الشعراء لما تحدوا بشعرهم وعورضوا ظهرت المعارضات والمناقضات الجارية بينهم ، فاذا لا يمكن إنكار تحديه بالقرآن ولا يمكن إنكار اقتدار العرب على طريق الفصاحة ولا يمكن انكار حرصهم على دفع نبوته بكل ممكن حماية لدينهم ودمهم ومالهم وتخلصا من سطوة المسلمين وقهرهم ، ولا يمكن إنكار عجزهم لأنهم لو قدروا لفعلوا ، فان العادة قاضية بالضرورة بأن القادر على دفع الهلاك عن نفسه يشتغل بدفعه ، ولو فعلوا لظهر ذلك ونقل ، فهذه مقدمات بعضها بالتواتر وبعضها بجاري العادات وكل ذلك مما يورث اليقين فلا حاجة إلى التطويل ، وبمثل هذا الطريق تثبت نبوة عيسى ولا يقدر النصراني على إنكار شيء من ذلك ؛ فانه يمكن أن يقابل بعيسى فينكر تحديه بالنبوة او استشهاده باحياء الموتى أو وجود إحياء الموتى أو عدم المعارضة أو يقال عورض ولم يظهر ، وكل ذلك مجاحدات لا يقدر عليها المعترف بأصل النبوات. فإن قيل : ما وجه إعجاز القرآن؟ قلنا الجزالة والفصاحة مع النظم

١٢٩

العجيب والمنهاج الخارج عن مناهج كلام العرب في خطبهم وأشعارهم وسائر صنوف كلامهم ، والجمع بين هذا النظم وهذه الجزالة معجز خارج عن مقدور البشر ، نعم ربما يرى للعرب أشعار وخطب حكم فيها بالجزالة ، وربما ينقل عن بعض من قصد المعارضة مراعاة هذا النظم بعد تعلمه من القرآن ، ولكن من غير جزالة بل مع ركاكة كما يحكى عن ترهات مسيلمة الكذاب حيث قال : الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل. فهذا وأمثاله ربما يقدر عليه مع ركاكة يستغثها الفصحاء ويستهزءون بها ، وأما جزالة القرآن فقد قضى كافة العرب منها العجب ولم ينقل عن واحد منهم تشبث بطعن في فصاحته ، فهذا إذا معجز وخارج عن مقدور البشر من هذين الوجهين ، أعني من اجتماع هذين الوجهين ، فإن قيل : لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن ولو قصدت لقدرت عليه ، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به ، والجواب أن ما ذكروه هوس ، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف مع ما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي وشن الغارات ، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا ، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى ، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات ، فلو قال نبيّ آية صدقي أني في هذا اليوم أحرك إصبعي ولا يقدر أحد من البشر على معارضتي ، فلم يعارضه أحد في ذلك اليوم ، ثبت صدقه ، وكان فقد قدرتهم على الحركة مع سلامة الأعضاء من أعظم المعجزات ، وإن فرض وجود القدرة ففقد داعيتهم وصرفهم عن المعارضة من أعظم المعجزات ، مهما كانت حاجتهم ماسة إلى الدفع باستيلاء النبيّ على رقابهم وأموالهم ، وذلك كله معلوم على الضرورة ، فهذا طريق تقدير نبوته على النصارى ، ومهما تشبثوا بانكار شيء من هذه الأمور الجليلة فلا تشتغل الا بمعارضتهم بمثله في معجزات عيسى عليه‌السلام.

١٣٠

الطريقة الثانية : أن تثبت نبوته بجملة من الأفعال الخارقة للعادات التي ظهرت عليه ، كانشقاق القمر ، ونطق العجماء ، وتفجر الماء من بين أصابعه ، وتسبيح الحصى في كفه ، وتكثير الطعام القليل ، وغيره من خوارق العادات ، وكل ذلك دليل على صدقه ، فان قيل : آحاد هذه الوقائع لم يبلغ نقلها مبلغ التواتر ، قلنا : ذلك أيضا إن سلم فلا يقدح في العرض مهما كان المجموع بالغا مبلغ التواتر ، وهذا كما أن شجاعة علي رضوان الله عليه وسخاوة حاتم معلومان بالضرورة على القطع تواترا ، وآحاد تلك الوقائع لم تثبت تواترا ، ولكن يعلم من مجموع الآحاد على القطع ثبوت صفة الشجاعة والسخاوة ، فكذلك هذه الأحوال العجيبة بالغة جملتها مبلغ التواتر ، لا يستريب فيها مسلم أصلا ، فان قال قائل من النصارى : هذه الأمور لم تتواتر عندي لا جملتها ولا آحادها ، فيقال : ولو انحاز يهودي إلى قطر من الأقطار ولم يخالط النصارى وزعم أنه لم تتواتر عنده معجزات عيسى ، وإن تواترت فعلى لسان النصارى وهم مهتمون به ، فبما ذا ينفصلون عنه؟ ولا انفصال عنه إلا أن يقال : ينبغي أن يخالط القوم الذين تواتر ذلك بينهم حتى يتواتر ذلك إليك ، فان الاصم لا تتواتر عنده الاخبار ، وكذا المتصامم ، فهذا أيضا عذرنا عند إنكار واحد منهم التواتر على هذا الوجه.

١٣١

الباب الثاني

(في بيان وجوب التصديق بأمور ورد بها الشرع وقضى بجوازها العقل)

وفيه مقدمة وفصلان ، أما المقدمة :

فهو أن ما لا يعلم بالضرورة ينقسم إلى ما يعلم بدليل العقل دون الشرع ، وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل ، وإلى ما يعلم بهما. أما المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وارادته ، فان كل ذلك ما لم يثبت لم يثبت الشرع ، إذ الشرع يبنى على الكلام فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع. فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه ونفس الكلام أيضا فيما اخترناه لا يمكن اثباته بالشرع ، ومن المحققين من تكلف ذلك وادّعاه كما سبقت الاشارة إليه.

وأما المعلوم بمجرد السمع فتخصيص أحد الجائزين بالوقوع فإن ذلك من موافق العقول ، وإنما يعرف من الله تعالى بوحي وإلهام ونحن نعلم من الوحي إليه بسماع كالحشر والنشر والثواب والعقاب وأمثالهما ، وأما المعلوم بهما فكل ما هو واقع في مجال العقل ومتأخر في الرتبة عن إثبات كلام الله تعالى كمسألة الرؤية وانفراد الله تعالى بخلق الحركات والأغراض كلها وما يجري هذا المجرى ، ثم كلما ورد السمع به ينظر ، فإن كان العقل مجوزا له وجب التصديق به قطعا إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال ، وجب التصديق بها ظنا إن كانت ظنية ، فإن وجوب

١٣٢

التصديق باللسان والقلب عمل يبنى على الأدلة الظنية كسائر الأعمال فنحن نعلم قطعا إنكار الصحابة على من يدعي كون العبد خالقا لشيء من الأشياء وعرض من الاعراض ، وكانوا ينكرون ذلك بمجرد قوله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ومعلوم أنه عام قابل للتخصيص فلا يكون عمومه إلا مظنونا ، إنما صارت المسألة قطعية بالبحث على الطرق العقلية التى ذكرناها ، ونعلم أنهم كانوا ينكرون ذلك قبل البحث عن الطرق العقلية ولا ينبغي أن يعتقد بهم أنهم لم يلتفتوا إلى المدارك الظنية إلا في الفقهيات بل اعتبروها أيضا في التصديقات الاعتقادية والقولية.

وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول ، وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة ، والصحيح منها ليس بقاطع بل هو قابل للتأويل. فإن توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضا لأدلة السمع فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالإحالة ، وليس يشترط اشتماله على القضاء لتجويز ، وبين الرتبتين فرق ربما يزل ذهن البليد حتى لا يدرك الفرق بين قول القائل : اعلم أن الأمر جائز ، وبين قوله : لا أدري إنه محال أم جائز ، وبينهما ما بين السماء والأرض ، إذ الأول جائز على الله تعالى والثاني غير جائز ، فإن الأول معرفة بالجواز والثاني عدم معرفة بالاحالة ، ووجوب التصديق جائز في القسمين جميعا فهذه هي المقدمة.

أما الفصل الأول :

ففي بيان قضاء العقل بما جاء الشرع به من الحشر والنشر وعذاب القبر والصراط والميزان ، أما الحشر فيعنى به إعادة الخلق وقد دلت عليه القواطع

__________________

(١) سورة الانعام الآية : ١٠٢.

١٣٣

الشرعية ، وهو ممكن بدليل الابتداء. فان الاعادة خلق ثان ولا فرق بينه وبين الابتداء وإنما يسمى إعادة بالإضافة إلى الابتداء السابق ، والقادر على الانشاء والابتداء قادر على الاعادة وهو المعني بقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) فان قيل فما ذا تقولون : أتعدم الجواهر والاعراض ثم يعادان جميعا ، أو تعدم الأعراض دون الجواهر وانما تعاد الاعراض؟ قلنا : كل ذلك ممكن وليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات. وأحد الوجهين أن تنعدم الأعراض ويبقى جسم الانسان متصورا بصورة التراب مثلا ، فتكون قد زالت منه الحياة واللون والرطوبة والتركيب والهيئة وجملة من الأعراض ، ويكون معنى إعادتها أن تعاد إليها تلك الأعراض بعينها وتعاد إليها أمثالها ، فان العرض عندنا لا يبقى والحياة عرض والموجود عندنا في كل ساعة عرض آخر ، والانسان هو ذلك الانسان باعتبار جسمه فإنه واحد لا باعتبار أعراضه ، فان كل عرض يتجدد هو غير الآخر ، فليس من شرط الإعادة فرض إعادة الأعراض ، وانما ذكرنا هذا لمصير بعض الأصحاب إلى استحالة إعادة الأعراض ، وذلك باطل ، ولكن القول في إبطاله يطول ولا حاجة إليه في غرضنا هذا ، والوجه الآخر أن تعدم الأجسام أيضا ثم تعاد الأجسام بأن تخترع. مرة ثانية ، فإن قيل : فيم يتميز المعاد عن مثل الأول؟ وما معنى قولكم أن المعاد هو عين الأول ولم يبق للمعدوم عين حتى تعاد؟ قلنا : المعدوم منقسم في علم الله إلى ما سبق له وجود وإلى ما لم يسبق له وجود ، كما أن العدم في الأزل ينقسم إلى ما سيكون له وجود وإلى ما علم الله تعالى أنه لا يوجد ؛ فهذا الانقسام في علم الله لا سبيل إلى انكاره ، والعلم شامل والقدرة واسعة ، فمعنى الإعادة أن نبذل بالوجود العدم الذي سبق له الوجود ، ومعنى المثل أن يخترع الوجود لعدم لم يسبق له وجود ، فهذا معنى الإعادة ، ومهما قدر الجسم باقيا ورد الأمر إلى تجديد

__________________

(١) سورة يس الآية : ٧٩.

١٣٤

أعراض تماثل الأول حصل تصديق الشرع ووقع الخلاص عن إشكال الإعادة وتمييز المعاد عن المثل ، وقد أطنبنا في هذه المسألة في كتاب التهافت ، وسلكنا في إبطال مذهبهم تقرير بقاء النفس التي هي غير متحيز عندهم وتقدير عود تدبيرها إلى البدن سواء كان ذلك البدن هو عين جسم الانسان أو غيره ، وذلك إلزام لا يوافق ما نعتقده ؛ فإن ذلك الكتاب مصنف لابطال مذهبهم لا لاثبات المذهب الحق ، ولكنهم لما قدروا أن الانسان هو ما هو باعتبار نفسه وأن اشتغاله بتدبير كالعارض له والبدن آلة لهم ، ألزمناهم بعد اعتقادهم بقاء النفس وجوب التصديق بالاعادة وذلك برجوع النفس إلى تدبير بدن من الأبدان ، والنظر الآن في تحقيق هذا الفصل ينجر إلى البحث عن الروح والنفس والحياة وحقائقها ، ولا تحتمل المعتقدات التغلغل إلى هذه الغايات في المعقولات. فما ذكرناه كاف في بيان الاقتصاد في الاعتقاد للتصديق بما جاء به الشرع ، وأما عذاب القبر فقد دلت عليه قواطع الشرع إذ تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم بالاستعاذة منه في الأدعية (١) واشتهر قوله عند المرور بقبرين : إنهما ليعذبان (٢) ودل عليه قوله تعالى (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٣) الآية ، وهو ممكن ، فيجب التصديق به. ووجه إمكانه ظاهر ، وإنما تنكره المعتزلة من حيث يقولون إنا نرى شخص الميت مشاهدة وهو غير معذب وإن الميت ربما تفترسه السباع وتأكله ، وهذا هوس ؛ أما مشاهدة الشخص فهو مشاهدة لظواهر الجسم والمدرك للعقاب جزء من القلب أو من الباطن كيف كان وليس من ضرورة العذاب ظهور حركة في ظاهر البدن ، بل الناظر إلى ظاهر النائم لا يشاهد ما يدركه

__________________

(١) انظر كتاب الجنائز في صحيح البخاري وما يحتوي من احاديث تثبت عذاب القبر ، وجميع هذه الاحاديث صحيحة.

(٢) اخرجه البخاري.

(٣) سورة غافر الآيات : (٤٥ ـ ٤٦). وحاق : احاط.

١٣٥

النائم من اللذة عند الاحتلام ومن الألم عند تخيل الضرب وغيره ، ولو انتبه النائم وأخبر عن مشاهداته وآلامه ولذاته من لم يجر له عهد بالنوم لبادر إلى الانكار اغترارا بسكون ظاهر جسمه ، كمشاهدة إنكار المعتزلة لعذاب القبر وأما الذي تأكله السباع فغاية ما في الباب أن يكون بطن السبع قبرا ، فاعادة الحياة إلى جزء يدرك العذاب ممكن ، فما كل متألم يدرك الألم من جميع بدنه. وأما سؤال منكر ونكير فحق ، والتصديق به واجب لورود الشرع به وامكانه ، فان ذلك لا يستدعي منهما إلا تفهيما بصوت أو بغير صوت ، ولا يستدعي منه إلا فهما ، ولا يستدعي الفهم إلا حياة ، والإنسان لا يفهم بجميع بدنه بل بجزء من باطن قلبه ، واحياء جزء يفهم السؤال ويجيب ممكن مقدور عليه ، فيبقى قول القائل إنا نرى الميت ولا نشاهد منكرا ونكيرا ولا نسمع صوتهما في السؤال ولا صوت الميت في الجواب ، فهذا يلزمه منه أن ينكر مشاهدة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل عليه‌السلام وسماعه كلامه وسماع جبريل جوابه ولا يستطيع مصدق الشرع أن ينكر ذلك ، إذ ليس فيه إلا أن الله تعالى خلق له سماعا لذلك الصوت ومشاهدة لذلك الشخص ، ولم يخلق للحاضرين عنده ولا لعائشة رضي الله تعالى عنها وقد كانت تكون عنده حاضرة في وقت ظهور بركات الوحي ، فانكار هذا مصدره الإلحاد وإنكار سعة القدرة ، وقد فرغنا عن إبطاله ويلزم منه أيضا إنكار ما يشاهده النائم ويسمعه من الأصوات الهائلة المزعجة ، ولو لا التجربة لبادر إلى الانكار كل من سمع من النائم حكاية أحواله ، فتعسا لمن ضاقت حوصلته عن تقدير اتساع القدرة لهذه الأمور المستحقرة بالإضافة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما ، مع ما فيهما من العجائب. والسبب الذي ينفر طباع أهل الضلال عن التصديق بهذه الأمور بعينه منفر عن التصديق بخلق الانسان من نطفة قذرة مع ما فيه من العجائب والآيات أولا أنّ المشاهدة تضطره إلى التصديق فإذا ما لا برهان على إحالته لا ينبغي ان ينكر بمجرد الاستبعاد.

١٣٦

وأما الميزان فهو أيضا حق وقد دلت عليه قواطع السمع ، وهو ممكن فوجب التصديق به. فإن قيل : كيف توزن الأعمال وهي أعراض وقد انعدمت ، والمعدوم لا يوزن؟ وإن قدرت إعادتها وخلقها في جسم الميزان كان محالا لاستحالة إعادة الأعراض ، ثم كيف تخلق حركة يد الانسان وهي طاعته في جسم الميزان؟ أيتحرك بها الميزان فيكون ذلك حركة الميزان لا حركة يد الانسان ، أم لا تتحرك فتكون الحركة قد فاتت بجسم ليس هو متحركا بها ، وهو محال؟ ثم إن تحرك فيتفاوت من الميزان بقدر طول الحركات وكثرتها لا بقدر مراتب الأجور ، فرب حركة بجزء من البدن يزيد إثمها على حركة جميع البدن فراسخ فهذا محال. فنقول : قد سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذا فقال : توزن صحائف الأعمال فإن الكرام الكاتبين يكتبون الأعمال في صحائف هي أجسام ، فاذا وضعت في الميزان خلق الله تعالى في كفتها ميلا بقدر رتبة الطاعات وهو على ما يشاء قدير).

فإن قيل : فأي فائدة في هذا؟ وما معنى المحاسبة؟ قلنا : لا نطلب لفعل الله تعالى فائدة : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١). تم قد دللنا على هذا. ثم أي بعد في أن تكون الفائدة فيه أن يشاهد العبد مقدار أعماله ويعلم أنه مجزي بها بالعدل أو يتجاوز عنه باللطف ، ومن يعزم على معاقبة وكيله بجنايته في أمواله أو يعزم على الإبراء فمن أين يبعد أن يعرفه مقدار جنايته بأوضح الطرق ليعلم أنه في عقوبته عادل وفي التجاوز عنه متفضل. هذا إن طلبت الفائدة لأفعال الله تعالى ، وقد سبق بطلان ذلك. وأما الصراط فهو أيضا حق ، والتصديق به واجب ، لأنه ممكن ، فإنه عبارة عن جسر ممدود على متن جهنم يرده الخلق كافة ، فإذا توافوا عليه قيل للملائكة

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية : ٢٣.

١٣٧

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (١) فإن قيل : كيف يمكن ذلك وفيما روى أدق من الشعر وأحدّ من السيف ، فكيف يمكن المرور عليه؟ قلنا هذا إن صدر ممن ينكر قدرة الله تعالى ، فالكلام معه في إثبات عموم قدرته وقد فرغنا عنها ، وإن صدر من معترف بالقدرة فليس المشي على هذا بأعجب من المشي في الهواء ، والرب تعالى قادر على خلق قدرة عليه ، ومعناه أن يخلق له قدرة المشي على الهواء ولا يخلق في ذاته هويا إلى أسفل ، ولا في الهواء انحراف ، فإذا أمكن هذا في الهواء فالصراط أثبت من الهواء بكل حال.

الفصل الثاني :

في الاعتذار عن الاخلال بفصول شحنت بها المعتقدات فرأيت الإعراض عن ذكرها أولى لأن المعتقدات المختصرة حقها أن لا تشتمل إلا على المهم الذي لا بد منه في صحة الاعتقاد.

أما الأمور التي لا حاجة إلى إخطارها بالبال ، وإن خطرت بالبال فلا معصية في عدم معرفتها وعدم العلم بأحكامها ، فالخوض فيها بحث عن حقائق الأمور وهي غير لائقة بما يراد منه تهذيب الاعتقاد ، وذلك الفن تحصره ثلاثة فنون : عقلي ، ولفظي ، وفقهي ، أما العقلي ، فالبحث عن القدرة الحادثة أنها تتعلق بالضدين أم لا ، وتتعلق بالمختلفات أم لا ، وهل يجوز قدرة حادثة تتعلق بفعل مباين لمحل القدرة وأمثال له ، وأما اللفظي فكالبحث عن المسمى باسم الرزق ما هو ، ولفظ التوفيق والخذلان والايمان ما حدودها ومسبباتها ، وأما الفقهي فكالبحث عن الأمر بالمعروف متى يجب ، وعن التوبة ما حكمها ، إلى نظائر ذلك ، وكل ذلك ليس بمهم في الدين ، بل المهم أن ينفي الانسان الشك عن نفسه في ذات الله تعالى ، على القدر الذي

__________________

(١) سورة الصافات الآية : ٢٤.

١٣٨

حقق في القطب الأول ، وفي صفاته وأحكامها كما حقق في القطب الثاني. وفي أفعاله بأن يعتقد فيها الجواز دون الوجوب كما في القطب الثالث ، وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعرف صدقه ويصدقه في كل ما جاء به كما ذكرناه في القطب الرابع ، وما خرج عن هذا فغير مهم. ونحن نورد من كل فن مما أهملناه مسألة ليعرف بها نظائرها ويحقق خروجها عن المهمات المقصودات في المعتقدات.

أما المسألة الأولى العقلية : فكاختلاف الناس في أن من قتل هل يقال إنه مات بأجله؟ ولو قدر عدم قتله هل كان يجب موته أم لا؟ وهذا فن من العلم لا يضر تركه ، ولكنا نشير إلى طريق الكشف فيه ، فنقول : كل شيئين لا ارتباط لأحدهما بالآخر ، ثم اقترنا في الوجود ، فليس يلزم من تقدير نفي أحدهما انتفاء الآخر ، فلو مات زيد وعمرو معا ثم قدرنا عدم موت زيد لم يلزم منه لا عدم موت عمرو ولا وجود موته ، وكذلك إذا مات زيد عند كسوف القمر مثلا ، فلو قدرنا عدم الموت لم يلزم عدم الكسوف بالضرورة ، ولو قدرنا عدم الكسوف لم يلزم عدم الموت إذ لا ارتباط لأحدهما بالآخر ، فأما الشيئان اللذان بينهما علاقة وارتباط فهما ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون العلاقة متكافئة كالعلاقة بين اليمين والشمال والفوق والتحت ، فهذا مما يلزم فقد أحدهما عند تقدير فقد الآخر لأنهما من المتضايفان التي لا يتقوم حقيقة أحدهما إلا مع الآخر.

الثاني : أن لا يكون على التكافؤ ، لكن لأحدهما رتبة التقدم كالشرط مع المشروط ، ومعلوم أنه يلزم عدم الشرط ، فإذا رأينا علم الشخص مع حياته وإرادته مع علمه فيلزم لا محالة من تقدير. انتفاء الحياة انتفاء العلم ، ومن تقدير انتفاء العلم انتفاء الإرادة ، ويعبر عن هذا بالشرط وهو الذي لا بد منه لوجود الشيء ولكن ليس وجود الشيء به بل عنه ومعه.

الثالث : العلاقة التي بين العلة والمعلول ، ويلزم من تقدير عدم العلة

١٣٩

عدم المعلول إن لم يكن للمعلول إلا علة واحدة ، وإن تصور أن تكون له علة أخرى فيلزم من تقدير نفي كل العلل نفي المعلول ، ولا يلزم من تقدير نفي علة بعينها نفي المعلول مطلقا ، بل يلزم نفي معلول تلك العلة على الخصوص ، فإذا تمهد هذا المعنى رجعنا إلى القتل والموت ؛ فالقتل عبارة عن حز الرقبة وهو راجع إلى أعراض هي حركات في يد الضارب والسيف وأعراض هي افتراقات في أجزاء رقبة المضروب ، وقد اقترن بها عرض آخر وهو الموت ، فإن لم يكن بين الحز والموت ارتباط لم يلزم من تقدير نفي الحز نفي الموت فإنهما شيئان مخلوقان معا على الاقتران بحكم إجراء العادة لا ارتباط لأحدهما بآخر ، فهو كالمقترنين اللذين لم تجر العادة باقترانهما وإن كان الحز علّة الموت ومولده ، وإن لم تكن علة سواه لزم من انتفائه انتفاء الموت ، ولكن لا خلاف في أن للموت عللا من أمراض وأسباب باطنة سوى الحز عند القائلين بالعلل ، فلا يلزم من نفي الحز نفي الموت مطلقا ما لم يقدر مع ذلك انتفاء سائر العلل ، فنرجع إلى غرضنا فنقول : من اعتقد من أهل السنة أن الله مستبد بالاختراع بلا تولد ، ولا يكون مخلوق علة مخلوق ، فنقول : الموت أمر استبد الرب تعالى باختراعه مع الحز ، فلا يجب من تقدير عدم الحز عدم الموت وهو الحق ؛ ومن اعتقد كونه علة وانضاف إليه مشاهدته صحة الجسم وعدم مهلك من خارج اعتقد أنه لو انتفى الحز وليس ثم علة أخرى وجب انتفاء المعلول لانتفاء جميع العلل ، وهذا الاعتقاد صحيح لو صح اعتقاد التعليل وحصر العلل فيما عرف انتفاؤه فإذا هذه المسألة يطول النزاع فيها ، ولم يشعر أكثر الخائضين فيها بمثارها فينبغي أن نطلب هذا من القانون الذي ذكرناه في عموم قدرة الله تعالى وإبطال التولد ، ويبنى على هذا أن من قتل ينبغي أن يقال إنه مات بأجله لأن الأجل عبارة عن الوقت الذي خلق الله تعالى فيه موته سواء كان معه حز رقبة أو كسوف قمر أو نزول مطر أو لم يكن ، لأن كل هذه عندنا مقترنات وليست مؤثرات ولكن اقتران بعضها يتكرر بالعادة ، وبعضها لا يتكرر ، فأما من جعل الموت سببا طبيعيا

١٤٠