أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

ترتضى بقول الله عزوجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي عوجاء (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) ـ إلى قوله ـ (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه ، قالت قريش ندم محمّد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله فغيّر ذلك بغيره وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه ..» (١).

٢ ـ وقال أيضا حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال حدثني حجاج عن أبي معشر عن محمّد بن كعب القرظي ومحمّد بن قيس قالا : جلس رسول الله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه فأنزل الله عزوجل (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) فقرأها رسول الله حتى إذا بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان عليه كلمتين تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترجى فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلها فسجد في آخر السورة وسجد القوم معه جميعا ، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود فرضوا بما تكلم به ، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإذا جعلت لها نصيبا فنحن معك ، قالا فلما أمسى أتاه جبريل عليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله إليه (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) فما زال مغموما مهموما حتى نزلت (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) ـ إلى قوله ـ (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال فسمع من

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٧٥ ـ ٧٦.

٦١

كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا هم أحب إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ثم قام ..» (١).

٣ ـ وقال الشيخ جلال الدين السيوطي : وأخرج عبد بن حميد من طريق السدي ، عن أبي صالح قال : قام رسول الله فقال المشركون : إن ذكر آلهتنا بخير ، ذكرنا إلهه بخير ف (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [إنهن لفي الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى]. قال : فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) فقال ابن عباس : إن أمنيته أن يسلم قومه (٢).

٤ ـ وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال :

إنّ رسول الله قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى» ففرح المشركون بذلك ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال : اقرأ عليّ ما جئتك به ، فقرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى ، فقال : ما أتيتك بهذا! هذا من الشيطان ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) (٣) إلى آخر الآية.

٥ ـ وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة أنزل عليه في آلهة العرب ، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها ، فسمعه أهل مكة وهو يذكر آلهتهم ، ففرحوا بذلك ودنوا يسمعون ، فألقى الشيطان في تلاوته : تلك الغرانيق

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) تفسير الدر المنثور ج ٤ / ٦٦١ سورة الحج : ٥٢.

(٣) تفسير الدر المنثور ج ٤ / ٦٦١.

٦٢

العلى منها الشفاعة ترتجى ، فقرأها النبيّ كذلك ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) إلى قوله (حَكِيمٌ) (١).

ثم ساق السيوطي على نسق ما تقدم جما وفيرا من النصوص من طريق مجاهد ، والسدي ، وعكرمة وعروة وابن شهاب وقتادة وأبي العالية وابن المنذر وابن جريج وابن عبّاس وعبد الرحمن بن الحارث ، كما أخرج من طريق الكلبي وابن جرير والبزار والطبراني وابن مردويه وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور والبيهقي في الدلائل والطبراني.

٦ ـ وقال الجصّاص (٢) :

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الآية.

روى عن ابن عبّاس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، ومحمّد بن كعب ، ومحمّد ابن قيس ، أنّ السبب في نزول هذه الآية أنه لما تلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان في تلاوته : «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى».

٧ ـ وقال النيسابوري : «قال عامة المفسّرين في سبب نزول هذه الآية : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا شق عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفّرهم لحرصه على إيمانهم ، وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة النجم إذا هوى فأخذ يقرؤها عليهم حتّى بلغ قوله : أفرأيتم اللّات والعزّى ، ومناة الثالثة الأخرى ، وكان ذلك التمنّي في نفسه فجرى على لسانه : «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، ومضى رسول الله في قراءته حتى ختم السورة فلمّا سجد في آخرها ، سجد معه جميع من

__________________

(١) نفس المصدر ج ٤ / ٦٦٢.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص ج ٣ / ٢٤٦ طبعة اوفست لاهور / باكستان.

٦٣

في النادي من المسلمين والمشركين فتفرقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر (١).

٨ ـ قال الزمخشري : «والسبب في نزول هذه الآية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ..) إن رسول الله لمّا أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به : تمنّى لفرط ضجره من أعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيّهم وعنادهم ، فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (والنجم) وهو في نادي قومه ، وذلك التمنى في نفسه ، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله (ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان في أمنيته التي تمناها أي : وسوس إليه بما شيعها به ، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهنّ لترتجى. وروي : الغرانقة ، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه ، وقيل : نبهه جبريل عليه‌السلام ، أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم ، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء ...» (٢).

وروى أسطورة الغرانيق غير ما قدّمناه (٣) ، ونسبها الرازي إلى عامة المفسرين الظاهريين (٤).

هذه هي خلاصة أسطورة «الغرانيق» التي أوردها ـ ليس الطبري فحسب ـ بل عامة المفسرين الظاهريين بل والمؤرخين أيضا ، وبات يرددها المستشرقون المغرضون ، فاتخذوها ذريعة لضرب الإسلام وللتشكيك بمعتقداته ، لا سيّما بالقرآن الكريم مصدر التشريع والتقنين عند المسلمين ، فإذا سهل النيل منه ، نالوا

__________________

(١) تفسير غرائب القرآن للنيسابوري ج ١٧ / ١٠٤ بهامش تفسير الطبري ، طبع بولاق ـ مصر.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ / ١٦١ ، سورة الحج : ٥٢.

(٣) أمثال : الشربيني في تفسيره السراج المنير ج ٣ / ٥٥٩ ، وتفسير الطبري : جامع البيان ج ٩ / ١٧٣.

(٤) تفسير الرازي ج ٢٣ / ٥٠ سورة الحج.

٦٤

من اتباعه من خلال التشكيك بالقرآن ككتاب سماوي نزل به روح القدس من رب العالمين على قلب رسول الرحمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالفعل بدأت هذه الحملات تطأ بأذيالها بين الحين والآخر ، وآخرها ما نفثه سلمان رشدي عليه اللعنة حيث نسب إلى رسول الله ما نسبه السيوطي والطبري وأمثالهما ، فقد ادّعى المذكور أن ما نزل على النبي إنما هو آيات شيطانية تلاها الشيطان على النبيّ ، معتمدا في كتابه «آيات شيطانية» على ظواهر بعض الآيات المتشابهات كآية ٥٢ من سورة الحج وغيرها ، وبما رواه علماء العامّة من أن النبيّ تلا «تلك الغرانيق العلى» وتبعه على ذلك جرجس سال في كتابه : مدّعيا أن : «محمّدا نفسه جاء بكلام يضاهي في فصاحته كلام القرآن وذلك أنه قرأ ذات يوم سورة النجم التي ادّعى أنها نزلت عليه فلما بلغ منها إلى قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ..) بدره لسانه فقال : تلك الغرانيق ..» (١).

ولنفرض أن سيّدنا محمّدا لم يكن نبيّا مرسلا ، ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته وفطنته وعقله ، وهل لعاقل فطن ، محنّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟

إن الذكي اللبيب الذي يجد أنصاره يتكاثرون ويتزايدون يوما بعد يوم ، وتقوى صفوفهم أكثر فأكثر ، بينما تتفرق صفوف أعدائه ومناوئه ويتناقص معارضوه وخصومه ، هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب أن يسيء الجميع ظنهم به ، ويشك الصديق والعدو في أمره؟

العقلاء لا يصدّقون أن رجلا ترك جميع المناصب والأموال التي عرضتها قريش عليه ، في سبيل التنازل عن عقيدته ودينه أن يصبح دفعة واحدة من دعاة الشرك ، بل ومن المروجين للوثنية!!

إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حق مصلح أو سياسي محنّك من الساسة والمصلحين فكيف برسول الله ونبيه العظيم؟!

__________________

(١) أسرار عن القرآن ص ٤٨ تعريب وتذييل : هاشم العربي.

٦٥

أسطورة الغرانيق باطلة :

إن أسطورة الغرانيق باطلة ومردودة بوجوه :

الأول : حكم العقل بضرورة عصمة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام عن أي خطأ وزلل بقوة ملكوتية ، إذ لو تعرّض مثل هؤلاء إلى الخطأ والسهو والزلل في أمور الدين وشئونهم العادية ، لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم ، وقد أسهبنا بذكر الأدلة على عصمتهم في كل الشئون التبليغية وغيرها في البحوث السابقة فلا نعيد.

ومن المسلّم أن عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.

والقصة المزعومة تثبت السهو لرسول الله في القراءة وهي نوع تبليغ للوحي قد قامت الأدلة العقلية والنقلية على قبحه.

أما العقل : فلأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو سها في التبليغ ـ أي القراءة هنا ـ لم يأمن عليه السهو في تبليغ الوحي للآخرين ـ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيصال الأحكام إلى المكلّفين ـ فينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر سهوا ، أو يقلب الحلال إلى الحرام وبالعكس سهوا ، وكل ذلك باطل صدوره منه عليه‌السلام.

مضافا إلى ذلك فإن السهو في تبليغ الوحي مجمع على بطلانه في حق الأنبياء والمرسلين والأولياء عليهم‌السلام فيكون منفيا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما الشرع : فلقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (١) وقوله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٢).

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٣).

__________________

(١) سورة الأعلى : ٦.

(٢) سورة الإسراء : ٧٣.

(٣) سورة الإسراء : ٧٤.

٦٦

وكلمة «لو لا» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وقراءته عليه‌السلام ـ كما يزعمون ـ وفرح المشركين بذلك يعدّ ركونا إليهم وهو منهي عنه ، فيقبح صدوره من النبي لأنه يخل بفائدة البعثة.

الثاني : كيف يعظّم الرسول الأوثان ، وقد كفّر الله تعالى من عظّمها ، هذا مع أن الضرورة قاضية إن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ، فلو صدر منه ما إليه نسبوه لأغرى الناس بالقبيح وهو بحكم العقل يعتبر قبيحا يتنزه عنه النبيّ ، مع التأكيد على أن صدور مثل ذلك يخل بفائدة بعثته لا يصح صدوره منه.

الثالث : إن هذه الأسطورة تقوم أساسا على أن النبيّ قد تعب من أداء مهمّته التي ألقاها الله سبحانه عليه ، وقد شقّ عليه ابتعاد الوثنيين عنه ، فكان يبحث عن مخلص من هذا الوضع المتعب ، يكون طريقا ـ حسب تصوره ـ إلى إصلاح وضعهم!!

ولكنّ العقل يقضي بأن على الأنبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر مما يتصور ، وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك ، فلا يحدّثوا أنفسهم بالتهرب من المسئولية مهما اشتدت الظروف ، وتأزمت الأحوال والأمور.

بينما لو صحت هذه الأسطورة لقضت على حكم العقل السليم في حق الأنبياء وأن عليهم الصبر والثبات والاستقامة ، مضافا إلى أن ذلك لا يتفق مع ما عهدناه من رسول الله من الصدق بالقول والأمانة في النقل والدقة في الكلام.

الرابع : إن الآيات التي وقعت بعد الجملتين المضافتين ، شاهد صدق على كذب الرواية ، وذلك لأن قوله تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (١).

هذه الآية الشريفة تندد بالمشركين لاعتقادهم بالأوثان ، بل وتعنّف بآلهة

__________________

(١) سورة النجم : ٢٢ ـ ٢٣.

٦٧

المشركين ، فكيف رضي الوليد بن المغيرة عن رسول الله هذا الثناء القصير ، وغفل عن الآيات اللاحقة التي نددت بآلهتهم؟!!

أوليس هنا دليلا ساطعا على أن جاعل القصة من الوضاعين الكذابين حيث افتعل القصة في موضع غفل عن أنه ليس محلا لها؟!

الخامس : إن الله جلّ وعزّ وصف في صدر السورة المباركة نبيّه الأكرم بقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، هنا نسأل : كيف يصح بأن ينسب له عزوجل أن يصف رسوله الكريم في أول السورة بهذا الوصف ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف ، وفي وسعه تعالى صون نبيه عن الانزلاق الخطر وهو الاعتراف بآلهة المشركين ، مضافا إلى أن الجملتين الزائدتين اللتين ألصقتا بالآيات كذبا وزورا ، تكذّبها سائر الآيات الدالة على صيانة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخطأ والسهو والنسيان في مقام الوحي ، والتحفظ عليه ، كما في قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (١) وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣).

السادس : لو كان كما ذكر القوم من أن الشيطان ألقى على لسانه ، لدل على أن الشيطان أجبر النبيّ ، وهذا باطل ، وذلك :

أولا : أنه لو قدر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك لكان اقتداره علينا أكثر ، فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ، ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار إبليس.

ثانيا : إن الله تعالى قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي

__________________

(١) سورة الجن : ٢٧.

(٢) سورة الحاقة : ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) سورة الفرقان : ٣٢.

٦٨

فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

وقال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (٢).

وقال تعالى : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣).

ولمّا لم يكن للشيطان ولاية بالخطإ والسهو والنسيان وما شابه ذلك على المخلصين فكيف يصح أن يقال أن الشيطان أجرى على لسان النبيّ تينك الكلمتين ، أليس ذاك إغواء من إبليس لأعظم مخلص في عالم الإمكان ، وقد أخذ الله المواثيق على الأنبياء والمرسلين بالإيمان به والتصديق بما سيجيء منه؟!

فإذا لم تكن للشيطان ولاية على المخلصين ، فلا أحد يشك أن سيّد ولد آدم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سيّد المخلصين مطلقا.

السابع : قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بما ليس بقرآن ، فالأولى أن يمنع الشيطان ذلك من الأصل حتى لا يوقع المكلّفين في الشبهة.

بهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، اختلقها أعداء الرسالة لينقّصوا من شخصية رسول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وعليه فيكون المقصود من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٢) سورة النحل : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) سورة ص : ٨٢ ـ ٨٣.

٦٩

إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (١) هو أن الأنبياء والمرسلين يحبون هداية أممهم ، ونشر دينهم وتعاليمهم فيها ، فكانوا يخططون ـ طبقا للأسباب الظاهرية ـ خططا لتحقيق أهدافهم هذه ، ولم يكن الرسول محمّد مستثنى عن هذه القاعدة العقلائية ، فقد كان يخطط لتحقيق أهدافه أو أنه يتمنى أن تنفذ كل مخططاته ومشاريعه وأمنياته لكنّ إبليس اللعين وأعوانه من الجن والإنس كانوا يضعون العراقيل والموانع أمام الأنبياء والمرسلين والأولياء ، ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم.

وبالجملة : فقصة الغرانيق كذب وافتراء على رسول الله ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.

__________________

(١) سورة الحج : ٥٢ ـ ٥٣.

٧٠

قال الملك : فكيف يعتمد على قرآن محرّف؟

قال العلوي : اعلم أيّها الملك إنّا لا نقول بهذا الشيء وإنما هذه مقالة أهل السنّة ، وعلى هذا فالقرآن عندنا معتمد عليه لكنّ القرآن عند السنّة لا يمكن الاعتماد عليه!

قال العبّاسي :

وقد وردت بعض الأحاديث في كتبكم وعن علمائكم (١)؟

قال العلوي :

تلك الأحاديث أولا : قليلة ، وثانيا : هي موضوعة ومزوّرة وضعها أعداء الشيعة لتشويه سمعة الشيعة ، وثالثا : رواتها وأسنادها غير صحيحة ، وما نقل عن بعض العلماء ، فلا يعتمد على كلامهم ، وإنما علماؤنا الذين نعتمد عليهم لا يقولون بالتحريف ، ولا يذكرون كما تذكرون أنتم حيث تقولون إن الله أنزل آيات في مدح الأصنام ، وحاشاه ذلك : «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى».

قال الملك : دعوا هذا الكلام وتكلّموا في غيره.

قال العلوي : والسنّة ينسبون إلى الله تعالى ما لا يليق بجلال شأنه.

قال العبّاسي : مثل ما ذا؟

____________________________________

(١) قد عرفت ـ أخي القارئ ـ بما سبق من بحوث أن القول بعدم التحريف هو المتسالم عليه عند الشيعة الإمامية ، والقائل بالنقص قليل لا يعبّر عن رأي طائفة بأسرها.

٧١

قال العلوي : مثل أنّهم يقولون : إنّ الله جسم (١).

____________________________________

(١) اتفقت كلمة المسلمين الشيعة الإمامية «أيدهم المولى عزوجل» على أن الله ليس بجسم ، ويستحيل اتصافه تعالى بالآلات الجسمانية كالشم والذوق وبقية الحواس التي يتصف بها المخلوق ، وكذا يستحيل اتصافه تعالى بباقي الأعراض المفتقرة إلى الأجسام كالألوان والأضواء وغيرهما ؛ ودليلنا على الاستحالة : إن الضرورة قاضية بأن كل جسم لا ينفك عن الحركة والسكون ، وأنهما حادثان ، وأن كل حادث مفتقر إلى محدث وموجد ، فيكون واجب الوجود ـ على فرض كونه جسما ـ مفتقرا إلى مؤثر فيكون ممكنا فلا يكون واجبا ، وقد فرض أنه واجب.

وخالفنا في ذلك أكثر الأشاعرة ، لا سيّما الحنابلة منهم ، حيث إن من معتقداتهم القول بالتجسيم وأن الله تعالى جسم يجلس على العرش ويفضل عنه من كل جانب ستة أشبار بشبره وأنه ينزل في كل ليلة جمعة على حمار وينادي إلى الصباح : هل من تائب ، هل من مستغفر؟

وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها دون أن يلجئوا إلى التأويل ، فالآيات التي ذكر فيها الاستواء والوجه واليدان والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، حملوها على ظاهرها من دون حاجة إلى تأويل ، وصرف عن ظاهر اللفظ.

وأيضا حملوا الأخبار على ظواهرها من دون تأويل ، فقالوا : إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الله آدم على صورته».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن النار تزفر ، وتتغيّظ تغيظا شديدا فلا تسكن حتى يضع الله قدمه فيها ، فتقول : قط ، قط إي : حسبي ، حسبي».

وقوله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن».

وقوله : «خرّ طينة آدم بيده أربعين صباحا».

٧٢

وقوله : «وضع يده أو كفّه على كتفي حتى وجدت برد أنامله على كتفي» كلها أخبار حقيقية ـ بنظرهم ـ وليست مجازية تحمل على غير ظاهرها. وزادوا في الأخبار أكاذيب نسبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكثرها مقتبسة من أخبار اليهود والنصارى فإن التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : «اشتكت عيناه ـ أي عينيّ الله سبحانه وتعالى عمّا يقولون ـ فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وأن العرش ليئط (١) من تحته كأطيط الرّحل الحديد وأنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع» (٢).

وقد تمادى بعضهم فقال : «إن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض .. وحكى عن داود الجواربي أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك ، وقال : إن معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين .. وقال أيضا : إن ربّه أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك ، وأن له وفرة سوداء وله شعر قطط» (٣).

إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي يردّها حكم العقل السليم القائل بأن الله تعالى منزه عن الجسمية ولوازمها.

قال الشهرستاني : «إن جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ، ولا يؤولون ذلك .. ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف ، فقالوا لا بدّ من إجرائها على ظاهرها ، فوقعوا في التشبيه الصرف .. ولقد كان التشبيه صرفا خالصا في اليهود.

وقال من توقف في التأويل : عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء فلا يشبه شيئا من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء منها ، وقطعنا بذلك إلّا أنّا

__________________

(١) الأط : إحداث الصوت من ثقل ما يحمل.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٠٦ ، ط / دار المعرفة.

(٣) المصدر نفسه ج ١ / ١٠٥.

٧٣

نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٣) ولسنا بمكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها» (٤).

والأغرب من ذلك سكوت الشهرستاني عمّن شبّه الخالق بالمخلوق ، كمالك بن أنس ، وهجومه على بعض الغلاة من الشيعة الواقفية لا الإمامية ، وليس معنى ذلك إلّا لإظهاره النصب والعداوة على بعض المنتسبين إلى التشيع لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام.

قال : «إن جماعة من السلف ممن لم يتعرّض للتأويل ولم يهدف التشبيه ، أمثال مالك بن أنس إمام المالكية إذ قال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، ومثله أحمد بن حنبل وسفيان الثوري ..» (٥).

ليت شعري ، كيف جمع أنس بين الأضداد ، إذ يعلم من عبارته «الاستواء معلوم» إنه يقول بتجسيم الباري عزوجل ، فكيف يمكن تبرئة ساحته بالقول أنه لم يهدف التشبيه وهو يقول به صراحة؟

إضافة إلى أنه لم يغمز ـ أي الشهرستاني ـ أحمد بن حنبل بمغمز ولا أشار إليه بكلمة سوء ، مع اعترافه أنه ممن يعتقد بالتجسيم ، في حين صبّ جام غضبه على بعض غلاة الشيعة ، مع أنهم يشتركون مع مالك وأحمد وسفيان بالتجسيم!!

وبالجملة فإن مسألة التجسيم من المسائل المتسالم عليها عند الأشاعرة (٦) ،

__________________

(١) سورة طه : ٥.

(٢) سورة ص : ٧٥.

(٣) سورة الفجر : ٢٢.

(٤) الملل والنحل ج ١ / ٩٢.

(٥) الملل والنحل ج ١ / ٩٣.

(٦) الأشاعرة : هم عامة الفرق السنّية ، يرجعون إلى أبي الحسن الأشعري في الأصول والاعتقادات.

٧٤

وذلك لاتفاقهم أيضا على مسألة جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة بالبصر ، بل ادّعى أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين أن الله يرى بالبصر في الدنيا كما رآه موسى عليه‌السلام (١).

ومسألة التجسيم والرؤية البصرية لا تمت إلى الإسلام بصلة ، وتأثّر جمهور العامة بها له جذوره التاريخية ، ولعلّ تسربها آل إلى أكثر فرق المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان والقساوسة ، فصار ذلك مصدرا لبعض الأحاديث في المقام ، مما سبّب جرأة طوائف من المسلمين للأخذ بها ، واستدعاء الأدلة عليها ، هذا مضافا إلى أن جمهور العامة لا يقرون بالحسن والقبح العقليين.

ويشهد لما قلنا ما ذكره العهدان «القديم والحديث» نؤرّخ بعضا منها : فقد ذكرت التوراة للربّ صفات كثيرة ، وهذه الصفات كلها صفات بشرية ، فهو من نوع البشر ، وجميع صفاته مأخوذة من صفات وأوصاف آلهة الوثنيين ، فها هو يصرّح بأنّ الإنسان صار كواحد من الآلهة البشريين.

«وقال الربّ الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منّا عارفا الخير والشر .. فأخرجه الربّ الإله من جنّة عدن ليعمل الأرض ... فطرد الإنسان وأقام شرقيّ جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة» (٢).

فهذه المقاطع التوراتية ـ والتي يسمونها آيات ـ صريحة في خوف الرب يهوه من أن يصبح آدم من الآلهة بأكله من شجرة الحياة ، فلذا أخرجه من الجنّة وجعل حرسا على تلك الشجرة.

والإنسان ـ بنظر التوراة ـ على صورة الإله «يهوه» :

__________________

(١) يجدر بالقارئ الرجوع إلى كتابنا «الفوائد البهية ج ١ / ١٢١ ـ ١٥٨» حيث عرضنا فيه جميع الآراء مع مناقشتها بطريقة فلسفية وكلامية على ضوء العقل والكتاب والسنّة المطهرة.

(٢) التكوين : الإصحاح ٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

٧٥

«يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله ـ أي خلقه ـ» (١). والرب الإله «يهوه» كان يمشي في الجنّة ولا يدري أين آدم ، بل لم يدر أن آدم أكل من الشجرة حتى أخبره آدم عليه‌السلام:

«وسمعا ـ أي آدم وحواء ـ صوت الربّ الإله ماشيا في الجنّة عند هبوب ريح النهار ، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربّ الإله في وسط شجر الجنّة ، فنادى الربّ الإله آدم وقال له أين أنت؟ فقال : سمعت صوتك في الجنّة فخشيت لأني عريان فاختبأت ، فقال من أعلمك أنك عريان ، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ، فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت ..» (٢).

وقد وصف التوراة الله تعالى بأنه طويل الروح : «الرّبّ طويل الرّوح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة لكنّه لا يبرئ بل يجعل ذنب الآباء على الأنبياء إلى الجيل الثالث والرابع» (٣) وأنه عزوجل ـ وحاشاه ـ يحزن ويأسف ، كما حزن وتأسف في قلبه لأنه خلق الإنسان والحيوانات :

«ورأى الربّ أن شرّ الإنسان قد كثر في الأرض ، وأن كلّ تصوّر أفكار قلبه إنما هو شرير كلّ يوم. فحزن الربّ أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسّف في قلبه ، فقال الربّ امحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء ، لأني حزنت أني عملته»(٤). كما أنّ يهوه الإله ندم على تنصيبه لشاؤل ملكا :

«وكان كلام الرّبّ إلى صموئيل قائلا : ندمت على أنّي قد جعلت شاول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي» (٥).

__________________

(١) التكوين : ٥ / ١ والإصحاح ١ / ٢٨.

(٢) التكوين : ٣ / ٩ ـ ١٣.

(٣) العدد : ١٤ / ١٨.

(٤) التكوين : ٦ / ٥ ـ ٨.

(٥) صموئيل : ١٥ / ١٠ ـ ١١.

٧٦

ولإله اليهود رأس ويركب سحابة : «هوذا الرّبّ راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها» (١).

وله يد : «في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترجف من هزّة يد ربّ الجنود التي يهزها عليها» (٢).

وله عين : «وجده ـ أي ليعقوب ـ في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب ، أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه» (٣).

وله أجفان : «الرّبّ في هيكل قدسه ، الربّ في السماء كرسيّه ، عيناه تنظران أجفانه تمتحن بني آدم» (٤).

له وجه والمستقيمون يبصرون وجهه : «المستقيم يبصر وجهه» (٥).

وله أنف وهو رجل حرب : «الربّ رجل الحرب ... وبريح أنفك تراكمت المياه ..» (٦).

وله فم : «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ ما يخرج من فم الرّب يحيا الإنسان»(٧).

وله أجنحة وخوافي ، وهي الريش الصغير من الأجنحة : «بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي» (٨).

__________________

(١) إشعيا : ١٩ / ٢.

(٢) إشعيا : ١٩ / ١٦.

(٣) تثنية : ٣٢ / ١١.

(٤) المزامير : ١١ / ٤ ـ ٥.

(٥) المزامير : ١١ / ٧.

(٦) الخروج : ١٥ / ٣ و ٨ والمزامير : ١٧ / ١٦.

(٧) التثنية : ٨ / ٤.

(٨) المزامير : ٩١ / ٤.

٧٧

وله قدمان : «كان في قلبي أن ابني بيت قرار لتابوت عهد الرب ولموطئ قدمي إلهنا وقد هيأت للبناء» (١).

والإله يهوه عند اليهود يمشي على أجنحة الريح : «الماشي على أجنحة الريح» (٢).

ونسبوا إليه الجلوس على الكروبيم : «يا قائد يوسف كالضّان يا جالسا على الكروبيم أشرق» (٣).

وله أذنان ويركب على كروب ويطير : «في ضيقي دعوت الربّ وإلى إلهي صرخت ، فسمع من هيكله صوتي وصراخي قدّامه دخل أذنيه ، صعد دخان من أنفه ونار من فمه .. طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه ، ركب على كروب وطار وهفّ على أجنحة الرياح» (٤).

وعند غضب الإله يهوه لا يرى موضع قدميه : «ولم يذكر موطئ قدميه في يوم غضبه ..»(٥).

ويلتحف بالسحاب أيضا : «التحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصّلاة» (٦).

كل ما للإنسان هو عند الإله ، حتى العورة : «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ... فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ..» (٧).

له شفتان ولسان : «هوذا اسم الربّ يأتي من بعيد غضبه مشتعل والحريق

__________________

(١) أخبار الأيام الأوّل : ٢٨ / ٣.

(٢) المزمور : ١٠٤ / ٤.

(٣) المزمور : ٨٠ / ١.

(٤) المزمور : ١٨ / ٦ ـ ١٠.

(٥) المراثي : ٢ / ٢.

(٦) المراثي : ٣ / ٤٥.

(٧) التكوين : ١ / ٢٧ ـ ٢٨.

٧٨

عظيم ، شفتاه ممتلئتان سخطا ولسانه كنار آكلة ، ونفخته كنهر غامر يبلغ إلى الرّقبة» (١).

ونزل في السحاب ليخاطب موسى : «وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب .. فنزل الربّ في السحاب ، فوقف عنده ـ أي عند موسى ـ هناك ونادى باسم الرب» (٢).

هذه نبذة من أخبار اليهود حيث لا يؤمنون بتوحيد الربّ بل هم من حاربوا التوحيد بتعاونهم مع مشركي الجزيرة العربية فأقحموا الكثير من معتقداتهم في صفوف المسلمين ، لا سيّما عبر الأحبار الذين تظاهروا بالإسلام لضربه في الصميم.

فما قدّمنا من أخبار توراتية يبدو التجسيم فيها واضحا.

وأما التجسيد عند النصارى فواضح أيضا ، نورد قسما مما ذكروه في الإنجيل منها :

ما ورد في إنجيل يوحنا : الإصحاح العاشر / ٣٨ :

«إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ، ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الأب فيّ وأنا فيه».

وفي مقطع آخر قال : «أنا والأب واحد» (٣).

ونسبوا زورا إلى النبيّ عيسى عليه‌السلام أنه قال أيضا : «ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا .. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد ، أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكمّلين إلى واحد ..» (٤).

__________________

(١) إشعيا : ٣٠ / ٢٧.

(٢) الخروج : ٣٢ / ٥.

(٣) إنجيل يوحنا : ١٠ / ٣٠.

(٤) يوحنا : ١٧ / ٢٤.

٧٩

«ألست تؤمن أني أنا في الأب والأب فيّ ، الكلام الذي أكلّمكم به لست أتكلم به من نفسي لكنّ الأب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال ، صدّقوني أني في الأب والأب فيّ» (١).

إلى غيرها من دعاوى الحلول والتجسيد الباطل بضرورة العقل.

إذن للمسألة جذور في العهدين تسربت إلى عقول السذج من أبناء العامة مع تنميقها وزخرفتها بما يسمى أدلة وبراهين ، بعيدة كل البعد عن منطق العقل والعلم.

وقد اتفق الأشاعرة على أن رؤيته تعالى تكون يوم القيامة ، كما عبّر عن ذلك أعلامهم ، منهم :

١ ـ الشيخ أبو الحسن الأشعري (٢) ، قال : «وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله» (٣).

وقال في موضع آخر : «إن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون ، قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٤) وأن موسى عليه‌السلام سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا ، وأن الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكا ، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل في الآخرة» (٥).

٢ ـ ما اعتقده أحمد بن حنبل إمام الحنابلة ، من جواز الرؤية البصرية في

__________________

(١) يوحنا : ١٤ / ١٢.

(٢) وأبو الحسن الأشعري إمام الفرق العاميّة في العقائد ، إليه ينتسبون ومنه يأخذون.

(٣) الإبانة ص ٢١.

(٤) سورة المطففين : ١٥.

(٥) مقالات الإسلاميين ص ٣٢٢.

٨٠