أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

الآخرة ، والرؤية تستلزم الجسمية كما لا يخفى.

قال : «والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبيّ محمّد : إن أهل الجنّة يرون ربّهم لا يختلف فيها أهل العلم ، فينظرون إلى الله» (١).

٣ ـ قال الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير : «احتج أصحابنا بهذه الآية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ..) على أنه تعالى تجوز رؤيته ، وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة.

ثم قال :

وفي التمسّك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول : إن الله تعالى لا يرى بالعين ، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلت عليه هذه الآية (لا تدركه الأبصار ..) على تخصيص نفي إدراك الله بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزا ، ولمّا ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ، ثبت أن الله تعالى يخلق حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه ..»(٢).

٤ ـ ما اعتقده البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه ، باب أن المؤمنين يرونه عزوجل يوم القيامة ، وروى عدة منها :

حديث رقم ٧٤٣٤ :

عن قيس عن جرير قال : كنّا جلوسا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا نظر إلى القمر ليلة البدر ، قال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا (٣).

__________________

(١) الرد على الزنادقة ص ٢٩.

(٢) تفسير الرازي ج ١٣ / ١٢٥ ذيل الآية المباركة.

(٣) صحيح البخاري ج ٨ / ٥٣٨ ، ط / الدار العلمية.

٨١

حديث رقم ٧٤٣٧ :

عن عطاء عن أبي هريرة : إن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال رسول الله : هل تضارون في القمر ليلة البدر؟

قالوا : لا يا رسول الله. قال : فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فإنكم ترونه كذلك ، يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها ، شكّ إبراهيم ، فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا ، فإذا جاءنا ربّنا عرفناه ، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ، ويضرب الصراط بين ظهري جهنم ...» (١).

حديث رقم ٧٤٣٥ :

عن جرير قال : قال النبيّ : «إنكم سترون ربكم عيانا» (٢).

حديث رقم ٧٤٣٩ :

عن يحيى بن بكير بسند معنعن إلى أبي سعيد الخدري قال : قلنا يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟

قال : هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا؟

قلنا : لا ، قال : فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلّا كما تضارون في رؤيتهما. ثم قال : ينادي مناد ليذهب كلّ قوم إلى ما كانوا يعبدون .. (إلى أن ساق الحديث إلى المسلمين) فيقال لهم : ما يحبسكم وقد ذهب الناس فيقولون :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ / ٥٣٨.

(٢) نفس المصدر ج ٨ / ٥٣٨.

٨٢

فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم وإنّا سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا قال : فيأتيهم الجبّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربّنا فلا يكلّمه إلّا الأنبياء فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟

فيقولون : الساق ، فيكشف عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة ، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم ..» (١).

حديث رقم ٧٤٤٠ :

عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمّوا بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو الناس ، خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيء لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا قال : فيقول لست هناكم ، قال : ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض ، ـ فيأتونه ويقول لهم مثل ما قال لهم آدم إلى أن تصل النوبة إلى النبيّ محمّد ـ فيأتونه فيستأذن على ربه في داره فيؤذن له فإذا رآه وقع ساجدا فيدعه الله ما شاء ثم يدعوه فيقول له : ارفع محمّد وقل يسمع واشفع تشفّع وسل تعطه قال : فارفع رأسي .. ثم أعود فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ..» (٢).

هذه نبذة من أخبار صحيح البخاري الذي هو عند العامة من حيث الحجية والاعتبار بعد كتاب الله تعالى ، أفيصح بعد هذا أن يقال أن هؤلاء هم أهل السنّة والجماعة ، وغيرهم ليسوا من سنة رسول الله؟ وهل سنة رسول الله كسنّة اليهود

__________________

(١) نفس المصدر السابق ص ٥٤٠.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ / ٥٤٠.

٨٣

والنصارى القائلين بالتجسيم والحلول؟ وهل هناك فرق بين اليهود والنصارى وبين من ينسب إلى رسول الله أنه يستأذن فيدخل دار الله تعالى ويطمئن المؤمنين بأنهم سيرون ربهم كما يرون القمر حال اكتماله؟!

٥ ـ قال محمّد رشيد رضا في تفسيره : «إن جواز الرؤية من مذاهب أهل السنّة والعلم بالحديث» (١).

٦ ـ قال ابن كثير في تفسيره تعقيبا على روايات البخاري : «وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في الصحيحين : إن أناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟

قال : هل تضارّون في رؤية الشمس .. الخ كما في الأحاديث المتقدمة.

ثم ساق الكلام مستشهدا بالصحيحين عن أبي موسى قال :

قال رسول الله : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزوجل إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن.

وفي أفراد مسلم عن جابر في حديثه : «أن الله يتجلّى للمؤمنين يضحك» يعني في عرصات القيامة ، ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم في العرصات وفي روضات الجنان. إلى أن قال :

وقال الإمام أحمد ، حدّثنا أبو معاوية ، حدّثنا عبد الملك بن أبجر ، حدّثنا يزيد بن أبي فاختة عن ابن عمر قال :

قال رسول الله : إن أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه ، وأن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين.

__________________

(١) تفسير المنار ج ٧ / ٦٥٣.

٨٤

ثم عقّب ابن كثير بالقول : «لو لا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها ...» (١) انتهى.

٧ ـ وقال الشافعي : «ما حجب الفجّار إلّا وقد علم أنّ الأبرار يرونه عزوجل ، ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله بما دل عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تنظر إلى الخالق وحق لها أن تتضرع وهي تنظر إلى الخالق ..» (٢).

وعقّب ابن كثير عليه فقال : «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة أي تراه عيانا كما رواه البخاري في صحيحه «أنكم سترون ربّكم عيانا». وقد تقدم استعراض كلامه فلاحظ.

٨ ـ وقال القوشجي مستدلا على جواز الرؤية البصرية بآيتي القيامة / ٢٣ ـ ٢٤ : «إن النظر إذا كان بمعنى الانتظار فإنه يستعمل بغير صلة ويقال : «انتظرت» وإذا كان بمعنى الرؤية فإنه يتعدى ب «إلى» والنظر في هذه الآية قد استعمل بلفظ «إلى» فيحمل على الرؤية» (٣).

٩ ـ ما اعتقده السيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة القيامة حيث روى الكثير من أخبار الرؤية البصرية ، منها ما أخرجه عن ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله في قول الله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة. ومنها ما أخرجه عن ابن المنذر عن الضحاك في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ..) قال : النضارة : البياض والصفاء (إِلى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ / ٣٩٣ ، ط / دار القلم.

(٢) المصدر السابق نفسه

(٣) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٣١ ، ط / حجري.

٨٥

رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : ناظرة إلى وجه الله. ومنها عن ابن المنذر عن عكرمة تعقيبا على الآية قال : ناضرة إلى النعيم (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنظر إلى الله نظرا. ومنها ما أخرجه عن الدارقطني عن أبي هريرة أن النبيّ قال : ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر أو كما ترون الشمس ليس دونها سحاب.

هذا هو المشهور بل المتسالم عليه عند العامة ، بل إنّ الآمدي زاد على الرؤية البصرية الأخروية ، الرؤية لله تعالى في الدنيا فقال : (اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلا ، واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا ، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون)(١).

وقد ذكر الشهرستاني ما يؤكد مقالة الآمدي ، حاكيا عمّن يقول بالتشبيه قال : [إن مضر وكهمس وأحمد الهجيمي أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض ، وحكى عن الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا وأن يزوره ويزورهم ، وحكى عن داود الجواربي أنه قال :

«اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك»] (٢). إلى غير ذلك من المنكرات التي تشمئز منها النفوس ، وتتكهرب لها الأفئدة والعقول ، آخذين بظواهر النصوص من دون رجوع إلى المحكمات وأحكام العقول.

ولو قيل : إننا أردنا المجاز بهذا الكلام.

قلنا لهم : عليكم أن تأتوا بقرائن تبيّن المراد وتجلى غوامض الأسرار ، وإلّا فعند الإطلاق فلا يحمل الكلام إلّا على المتعارف من الأجسام ، هذا بالإضافة إلى أن ابن كثير والرازي والبخاري وغيرهم نصبوا قرينة على مرادهم وأنّ الرؤية البصرية جائزة ، فحينئذ لا مجال لدعوى المجاز.

__________________

(١) شرح المواقف ج ٨ / ١١٥.

(٢) الملل والنّحل ج ١ / ١٠٥.

٨٦

وأنه مثل الإنسان يضحك ويبكي*.

____________________________________

(١) روى أحمد بن حنبل عن أبي رزين قال :

قال رسول الله : ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ، قال : قلت : يا رسول الله أويضحك الرب؟

قال : نعم. قلت : لن نعدم من ربّ يضحك خيرا (١).

وروى ابن خزيمة قال : «أي والذي نفسي بيده أنه ليضحك» (٢).

وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن إسماعيل أبي معمر ، قال : حدّثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله : ضحك ربنا من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يصيران إلى الجنّة (٣).

وما رواه إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ قال : ... فيقول الله له ـ أي لمن أدخله الجنّة ثم لم يزل يطلب منزلة أرفع من أخرى ـ : لن ترضى أن أعطيك مثل الدنيا مذ يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟ فيقول : أتستهزئ بي وأنت ربّ العالمين؟

قال : فضحك الربّ من قوله. قال : فرأيت ابن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن قد سمعتك تحدّث هذا الحديث مرارا كلما بلغت هذا المكان من هذا الحديث ضحكت ، فقال ابن مسعود : إني سمعت رسول الله يحدّث بهذا الحديث مرارا ، كلما بلغ هذا المكان

__________________

(١) السنّة ص ٥٤ / عبد الله بن أحمد بن حنبل.

(٢) التوحيد ص ٢٣٥ / محمد بن إسحاق بن خزيمة.

(٣) السنة ص ١٦٦ ورواه ابن خزيمة بأسانيد مختلفة.

٨٧

من هذا الحديث ضحك حتى تبدو آخر أضراسه ، الحديث (١).

ورواه ابن خزيمة عن ابن مسعود وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

وقد تأول ابن خزيمة صفة ضحك الرب تأويلا باردا فقال :

«لا يشبه ضحكه ضحك المخلوقين ، وضحكهم كذلك ، بل نؤمن بأنه يضحك كما أعلم النبيّ ونسكت عن صفة ضحكه جلّ وعلا ، إذ الله عزوجل استأثر بصفة ضحكه لم يطلعنا على ذلك ، فنحن قائلون بما قال النبيّ مصدّقون بذلك بقلوبنا منصتون عمّا لم يبيّن لنا ، مما استأثر الله تعالى بعلمه» (٢).

يرد عليه :

أن المراد من ضحكه شيئان :

إما أن يكون كضحكنا الملازم لبدو الأسنان والفم.

وإما أن يكون مختلفا بالماهية عمّا ذكرنا ، ولا شيء آخر غيرهما ، لكون الأمر دائرا بين القبول تماما أو الرد كذلك ، والقول بأنه يضحك ولا نعلم حقيقته لا نعلم له وجها بل هو خلاف القسمة العقلية الدائرة بين النفي والإثبات ، وما ادّعاه ابن خزيمة تماما كدعوى التثليث عند النصارى ، حيث لمّا عجزوا عن تفسيره بما ينسجم مع منطق العقل ادّعوا : أن التثليث فوق مستوى عقول البشر ، قال صاحب معجم اللاهوت :

«الثالوث هو سر في المعنى الحصري ، ومن غير الممكن أن يعرف من دون وحي ، والذي لا يمكن حتى وإن أوحي به أن يسبر غوره العقل المخلوق» (٣).

وعليه فإن صاحب المعجم أراح أتباع الكنيسة من فهم الثالوث لكونها عقيدة

__________________

(١) السنة ص ٢٠٨.

(٢) التوحيد لابن خزيمة ص ٢٣١.

(٣) معجم اللاهوت ص ٩٧ مادة الثالوث.

٨٨

لا يمكن فهمها حتى بالوحي على حدّ زعمه ، لذا فليس لأحد من البشر أن يفهمها حتى بالوحي ، فيجب أن تكون هذه العقيدة إما للمجانين الذين لا عقل لهم حتى ينهاهم عن قبول المتناقضات ، وإما لكائنات أخرى عقولها فوق عقول البشر ، وكذا ما صوّره لنا ابن خزيمة فهو إما للمجانين ، وإما لكائنات عقولها فوق مستوى عقولنا ، فلسنا بمكلّفين بالاطّلاع عليها ، فإذا كانت بهذه المثابة فلم ذكرتها الأحاديث بزعمهم ما دامت خارجة بفهمها عن إدراك العقل لها ، وهل يمكن للنبيّ أن يستعرض أفكارا أمام السذّج من المسلمين مع أنه قال : إنّا معشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم؟!

هذا من جهة الضحك ، وأما ما نسبوه إلى الربّ من البكاء ، فقد روى الشهرستاني عن بعضهم ، قالوا :

إن الله سبحانه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه (١).

* * * * *

__________________

(١) الملل والنحل ج ١ / ١٠٦.

٨٩

وله يد ورجل وعين وعورة ، ويدخل رجله في النار يوم القيامة ، وأنه لينزل من السماوات إلى سماء الدنيا على حمار له (١).

____________________________________

(١) أما أن له يدا ، فهناك الكثير من الأخبار التي أوردها العامة ، منها ما أثبته عبد الله بن أحمد بن حنبل :

* عن عكرمة قال : إن الله لم يمس بيده شيئا إلا ثلاثا : خلق آدم بيده ، وغرس الجنّة بيده ، وكتب التوراة بيده (١).

* وعنه أيضا قال : قرأت على أبي ، حدّثنا إسحاق بن سليمان ، حدّثنا أبو الجنيد ـ شيخ كان عندنا ـ عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير أنهم يقولون : إن الألواح من ياقوتة لا أدري قال حمراء أو لا؟ وأنا أقول سعيد بن جبير يقول : إنها كانت من زمردة وكتابتها الذهب ، وكتبها الرحمن بيده ، ويسمع أهل السماوات صرير القلم (٢).

* وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة عن رسول الله قال : لمّا خلق الله الخلق كتب كتابا وجعله تحت العرش : إن رحمتي تغلب غضبي (٣).

* وعن ابن خزيمة أيضا قال ، قال رسول الله : إن الله تعالى يفتح أبواب السماء في ثلث الليل فيبسط يديه فيقول : ألا عبد يسألني فأعطيه (٤).

وقد روى ابن خزيمة أحاديث كثيرة في نزول الله إلى السماء الدنيا كل ليلة ، ووصفها بأنها أخبار صحيحة السند والدلالة.

__________________

(١) السنّة ص ٢٠٩.

(٢) السنّة ص ٧٦.

(٣) التوحيد ص ٥٨.

(٤) التوحيد ص ٥٨ وصحيح البخاري ج ١ / ٢٠٠ باب الدعاء والصلاة وفي ج ٤ / ١٠١ الدعاء نصف الليل.

٩٠

* وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : ينزل الله في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل ، فينظر الله في الساعة الأولى منهنّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ، وينظر في الساعة الثانية في عدن وهي مسكنه التي يسكن ، لا يكون معه فيها إلّا الأنبياء والصدّيقون والشهداء ، فيها ما لم يخطر على قلب بشر ، ثم يهبط في آخر ساعة من الليل فيقول : ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له ، ألا سائل يسألني فأعطيه ، ألا داع يدعوني فأستجيب له ، حتى يطلع الفجر (١).

* وعن المصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمّد .. عن رسول الله قال : ينزل الله ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لكل إنسان إلّا إنسانا في قلبه شحناء أو مشرك بالله(٢).

وأمّا أن له رجلا ، فالأخبار من مصادر العامة كثيرة منها ما رواه ابن حنبل وابن خزيمة ، وإليك ـ أخي القارئ ـ بعضا منها :

* قال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ... عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله :

يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه أو رجله عليها فتقول : قط قط (٣).

* وروى ابن خزيمة ، عن أبي هريرة عن رسول الله قال : ... وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها فتقول قط قط ، فهنالك تمتلئ (٤).

* وعن أبي هريرة (في حديث) : فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله

__________________

(١) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ / ٩٨.

(٢) ميزان الاعتدال ج ٢ / ٦٥٩.

(٣) السنّة ص ١٨٤.

(٤) التوحيد ص ٥٩ وصحيح مسلم ج ٢ / ٤٨٢.

٩١

(يعني الله تعالى) فتقول : قط قط فهناك تمتلئ ، ويزوي بعضها إلى بعض (١).

* وعن مسلم عن أنس عن النبيّ قال :

لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد حتى يضع ربّ العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط ، بعزتك وكرمك ، ولا يزال فضل الجنّة حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة (٢).

* وعن ابن حنبل قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : جاءت امرأة إلى النبيّ فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنّة ، قال : فعظم الرب وقال : وسع كرسيه السماوات والأرض ، إنه ليقعد عليه فما يفضل منه إلّا قيد أربع أصابع وأن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب (٣).

وغيره كثير فلاحظ (٤).

وأمّا أن له عينا ، فما رواه ابن خزيمة فيه الكفاية ، قال :

نحن نقول لربّنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى وما بينهما من صغير وكبير .. إلى أن قال : كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه ، وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون لها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم مما لا حجاب ولا ستر بين المرئي وبين أبصارهم ... ثم استطرد في ذكر نواقص عيون بني آدم ثم قال : فما الذي يشبه ـ يا ذوي الحجا ـ عين الله الموصوفة بما ذكرنا ، عيون بين آدم التي وصفناها

__________________

(١) التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للزبيري ج ٣ / ١١٣ ، ط / مصر.

(٢) صحيح مسلم ج ٢ / ٤٨٢.

(٣) السنّة ص ٨٠.

(٤) السنّة لابن حنبل ، والتوحيد لابن خزيمة ، ومسند أحمد ج ١ / ٢٥٦ وتاريخ بغداد ج ١٣ / ٣١١ ، ط / مصر.

٩٢

بعد (١). وعن معاذ بن عفراء أنّ النبيّ قال : رأيت ربي في صورة شاب عليه تاج يلتمع البصر(٢).

وأمّا أن له عورة ، فلما رواه الشهرستاني عن داود الجواربي حيث قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك.

وحكى عنه أيضا أنه قال : «هو أجوف من فيه إلى صدره».

أيضا فإن له اصبعا ، فقد روى ابن حنبل عن النبيّ قال : إن الله يمسك السماوات على إصبع ، قال أبي : وجعل يحيى يشير بأصابعه ، وأراني أبي كيف جعل يحيى يشير بأصابعه يضع اصبعا حتى أتى على آخرها (٣).

* وروى أيضا : أن يهوديا أتى النبيّ فقال : يا محمّد إن الله يمسك السماوات على اصبع والأرضين على اصبع ، والجبال على اصبع ، والخلائق على اصبع ، ثم يقول : أنا الملك. فضحك رسول الله صلّى الله عليه [وآله] حتى بدت نواجذه ؛ ثم قال : وما قدروا الله حق قدره (٤).

* وقال حدّثني أحمد بن إبراهيم سمعت وكيعا يقول : تسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف كنا ، ولا لم كذا ، يعني مثل حديث ابن مسعود «إن الله يحمل السماوات على إصبع والجبال على اصبع» وحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] قال : «قلب ابن آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» ونحوها من الأحاديث (٥).

وأورد أخبارا مفادها أن الله تعالى حيث تجلّى للجبل فجعله دكّا إنما تجلّى باصبعه ، ضربه على رأس الجبل فاندكّ.

__________________

(١) التوحيد ص ٥١.

(٢) كنز العمال ج ١ / ٢٢٨ حديث رقم ١١٥٤.

(٣) السنّة ص ٦٣.

(٤) السنّة ص ٦٢ ـ ٦٤.

(٥) السنّة ص ٦٤.

٩٣

* منها حدثني محمّد بن أبي بكر المقدسي : حدثنا هريم حدثنا محمّد بن سواء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] : «فلما تجلّى ربّه للجبل» قال : هكذا ، وأشار بطرف الخنصر يحكيه (١).

* ومنها ما ذكره ابن خزيمة قال : حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] : «لما تجلّى ربّه للجبل» رفع خنصره وقبض على مفصل منها ، فانساخ الجبل. فقال له حميد : أتحدّث بهذا؟ فقال : حدّثنا أنس عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وتقول : لا تحدّث به (٢).

* كما أن لله عزوجل ذراعين وصدرا عند هؤلاء ، فقد روى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدثني سريج بن يونس ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال :

ليس شيء أكثر من الملائكة ، إن الله خلق الملائكة من نور ، فذكره وأشار سريج بيده إلى صدره ، قال : وأشار خالد إلى صدره فيقول : كن الف الف ألفين فيكونون (٣).

* وعن عبد الله بن عمرو قال : خلقت الملائكة من نور الذراعين والصدر (٤).

وهكذا فإن لله تعالى وجها أيضا ، فمنها ما رواه عبد الله بن أحمد قال : حدثني أبي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن عجلان ، حدثني سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل قبّح الله

__________________

(١) السنّة ص ٦٥.

(٢) التوحيد ص ١١٤.

(٣) السنّة ص ١٩٠.

(٤) السنّة ص ١٩٠.

٩٤

وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فإن الله خلق آدم على صورته (١).

* وعن ابن عمر قال : قال رسول الله : لا تقبّحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن (٢).

بل إن هذا الإله يلبس نعلين من ذهب ، فقد أخرج الخطيب البغدادي عن مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل ـ امرأة أبي ـ أنها سمعت النبيّ يذكر أنه رأى ربّه تعالى في المنام في أحسن صورة شابا موفرا رجلاه في خف عليه نعلان من ذهب ، على وجهه فراش من ذهب (٣).

وأما ما ذكره متن المؤتمر من أن الربّ عزوجل ينزل من السماوات إلى سماء الدنيا على حمار له ، فواضحة حيث ذكر ذلك العلّامة الحلي في نهج الحق أيضا ناقلا لها عن المصادر العامية ، ولم يستنكر عليه الفضل بن روزبهان الأشعري الذي ردّ على الحلي في كتابه المطبوع في إحقاق الحق ، حيث وافق على كلام الحلي بأن من مذهب أحمد بن حنبل ترك التأويل وتوكيل العلم بالمتشابهات إلى الله تعالى ، هذا مضافا إلى اعترافه أن المجسّمة فرقة باطلة وليسوا من الأشاعرة.

ونحن نسأل الناصبيّ ابن روزبهان :

هل أنّ البخاري وابن كثير والآمدي وأبا الحسن الأشعري وابن حنبل وأضرابهم من المجسّمة أيضا؟ أو أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟

ما هكذا تورد يا نحس الإبل!

هذا وقد أورد عليه العلّامة التستري من أن الكرامية ومقاتل ومضر وكهمس وأحمد الهجيمي وغيرهم من أهل السّنّة وهؤلاء قالوا : إن الله ـ جلّ وعلا ـ صورة

__________________

(١) السنّة ص ١٩٩ ، وكنز العمال ج ١ / ٢٢٧ رقم الحديث ١١٤٦.

(٢) السنّة ص ٦٤ ، وكنز العمال ج ١ / ٢٢٧ حديث رقم ١١٤٨.

(٣) تاريخ بغداد ج ١٣ / ٣١١.

٩٥

ذات أعضاء وأبعاض ، بل له عورة ، قال ابن أبي الحديد : قال بعضهم : سألت معاذ العنبري فقلت : أله ـ أي للرب ـ وجه؟ قال : نعم ، حتى عددت جميع الأعضاء من أنف وفم وصدر وبطن ، واستحييت أن أذكر الفرج ، فأومأت بيدي إلى فرجي ، فقال : نعم ، فقلت : أذكر أم انثى؟ فقال : ذكر (١).

* * * * *

__________________

(١) محاورة حول الإمامة والخلافة ص ٨٠ نقلا عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ط أولى ج ١ / ٢٩٤.

٩٦

قال العبّاسي :

وما المانع من ذلك ، والقرآن يصرّح به (وَجاءَ رَبُّكَ) (الفجر / (٢)) ويقول (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (القلم / (٢) (٤) ويقول (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح / ٠ (١) والسنّة أوردت ـ أحاديث ـ بأن الله يدخل رجله في النار (١).

قال العلوي :

أما ما ورد في السنّة والحديث فهو باطل عندنا وكذب وافتراء ، لأنّ أبا هريرة وأمثاله كذبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أن عمر منع أبا هريرة (٢) عن نقل الحديث وزجره.

____________________________________

قد تقدم بعض الأحاديث الدالة على ذلك.

من هو أبو هريرة؟

أبو هريرة الدّوسي ، من دوس ، قبيلة يمنية ، نشأ يتيما وكان أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطنه ، فكان يخدم إذا نزلوا ويحدوا إذا ركبوا ، وكان في الإسلام من أصحاب الصفة (١).

وكنّي بأبي هريرة نسبة لهرة صغيرة كان يلعب بها على حدّ تعبيره معرّفا نفسه ، فعن عبد الله بن رافع قال :

قلت لأبي هريرة : لم اكتنيت بأبي هريرة؟ قال : أما تفرق مني؟

قلت : بلى ، والله إني لأهابك ، قال : كنت أرعى غنم أهلي ، وكانت لي

__________________

(١) «الصفة» موضع مظلل في مؤخرة مسجد النبيّ ، وأهل الصفة : أناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر ، ينامون في المسجد ويظلون فيه ، وكان إذا تعشى رسول الله يدعو منهم طائفة يتعشون معه ، ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم.

٩٧

هريرة صغيرة ، فكنت أضعها بالليل في شجرة ، فإذا كان النهار ذهبت بها معي ، فلعبت بها ، فكنّوني أبا هريرة (١).

وقيل : رآه رسول الله وفي كمه هرة ، فقال : يا أبا هريرة (٢).

كان صحابيا ، أسلم عام خيبر (٣) ، وعليه تكون صحبته للنبيّ حدود سنتين أو ثلاث على أبعد التقادير.

وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا لا يحاط به ، ولا يضبط في الجاهلية والإسلام ، وقد غلبت عليه كنيته ، فهو كمن لا اسم له غيرها ، وقد نسي اسمه الأصلي نتيجة الاختلاف في الاسم. وكما قال ابن الأثير : «لم يختلف في اسم آخر مثله ولا ما يقاربه. فقيل : عبد الله بن عامر ، وقيل : برير بن عشرقة ، ويقال : سكين بن دومة ، وقيل : عبد الله بن عبد شمس ، وقيل : عبد شمس ، قاله يحيى بن معين ، وأبو نعيم ، وقيل : عبد نهم ، وقيل : عبد غنم.

وقال ابنه المحرّر بن أبي هريرة : اسم أبي ؛ عبد عمرو بن عبد غنم.

وقال عمرو بن علي الفلّاس : أصح شيء قيل فيه : عبد عمرو بن غنم.

وقال الهيثم بن عدي : كان اسمه في الجاهلية : عبد شمس ، وفي الإسلام : عبد الله» (٤).

وقد وقع الاختلاف في اسمه ، حتى بلغت إلى ثلاثين قولا (٥) ، وقال القطب الحلبي : اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا مذكورة في الكنى

__________________

(١) أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٦ / ٣١٤ وأخرجه الترمذي ج ٥ / ٦٤٤ ح ٣٨٤٠ وقال حسن غريب. وأضواء على السّنّة المحمّدية ص ١٩٦ / محمد أبو رية. والاستيعاب ص ٧١٨.

(٢) أسد الغابة ج ٦ / ٣١٤.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الإصابة في تمييز الصحابة ج ٤ / ٢٠٤.

٩٨

للحاكم ، وقد اختلفوا في تاريخ إسلامه أيضا ، فمنهم من قال : أسلم في السنة السادسة للهجرة ، ومنهم من قال : في السنة السابعة. فبمقدار سني إسلامه حكموا بصحبته لرسول الله (١) ، لأن الصحابي عند العامة هو كل من رأى النبيّ أو سمع منه حديثا.

وكذا اختلفوا في أصله سوى أنه من عشيرة سليم بن فهم من قبيلة أزد ثم من دوس. قدم الدوسيون وفيهم أبو هريرة ورسول الله بخيبر ، فكلّم رسول الله أصحابه في أن يشركوا أبا هريرة في الغنيمة ففعلوا ، ولفقره اتخذ سبيله إلى الصفة بعد ما عاد إلى المدينة فعاش بها ما أقام بالمدينة.

وكان أبو هريرة صريحا في الإبانة عن سبب صحبته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان صريحا صادقا في الكشف عن حقيقة نشأته ، فلم يقل إنّه صاحبه للمحبة والهداية ، كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين وإنما قال :

«إنه قد صاحبه على ملء بطنه» ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال : سمعت أبا هريرة يقول : «إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني».

وفي رواية لمسلم : «كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله على ملء بطني» وسجّل التاريخ أنه كان أكولا نهما ، يطعم كل يوم في بيت النبيّ ، أو في بيت أحد أصحابه ، حتى كان بعضهم ينفر منه.

ومما رواه البخاري عنه أنه قال : كنت استقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني ، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب ، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته ، وروى الترمذي عنه : وكنت إذا سألت جعفر عن آية لم يجبني حتى يذهب إلى منزله ، ومن أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعا ، فقدّمه على أبي بكر وعمر وعثمان ، لذا أخرج الترمذي

__________________

(١) الإصابة ج ٤ / ٢٠٦.

٩٩

والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال : ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ، ولا وطئ التراب ، بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب (١).

قال ابن قتيبة في المعارف :

«وقال أبو هريرة : نشأت يتيما وهاجرت مسكينا ، وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني ، وعقبة رجلي ، فكنت أخدم إذا نزلوا ، وأحدوا إذا ركبوا ، وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها» (٢).

ومن ألقابه : «شيخ (٣) المضيرة» وسبب تلقيبه بهذا أنه كان أكولا يحب الطعام وخصوصا المضيرة مع معاوية ، فإذا حضرت الصلاة صلّى خلف الإمام عليّ عليه‌السلام ، فإذا قيل له في ذلك قال : مضيرة معاوية أدسم وأطيب ، والصلاة خلف عليّ أفضل.

وكان يقول : ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار ، وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر.

وقد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة ، فقد سئل : ما المروءة؟ قال : تقوى الله وإصلاح الصنيعة ، والغداء والعشاء بالأفنية (٤).

ورغم صحبته القليلة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي لم تتجاوز العامين (٥) ، فقد روى الجمّ الغفير من الروايات بحيث لم يسبقه سابق ولم يلحقه لاحق ، وذكر أبو محمد ابن حزم أن مسند ابن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية ص ١٩٧ بتصرف ببعض الألفاظ.

(٢) الإصابة ج ٤ / ٢٠٩ وفيه : «كنت أجيرا لبرة بنت غزوان».

(٣) «المضيرة» : طبيخ يتخذ من اللبن الماضر أي الحامض ، والمضيرة عند العرب أن تطبخ اللحم باللبن ، وربما خلطوا الحليب مع الحقين ـ اللبن ـ وهو حينئذ أطيب ما يكون. لاحظ لسان العرب ج ٥ / ١٧٨ ومجمع البحرين ج ٣ / ٤٨٢.

(٤) أضواء على السنة ص ١٩٩.

(٥) شيخ المضيرة / محمود أبو رية ، والبداية والنهاية ج ٨ / ٨٧ ، ط / دار الكتب العلمية.

١٠٠