أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني : أن الإمام المهدي روحي فداه يتوقع دائما أن يكون الشيعة على درجة من الإخلاص تخوّلهم لنصرة الحق ، فهو عليه‌السلام لا يحب أن يبطئوا عن جنابه المقدّس وهذا ما قاله لابن مهزيار : «كنا نتوقعك ليلا ونهارا فما الذي أبطأ بك علينا».

الثالث : استغراب الإمام عليه‌السلام من ابن مهزيار لمّا قال للإمام : لم أجد من يدلني للوصول إليك ، وذلك لأن طريق الوصول واضح ومعالمه لائحة لكنّ السائرين تاهوا عنه لانغمارهم بملذات الدنيا وزخارفها.

الرابع : إن موانع الوصول ثلاثة : (١) كنز الأموال وعدم إنفاقها في سبيل الله ، وسبيله عزوجل هم أئمة أهل البيت. (٢) التجبر على ضعفاء المؤمنين ، بظلمهم وسلب حقوقهم والاعتداء عليهم وإخافتهم وإبعادهم عن نشر تعاليم الأئمة عليه‌السلام. (٣) قطع الرحم التي لا بدّ أن توصل ، وفي طليعتها صلة الأئمة لكونهم الآباء الحقيقيين للمؤمنين للحديث : «أنا وعليّ أبوا هذه الأمة» وصلة الأتقياء المحبين للأئمة عليهم‌السلام ، مع التأكيد على الإحسان إلى الوالدين والأقارب.

الخامس : أن الإمام المهديّ عليه‌السلام هو الرجاء والأمل ، فمن ابتغى غير وجهه خاب وذلّ ، لكونه فديته بأبي وأمي ونفسي وولدي وأهلي الكعبة الكبرى التي يتوجه إليها الأولياء ورد في دعاء الندبة : (أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء).

فعلى العبد السالك إلى الله تعالى أن يتوجه إليه عبر السمت والجهة التي أمر الله من خلالها أن يتوجه قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) وبالتوجه إليه يذلّ كل صعب ويخضع كل جبار.

الوجه الخامس :

أن يكون المراد من ادّعاء المشاهدة رؤية مكانه عليه‌السلام ومستقره الذي يقيم

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٥.

٦٨١

فيه ، فلا يصل إليه أحد أما مشاهدته في الأماكن والمقامات المقدّسة وظهوره لإغاثة المضطر فلا ينافي التوقيع المذكور. ذكر هذا الوجه النوري أعلى الله مقامه في جنّة المأوى (١) ، واستشهد عليه بما ورد في النص المتقدم من «أن للإمام غيبتين : إحداهما قصيرة والأخرى طويلة ، فالأولى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصة شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصة مواليه». وبما ورد أيضا : «من أنه لا يطّلع على موضعه أحد من ولده ، ولا غيره إلا الذي يلي أمره».

يرد عليه :

١ ـ حمل المشاهدة على مكان إقامته عليه‌السلام خلاف المتبادر من لفظ المشاهدة فحينما تقول : «شاهدت فلانا» تقصد رأيته في مكان معين ، وهذا المكان أعم من أن يكون مستقره أو مكانه الذي يقيم فيه ، ولو أردت المعنى الخاص عليك أن تنصب قرينة على قصدك فتقول مثلا : شاهدته في داره أو محل إقامته وسكناه. وموردنا من هذا القبيل ، فلا يمكن حمل ادّعاء المشاهدة على محل إقامته لعدم وجود قرينة تثبت هذا الفهم.

٢ ـ إن التعبير الوارد في الرواية الثانية «لا يطّلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلّا الذي يلي أمره» يتعارض مع الخبر الوارد عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام من أنه قال : لا بدّ لصاحب هذا الأمر من عزلة ، ولا بدّ في عزلته من قوة ، وما بثلاثين من وحشة ، ونعم المنزل طيبة» حيث يثبت أن جماعة من الناس في كل جيل يعرفون الإمام المهدي ويتصلون به ويرفعون عنه الوحشة ، وهذا ما ينفيه الخبر الدال على أنه لا يستطيع أحد التعرف على موضعه حتى ولده ، إلّا المولى الذي يلي أمره.

إن قيل : إنّ التعبير عمّن يلي أمره بصيغة المفرد بقوله : «إلّا المولى» يراد منه الثلاثون الذين يأتون في كلّ عصر هم ممن يلي أمره ، فلا تناف حينئذ بين الخبرين!

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٤.

٦٨٢

قلنا : إن التلفظ بالمفرد ، مع قصد إرادة الجمع خطأ لا يصار إليه ما دام قادرا على التعبير بلفظ الجمع ، فكان بإمكانه أن يقول : لا يطّلع عليه أحد إلا الذين يلون أمره ، وحتى لو قلنا بجواز القصد المزبور فلا يمكن حمل «المشاهدة» على محل إقامته وسكناه لخلو الحديث من كشف الشيعة ومعرفتهم لسكنى وإقامة الإمام المهديّ عليه‌السلام بعد الصيحة والسفياني.

الشبهة التاسعة عشرة :

قد اشتهر واستفاض من خروج كتاب ورد من الناحية المقدّسة على يد الشيخ المفيد رحمه‌الله ، فكيف يتفق مع ما تسالمت عليه الطائفة من انقطاع السفارة وأن من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ، أليس ما ورد على يد المفيد (قدس‌سره) ادّعاء للمشاهدة؟

والجواب :

أولا : من الصعب الجزم بصدور هذا الكتاب من الناحية المقدّسة للشيخ المفيد «قدّس سره» وذلك لأن أول من ادّعى وجود كتاب من الحجّة المنتظر عليه‌السلام إلى الشيخ المفيد هو الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في كتابه الاحتجاج ولم يذكر طريقه وسنده إلى الشيخ المفيد ، فالطبرسي متفرد بذكر الرسالة مع أن الشيخ الطوسي وهو تلميذ المفيد ومن خواصه المقربين إليه لم يذكر ذلك في كتبه بشكل عام لا سيّما عند ترجمة شيخه المفيد ، مع أنه أثنى عليه بأبلغ الثناء والمدح ، ولو كان هذا الكتاب صادرا من الناحية المقدّسة لناسب ذكره في الترجمة لأنه أبلغ شيء في التعريف بمكانة شيخه ، وكذلك الشيخ أبو العبّاس أحمد بن عليّ النجاشي والسيّدين الرضي والمرتضى ، كلّ هؤلاء لم يذكروا تلك الرسالة المنسوبة لشيخهم المفيد ، لا سيّما عند تعرّضهم لترجمة حياته المباركة مع أنهم أطروا عليه بأحسن الثناء ، وكذا غيرهم ممن تأخر عنهم كأمثال ابن إدريس الحلي وأبي الفتح الكراجكي وهو تلميذ المفيد أيضا لم يتعرض لفحوى الرسالة ، وعلى أي حال

٦٨٣

سواء أكانت الرسالة منسوبة أم صادرة من مولانا الحجّة المهديّ المنتظر «عجّل الله فرجه الشريف» فلا يشملها ما ورد في التوقيع الصادر عن السفير الرابع السمري رضي الله عنه وأرضاه وذلك لوجود فرق بين السفير وبين مثل المكاتبة التي تشرّف بها المفيد أعلى الله مقامه على فرض صحة ذلك ، وحاصل الفرق : هو أن السفراء ـ كالنواب الأربعة في الغيبة الصغرى ـ منصوبون من قبل الإمام الحجّة المنتظر روحي فداه بنحو دائم كحلقة وصل بين الشيعة والإمام عليه‌السلام بحيث يكون على اتصال مستمر من وإلى الحجّة عليه‌السلام يسلّمه ويستلم منه الرسائل المتضمنة للفتاوى والأحكام ، وتظهر الخوارق على يديه من قبل مولانا الحجّة المنتظر «فديته بنفسي» مع إظهار السفير سفارته لأجلّاء الطائفة حرسها المولى ، وأين هذا من مثل المكاتبة المذكورة؟! فالمراد من البابية المحرّمة في عصر الغيبة الكبرى هي أن يكون الوسيط بابا في استلام وإظهار الفتاوى والأحكام على يده ، وشيء من هذا لم يدّعيه الشيخ المفيد لنفسه ، بل صرّح عليه الرحمة بالعكس من ذلك حيث ذكر في كتابه «الرسائل الخمسة في الغيبة» انقطاع السفارة بموت السفير الرابع في الغيبة الصغرى ، وذكر ذلك في كتاب الإرشاد في الفصل الذي عقده للإمام الثاني عشر عليه‌السلام ، كما أنه عليه الرحمة ذكر عن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه : «إن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل» ، هذا مع أن الشيخ المفيد كتب إليه من الحجّة عليه‌السلام لا أنه أرسل كتابا ثم أتاه الجواب.

ثانيا : أنّ موصل التوقيع إلى الشيخ المفيد مجهول ، وهب أن الشيخ المفيد جزم بقرائن أنّ التوقيع صدر من الناحية المقدّسة ، ولكن كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية ، على أن رواية الاحتجاج لهذا التوقيع مرسلة ، والواسطة بين الطبرسي والشيخ المفيد مجهول (١).

وعلى تقدير ثبوت الكتاب فإن التكذيب لا يشمله لخروجه عن مفهوم

__________________

(١) معجم رجال الحديث / الخوئي ج ١٧ / ٢٠٩.

٦٨٤

المشاهدة لكونه صدر ابتداءً من الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام إلى الشيخ المفيد من دون دعوى المشاهدة ، وعليه فلا يكون مشمولا للعن ولا التكذيب ، لأن كل ما يصدر ابتداءً من الإمام عليه‌السلام كتوجيه نداء أو رسالة عبر بعض الرائين لا يكون موردا للتكذيب كما قلنا ، لأن ناقل النداء أو الرسالة لا يدّعي لنفسه البابية أو السفارة كما كانت وظيفة السفراء الأربعة ، فتأمّل.

الشهبة العشرون :

«إن الأئمة عليهم‌السلام ما كانوا بإخباراتهم تلك ـ عن علائم الظهور ـ يريدون ربط الناس بما سيقع من أجل أن يستغرقوا فيه ، أو ليكون ذلك عذرا ومبررا للوقوف على هامش الساحة في موقع المتفرج .. نعم إنهم ما كانوا يريدون ربط الناس بما سيقع ، وإنما بما وقع ، أي أنهم يريدون للناس أن يستفيدوا مما وقع ومضى لينعش بهم الأمل ، ويشحذ الهمم ويهب لهم الارتباط العاطفي والشعوري بقائد المسيرة ورائدها ، فالمطلوب إذن هو أن يسهم ما وقع في بعث الأمل ورفع درجة الإحساس والشعور والارتباط بالقائد والقيادة على مستوى أعلى وأكثر حيوية وفاعلية ويعمق في الإنسان المسلم المزيد من الشعور بالمسئولية ..» (١).

وقال في موضع آخر : «ولا يصح صرف الجهد في التعرف على ما سيحدث ، ومحاولات من هذا القبيل لن يكون لها الأثر المطلوب ما دام لم يعد ثمة مجال للاستفادة من الأخبار صحيحها وسقيمها إلا بعد وقوع الحدث» (٢).

يرد عليه :

١ ـ إن حصره لدور العلامات بما وقع فقط دون ما سيقع يؤدي إلى نسف المفهوم الشرعي للانتظار والذي أكدت عليه النصوص المتواترة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ويطيح بأهم ركائزه المتمثلة بالعلامات قبل تحققها.

__________________

(١) دراسة في علامات الظهور / السيد جعفر مرتضى ص ٥٤ ط أولى.

(٢) نفس المصدر ص ٥٦.

٦٨٥

والمتأمل في نصوص أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وهم يتحدثون عن دور العلامات قبل وقوعها يجزم بخطإ ما ذهب إليه صاحب الشبهة ، لكونها ـ أي العلامات ـ جرس إنذار للمترفين ، وهداية للمطيعين ، فهي ترشدنا وتنبهنا إلى أحداث مهمة ستقع في المستقبل ، وتحذّرنا من التورط بفتنها وانحرافاتها ومشاكلها المترتبة على وقوعها ، لذا لا ينجو من تلك الانحرافات إلا من سمع بها وعرفها قبل ذلك معتقدا بصحة صدورها ، فعن حذيفة بن اليمان قال : «هذه فتن قد أطلت كجباه البقر ، يهلك فيها أكثر الناس إلّا من كان يعرفها قبل ذلك» (١).

وعن هشام بن سالم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : هما صيحتان ، صيحة في أول الليل وصيحة في آخر الليلة الثانية ، قال : فقلت : كيف ذلك؟ قال : واحدة من السماء وواحدة من إبليس ، فقلت : كيف تعرف هذه من هذه؟ قال : يعرفها من كان سمع بها من قبل أن تكون» (٢).

وعن زرارة بن أعين قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ينادي مناد من السماء أن فلانا هو الأمير وينادي مناد أن عليّا وشيعته هم الفائزون ، قلت : فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال : رجل من بني أمية ، وأن الشيطان ينادي أن فلانا وشيعته هم الفائزون ، قلت : فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال : يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا ويقولون إنه يكون قبل أن يكون ، ويعلمون أنهم هم المحقون الصادقون (٣).

وفي سؤال المدائني للإمام الصادق عليه‌السلام عن الإمام المهديّ عليه‌السلام قال : قلت : فهل هل علامات قبل ذلك؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام : نعم علامات شتى ، قلت : ما ذا؟ قال : خروج راية من المشرق وراية من المغرب (٤).

__________________

(١) كتاب الفتن / ابن حمّاد ص ١٤ دار الفكر ، وعقد الدرر ص ٣٣٣.

(٢) الغيبة للنعماني ص ١٧٧.

(٣) نفس المصدر ص ١٧٧.

(٤) فلاح السائل ص ١٧٠.

٦٨٦

وهكذا نلاحظ العلامات دائما تأخذ بأيدينا وأبصارنا وعقولنا إلى ما سيقع لا إلى ما وقع.

٢ ـ إن دعوى عدم وجود فائدة من دراسة العلامات قبل وقوعها ، والتأكيد على عدم جدوى التحقيق في موضوعاتها والاطلاع عليها ، والاهتمام بها قبل وقوعها ، يساهم في تجهيل القواعد الشعبية المؤمنة بقيام الحجّة المنتظر والمعتقدة بوجوب نصرته والذبّ عنه ، تجهيليها بكل ما يدور من حولها من مخططات عدوانية لضرب الدين باسم الدين ، ولو لا دور العلامات من خلال ما جاءت به النصوص عنهم ودراستها وترقب حدوثها لكان انحرف كثيرون من الناس بواسطة دعاة المهدوية المزيفة التي تطلّ على المسلمين بين الحين والآخر ، بل ولم ينجح هؤلاء في تضليل بعض المسلمين على امتداد التاريخ إلّا بسبب جهل هذا البعض بالعلامات الحقيقية عن الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام ، وعدم اطلاعهم عليها واهتمامهم بها قبل تحققها. فقد حذّرت رواياتنا من جماعة يستغلون الدين وشعاراته ليحرفوا الأمة عن مسارها ، من هذه الروايات ما جاء عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : «لترفعنّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يعرف أي من أي» (١).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام قال : «لا يخرج القائم حتى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه» (٢).

وفي حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام مع بريد عن علامات الظهور القريبة قال : يا بريد اتق جمع الأصهب ، قلت : وما الأصهب؟ قال : الأبقع ، قلت : وما الأبقع؟ قال : الأبرص ، واتق السفياني واتق الشريدين من ولد فلان ، يأتيان مكة يقسمان بها الأموال ، يتشبهان بالقائم ، واتق الشذاذ من ولد آل محمّد (٣).

__________________

(١) غيبة النعماني ص ١٥١.

(٢) غيبة الطوسي ص ٢٦٧.

(٣) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٢٦٩ ح ١٦٠.

٦٨٧

وعليه فكيف يمكن أن نتقي جمع الأصهب والسفياني والشذاذ من آل محمّد وهم الذين يظهرون للناس تارة باسم السيّد الحسني أو الخراساني ، وأخرى باسم شعيب بن صالح وثالثة باسم اليماني وبغير ذلك من علامات الظهور الأخرى المقدّسة؟ وهل يمكن النجاة من السقوط في تيار رايات الضلال في آخر الزمان ، من دون معرفة مسبقة بعلاماتها وأوصافها والظروف التاريخية لظهورها كما تحدثنا أخبار العلامات (١)؟

وكيف يمكن أن نتقي من الاثني عشر راية ضلال متسترة بالدين ونفرّق بينها وبين راية الإمام المهدي عليه‌السلام من دون أن نتعرّف على جميع علاماته قبل ظهوره؟ وكيف نميز رايات الضلال من رايات الهدى التي تخرج قبل ظهوره إذا لم نستوعب أوصافها ودلائلها المذكورة في أخبار العلامات قبل تحققها؟

٣ ـ إن وجود صحيح وسقيم في أخبار الظهور لا يلغي دور العلامات ودراسة مضامينها طبقا للموازين العلمية ، مما يضفي على المدقق فيها والمتتبع لها رونقا فكريا سليما يجعله يعيش حالة الانتظار لإمام زمانه عليه‌السلام بكل كيانه ووجوده ، مستغرقا في الاستطلاع على خصوصيات أفعال إمامه وما يتعلق به وبحركة ظهوره مما يستلزم أن يكون مشاركا ومساهما بالعلم والعمل في بناء الهيكلية العقائدية الصحيحة تمهيدا ليوم الظهور المبارك.

فإطلاق الدعوى بعدم جدوى البحث في علامات الظهور ما دام لم يعد ثمة مجال للاستفادة من الأخبار إلّا بعد وقوع الحدث ، ينسف ما تستهدفه تلك الأخبار من وجوب إقامة الحجّة على المجتمع البشري وإنذاره بقرب يوم الخلاص العالمي ، بالإضافة إلى ما تستهدفه تلك الأخبار من إيقاظ الأمة من سباتها العميق وغفوتها الطويلة ، لإعدادها فكريا وروحيا وسياسيا لاستقبال قائدها المرتقب لتشارك بقيادته في صنع مستقبل البشرية الزاهر في ظل رسالة العدل الإلهي.

__________________

(١) مبادي الثقافة المهدوية ص ١٤٢.

٦٨٨

كما أن عدم جدوى البحث في العلامات ـ حسبما جاء في الشبهة ـ يلغي دور العلامات المحتومة التي لا يقع فيها التغيير ، كما هو صريح الأخبار المتواترة ، ومن خلالها يمكن رسم خارطة سياسية تحدّد للإمة الإسلامية معالم حركة الظهور ، وأما غير المحتوم من العلامات فلا يمكن أن تحدّد لنا أهداف الإسلام المتوخاة من خلال ترقبها سوى ما يتعلق بتكوين الشخصية المتزنة والمتصفة بالصبر والانتظار ، وهذا بدوره عنصر مهم في بلورة الواقع المؤمن وتهذيبه من الشوائب النفسية والدخيلة على جوهره وكيانه.

«إن إمكانية استطلاع المستقبل المجهول للإنسانية ، ومحاولة التعرف على أبرز معالمه الفكرية ، وخصائصه الاجتماعية ، وصراعاته السياسية ، ومكوناته الحضارية بدقة متناهية ، أمر تفردت به رسالة الإسلام وحدها (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) وإن وضع الدين القيّم والمهيمن على الأديان كلها في ساحة الجهل بأحداث المستقبل ، وعدم القدرة على استطلاعها والتعرف عليها قبل تحققها ، بحجة أن أهل البيت يريدون لأتباع هذا الدين الارتباط بما وقع دون الالتفات إلى ما سيقع ، هو لون من التصورات الاجتهادية الخاطئة لعدم انسجامها مع قيمومة الإسلام على الأديان كلها ، وعدم تطابقها مع طريقته في إلقاء الحجّة على أعدائه ، قبل أن ينتهي بهم الكفر والانحراف عن مباديه إلى الطريق المسدود ، فحينئذ يصبح دين (نوستردامس) في تنبؤاته عن مستقبل الحضارة البشرية في صراعاتها السياسية ، ومعاركها الجوية والبحرية هو الدين القيم المهيمن على الأديان كلها في طريق إلقاء الحجّة على المجتمع البشري ، وهدايته إلى الموقف الحق لإنقاذه من الخطر المحدق به ، وليس الإسلام الموصوف في كتاب الله تعالى بأنه دين الهداية والبشرى للمسلمين (٢) بقوله تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠.

(٢) مبادي الثقافة المهدوية / للشيخ مهدي الفتلاوي ص ١٤٩.

٦٨٩

وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١).

إن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أوصوا شيعتهم المنتظرين بضرورة الانفتاح على دلائل الظهور وعلاماته ، لرصد حركة الواقع بوعي ودقة ، محذّرين من الانزلاق وراء رايات الضلال التي تخرج قبل اليوم الموعود ، فالدعوة إلى التطلع إلى الحاضر دون المستقبل تعني التخلي عن الانفتاح على علامات الظهور التي من خلالها نتطلع إلى قائدنا المغيّب المهدي المنتظر عليه‌السلام ، وهي دعوة صريحة لرفض توجيهات أهل البيت في مسألة الانتظار والتمرد عليها وإن تظاهرت باسم الدين ولبست مسوح البحث العلمي.

وللعلامات دور بارز في تنشيط الحركة الثقافية المهدوية لدى القواعد الشعبية العاشقة لإمام الزمان روحي فداه ، بحيث تجعل المؤمن المنتظر يعيش حالة التربّص واليقظة الدائمة ليكون حارسا أمينا على المحافظة على مبادي إمام زمانه ، كما أنها تحوّل العقيدة بالإمام المهديّ عليه‌السلام من قضية إيمانية ذاتية تجريدية إلى قضية سياسية كبرى في الأمة ، تقود المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في ساحة الصراع مع أعداء إمامهم المغيّب (عجّل الله فرجه الشريف) بآمالها الكبيرة التي تشعها في النفوس ، فتبدد بنورها وهداها ظلام اليأس والقنوط ، عند اشتداد ضغوط الظلم والجور ، وتكالب قوى الكفر والطاغوت في ساحة الصراع عليهم.

إن ترقب وقوع علامات الظهور والتعامل مع أحداثها السياسية التي تتحقق على الأرض يزيد من التزام المؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة ، في حياته الفردية والاجتماعية ، نتيجة لشعوره بقرب تحقق اليوم الموعود ، واستعدادا لاستقبال وليّ الله الأعظم ، حيث لا مجال لمهادنة المشركين والكافرين والنواصب والمنحرفين في دولته المباركة ، فمن لم يكن مستعدا بكل قواه الروحية والفكرية والنفسية لاستقبال بقية الله قبل ظهوره ، لا يملك المقدمات الذاتية والسلوكية التي تؤهله

__________________

(١) سورة النحل : ٨٩.

٦٩٠

للالتحاق برايته المقدّسة .. اللهم اجعلنا من العارفين به والذابين عنه والدالين عليه والمستشهدين بين يديه ، اللهم أرنا الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة وأكحل نواظرنا بنظرة منه إلينا وعجّل فرجه وسهّل مخرجه والعن أعداءه بحق الحق والدال على الصدق محمّد وآله الميامين العظام.

هذا ما أحببت إيراده من الشبهات حول مولانا الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام مع الإجابة عليها بعون الله عزوجل ، مقتصرا عليها دون غيرها من البحوث المتعلقة بشخصه الكريم ، تاركا هذا الأمر لوقت آخر إن منّ الله تعالى علينا بالتوفيق والحياة.

ولنرجع إلى متن مؤتمر علماء بغداد.

٦٩١

قال الملك للعبّاسي :

فلما ذا أنت تنكر الحقائق الواردة عندنا نحن السّنّة؟

قال العبّاسي : خوفا على عقيدة العوام أن تتزلزل وتميل قلوبهم نحو الشيعة!

قال العلوي : إذن أنت أيّها العبّاسي مصداق لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة : ١٥٩.

فشملتك اللعنة من الله تعالى .. ثم قال العلوي :

أيّها الملك ، اسأل العبّاسي هل يجب على العالم المحافظة على كتاب الله وأقوال رسول الله أم يجب المحافظة على عقيدة العوام المنحرفة عن الكتاب والسّنّة؟

قال العبّاسي :

إني أحافظ على عقيدة العوام حتى لا تميل قلوبهم إلى الشيعة لأن الشيعة أهل بدعة(١)!.

____________________________________

عرّف اللغويون «البدعة» بأنها «الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال ، وقال ابن السكيت : كلّ محدثة» (١).

وعرّفها آخر : بأنها ما أحدث على غير مثال سابق (٢).

__________________

(١) لسان العرب ج ٨ / ٦.

(٢) المنجد الأبجدي ص ١٩٥ ومجمع البحرين ج ٤ / ٢٩٨.

٦٩٢

وقال ثالث : «البدعة» الحالة المخالفة ، وهي اسم من الابتداع ، ثم غلّب استعمالها على ما هو نقص في الدين ، أو زيادة ، وكل محدثة» (١).

وأجود ما قيل : «إن البدعة بالكسر فالسكون الحديث في الدين ، وما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة ، وإنما سميت بدعة لأن قائلها ابتدعها هو نفسه» (٢).

والبدعة اصطلاحا : إسناد حكم إلى الشريعة المقدّسة دون أن يكون عليه دليل شرعي. أو بتعبير آخر : هي إقحام شيء في الدين أو إخراجه من دون دليل شرعي.

وقد وردت الأحاديث الكثيرة بشأنها وذم فاعلها :

(١) فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : شر الأمور محدثاتها ألا وكل بدعة ضلالة ، ألا وكل ضلالة في النار (٣).

(٢) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إياك أن تسنّ سنّة بدعة فإن العبد إذا سنّ سنّة سيئة لحقه وزرها ووزر من عمل بها (٤).

(٣) وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال :

ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنّة ، فاتقوا البدع والزموا المهيع ، إن عوازم الأمور أفضلها وأن محدثاتها شرارها.

(٤) وعنه أيضا قال :

أما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا(٥).

__________________

(١) معجم متن اللغة ج ١ / ٢٥٥.

(٢) مجمع البحرين ج ٤ / ٢٩٨.

(٣) أمالي المفيد ١٨٨ / ١٤.

(٤) ميزان الحكمة ج ١ / ٢٣٦ نقلا عن بحار الأنوار.

(٥) نفس المصدر السابق.

٦٩٣

(٥) وعن رسول الله قال : إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه.

وعنه أيضا قال : من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أتى ذا بدعة فوقّره فقد سعى في هدم الإسلام.

وعنه أيضا قال :

أهل البدع كلاب أهل النار.

وعنه قال :

أهل البدع شر الخلق والخليقة.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عمل قليل في سنّة خير من عمل كثير في بدعة (١).

* وورد في مصادر العامة :

ـ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

من مشى إلى صاحب بدعة ليوقّره فقد أعان على هدم الإسلام (٢).

ـ وأخرج المتقي الهندي عن حذيفة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

لا يقبل الله لصاحب بدعة صلاة ولا صوما ولا صدقة ولا حجّا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا ، يخرج من الإسلام كما

تخرج الشعرة من العجين (٣).

ـ وعن نافع عن ابن عمر قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال في ديننا برأيه فاقتلوه (٤).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) كنز العمال ج ١ / ٢٢٢ حديث رقم ١١٢٣ ط / بيروت.

(٣) نفس المصدر حديث رقم ١١٠٨.

(٤) تاريخ بغداد ج ٩ / ٢٢٩ ط / مصر عام ١٣٤٩ ه‍.

٦٩٤

قال العلوي :

إن الكتب المعتبرة تحدّثنا أن إمامكم عمر بن الخطّاب هو أول من أدخل في الإسلام ، وصرّح هو بنفسه حين قال :

(نعمت البدعة هذه) وذلك في قصة صلاة التراويح لمّا أمر الناس أن يصلوا النافلة جماعة مع العلم أن الله والرسول حرّما النافلة جماعة ، فكانت بدعة (١) عمر مخالفة صريحة لله والرسول.

____________________________________

(١) أخرج البخاري في كتاب التراويح من الصّحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال : خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون .. إلى أن قال : فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب (قال:) ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم. قال عمر : نعمت البدعة هذه ..

قال العلّامة القسطلاني في أول الصفحة الرابعة من الجزء الخامس من «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري» عند بلوغه إلى قول عمر في هذا الحديث : «نعمت البدعة هذه» ؛ ما هذا لفظه : سمّاها بدعة لأنّ رسول الله لم يسنّ لهم ، ولا كانت في زمن الصدّيق ، ولا أوّل الليل ولا هذا العدد .. الخ. وفي «تحفة الباري» وغيره من شرح البخاري مثله فراجع.

وقال العلّامة أبو الوليد محمّد بن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر في حوادث سنة ٢٣ من تاريخه «روضة المناظر» : هو أوّل من نهى عن بيع أمهات الأولاد ، وجمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز ، وأول من جمع الناس من [ظ : على] إمام يصلّي بهم التراويح .. الخ.

ولما ذكر السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» أوليات عمر نقلا عن العسكري

٦٩٥

قال : هو أول من سمّي أمير المؤمنين ، وأول من سنّ قيام شهر رمضان ـ بالتراويح ـ ، وأوّل من حرّم المتعة ، وأوّل من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات .. الخ.

وقال محمّد بن سعد ـ حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من «الطبقات» ـ : وهو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان ـ بالتراويح ـ وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة ، وجعل للناس بالمدينة قارءين : قارئا يصلي التراويح بالرجال وقارئا يصلّي بالنساء .. الخ. وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر من «الاستيعاب» : وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الإشفاع فيه (١).

وقال العلّامة المجاهد السيّد عبد الحسين شرف الدين أعلى الله مقامه :

«إنّ صلاة التراويح ما جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كانت على عهده بل لم تكن على عهد أبي بكر ، ولا شرّع الله الاجتماع لأداء نافلة من السنن غير صلاة الاستسقاء. وإنّما شرّعه في الصلوات الواجبة كالفرائض الخمس اليومية وصلاة الطواف والعيدين والآيات وعلى الجنائز.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقيم ليالي رمضان بأداء سننها في غير جماعة ، وكان يحض على قيامها فكان الناس يقيمونها على نحو ما رأوه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقيمها.

وهكذا كان الأمر على عهد أبي بكر حتّى مضى لسبيله سنة ثلاث عشرة للهجرة وقام بالأمر بعده عمر بن الخطاب فصام شهر رمضان من تلك السنة لا يغيّر من قيام الشهر شيئا ، فلمّا كان شهر رمضان سنة أربع عشرة أتى المسجد ومعه بعض أصحابه ، فرأى الناس يقيمون النوافل وهم ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد وقارئ ومسبّح ومحرم بالتكبير ومحلّ بالتسليم في مظهر لم يرقه ، ورأى من واجبه

__________________

(١) النص والاجتهاد ص ٢٣٢ نقلا عن البخاري.

٦٩٦

إصلاحه فسنّ لهم التراويح أوائل الليل من الشهر وجمع الناس عليها حكما مبرما ، وكتب بذلك إلى البلدان ونصب للناس في المدينة إمامين يصلّيان بهم التراويح : إماما للرجال وإماما للنساء. وهذا كلّه أخبار متواترة.

وحسبك منها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قام رمضان ـ أي بأداء سننه ـ إيمانا واحتسابا غفر الله من تقدّم من ذنبه» ؛ وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي والأمر كذلك ـ أي وأمر القيام في شهر رمضان لم يتغيّر عمّا كان عليه قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر (١).

__________________

(١) النص والاجتهاد / السيد عبد الحسين شرف الدين ص ٢٣١.

٦٩٧

ثم ألم يبدع عمر في الآذان بإسقاط «حيّ على خير العمل» (١) وزيادة (الصلاة خير من النوم).

____________________________________

(١) إن هذا الفصل (حيّ على خير العمل) كان على عهد رسول الله جزءا من الآذان ومن الإقامة ، لكنّ عمر بن الخطّاب في آخر عهده حرّمها حينما صعد المنبر مهدّدا بقوله : ثلاث كنّ على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحيّ على خير العمل (١).

وما أفاده العامة من أن عمر بن الخطاب قد حذفها حرصا منه على ألا يترك المسلمون الصلاة اعتمادا منهم على الجهاد ليس هو العلة في حذفها ، وإلّا لما استمر العامة عليها إلى زماننا هذا لسقوط الجهاد في بعض العصور إن لم يكن جلّها ، وقد كشفت أخبار أئمة أهل البيت عليهم‌السلام عن العلة الحقيقية التي أدت إلى إسقاط القوم لهذا الفصل ، فقد روى الصدوق في كتاب العلل عن ابن أبي عمير أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن «حيّ على خير العمل» لم تركت من الآذان؟ فقال : تريد العلة الظاهرة (٢) أو الباطنة؟ قلت أريدهما جميعا؟ فقال : أمّا العلة الظاهرة فلئلا يدع الناس الجهاد اتكالا على الصلاة ، وأما الباطنة فإن خير العمل الولاية ، فأراد من أمر بترك حيّ على خير العمل من الآذان أن لا يقع حثّ عليها ودعاء إليها (٣).

وفي معاني الأخبار بسنده عن محمّد بن مروان عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتدري ما تفسير (حيّ على خير العمل)؟ قال : قلت لا ، قال : دعاك إلى البرّ ، أتدري برّ من؟ قلت لا ، قال : إلى برّ فاطمة وولدها عليهم‌السلام (٤).

__________________

(١) نص عليه القوشجي في أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد وقد أثبتنا سابقا مصادره.

(٢) أي الظاهر والمشهور عند الناس ، وإلّا فما بالخفاء لا يعلمه إلا الأوحدون وهم آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) وسائل الشيعة ج ٤ / ٦٤٧ ح ١٦ والحدائق ج ٧ / ٤٣٨.

(٤) الحدائق ج ٧ / ٤٣٨ وبحار الأنوار ج ١٨ / ١٧٠ ومعاني الأخبار ص ٤١.

٦٩٨

وعن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام سئل عن معنى «حيّ على خير العمل» فقال : خير العمل الولاية. قال الشيخ الصدوق : وفي خبر آخر «العمل» برّ فاطمة وولدها عليهم‌السلام (١).

وما روي في كتاب العلل لمحمّد بن علي بن ابراهيم بن هاشم قال : علة الآذان أن تكبّر الله وتعظّمه وتقرّ بتوحيد الله وبالنبوّة والرسالة وتدعو إلى الصلاة وتحث على الزكاة .. ومعنى «حيّ على الصلاة» أي حثّ على الصلاة ، ومعنى «حيّ على الفلاح» أي حثّ على الزكاة ، وقوله «حيّ على خير العمل» أي حثّ على الولاية ، وعلة أنها خير العمل أن الأعمال كلها بها تقبل(٢).

إذن ليس صحيحا ما ورد من التعليل الذي ادّعاه العامة وورد في بعض مصادرنا كخبر ابن أبي عمير وخبر عكرمة قال : قلت لابن عبّاس أخبرني لأيّ شيء حذف من الآذان «حيّ على خير العمل»؟ قال : أراد عمر بذلك أن لا يتكل الناس على الصلاة ويدعو الجهاد فلذلك حذفها من الآذان» (٣) وذلك :

أولا : إن فصول الآذان والإقامة من الأمور التوقيفية التعبّدية فلا يجوز حذف بعضها مهما كان المبرّر الذي يدّعون ، لكون الحذف بدعة محرّمة نهى الشارع المقدّس عنها.

ثانيا : منافاة الحذف للإجماع وسيرة المسلمين المتصلة بعمل المعصوم عليه‌السلام وكل من خالف المأثور الثابت عن المعصوم فقد شط عن الإسلام.

ثالثا : تعليلهم (٤) العليل نظير ما نقله أولياء عمر عنه أيضا في تحريمه لمتعة

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٤١.

(٢) الحدائق ج ٧ / ٤٤٠.

(٣) الحدائق ج ٧ / ٤٣٨.

(٤) الحدائق ج ٧ / ٤٣٩.

٦٩٩

الحج بقوله : «كرهت أن يخرجوا إلى الحج ورءوسهم تقطر من نسائهم» وقوله : «كرهت أن يكونوا معرّسين تحت الأراك ثم يخرجون إلى الحج ورءوسهم تقطر من نسائهم» أرأيت أن الله عزوجل الذي أمر بهذين الحكمين لا يعلم بهذا الأمر الذي علّل هذا المرتد به في كلّ من الموضعين ، فذهب ذلك عن علم الله سبحانه وإنما اهتدى إليه هو؟ ولقد صدق عليه قوله عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (١).

ولم يكتف عمر بن الخطّاب بالحذف من فصول الآذان حتى زاد فيه «الصلاة خير من النوم» في صلاة الصبح ، فقد روى مالك في موطئه تحت عنوان ما جاء في النداء للصلاة قال : بلغني أن المؤذن جاء عمر بن الخطّاب مؤذّنه لصلاة الصبح فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.

وعن الزرقاني عند وصوله إلى هذا الحديث من شرح الموطأ قال : (هذا البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر).

ومثله ما في كنز العمال عن الدارقطني وابن ماجة والبيهقي عن ابن عمر : «إن عمر قال لمؤذّنه إذا بلغت (حيّ على الفلاح) في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم مرتين.

ومثله أيضا عن ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة.

وفي الكنز عن عبد الرزّاق عن ابن جريح قال : أخبرني حسن بن مسلم : أن رجلا سأل طاوسا متى قيل (الصلاة خير من النوم)؟ فقال : أما إنها لم تقل على عهد رسول الله.

ولا ينبغي التأمل في أن لفظ (الصلاة خير من النوم) من البدع وذلك :

__________________

(١) سورة محمّد : ٩.

٧٠٠