الإقتصاد في الإعتقاد

أبو حامد الغزالي

الإقتصاد في الإعتقاد

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٦

الثالث : ما يدل على الوجود وصفة زائدة من صفات المعنى كالحي والقادر والمتكلم والمريد والسميع والبصير والعالم وما يرجع إلى هذه الصفات السبعة كالآمر والناهي والخبير ونظائره ، فذلك أيضا يصدق عليه أزلا وأبدا عند من يعتقد قدم جميع الصفات.

الرابع : ما يدل على الوجود مع إضافة إلى فعل من أفعاله كالجواد والرزاق والخالق والمعز والمذل وأمثاله ، وهذا مختلف فيه ، فقال قوم هو صادق ازلا إذ لو لم يصدق لكان اتصافه به موجبا للتغير وقال قوم لا يصدق إذ لا خلق في الأزل فكيف خالقا ، والكاشف للغطاء عن هذا أن السيف في الغمد يسمى صارما وعند حصول القطع به وفي تلك الحالة على الاقتران يسمى صارما ، وهما بمعنيين مختلفين ، فهو في الغمد صارم بالقوة وعند حصول القطع صارم بالفعل وكذلك الماء في الكوز يسمى مرويا وعند الشرب يسمى مرويا وهما إطلاقان مختلفان فمعنى تسمية السيف في الغمد صارما أن الصفة التي يحصل بها القطع في الحال لقصور في ذات السيف وحدته واستعداده بل لأمر آخر وراء ذاته. فبالمعنى الذي يسمى السيف في الغمد صارما يصدق اسم الخالق على الله تعالى في الازل فإن الخلق إذ أجري بالفعل لم يكن لتجدد أمر في الذات لم يكن ، بل كل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود في الازل ، وبالمعنى الذي يطلق حالة مباشرة القطع للسيف اسم الصارم لا يصدق في الازل فهذا حظ المعنى. فقد ظهر أن من قال إنه لا يصدق في الازل هذا الاسم فهو محق وأراد به المعنى الثاني ، ومن قال يصدق في الأزل فهو محق وأراد به المعنى الاول ، واذا كشف الغطاء على هذا الوجه ارتفع الخلاف ، فهذا تمام ما أردنا ذكره في قطب الصفات وقد اشتمل على سبعة دعاو ، وتفرع عن صفة القدرة ثلاثة فروع ، وعن صفة الكلام خمسة استبعادات ، واجتمع من الأحكام المشتركة بين الصفات أربعة أحكام ، فكان المجموع قريبا من عشرين دعوى هي أصول الدعاوى وان كان تنبني كل دعوى على دعاوى بها يتوصل إلى اثباتها فلنشتغل بالقطب الثالث من الكتاب إن شاء الله تعالى.

١٠١

القطب الثالث

(في أفعال الله تعالى وجملة أفعال جائزة لا يوصف شيء منها بالوجوب)

وندعي في هذا القطب سبعة أمور : ندعي أنه يجوز لله تعالى أن لا يكلف عباده ، وأنه يجوز أن يكلفهم ما لا يطاق ، وأنه يجوز منه إيلام العباد بغير عوض وجناية ، وأنه لا يجب رعاية الاصلح لهم ، وأنه لا يجب عليه ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وأن العبد لا يجب عليه شيء بالعقل بل بالشرع ، وأنه لا يجب على الله بعثه الرسل ، وأنه لو بعث لم يكن قبيحا ولا محالا بل أمكن اظهار صدقهم بالمعجزة ، وجملة هذه الدعاوى تنبني على البحث عن معنى الواجب والحسن والقبيح ، ولقد خاض الخائضون فيه وطولوا القول في أن العقل هل يحسن ويقبح وهل يوجب ، وإنما كثر الخبط لأنهم لم يحصلوا معنى هذه الألفاظ واختلافات الاصطلاحات فيها وكيف تخاطب خصمان في أن العقل واجب وهما بعد لم يفهما معنى الواجب ، فهما محصلا متفقا عليه بينهما ، فلنقدم البحث عن الاصطلاحات ولا بد من الوقوف على معنى ستة الفاظ وهي : الواجب ، والحسن ، والقبيح ، والعبث ، والسفه ، والحكمة ؛ فإن هذه الألفاظ مشتركة ومثار الأغاليط إجمالها ، والوجه في أمثال هذه المباحث ان نطرح الألفاظ ونحصل المعاني في العقل بعبارات أخرى ثم نلتفت إلى الألفاظ المبحوث عنها وننظر إلى تفاوت الاصطلاحات فيها ، فنقول : أما الواجب فإنه يطلق على فعل لا محالة ، ويطلق على القديم إنه واجب ، وعلى الشمس إذا غربت إنها واجبة ، وليس من غرضنا ، وليس يخفى ان الفعل الذي لا يترجح فعله على تركه

١٠٢

ولا يكون صدوره من صاحبه أولى من تركه لا يسمى واجبا وإن ترجح وكان أولا لا يسميه أيضا بكل ترجيح بل لا بد من خصوص ترجيح. ومعلوم أن الفعل قد يكون بحيث يعلم أنه يعلم أنه نستعقب تركه ضررا ، أو يتوهم ، وذلك الضرر إما عاجل في الدنيا وإما آجل في العاقبة ، وهو إما قريب محتمل وإما عظيم لا يطاق مثله ، فانقسام الفعل ووجوه ترجحه لهذه الأقسام ثابت في العقل من غير لفظ فلنرجع إلى اللفظ فنقول : معلوم أن ما فيه ضرر قريب محتمل لا يسمى واجبا ؛ إذ العطشان إذا لم يبادر الى شرب الماء تضرر تضررا قريبا ولا يقال إن الشرب عليه واجب ، ومعلوم أن ما لا ضرر فيه أصلا ولكن في فعله فائدة لا يسمى واجبا ، فان التجارة واكتساب المال والنوافل فيه فائدة ولا يسمى واجبا ، بل المخصوص باسم الواجب ما في تركه ضرر ظاهر فإن كان ذلك في العاقبة أعني الآخرة ، وعرف بالشرع فنحن نسميه واجبا ، وإن كان ذلك في الدنيا وعرف بالعقل فقد يسمى أيضا ذلك واجبا ، فإن من لا يعتقد الشرع قد يقول واجب على الجائع الذي يموت من الجوع أن يأكل إذا وجد الخبز ونعني بوجوب الأكل ترجح فعله على تركه بما يتعلق من الضرر بتركه ، ولسنا نحرم هذا الاصطلاح بالشرع فإن الاصطلاحات مباحة لا حجر فيها للشرع ولا للعقل ، وإنما تمنع منه اللغة إذا لم يكن على وفق الموضوع المعروف فقد تحصلنا على معنيين للواجب ورجع كلاهما إلى التعرض للضرر وكان أحدهما أعم لا يختص بالآخرة ، والآخر أخص وهو اصطلاحنا ، وقد يطلق الواجب بمعنى ثالث وهو الذي يؤدي عدم وقوعه إلى أمر محال ، كما يقال : ما علم وقوعه فوقوعه واجب ، ومعناه أنه إن لم يقع يؤدي إلى أن ينقلب العلم جهلا وذلك محال ، فيكون معنى وجوبه أن ضده محال ، فليسمّ هذا المعنى الثالث الواجب.

وأما الحسن فحظ المعنى منه أن الفعل في حق الفاعل ينقسم إلى ثلاثة أقسام أحدها أن توافقه أي تلائم غرضه ، والثاني أن ينافر غرضه ، والثالث

١٠٣

أن لا يكون له في فعله ولا في تركه غرض ، وهذا الانقسام ثابت في العقل ؛ فالذي يوافق الفاعل يسمى حسنا في حقه ولا معنى لحسنه إلا موافقته لغرضه ، والذي ينافي غرضه يسمى قبيحا ولا معنى لقبحه الا منافاته لغرضه ، والذي لا ينافي ولا يوافق يسمى عبثا أي لا فائدة فيه أصلا ، وفاعل العبث يسمى عابثا وربما يسمى سفيها ، وفاعل القبيح أعني الفعل الذي ينضر به يسمى سفيها واسم السفيه أصدق منه على العابث ، وهذا كله إذا لم يلتفت إلى غير الفاعل أو لم يرتبط الفعل بغرض غير الفاعل ، فإن ارتبط بغير الفاعل وكان موافقا لغرضه سمي حسنا في حق من وافقه وإن كان منافيا سمي قبيحا ، وإن كان موافقا لشخص دون شخص سمي في حق أحدهما حسنا وفي حق الآخر قبيحا إذ اسم القبيح والحسن بأن الموافقة والمخالفة ، وهما أمران إضافيان ، مختلفان بالأشخاص ويختلف في حق شخص واحد بالأحوال ويختلف في حال واحد بالأعراض ؛ فرب فعل يوافق الشخص من وجه ويخالفه من وجه فيكون حسنا من وجه قبيحا من وجه ، فمن لا ديانة له يستحسن الزنا بزوجة الغير ويعد الظفر بها نعمة ويستقبح فعل الذي يكشف عورته ويسميه غمازا قبيح الفعل والمتدين يسميه محتسبا حسن الفعل ، وكل بحسب غرضه يطلق اسم الحسن والقبح بل يقتل ملك من الملوك فيستحسن فعل القاتل جميع أعدائه ويستقبحه جميع أوليائه ، بل هذا القاتل في الحسن المخصوص جار ، ففي الطباع ما خلق مائلا من الألوان الحسان إلى السمرة ، فصاحبه يستحسن الأسمر ويعشقه ، والذي خلق مائلا إلى البياض المشرب بالحمرة يستقبحه ويستكرهه ويسفه عقل المستحسن المستهتر به ؛ فبهذا يتبين على القطع أن الحسن والقبيح عبارتان عن الخلق كلهم عن أمرين إضافيين يختلفان بالإضافات عن صفات الذوات التي لا تختلف بالإضافة ، فلا جرم جاز أن يكون الشيء حسنا في حق زيد قبيحا في حق عمرو ولا يجوز أن يكون الشيء أسود في حق زيد أبيض في حق عمرو لما لم تكن الألوان من الأوصاف الإضافية ؛ فإذا فهمت المعنى فافهم أن الاصطلاح في لفظ

١٠٤

الحسن أيضا ثلاثة : فقائل يطلقه على كل ما يوافق الغرض عاجلا كان او آجلا ؛ وقائل يخصص بما يوافق الغرض في الآخر وهو الذي حسنه الشرع أي حث عليه ووعد بالثواب عليه وهو اصطلاح أصحابنا ، والقبيح عند كل فريق ما يقابل الحسن ، فالأول أعم وهذا أخص ، وبهذا الاصطلاح قد يسمي بعض من لا يتحاشى فعل الله تعالى قبيحا إذ كان لا يوافق غرضهم ، ولذلك تراهم يسبون الفلك والدهر ويقولون خرف الفلك وما أقبح أفعاله ويعلمون ان الفاعل خالق الفلك ؛ ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر (١) ؛ وفيه اصطلاح ثالث إذ قد يقال فعل الله تعالى حسن كيف كان مع انه لا غرض في حقه ؛ ويكون معناه أنه لا تبعة عليه فيه ولا لائمة وأنه فاعل في ملكه الذي لا يساهم فيه ما يشاء ، وأما الحكمة فتطلق على معنيين : أحدهما الاحاطة المجردة بنظم الأمور ومعانيها الدقيقة والجليلة والحكم عليها بأنها كيف ينبغي أن تكون حتى تتم منها الغاية المطلوبة بها ، والثاني أن تنضاف إليه القدرة على إيجاد الترتيب والنظام واتقانه وإحكامه فيقال حكيم من الحكمة ، وهو نوع من العلم ، ويقال حكيم من الأحكام وهو نوع من الفعل ، فقد اتضح لك معنى هذه الألفاظ في الأصل ولكن هاهنا ثلاث غلطات للوهم يستفاد من الوقوف عليها الخلاص من إشكالات تغتر بها طوائف كثيرة :

الغلطة الأولى : أن الإنسان قد يطلق اسم القبيح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره ، ولكنه لا يلتفت إلى الغير ، فكل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر ما عداه ولذلك يحكم على الفعل مطلقا بأنه قبيح وقد يقول أنه قبيح في عينه ، وسببه أنه قبيح في حقه بمعنى أنه مخالف لغرضه ، ولكن أغراضه كأنه كل العالم في حقه فيتوهم أن المخالف لحقه مخالف في نفسه ، فيضيف القبح إلى ذات الشيء ويحكم بالإطلاق ؛ فهو مصيب في أصل

__________________

(١) منفق عليه

١٠٥

الاستقباح ولكنه مخطئ في حكمه بالقبح على الاطلاق ؛ وفي إضافة القبح إلى ذات الشيء ومنشؤه غفلته عن الالتفات إلى غيره ، بل عن الالتفات إلى بعض أحوال نفسه ، فإنه قد يستحسن في بعض أحواله غير ما يستقبحه مهما انقلب موافقا لغرضه.

الغلطة الثانية فيه : أن ما هو مخالف للأغراض في جميع الأحوال إلا في حالة نادرة ، فقد يحكم الإنسان عليه مطلقا بأنه قبيح لذهوله عن الحالة النادرة ورسوخ غالب الأحوال في نفسه واستيلائه على ذكره ، فيقضي مثلا على الكذب بأنه قبيح مطلقا في كل حال وأن قبحه لأنه كذب لذاته فقط لا لمعنى زائد ، وسبب ذلك غفلته عن ارتباط مصالح كثيرة بالكذب في بعض الأحوال ، ولكن لو وقعت تلك الحالة ربما نفر طبعه عن استحسان الكذب لكثرة إلفه باستقباحه ، وذلك لأن الطبع ينفر عنه من أول الصبا بطريق التأديب والاستصلاح ، ويلقي إليه أن الكذب قبيح في نفسه وأنه لا ينبغي أن يكذب قط ، فهو قبيح ولكن بشرط يلازمه في أكثر الأوقات وإنما يقع نادرا ، فلذلك لا ينبه على ذلك الشرط ويغرس في طبعه قبحه والتنفير عنه مطلقا.

الغلطة الثالثة : سبق الوهم إلى العكس ، فإن ما رئي مقرونا بالشيء يظن أن الشيء أيضا لا محالة يكون مقرونا به مطلقا ولا يدري أن الأخص أبدا يكون مقرونا بالأعم ، وأما الأعم فلا يلزم أن يكون مقرونا بالأخص. ومثاله ما يقال من أن السليم ، أعني الذي نهشته الحية ، يخاف من الحبل المبرقش اللون ، وهو كما قيل ، وسببه أنه أدرك المؤذي وهو متصور بصورة حبل مبرقش ، فاذا أدرك الحبل سبق الوهم إلى العكس وحكم بأنه مؤذ فينفر الطبع تابعا للوهم والخيال وإن كان العقل مكذبا به ، بل الانسان قد ينفر عن أكل الخبيص الأصفر لشبهه بالعذرة ، فيكاد يتقيأ عند قول القائل إنه عذرة ، يتعذر عليه تناوله مع كون العقل مكذبا به ، وذلك لسبق الوهم إلى العكس فإنه أدرك المستقذر رطبا أصفر فإذا رأى الرطب الأصفر حكم

١٠٦

بأنه مستقذر ، بل في الطبع ما هو أعظم من هذا فإن الأسامي التي تطلق عليها الهنود والزنوج لما كان يقترن بها قبح المسمى به يؤثر في الطبع ويبلغ إلى حدّ لو سمى به أجمل الأتراك والروم لنفر الطبع عنه ، لأنه ادرك الوهم القبيح مقرونا بهذا الاسم فيحكم بالعكس ، فإذا أدرك الاسم حكم بالقبح على المسمى ونفر الطبع. وهذا مع وضوحه للعقل فلا ينبغي أن يغفل عنه لأن إقدام الخلق وإحجامهم في أقوالهم وعقائدهم وأفعالهم تابع لمثل هذه الأوهام. وأما اتّباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه ، وان اردت ان تجرب هذا في الاعتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها ، فلو قلت له إنه مذهب الأشعري رضي الله عنه لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذبا بعين ما صدق به مهما كان سيئ الظن بالأشعري ، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا ، وكذلك تقرر أمرا معقولا عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود لى التكذيب ، ولست أقول هذا طبع العوام بل طبع اكثر من رأيته من المتوسمين باسم العلم ؛ فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد بل أضافوا الى تقليد المذهب تقليد الدليل فهم في نظرهم لا يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقا بالسماع والتقليد ، فان صادفوا في نظرهم ما يؤكد عقائدهم قالوا قد ظفرنا بالدليل ، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة ، فيضعون الاعتقاد المتلقف بالتقليد أصلا وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه ، وبالدليل كلى ما يوافقه ، وانما الحق ضده ؛ وهو أن لا يعتقد شيئا أصلا وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقا ونقيضه باطلا وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقديم الإلفة والتخلق بأخلاق منذ الصبا ، فإذا وقفت على هذه المثارات سهل عليك دفع الاشكالات. فان قيل : فقد رجع كلامكم إلى ان الحسن والقبيح يرجعان إلى الموافقة والمخالفة للاغراض ، ونحن نرى العاقل يستحسن ما لا فائدة

١٠٧

له فيه ويستقبح ما له فيه فائدة ، أما الاستحسان فمن رأى إنسانا أو حيوانا مشرفا على الهلاك استحسن إنقاذه ولو بشربة ماء مع أنه ربما لا يعتقد الشرع ولا يتوقع منه غرضا في الدنيا ولا هو بمرأى من الناس حتى ينتظر عليه ثناء بل يمكن أن يقدر انتفاء كل غرض ومع ذلك يرجح جهة الانقاذ على جهة الاهمال بتحسين هذا وتقبيح ذلك ، وأما الذي يستقبح مع الأغراض ، كالذي يحمل على كلمة الكفر بالسيف والشرع قد رخص له في اطلاقها ، فانه قد يستحسن منه الصبر على السيف وترك النطق به ، أو الذي لا يعتقد الشرع وحمل بالسيف على نقض عهد ، ولا ضرر عليه في نقضه وفي الوفاء به هلاكه ، فانه يستحسن الوفاء بالعهد والامتناع من النقض ، فبان أن الحسن والقبح معنى سوى ما ذكرتموه. والجواب أن في الوقوف على الغلطات المذكورة ما يشفي هذا الغليل ، أما ترجيح الانقاذ على الاهمال في حق من لا يعتقد الشرع فهو دفع للأذى الذي يلحق الانسان في رقة الجنسية ، وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه. ولأن الانسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره قادرا على انقاذه مع الإعراض عنه ، ويجد من نفسه استقباح ذلك فيعود عليه ويقدر ذلك من المشرف على الهلاك في حق نفسه فينفره طبعه عما يعتقده من أن المشرف على الهلاك في حقه ، فيندفع ذلك عن نفسه بالانقاذ. فان فرض ذلك في بهيمة لا يتوهم استقباحها أو فرض في شخص لا رقة فيه ولا رحمة فهذا مجال تصوره ، اذ الانسان لا ينفك عنه فان فرض على الاستحالة فيبقى أمر آخر وهو الثناء بحسن الخلق والشفقة على الخلق. فإن فرض حيث لا يعلمه أحد فهو ممكن أن يعلمه ، فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى أيضا ترجيح في نفسه وميل يضاهي نفرة طبع السليم عن الخبل ، وذلك أنه رأى الثناء مقرونا بمثل هذا الفعل على الاطراد. وهو يميل إلى الثناء فيميل إلى المقرون به. وإن علم بعقله عدم الثناء ، كما انه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل ، وطبعه ينفر عن الأذى فينفر عن المقرون به ، وان علم بعقله عدم الأذى بل الطبع إذا رأى من بعشقه في

١٠٨

موضع وطال معه أنسه فيه فانه يحس من نفسه تفرقة بين ذلك الموضع وحيطانه وبين سائر المواضع ولذلك قال الشاعر :

أمر على جدار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما تلك الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الناس الأوطان ونعم ما قال :

وحبّب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

وإذا تتبع الانسان الأخلاق والعادات رأى شواهد هذا خارجة عن الحصر ، فهذا هو السبب الذي هو غلط المغترين بظاهر الامور ، الذاهلين عن اسرار أخلاق النفوس ، الجاهلين بأن هذا الميل وأمثاله يرجع إلى طاعة النفس بحكم الفطرة والطبع بمجرد الوهم. والخيال الذي هو غلط يحكم العقل ولكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام والتخيلات بحكم اجراء العادات ، حتى إذا تخيل الإنسان طعاما طيبا بالتذكر أو بالرؤية سال في الحال لعابه وتحلبت أشداقه ، وذلك بطاعة القوة التي سخرها الله تعالى لإفاضة اللعاب المعين على المضغ للتخيل والوهم ، فإن شأنها أن تنبعث بحسب التخيل وإن كان الشخص عالما بأنه ليس يريد الإقدام على الأكل بصوم أو بسبب آخر وكذلك يتخيل الصورة الجميلة التي يشتهي مجامعتها ، فكما ثبت ذلك في الخيال انبعثت القوة الناشرة لآلة الفعل وساقت الرياح إلى تجاويف الأعصاب وملأتها ، وثارت القوة المأمورة بصب المذي الرطب المعين على الوقاع ، وذلك كله مع التحقيق بحكم العقل للامتناع عن الفعل في ذلك الوقت. ولكن الله تعالى خلق هذه القوى بحكم طرد العادة مطيعة مسخرة تحت حكم الخيال ، والوهم ساعد العقل الوهم او لم يساعده ، فهذا وأمثاله منشأ الغلط في سبب ترجيح أحد جانبي الفعل على الآخر ، وكل ذلك راجع إلى الأغراض. فأما النطق بكلمة الكفر وان كان كذلك فلا يستقبحه العاقل تحت السيف البتة

١٠٩

بل ربما يستقبح الاصرار ، فان استحسن الاصرار فله سببان : أحدهما ، اعتقاده أن الثواب على الصبر والاستسلام اكثر ، والآخر ، ما ينتظر من من الثناء عليه بصلابته في الدين ، فكم من شجاع يمتطي متن الخطر ويتهجم على عدد يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله بما يعتاضه عنه من لذة الثناء والحمد بعد موته وكذلك الامتناع عن نقض العهد بسببه ثناء الخلق على من يفي بالعهد ، وتواصيهم به على مر الأوقات لما فيها من مصالح الناس. فإن قدر حيث لا ينتظر ثناء فسببه حكم الوهم من حيث أنه لم يزل مقرونا بالثناء الذي هو لذيذ ، والمقرون باللذيذ لذيذ ، كما أن المقرون بالمكروه مكروه كما سبق في الأمثلة ، فهذا ما يحتمله هذا المختصر من بث أسرار هذا الفصل ، وإنما يعرف قدره من طال في المعقولات نظره ، وقد استفدنا بهذه المقدمة إيجاز الكلام في الدعاوى فلنرجع إليها.

الدعوى الأولى :

ندعي أنه يجوز لله تعالى أن لا يخلق الخلق ، وإذا خلق فلم يكن ذلك واجبا عليه ، وإذا خلقهم فله أن لا يكلفهم ، وإذا كلفهم فلم يكن ذلك واجبا عليه ، وقالت طائفة من المعتزلة يجب عليه الخلق والتكليف بعد الخلق. وبرهان الحق فيه أن نقول : قول القائل الخلق والتكليف واجب ، غير مفهوم ؛ فإنا بينا أن المفهوم عندنا من لفظ الواجب ما ينال تاركه ضرر ، إما عاجلا وإما آجلا ، أو ما يكون نقيضه محال ، والضرر محال في حق الله تعالى ، وليس في ترك التكليف وترك الخلق لزوم محال ، إلا أن يقال كان يؤدي ذلك إلى خلاف ما سبق به العلم في الأزل وما سبقت به المشيئة في الأزل ، فهذا حق وهو بهذا التأويل واجب ، فإن الإرادة إذا فرضت موجودة ، أو العلم إذا فرض متعلقا بالشيء ، كان حصول المراد والمعلوم واجبا لا محالة ، فان قيل : إنما يجب عليه ذلك لفائدة الخلق لا لفائدة ترجع إلى الخالق سبحانه وتعالى ، قلنا : الكلام في قولكم لفائدة الخلق للتعليل ،

١١٠

والحكم المعلل هو الوجوب ، ونحن نطالبكم بتفهيم الحكم فلا يعنيكم ذكر العلة ؛ فما معنى قولكم إنه يجب لفائدة الخلق وما معنى الوجوب ونحن لا نفهم من الوجوب إلا المعاني الثلاثة ، وهي منعدمة ، فإن أردتم معنى رابعا ففسروه أولا ثم اذكروا علته ، فإنا ربما لا ننكر أن للخلق في الخلق فائدة ، وكذا في التكليف ، ولكن ما فيه فائدة غيره لم يجب عليه إذا لم يكن له فائدة في فائدة غيره. وهذا لا مخرج عنه أبدا. على أنا نقول انما يستقيم هذا الكلام في الخلق لا في التكليف ، ولا يستقيم في هذا الخلق الموجود بل في ان يخلقهم في الجنة متنعمين ، من غيرهم وضرر وغم وألم ، وأما هذا الخلق الموجود فالعقلاء كلهم قد تمنوا العدم ، وقال بعضهم : ليتني كنت نسيا منسيا ، وقال آخر ليتني لم أك شيئا ، وقال آخر ليتني كنت تبنة رفعها من الأرض ، قال آخر يشير إلى طائر ليتني كنت ذلك الطائر ، وهذا قول الأنبياء والأولياء وهم العقلاء ، فبعضهم يتمنى عدم الخلق وبعضهم يتمنى عدم التكليف بأن يكون جمادا أو طائرا ، فليت شعري كيف يستجيز العاقل في أن يقول : للخلق في التكليف فائدة وانما معنى الفائدة نفي الكلفة ، والتكليف في عينه إلزام كلفة وهو ألم ، وإن نظر إلى الثواب فهو الفائدة ، وكان قادرا على ايصاله إليهم بغير تكليف. فإن قيل : الثواب إذا كان باستحقاق كان ألذ وأوقع من أن يكون بالامتنان والابتداء ، والجواب : أن الاستعاذة بالله تعالى من عقل ينتهي إلى التكبر على الله عزوجل والترفع من احتمال منته وتقدير اللذة في الخروج من نعمته أولى من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ؛ وليت شعري كيف يعد من العقلاء من يخطر بباله مثل هذه الوساوس ، ومن يستثقل المقام أبد الآباد في الجنة من غير تقدم تعب وتكليف أخس من أن يناظر أو يخاطب ، هذا لو سلم أن الثواب بعد التكليف يكون مستحقا ، وسنبين نقيضه ، ثم ليت شعري الطاعة التي بها يستحق الثواب من أين وجدها العبد؟ وهل لها سبب سوى وجوده وقدرته وإرادته وصحة أعضائه وحضور

١١١

أسبابه؟ وهل لكل ذلك مصدر إلا فضل الله ونعمته ؛ فنعوذ بالله من الانخلاع عن غريزة العقل بالكلية ، فإن هذا الكلام من هذا النمط ، فينبغي ان يسترزق الله تعالى عقلا لصاحبه ولا يشتغل بمناظرته.

الدعوى الثانية :

إن الله تعالى أن يكلف العباد ما يطيقونه وما لا يطيقونه ، وذهب المعتزلة إلى انكار ذلك ، ومعتقد أهل السنة أن التكليف له حقيقة في نفسه وهو أنه كلام وله مصدر وهو المكلف ، ولا شرط فيه إلا كونه متكلما ، وله مورد وهو المكلف وشرطه أن يكون فاهما للكلام فلا يسمى الكلام مع الجماد والمجنون خطابا ولا تكليفا ، والتكليف نوع خطاب وله متعلق وهو المكلف به وشرطه أن يكون مفهوما فقط ، وأما كونه ممكنا فليس بشرط لتحقيق الكلام فإن التكليف كلام ، فإذا صدر ممن يفهم مع من يفهم فيما يفهم وكان المخاطب دون المخاطب سمي تكليفا ، وإن كان مثله سمي التماسا ، وإن كان فوقه سمي دعاء وسؤالا ، فالاقتضاء في ذاته واحد وهذه الأسامي تختلف عليه باختلاف النسبة ، وبرهان جواز ذلك أن استحالته لا تخلو إما أن تكون لامتناع تصور ذاته ، كاجتماع السواد والبياض ، أو كان لأجل الاستقباح ، وباطل أن يكون امتناعه لذاته ، فإن السواد والبياض لا يمكن أن يفرض مجتمعا ، وفرض هذا ممكن إذ التكليف لا يخلو إما أن يكون لفظا وهو مذهب الخصم وليس بمستحيل أن يقول الرجل لعبده الزمن قم. فهو على مذهبهم أظهر وأما نحن فإنا نعتقد أنه اقتضاء يقوم بالنفس ، وكما بتصور أن يقوم اقتضاء القيام بالنفس من قادر فيتصور ذلك من عاجز بل ربما يقوم ذلك بنفسه من قادر ثم يبقى ذلك الاقتضاء ونظر الزمانة والسيد لا يدري ويكون الاقتضاء قائما بذاته وهو اقتضاء قائم من عاجز في علم الله تعالى ، وإن لم يكن معلوما عند المقتضي فإن علمه لا يحيل بقاء الاقتضاء مع العلم بالعجز عن الوفاء وباطل أن يقال بطلان ذلك من جهة الاستحسان ،

١١٢

فإن كلامنا في حق الله تعالى ، وذلك باطل في حقه لتنزهه عن الأغراض ورجوع ذلك إلى الأغراض ، أما الانسان العاقل المضبوط بغالب الأمر فقد يستقبح ذلك وليس ما يستقبح من العبد يستقبح من الله تعالى ، فإن قيل : فهو مما لا فائدة فيه وما لا فائدة فيه فهو عبث والعبث على الله تعالى محال. قلنا : هذه ثلاث دعاوى :

الأولى : إنه لا فائدة فيه ، ولا نسلم ، فلعل فيه فائدة لعباد اطلع الله عليها ، وليست الفائدة هي الامتثال والثواب عليه بل ربما يكون في إظهار الأمر وما يتبعه من اعتقاد التكليف فائدة ، فقد ينسخ الأمر قبل الامتثال كما أمر ابراهيم عليه‌السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الامتثال ، وأمر أبا جهل بالايمان وأخبر أنه لا يؤمن وخلاف خبره محال.

الدعوى الثانية : إن ما لا فائدة فيه فهو عبث ، فهذا تكرير عبارة ؛ فإنا بينا أنه لا يراد بالعبث إلا ما لا فائدة فيه فإن أريد به غيره فهو غير مفهوم.

الدعوى الثالثة : إن العبث على الله تعالى محال ، وهذا فيه تلبيس ، لأن لأن العبث عبارة عن فعل لا فائدة فيه ممن يتعرض للفوائد ، فمن لا يتعرض لها فتسميته عابثا مجاز محض لا حقيقة له يضاهي قول القائل الريح عابثة بتحريكها الأشجار إذ لا فائدة لها فيه ، ويضاهي قول القائل الجدار غافل أي هو خال عن العلم والجهل وهذا باطل لأن الغافل يطلق على القابل للجهل والعلم إذا خلا عنهما ، فاطلاقهما على الذي لا يقبل العلم مجاز لا أصل له ، وكذلك اطلاق اسم العابث على الله تعالى واطلاق العبث على افعاله سبحانه وتعالى ، والدليل الثاني في المسألة ، ولا محيص لأحد عنه ، أن الله تعالى كلف أبا جهل أن يؤمن وعلم أنه لا يؤمن ، وأخبر عنه بأنه لا يؤمن ، فكأنه أمر بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، إذ كان من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه لا يؤمن وكان هو مأمورا بتصديقه ، فقد قيل له صدق بأنك لا تصدق ، وهذا محال ، وتحقيقه أن خلاف المعلوم محال وقوعه ولكن ليس محالا لذاته ،

١١٣

بل هو محال لغيره ، والمحال لغيره في امتناع الوقوع كالمحال لذاته ، ومن قال إن الكفار الذين لم يؤمنوا ما كانوا مأمورين بالايمان فقد جحد الشرع ، ومن قال كان الايمان منهم متصورا مع علم الله سبحانه وتعالى بأنه لا يقع ، فقد اضطر كل فريق إلى القول بتصور الأمر بما لا يتصور امتثاله ، ولا يغني عن هذا قول القائل إنه كان مقدورا عليه وكان للكافر عليه قدرة ، أما على مثلنا فلا قدرة قبل الفعل ولم تكن لهم قدرة إلا على الكفر الذي صدر منهم ، وأما عند المعتزلة فلا يمتنع وجود القدرة ولكن القدرة غير كافية لوقوع المقدور بل له شرط كالارادة وغيرها ، ومن شروطه أن لا ينقلب علم الله تعالى جهلا ، والقدرة لا تراد لعينها بل لتيسير الفعل بها ، فكيف يتيسر فعل يؤدي إلى انقلاب العلم جهلا؟ فاستبان أن هذا واقع في ثبوت التكليف بما هو محال لغيره ، فكذا يقاس عليه ما هو محال لذاته إذ لا فرق بينهما في إمكان التلفظ ولا في تصور الاقتضاء ولا في الاستقباح والاستحسان.

الدعوى الثالثة :

ندعي أن الله تعالى قادر على إيلام الحيوان البريء عن الجنايات ولا يلزم عليه ثواب ، وقالت المعتزلة إن ذلك محال لأنه قبيح ، ولذلك لزمهم المصير إلى أن كل بقة وبرغوث أو ذي بعرة أو صدمة فإن الله عزوجل يجب عليه أن يحشره ويثيبه عليه بثواب ، وذهب ذاهبون إلى أن أرواحها تعود بالتناسخ إلى أبدان أخر وينالها من اللذة ما يقابل تعبها ؛ وهذا مذهب لا يخفى فساده ، ولكنا نقول : أما إيلام البريء عن الجناية من الحيوان والأطفال والمجانين فمقدور بما هو مشاهد محسوس ، فيبقى قول الخصم إن ذلك يوجب عليه الحشر والثواب بعد ذلك فيعود إلى معنى الواجب ، وقد بان استحالته في حق الله تعالى ، وإن فسروه بمبنى رابع فهو غير مفهوم ، وإن زعموا أن تركه يناقض كونه حكيما فنقول : إن الحكمة إن أريد بها العلم بنظام الأمور والقدرة

١١٤

على ترتيبها كما سبق فليس في هذا ما يناقضه ، وإن أريد بها أمرا آخر فليس يجب له عندنا من الحكم إلا ما ذكرناه ، وما وراء ذلك لفظ لا معنى له.

فإن قيل فيؤدي إلى أن يكون ظالما وقد قال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) قلنا : الظلم منفي عنه بطريق السلب المحض كما تسلب الغفلة عن الجدار والعبث عن الريح ، فإن الظلم إنما يتصور ممن يمكن أن يصادف فعله ملك غيره ، ولا يتصور ذلك في حق الله تعالى أو يمكن أن يكون عليه أمر فيخالف فعله أمر غيره ، ولا يتصور من الانسان أن يكون ظالما لما في ملك نفسه بكل ما يفعله إلا إذا خالف أمر الشرع فيكون ظالما بهذا المعنى ، فمن لا يتصور منه أن يتصرف في ملك غيره ولا يتصور منه أن يكون تحت أمر غيره كان الظلم مسلوبا عنه لفقد شرطه المصحح له لا لفقده في نفسه ، فلتفهم هذه الدقيقة فانها مزلة القدم ، فإن فسر الظلم بمعنى سوى ذلك فهو غير مفهوم ولا يتكلم فيه بنفي ولا إثبات.

الدعوى الرابعة :

ندعي أنه لا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده ، بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ، خلافا للمعتزلة فإنهم حجروا على الله تعالى في أفعاله وأوجبوا عليه رعاية الأصلح. ويدل على بطلان ذلك ما دل على نفي الوجوب على الله تعالى كما سبق وتدل عليه المشاهدة والوجود ، فإنا نريهم من أفعال الله تعالى ما يلزمهم الاعتراف به بأنه لا صلاح للعبيد فيه ، فإنا نفرض ثلاثة أطفال مات أحدهم وهو مسلم في الصبا ، وبلغ الآخر وأسلم ومات مسلما بالغا ، وبلغ الثالث كافرا ومات على الكفر ، فإن العدل عندهم أن يخلد الكافر البالغ في النار ، وأن يكون للبالغ المسلم في الجنة رتبة فوق رتبة الصبي المسلم ، فاذا قال الصبي المسلم : يا رب لم حططت رتبتي عن رتبته؟

__________________

(١) سورة فصلت الآية : ٤٦.

١١٥

فيقول : لأنه بلغ فأطاعني وأنت لم تطعني بالعبادات بعد البلوغ ، فيقول : يا رب لأنك أمتني قبل البلوغ فكان صلاحي في أن تمدني بالحياة حتى أبلغ فأطيع فأنال رتبته فلم حرمتني هذه الرتبة أبد الآبدين وكنت قادرا على أن توصلني لها؟ فلا يكون له جواب إلا أن يقول : علمت أنك لو بلغت لعصيت وما أطعت وتعرضت لعقابي وسخطي فرأيت هذه الرتبة النازلة أولى بك وأصلح لك من العقوبة ، فينادي الكافر البالغ من الهاوية ويقول : يا رب أو ما علمت أني إذا بلغت كفرت فلو أمتني في الصبا وأنزلتني في تلك المنزلة النازلة لكان أحب إليّ من تخليد النار وأصلح لي ، فلم أحييتني وكان الموت خيرا لي؟ فلا يبقى له جواب البتة ، ومعلوم أن هذه الأقسام الثلاثة موجودة ، وبه يظهر على القطع أن الأصلح للعباد كلهم ليس بواجب ولا هو موجود.

الدعوى الخامسة :

ندعي أن الله تعالى إذا كلف العباد فأطاعوه لم يجب عليه الثواب ، بل إن شاء أثابهم وإن شاء عاقبهم وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم ، ولا يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين ، ولا يستحيل ذلك في نفسه ولا يناقض صفة من صفات الإلهية ، وهذا لأن التكليف تصرف في عبيده ومماليكه ، أما الثواب ففعل آخر على سبيل الابتداء ، وكونه واجبا بالمعاني الثلاثة غير مفهوم ولا معنى للحسن والقبيح ، وإن أريد له معنى آخر فليس بمفهوم إلا أن يقال إنه يصير وعده كذبا وهو محال ، ونحن نعتقد الوجوب بهذا المعنى ولا ننكره.

فإن قيل : التكليف مع القدرة على الثواب وترك الثواب قبيح ، قلنا : إن عنيتم بالقبح أنه مخالف غرض المكلف فقد تعالى المكلّف وتقدس عن الأغراض ، وإن عنيتم به أنه مخالف غرض المكلّف مسلّم لكن ما هو قبيح عند المكلف لم يمتنع عليه فعله إذا كان القبيح والحسن عنده وفي حقه بمثابة

١١٦

واحدة ، على أنا لو نزلنا على فاسد معتقد هم فلا نسلم أن من يستخدم عبده يجب عليه في العادة ثواب ، لأن الثواب يكون عوضا عن العمل فتبطل فائدة الرق وحق على العبد أن يخدم مولاه لأنه عبده ، فان كان لأجل عوض فليس ذلك خدمة ، ومن العجائب قولهم : إنه يجب الشكر على العباد لأنهم عباد ، قضاء لحق نعمته ، ثم يجب عليه الثواب على الشكر وهذا محال ، لأن المستحق إذا وفي لم يلزمه فيه عوض ، ولو جاز ذلك للزم على الثواب شكر مجدد وعلى هذا الشكر ثواب مجدد ويتسلسل إلى غير نهاية ، ولم يزل العبد والرّب كل واحد منهما أبدا مقيدا بحق الآخر ، وهو محال ، وأفحش من هذا قولهم : إن كل من كفر فيجب على الله تعالى أن يعاقبه أبدا ويخلده في النار ، بل كل من قارف كبيرة ومات قبل التوبة يخلد في النار ، وهذا جهل بالكرم والمروءة والعقل والعادة والشرع وجميع الامور ، فإنا نقول : العبادة قاضية والعقول مشيرة إلى أن التجاوز والصفح أحسن من العقوبة. والانتقام وثناء الناس على العافي أكثر من ثنائهم للمنتقم ، واستحسانهم للعفو أشد ، فكيف يستقبح العفو والإنعام ويستحسن طول الانتقام! ثم هذا في حق من أذته الجناية وغضت من قدره المعصية ، والله تعالى يستوي في حقه الكفر والايمان والطاعات والعصيان فهما في حق إلاهيته وجلاله سيان ، ثم كيف يستحسن أن سلك طريق المجازاة واستحسن ذلك تأييد العقاب خالدا مخلدا في مقابلته العصيان بكلمة واحدة في لحظة ، ومن انتهى عقله في الاستحسان إلى هذا الحد كانت دار المرضى أليق به من مجامع العلماء. على أنا نقول : لو سلك سالك ضد هذا الطريق بعينه كان أقوم قيلا وأجرى على قانون الاستحسان والاستقباح الذي تقضي به الأوهام والخيالات كما سبق ، وهو أن نقول : الانسان يقبح منه أن يعاقب على جناية سبقت وجناية تداركها إلا لوجهين :

أحدهما ، أن يكون في العقوبة زجر ورعاية مصلحة في المستقبل فيحسن ذلك خيفة من فوات غرض في المستقبل ، فإن لم يكن فيه مصلحة في المستقبل

١١٧

أصلا فالعقوبة بمجرد المجازاة على ما سبق قبيح لأنه لا فائدة فيه للمعاقب ولا لأحد سواه ، والجاني متأذ به ودفع الأذى عنه أحسن ، وإنما يحسن الأذى لفائدة ولا فائدة ، وما مضى فلا تدارك له فهو في غاية القبح.

والوجه الثاني ، أن نقول : إنه إذا تأذى المجني عليه واشتد غيظه فذلك الغيظ مؤلم وشفاء الغيظ مريح من الألم ، والألم بالجاني أليق ، ومهما عاقب الجاني زال منه ألم الغيظ واختص بالجاني فهو أولى ، فهذا أيضا له وجه ما وإن كان دليلا على نقصان العقل وغلبة الغضب عليه ، فأما إيجاب العقاب حيث لا يتعلق بمصلحة في المستقبل لأحد في عالم الله تعالى ولا فيه دفع أذى عن المجني عليه ففي غاية القبح ، فهذا أقوم من قول من يقول إن ترك العقاب في غاية القبح ، والكل باطل واتباع الموجب الأوهام التي وقعت بتوهم الأغراض ، والله تعالى متقدس عنها ولكنّا اردنا معارضة الفاسد ليتبين به بطلان خيالهم.

الدعوى السادسة :

ندعي أنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة الله تعالى وشكر نعمته ، خلافا للمعتزلة ، حيث قالوا إن العقل بمجرده موجب ، وبرهانه أن نقول : العقل يوجب النظر وطلب المعرفة لفائدة مرتبة عليه أو مع الاعتراف بأن وجوده وعدمه في حق الفوائد عاجلا وآجلا بمثابة واحدة ، فإن قلتم : يقتضي بالوجوب مع الاعتراف بأنه لا فائدة فيه قطعا عاجلا وآجلا فهذا حكم الجهل لا حكم العقل ، فإن العقل لا يأمر بالعبث ، وكلما هو خال عن الفوائد كلها فهو عبث ، وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود تعالى وتقدس عن الفوائد ، وإن رجعت إلى العبد فلا يخلو أن يكون في الحال أو في المآل ، أما في الحال فهو تعب لا فائدة فيه وأما في المآل فالمتوقع الثواب. ومن أين علمتم أنه يثاب على فعله بل ربما يعاقب على فعله ، فالحكم عليه بالثواب حماقة لا أصل لها ..

١١٨

فإن قيل : يخطر بباله أن له ربا إن شكره أثابه وأنعم عليه وإن كفر أنعمه عاقبه عليه ، ولا يخطر بباله البتة جواز العقوبة على الشكر والاحتزاز عن الضرر الموهوم في قضية العقل كالاحتراز عن العلوم.

قلنا : نحن لا ننكر أن العاقل يستحثه طبعه عن الاحتراز من الضرر موهوما ومعلوما ، فلا يمنع من إطلاق اسم الايجاب على هذا الاستحثاث فان الاصطلاحات لا مشاحة فيها ، ولكن الكلام في ترجيح جهة الفعل على جهة الترك في تقرير الثواب بالعقاب مع العلم بأن الشكر وتركه في حق الله تعالى سيان لا كالواحد منا فإنه يرتاح بالشكر والثناء ويهتز له ويستلذه ويتألم بالكفران ويتأذى به ، فإذا ظهر استواء الأمرين في حق الله تعالى فالترجيح لأحد الجانبين محال ، بل ربما يخطر بباله نقيضه وهو أنه يعاقب على الشكر لوجهين : أحدهما ، أن اشتغاله به تصرف في فكره وقلبه باتعابه صرفه عن الملاذ والشهوات وهو عبد مربوب خلق له شهوة ومكن من الشهوات ، فلعل المقصود أن يشتغل بلذات نفسه واستيفاء نعم الله تعالى وأن لا يتعب نفسه فيما لا فائدة لله فيه فهذا الاحتمال أظهر ، الثاني ، أن يقيس نفسه على من يشكر ملكا من الملوك بأن يبحث عن صفاته وأخلاقه ومكانه وموضع نومه مع أهله وجميع أسراره الباطنة مجازاة على إنعامه عليه ، فيقال له أنت بهذا الشكر مستحق لحز الرقبة ، فما لك ولهذا الفضول ومن أنت حتى تبحث عن أسرار الملوك وصفاتهم وأفعالهم وأخلاقهم ، ولما ذا لا تشتغل بما يهمك ، فالذي يطلب معرفة معرفة الله تعالى كأنه إن تعرف دقائق صفات الله تعالى وأفعاله وحكمته وأسراره في أفعاله وكل ذلك مما لا يؤهل له إلا من له منصب فمن أين عرف العبد أنه مستحق لهذا المنصب؟ فاستبان أن ما أخذهم أوهام رسخت منهم من العادات ، تعارضها أمثالها ولا محيص عنها ، فإن قيل : فإن لم يكن مدركا لوجوب مقتضى العقول أدى ذلك إلى إفحام الرسول ، فإنه إذا جاء بالمعجزة وقال انظروا فيها ، فللمخاطب أن يقول إن لم يكن النظر واجبا فلا أقدم عليه وإن كان واجبا فيستحيل أن يكون مدركه العقل ،

١١٩

والعقل لا يوجب ، ويستحيل أن يكون مدركه الشرع ، والشرع لا يثبت إلا بالنظر في المعجزة ولا يجب النظر قبل ثبوت الشرع فيؤدي إلى أن لا يظهر صحة النبوة أصلا ، والجواب أن هذا السؤال مصدره الجهل بحقيقة الوجوب ، وقد بينا أن معنى الوجوب ترجيح جانب الفعل على الترك بدفع ضرر موهوم في الترك أو معلوم ، وإذا كان هذا هو الوجوب فالموجب هو المرجح وهو الله تعالى ، فإنه إذا ناط العقاب بترك النظر ترجح فعله على تركه ، ومعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه واجب مرجح يترجح الله تعالى في ربطه العقاب بأحدهما ، وأما المدرك فعبارة عن جهة معرفة الوجوب لا عن نفس الوجوب ، وليس شرط الواجب أن يكون وجوبه معلوما ، بل أن يكون علمه متمكنا لمن أراده ، فيقول النبي إن الكفر سم مهلك والإيمان شفاء مسعد بأن جعل الله تعالى أحدهما مسعدا والآخر مهلكا ، ولست أوجب عليك شيئا ، فزن الايجاب هو الترجيح والمرجح هو الله تعالى وإنما أنا مخبر عن كونه سم ومرشد لك إلى طريق تعرف به صدقي وهو النظر في المعجزة ، فإن سلكت الطريق عرفت ونجوت ؛ وإن تركت هلكت. مثاله مثال طبيب انتهى إلى مريض وهو متردد بين دواءين موضوعين بين يديه ، فقال له أما هذا فلا تتناوله فإنه لهلك للحيوان وأنت قادر على معرفته بأن تطعمه هذا السنور فيموت على الفور فيظهر لك ما قلته ، وأما هذا ففيه شفاؤك وأنت قادر على معرفته بالتجربات وهو إن تشربه فتشفى فلا فرق في حقي ولا في حق أستاذي بين أن يهلك أو يشفى فإن أستاذي غني عن بقائك وأنا أيضا كذلك ، فعند هذا لو قال المريض هذا يجب علي بالعقل أو بقولك وما لم يظهر لي هذا لم أشتغل بالتجربة كان مهلكا نفسه ولم يكن عليه ضرر ، فكذلك النبي قد أخبره الله تعالى بأن الطاعة شفاء والمعصية داء وأن الإيمان مسعد والكفر مهلك وأخبره بأنه غني عن العالمين سعدوا أم شقوا فإنما شأن الرسول أن يبلغ ويرشد إلى طريقة المعرفة وينصرف ، فمن نظر فلنفسه ومن قصر فعليها ، وهذا واضح ، فان قيل : فقد رجع الأمر إلى

١٢٠