أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

«وقد كثر في الناس اليوم ممن يخفى عليه هذا التواتر ويجهله ويبعده عن صراط العلم جهله ويضلّه من ينكر ظهور المهدي وينفيه ويقطع بضعف الأحاديث الواردة فيه مع جهله بأسباب التضعيف وعدم إدراكه معنى الحديث الضعيف وتصوّره مبادي هذا العلم الشريف وفراغ جرابه من أحاديث المهدي الغنيّة بتواترها عن البيان لحالها والتعريف ، وإنّما استناده في إنكاره مجرد ما ذكره ابن خلدون في بعض أحاديثه من العلل المزوّرة المكذوبة ولمز به ثقات رواتها من التجريحات الملفّقة المقلوبة مع أنّ ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مكان ، ولا ضرب له بنصيب ولا سهم في هذا الشأن ، ولا استوفى منه بمكيال ولا ميزان فكيف يعتمد فيه عليه ويرجع في تحقيق مسائله إليه. فالواجب دخول البيت من بابه ، والحقّ الرجوع في كلّ فنّ إلى أربابه فلا يقبل تصحيح أو تضعيف إلّا من حفّاظ الحديث ونقّاده :

فاعن به ولا تخض بالظنّ

ولا تقلّد غير أهل الفنّ

ولمّا لم أر أحدا تصدّى للرد عليه فيما علمت ولا بلغني ذلك عن أحد فيما رويت وسمعت بعثني باعث الغيرة الدينية الأثرية ، وحثّني فضل الانتصار والذّب عن السنّة النبويّة على أن أدحض حججه الباطلة وأردّ شبهه الفاسدة العاطلة ، فكتبت على ضعف في الاستعداد وقلّة من الموادّ هذه الرسالة (١) ، واختطفت من بين أنياب العوائق هذه العجالة بعد أن فهمت مراميه وتدبّرت كلامه ، فإذا هو مموّه بشبه واهية يعارض بعضها بعضا ؛ مركّب من مقدمات وهميّة موهمة تناقض نتائجها نقضا ؛ مؤلف من مغالطات يخيّل للناظر أنها حجج قوية ترفض النزاع رفضا ؛ محشوّ بتعسفات تغض من صاحبها غضا ، ومجازفات تحط من قدره وتنقص منه طولا وعرضا ..».

__________________

(١) ويقصد بها كتابه المسمّى «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون» أو «المرشد المبدي لفساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي» فليراجع ص ٤٤٣.

٦٦١

وقال في موضع آخر : [فإن الساعة آتية لا ريب فيها قريبة مقبلة بما فيها وأن لإتيانها أعلاما ولقيامها أشراطا ، ألا وإن من أعلامها الصريحة وأشراطها الثابتة الصحيحة ظهور الخليفة الأكبر والإمام العادل الأشهر الذي يحيي الله به ما درس من آثار السنّة النبوية واندثر ويميت به ما شاع من ضلالات أهل البدع وذاع وانتشر ويملأ الأرض عدلا كما ملئت بظلم من جار وفجر ويحثو المال حثيا ولا يعدّه عدّا لكلّ من صلح وبر إمام العترة الطاهرة المصطفوية محمّد بن عبد الله المنتظر ، فقد تواترت بكون ظهوره من أعلام الساعة وأشراطها الأخبار وصحّت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الآثار وشاع ذكره وانتشر خبره من الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الدهر والأعصار ، فالإيمان بخروجه واجب واعتقاد ظهوره تصديقا لخبر الرسول محتم لازب كما هو مدوّن في عقائد أهل السنّة والجماعة من سائر المذاهب ومقرّر في دفاتر علماء الأمة على اختلاف طبقاتها والمراتب.

ففي «التذكرة» للإمام القرطبي و «فتح الباري» لأمير الحفّاظ العسقلاني نقلا عن الحافظ أبي الحسين الآبري أنه قال ردّا لحديث ابن ماجة الموضوع الآتي فيه أنه «لا مهدي إلا عيسى» ما نصّه : «قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملأ الأرض عدلا ، وأن عيسى عليه الصلاة والسلام يخرج فيساعده على قتل الدّجال ، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى خلفه في طول من قصته وأمره ..». وممن نصّ على تواتر أحاديث المهدي أيضا الحافظ شمس الدين السخاوي في «فتح المغيث» والحافظ جلال الدين السيوطي في «الفوائد المتكاثرة في الأحاديث المتواترة» واختصاره «الأزهار المتناثرة» وغيرهما من كتبه ، والعلّامة ابن حجر الهيثمي في «الصواعق المحرقة» وغيره من مصنّفاته ، والمحدّث الزرقاني في شرحه ل «المواهب اللدنّية» وجمّ غفير من الحفاظ النقّاد والمحدّثين المتقنين لفنون الأثر. وذكر القنوجي في «الإذاعة لما كان وما يكون بين يديّ الساعة» أنّ القاضي أبا عبد الله محمّد بن عليّ الشوكاني ألّف في إثبات تواتر أخباره كتابا أسماه : «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر

٦٦٢

والدجال والمسيح» ونقل عنه أنه قال فيه : «والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها ، منها خمسون حديثا فيها الحسن والصحيح والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحرّرة في الأصول ؛ وأما الآثار عن الصحابة المصرّحة بالمهدي فهي كثيرة لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك».

وقال القنوجي في كتابه المذكور : «والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حدّ التواتر وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد. وقد اضجع القول فيها ابن خلدون في مقدمة تاريخه حيث قال : يحتجون في الباب بأحاديث خرّجها الأئمة وتكلّم فيها المنكرون وربّما عارضوها ببعض الأخبار إلى آخر ما قال وليس كما ينبغي فإنّ الحق الأحق بالاتباع والقول المحقق عند المحدثين المميزين بين الدار والقاع أنّ المعتبر في الرواة رجال الحديث أمران لا ثالث لهما وهما : الضبط والصدق دون ما اعتبره أهل الأصول من العدالة وغيرها فلا يتطرق الوهن إلى صحة الحديث بغير ذلك ، كيف؟! ومثل ذلك يتطرق إلى رجال الصحيحين وأحاديث المهدي عند الترمذي وأبي داود وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبي يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة ؛ فتعرّض المنكرين لها ليس كما ينبغي ، والأحاديث يشدّ بعضها بعضا ويتقوّى أمرها بالشواهد والمتابعات ، وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها ضعيف وأمره مشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممر الأعصار».

وقال السفاريني في «الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضيّة» :

وما أتى في النص ما أشراط

فكلّه حق بلا شطاط

منها الإمام الخاتم الفصيح

محمّد المهديّ والمسيح

وقال في شرحه المسمى ب «لوائح الأنوار البهيّة وسواطع الأسرار الأثرية» :

٦٦٣

«قد كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل : لا مهدي إلا عيسى ، والصواب الذي عليه أهل الحق أنّ المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه‌السلام ، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حدّ التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنّة حتى عدّ من معتقداتهم» ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة فيه من طريق جماعة من الصحابة وقال بعدها : «وقد روي عمّن ذكر من الصحاب وغير من ذكر منهم بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم مما يفيد مجموعه العلم القطعيّ فالإيمان بخروج المهديّ واجب كما هو مقرّر عند أهل العلم ومدوّن في عقائد أهل السنّة والجماعة».

وفي «المراصد» :

وما من الأشراط قد صحّ الخبر

به عن النبي حق ينتظر

وخبر المهدي أيضا وردا

ذا كثرة في نقله فاعتضدا

قال شارحه في «مبهج المقاصد» : «هذا أيضا مما تكاثرت الأخبار به وهو المهدي المبعوث في آخر الزمان ورد في أحاديث السخاوي أنها وصلت إلى حدّ التواتر] (١).

وأما ما ادّعاه رونلدسن فجوابنا عليه :

(١) إذا كانت فكرة المهدويّة نتيجة فشل الشيعة واضطهادهم ، فهل أن اعتقاد أكابر علماء العامة وروايته لأحاديث المهديّ حيث بلغت فوق الاربعمائة خبر بطرق متعددة كان نتيجة فشلهم واضطهاد الآخرين لهم؟ ومن أين علم رونلدسن ذلك؟

(٢) لقد قام الإجماع بين المسلمين وتصافقت عليه الأخبار المتواترة والتي بلغت المئات ، كلها دلت على أن خروج المهديّ عليه‌السلام من المحتوم الذي لا يتخلّف وأنه عليه‌السلام يصلّي عيسى بن مريم خلفه ويبسط العدل ويرفع الظلم ، وليس الشيعة وحدهم الذين رووا هذه الأخبار ، مضافا إلى أن تاريخ صدور هذه الأخبار

__________________

(١) إبراز الوهم المكنون ص ٤٣٣ ـ ٤٣٦.

٦٦٤

كان قبل نشوء الدولة الأموية عام ٤١ ه‍ ، وسقوطها عام ١٣٢ ه‍ ، وعليه فما ادّعاه ذاك المستشرق الخبيث ما هو إلا افتراء على الشيعة الإمامية وإمامهم المغيّب عن دول الكافرين ، والمستتر عن أعين الظالمين.

الشبهة السابعة عشرة :

إنّ عدم التفات الإمام المهديّ عليه‌السلام إلى أنصاره بعدم رفع الظلم عنهم دليل عدم وجوده وذلك لأن الإمام المهدي لو كان موجودا لرفع الظلم المتوجه إلى شيعته وأنصاره ، لكونه شخصا ـ على فرض صحة ما يقول الشيعة ـ يشعر بالمسئولية والعطف تجاه أصحابه تماما كما كان أجداده ، فهو لا محالة رافع للظلم عنهم أو مشاركتهم في العمل ضده ، مع أنه لم يعمل ذلك ، بالرغم من أن المظالم في التاريخ كثيرة وشديدة ، إذن فهو غير موجود. وقد تبنى هذه الشبهة رونلدسن أيضا في كتابه حيث قال :

«وفي القرن التالي لغيبة الإمام استلم البويهيون زمام السلطة الزمنية ، فبذلوا جهودا كبيرة لتوحيد الطائفة الشيعية وتقويتها ، كبناء مشاهدها وجمع أحاديثها وتشجيع علمائها ومجتهديها ، ومع ذلك فلم يظهر الإمام المنتظر في هذا القرن الذي كانت الطائفة الشيعية تتمتع فيه بحسن الحال ومر قرن آخر دالت فيه دولة حماة الشيعة من البويهيين ، ولكنّ الإمام بقي في غيبته الكبرى ، ومرّ قرن ثالث يمتاز بالظلم والثورات وتحكم المماليك ، ولكنّ الإمام الذي كانوا يرتجون ظهوره لم يظهر ، وجاء دور الحروب الصليبية التي اشترك فيها (آل البيت) دون أن يكون لهم إمام ، فمن الجانب الإسلامي كانت السلطة لإعلان الجهاد تنحصر بيد بني العبّاس والفاطميين المارقين في مقاومة الجيوش الغازية للشعوب المسيحية بالاسم في أوروبا ، ولكن الإمام أخّر ظهوره ، وبعد مرور أربعة قرون على وفاة آخر الوكلاء في القرن الثالث عشر اجتاح الغزاة المغول بلاد إيران يقتلون ويهدمون بقساوة لا مثيل لها ، وبالرغم من التخريب والآلام فإن «صاحب الزمان» المنتظر بفارغ الصبر لم يظهر ، وحتى في ابتداء القرن السادس على زمن شيوخ آذربيجان

٦٦٥

والدولة الصفوية لم يتصل الإمام الغائب بشيعته إلا بالطيف ، فكان يظهر لهؤلاء الملوك كما يدّعون!!» (١).

يورد عليه :

أولا : يجب أن لا نتوقع من الإمام المهديّ عليه‌السلام الظهور الكامل ، تحت أي ظرف من الظروف ، باعتباره مذخورا لنشر العدل الكامل في العالم كله ، لا لرفع المظالم الوقتية ، ولا بدّ أن لا يغيب عن بالنا أيضا أن الإسراع بالظهور قبل أوانه يوجب جزما فشل التخطيط الإلهي لليوم الموعود ، لأن نجاحه منوط بشروط معيّنة وظروف خاصة لا تتوفر قبل اليوم الموعود جزما ، كما أن كل ما أعاق عن نجاحه لا يمكن وجوده بحسب إرادة الله تعالى وإرادة الإمام المهدي عليه‌السلام نفسه ، مهما كان الظرف مهما وصعبا.

ثانيا : نحتمل ـ على أقل تقدير ـ أن الإمام المهديّ عليه‌السلام يرى أن بعض الظلم الذي كان ساري المفعول خلال التاريخ ، كالحروب الصليبية مثلا غير قابلة للإزالة من قبله حال الغيبة بحال ، ولا ينفع التخطيط السري أو العمل الاعتيادي ، بصفته فردا عاديا في إزالتها لقوة تأثيرها وضراوة اندفاعها ، ومعه يصبح الإمام المهدي عليه‌السلام حال غيبته غير مكلّف من قبله عزوجل برفع هذا الظلم ، فيكون معذورا عن عدم التصدّي لرفعه طبقا للقواعد الإسلامية ولوظيفته الواعية الصحيحة.

ثالثا : إن جملة من موارد الظلم الساري في المجتمع لا يمكن للإمام المهديّ عليه‌السلام رفعه بالسبل العادية إلا إذا تحقق شرطان يضمنان ذلك :

الأول : أن لا يؤدي به عمله إلى انكشاف أمره وانتفاء غيبته ، وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون ، فالإمام المهديّ روحي فداه لا بدّ أن يقتصر على الحدود التي لا تؤدي إلى انكشاف أمره ، فيدقّق في ذلك ويخطّط له ، وهو الخبير الألمعي الذي

__________________

(١) عقيدة الشيعة / دوايت م. رونلدسن ص ٣٤٨.

٦٦٦

يحسب لكلّ عمل حسابه ، وأي عمل علم أن التدخل فيه يوجب الانكشاف انسحب منه ، مهما ترتبت عليه من نتائج ، لأن حفظ سره وذخره لليوم الموعود ، أهم من جميع ما يتركه من أعمال. لكن هذا لا ينافي تأثيره في الأعمال الإسلامية الخيّرة التي نراها سائدة في المجتمع ، وذلك لإمكان أن يكون هو المؤثّر في تأسيسها حال صغرها وضآلة شأنها ، وقد أودعها إلى المخلصين الذين يأخذون بها ويذكون أوارها بدون أن يلتفتوا أو يلتفت إلى حقيقة عمله ، بقليل ولا بكثير.

الثاني : أن لا يؤدي عمله إلى التخلّف والقصور في تربية الأمة ، أو اختلال شرائط يوم الظهور الموعود لو خرج قبل الوقت المقرّر.

بيان ذلك. أن ليوم الظهور الموعود شرائط ، ولكل شرط من تلك الشروط أسبابه وعلله ، تلك الأسباب التي تتولد وتنشأ في عصر ما قبل الظهور ، حتى ما إذا آتت أكلها وأثرت تأثيرها بتحقيق تلك الشروط وإنجازها ، كان يوم الظهور قد آن أوانه وتحققت أركانه.

والإمام المهديّ عليه‌السلام حيث يعلم الشرائط والأسباب ، مكلّف ـ على الأقل ـ بحماية تلك الأسباب عن التخلّف أو الانحراف ، لئلا يتأخر تأثيرها أو ينخفض عما هو المطلوب إنتاجها ، إن لم يكن مكلّفا بإذكاء أوارها والسير الحثيث في تقدّم تأثيرها.

ومن أهم شرائط اليوم الموعود : أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسئولية الإسلامية ، والاستعداد للتضحية في سبيل الله عزوجل ، أو على الأقل أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي الإمام المهديّ عليه‌السلام ضد الكفر والانحراف ، ويبني بساعده الغد الإسلامي المشرق ، ويكون الجيش المكوّن من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة الإمام المهديّ قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

٦٦٧

وإذا كان ذلك من الشرائط ، فلا بدّ من توفر أسبابه في زمن ما قبل الظهور في عصر الغيبة الكبرى ، والمحافظة على هذه الأسباب.

وأن السبب الرئيسي الكبير لتولد الوعي والشعور بالمسئولية الإسلامية والإقدام على التضحية لدى الأمة ، هو مرورها بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة ، وإحساسها بالظلم والتعسف ردحا كبيرا من الزمن ، حتى تستطيع أن تفهم نفسها وأن تشخّص واقعها وتشعر بمسئوليتها ، فإن هذه الصعوبات كالمبرد الذي يجلو الذهب ويجعل السكّين نافذا ، فإن الأمة ـ في مثل ذلك ـ لا تخلد إلى الهدوء والسكون ، بل تضطر إلى التفكير بأمرها وبلورة فكرتها وتشخيص آلامها وآمالها وتشعر بنحو وجداني عميق بسهولة التضحية في سبيل الأهداف الكبيرة ووجوبها إذا لزم الأمر ونادى منادي الجهاد.

وتلك الأمة الواعية هي التي تستطيع أن تضرب قدما بين يدي الإمام المهديّ عليه‌السلام وأن تؤسس العدل المنتظر في اليوم الموعود ، دون الأمة المنحرفة المتداعية ، أو الأمة المنعزلة المتحنثة.

فإذا كان مرور الأمة بظروف الظلم والتعسف ضروريا لتحقيق شرط اليوم الموعود ، ومثل هذا الشرط يجب رعايته والمحافظة عليه ، فالإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف بالرغم من أنه يحس بالأسى لمرور شعبه وقواعده الموالية بمثل هذه الظروف القاسية ، إلّا أنه لا يتصدى لإزالتها ولا يعمل على تغييرها ، تقديما لمصلحة اليوم الموعود على أهل هذا اليوم الموجود.

وأما ما لا يكون من الظلم دخيلا في تحقيق ذلك الشرط ، وكان الشرط الأول لعمل الإمام المهديّ عليه‌السلام متوفرا فيه أيضا ، فإن الإمام ـ فديته بنفسي ـ يتدخل لإزالته ويعمل على رفعه ، بموجب تكليفه الشرعي المتوجه إليه.

ونحن الذين لا نعيش نظر الإمام المهديّ عليه‌السلام وأهدافه نكاد نكون في جهل مطبق من حيث تشخيص أن هذا الظلم هل له دخل في تحقيق شرط الظهور أو لا ،

٦٦٨

ما عدا بعض الموارد التي نظن دخالتها في ذلك ، ولكنّ معرفتها تحتاج إلى نظر بعيد يمتد خلال السنين إلى يوم الظهور ، وهذا النظر منعدم لدى أي فرد في العالم ما عدا الإمام المهديّ عليه‌السلام نفسه ، فيعود تشخيص ذلك إليه ، بما وهبه الله تعالى من ملكات وقابليات على تشخيص الداء ووصف الدواء.

رابعا : إن بعض موارد الظلم لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الشرطين السابقين ، باعتبار أن وجوده سبب لانتشار الوعي في الأمة وشعورها بالمسئولية الذي هو أحد الشروط الكبرى ليوم الظهور ، وعلى الأمة أن تكافح لإزالته ، إلا أن الإمام المهديّ لا يتسبب لرفعه ، لأن في رفعه إزالة للشرط الأساسي لليوم الموعود ، وهو ما لا يمكن تحققه في نظر الإمام عليه‌السلام.

إذن فسائر أنحاء الظلم الساري المفعول في التاريخ لا محالة مندرج تحت أحد هذه الأقسام ، فإذا كان الإمام المنتظر عليه‌السلام قد عمل لإزالتها فقد خالف وظيفته ومسئوليته الحقيقية تجاه اليوم الموعود والحفاظ عليه.

فليس هناك أي تلازم بين وجود الإمام المهديّ وبين وقوفه ضد هذه الأنحاء من الظلم والشرور ، حتى يمكن لرونلدسن أن يستنتج من عدم وقوفه ضد الظلم عدم وجوده. أما بقية الأنحاء الأخرى من الظلم ، فإن تكليف الإمام عليه‌السلام ووظيفته الشرعية يقتضيان وقوفه ضده وحيلولته دونه بصفته فردا من أفراد المجتمع الإسلامي ، فهو يقف ضد الظلم في حدود الشروط الخاصة الإسلامية ، كيف وهو على طول الخط يمثّل المعارضة الصامدة ضد الظلم والطغيان.

الشبهة الثامنة عشرة :

أخرج الشيخ الطوسي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي «الشيخ الصدوق» عن أبي محمّد أحمد بن الحسن المكتب قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمّد السمري رضي الله عنه «السفير الرابع» فحضرته قبل وفاته بأيام ، فأخرج إلى الناس توقيعا من الإمام المهديّ عليه‌السلام هو نسخته :

٦٦٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

«يا عليّ بن محمّد السمري أعظم الله أجر اخوانك فيك فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام فأجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم». قال : فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ، فلمّا كان اليوم السادس ، عدنا إليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيك من بعدك؟ فقال : «لله أمر هو بالغه» وقضى ، بهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه» (١).

فالنص واضح في مدلوله من حيث عدم إمكان مشاهدة الإمام المهديّ عليه‌السلام قبل الصيحة وخروج السفياني ، فالإمام عليه‌السلام قبل تحقق هاتين العلامتين في احتجاب تام عن قواعده الشعبية المؤمنة به ، ومن الواجب ـ بحسب مقتضاه تكذيب كلّ من ادّعى رؤية الإمام المهديّ روحي فداه قبل تحقق ذلك ، وهو بظاهره ينافي الأخبار القطعية المتواترة التي وردتنا عن مقابلة الكثيرين للإمام المهديّ عليه‌السلام خلال غيبته الكبرى على نحو لا يمكن الطعن في التوقيع ، ومقتضى هذه الأخبار لزوم تصديق المخبرين في الجملة ، مع أن هذا التوقيع يوجب علينا تكذيبه ، فكيف نوفّق بينه وبين تلك الأخبار؟

والجواب عنه من وجوه :

الوجه الأول : طعن الأصحاب في سند التوقيع من حيث كونه خبرا واحدا مرسلا ضعيفا ، لم يعمل به ناقله وهو الشيخ الطوسي في كتابه المذكور ، وأعرض الأصحاب عنه ، فلا يعارض حينئذ تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن

__________________

(١) غيبة الشيخ الطوسي ص ٢٤٢ وبحار الأنوار ج ٥٢ / ١٥١ وج ٥٣ / ٣١٨ ومنتخب الأثر ص ٤٠٥ وفي نسخة البحار (وسيأتي من شيعتي من يدّعي) وفي نسخة : (وسيأتي في شيعتي).

٦٧٠

مجموعها بل من بعضه المتضمّن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها عن غيره عليه‌السلام (١).

ـ هذا الوجه لا يخلو من مناقشة :

أولا : «أما كونه خبر واحد ، فهو ليس نقصا فيه ، لما ثبت في علم أصول الفقه من حجية خبر الواحد الثقة ، وأما القول بعدم حجيته فهو شاذ لا يقول به إلّا القليل النادر من العلماء» (٢).

ولكن يرد عليه :

إن محل النزاع إنّما هو في الخبر الضعيف لا الثقة ، فما أفاده الشهيد العلّامة الصدر أعلى الله مقامه الشريف مصادرة على المطلوب ، وراوي الحديث هو أبو محمّد أحمد بن الحسن المكتب مجهول إذ ليس له ذكر في تراجم الرجال ، إلّا إذا قلنا بالملازمة بمعنى إن الثقة لا يروي إلا عن الثقة ، فبما أن الصدوق عليه الرحمة ثقة وقد روى عنه فيكون المذكور ثقة.

لكنّ الملازمة مخدوشة إذ قد يشتبه الثقة بالتشخيص ، لكنّه مردود أيضا لجلالة الشيخ الصدوق لكونه من البعيد جدا أن ينقل عن الكذّابين ولأن ذلك منفي بالأصل ، هذا مضافا إلى عدم وجود ملازمة بين وثاقة الشيخ الصدوق وبكل ما رواه عن الغير ، فقد اعتمد في كتابه «الفقيه» على المراسيل وبعض المجاهيل وعذره أنها صحيحة بنظره : إما لوجود قرائن حافة بالخبر تفيد القطع أو الاطمئنان بصدور الخبر عن المعصوم ، وذلك لأن الصحيح عند القدماء ـ حسبما أفاد المحقق البهائي في كتابه مشرق الشمسين وتعليقة البهبهاني ص ٢٧ ـ هو عبارة عمّا اعتضد بما يقتضي الوثوق به والركون إليه وأسبابه مختلفة. وإما لأن أحمد بن الحسن المكتب ثقة بنظره ، وجهالته عند أصحاب التراجم لا تستلزم عدم وثاقته ،

__________________

(١) منتخب الأثر ص ٤٠٥.

(٢) الغيبة الصغرى / الحجّة السيّد محمد الصدر ص ٦٤١.

٦٧١

فلا يمنع الأخذ بما رواه عنه لا بعنوان كونه مرويا عن أحمد بن الحسن وإنّما لعمل الطائفة بمضمونه من حيث تكذيبهم لكلّ من ادّعى السفارة بعد موت السمري.

ثانيا : على فرض كونه ضعيفا ، فيكفي للإثبات التاريخي ، لحصول الاطمئنان بصدوره ـ أو على أقل تقدير عدم رفضه ـ لقرائن أو اعتبارات عقلية يمكن من خلالها تأويل التوقيع بما يتناسب والأخبار القطعية الدالة على وقوع المشاهدة أو اللقاء مع الإمام عليه‌السلام. وإعراض الشيخ الطوسي والأصحاب عن العمل به قد يكون ناتجا عن إثباتهم رؤية الإمام المهديّ في غيبته الكبرى ، وهذا مما لا شك فيه ، «إلّا أنه إنما يصلح دليلا على إعراضهم لو كانت هناك معارضة ومنافات بين الوقيع وإثبات الرؤية ، وأما مع عدم المعارضة فيمكن أن يكون الأصحاب قد التزموا بكلا الناحيتين من دون تكاذب بينهما ، ومعه لا دليل على هذا الإعراض منهم» (١).

لكن يظهر أن الأصحاب لم يلتزموا بكلا الناحيتين كما أفاد قدّس سره ، وإلّا لما وسعهم الإعراض عن التوقيع الشريف ، نعم على مسلك غير المشهور من الأصوليين فإن إعراضهم عن الخبر الصحيح ـ لو سلّمنا بكون سند التوقيع صحيحا ـ لا يوجب وهن الحديث ولا يسقط عن الحجبة ، وعليه فتبقى المعارضة بين التوقيع والنقولات الصحيحة باقية ، وأما على مسلك مشهور الأصوليين القائلين بأن إعراض المشهور عن الخبر الصحيح أو الموثق يوجب وهنه وسقوطه عن الحجية ، فلا معارضة حينئذ بين التوقيع والنقولات القطعية وذلك لأرجحية تقديم النقولات على التوقيع من دون حاجة إلى تأويله.

الوجه الثاني :

عدم جواز الطعن في أسانيد الأخبار الناقلة لمشاهدة الإمام المهديّ عليه‌السلام في غيبته الكبرى ، والشطب عليها جملة وتفصيلا ، وذلك لكونها طائفة ضخمة من

__________________

(١) الغيبة الصغرى ص ٦٤١.

٦٧٢

الأخبار يصل عددها إلى المئات ، وبعضها مروي بطرق معتبرة وقريبة الإسناد فلا يمكن رفضها بحال ، وهذا كلّه واضح لمن استقرأ تلك الأخبار وعاش أجواءها.

ودعوى حمل هذه الأخبار على الوهم ، وأن هؤلاء الذين زعموا أنهم رأوا وسمعوا .. لم يرووا ولم يسمعوا ، وإنما كان كلامهم كذبا متعمّدا أو أضغاث أحلام وما شابه ذلك ، مردودة من أساسها لأن كثرتها مانعة عن كلا الأمرين : الكذب والوهم ، أمّا تعمد الكذب فهو منفي بالتواتر ، فضلا عما زاد عن ذلك بكثير ، مضافا إلى وثاقة وتقوى عدد مهم من الناقلين وعدم احتمال تعمدهم للكذب أساسا ، هذا مضافا إلى أن أخبار هؤلاء الثقات الناقلين موردا لقيام السيرة على الأخذ بأخبار الثقة ، وكونهم مشمولين لإطلاق الأدلة اللفظية الدالة على حجية أخبار الثقات.

وأمّا كونها من قبيل الأوهام والأحلام ، فهو مما ينفيه تكاثر النقل أيضا ، بل يجعل الاعتراف به في عداد المستحيل ، ويمكن أن تجد أثر ذلك في نفسك ، فيما لو أخبرك واحد بحادثة ما لكان احتمال الوهم موجودا وإن كان موهونا ، إلّا أنه لو أخبرك ثلاثة أو أربعة عن تلك الحادثة لحصل لك الاطمئنان أو العلم بصدق الخبر وحصول الحادثة ، فضلا عما إذا أخبرك بها عشرة ، فكيف إذا أخبرك بها مئات ، وهل تستطيع أن تحملهم كلهم على الوهم أو على أضغاث أحلام ، إلا إذا كنت تعيش الوهم أو الأضغاث؟

فإن قيل : إن الناقلين للمشاهدة وإن كانوا صادقين في إخباراتهم ، إلّا أنهم في الحقيقة لم يشاهدوا الإمام المهديّ عليه‌السلام بل شاهدوا غيره ، وتوهّموا أنه على غير الواقع.

قلنا : هذا غير صحيح وذلك لأمرين :

الأول : أنه مما ينفيه التواتر ، فضلا عما زاد عليه من أعداد الروايات والنقول بحيث يحصل القطع من مجموعها بأن الناقلين على كثرتهم لم يكونوا مغفلين إلى

٦٧٣

هذه الدرجة ، فإن جلّهم إن لم يكن كلهم يقطعون بأنهم قد شاهدوا الإمام المهديّ عليه‌السلام نفسه.

الثاني : أنه مما تنفيه الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة التي أقامها ـ ويقيمها ـ الإمام المهديّ روحي فداه أثناء المقابلة ، وينقلها هؤلاء الناقلون ، مما لا يمكن صدورها من أحد سواه ، فيتعين أن يكون هو الإمام المهديّ عليه‌السلام دون غيره.

الوجه الثالث :

أن نعترف بصدق هذه النقولات ومطابقتها للواقع ، لكن يلتزم بوجوب تكذيبها تعبّدا ، إطاعة للأمر الوارد في التوقيع.

يرد عليه :

أنه مما لا يكاد يصح ، فإنه خلاف ظاهر الحديث بل صريحه ، حيث يقول : «فهو كذّاب مفتر» الدال على عدم مطابقة قوله للواقع ، ولم يقل : «فكذّبوه» ليكون من قبيل الأمر الصادر من الإمام ليطاع تعبّدا ، على أنه لا يمكن للإمام المهديّ عليه‌السلام أن يأمر بالتكذيب مع علمه بوقوع المشاهدة الثابتة عندنا بالتواتر.

الوجه الرابع :

يحمل التوقيع الوارد عنه عليه‌السلام على دعوى المشاهدة مع ادّعاء الوكالة أو السفارة عن الإمام المهدي عليه‌السلام وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء في الغيبة الصغرى ، وهذا أقرب الوجوه ، وقد أخذ به مشهور المتأخرين ، منهم المجلسي أعلى الله مقامه الشريف (١). وأما المتقدّمون فقد أجمعوا على جواز لقاء الخلّص من الشيعة بالإمام المهديّ عليه‌السلام وهذا يعني التقاء المتأخرين بهم ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٢ / ١٥١ والنوري في جنة المأوى مطبوع في آخر البحار ج ٥٣ / ٣١٩ ، والصافي في منتخب الأثر ص ٤٠٥.

٦٧٤

مما يستتبع القول بوجود اتفاق بين الجميع على هذا الوجه (١).

وبالجملة فإن معناه كما هو الراجح : ادّعاء النيابة الخاصة والسفارة بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري حيث ورد في أوله تعزية الإمام المهديّ عليه‌السلام للمؤمنين بموت سفيره الرابع السمري ما بينه وبين ستة أيام ، ثم أمره عليه‌السلام السمري بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته ، إذ قد وقعت الغيبة التامة وأنه لا ظهور حتى يأذن الله تعالى ذكره ، ويشهد له براءة المؤمنين المعاصرين للغيبة الصغرى أمثال ابن قولويه القمي المتوفى سنة ٣٦٨ ه‍ حيث قال : «إن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل» (٢). فالمشاهدة أخذ فيها الشهود والحضور ، بمعنى أن النائب أو السفير كان دائم الحضور والمشاهدة للإمام المهديّ عليه‌السلام أو على أقل تقدير كان أكثر أوقاته قائما في خدمة الإمام المهديّ عليه‌السلام متشرفا بالحضور بين يديه ، وقد استفدنا ذلك من الاطلاق الموجود في كلمة «المشاهدة» حيث هي اسم اتصلت به لام الجنس التي تفيد الاطلاق والشيوع في متعلقها ، ولو أراد الإمام عليه‌السلام غير النيابة والوكالة لكان قال : «ومن ادّعى مشاهدتي .. فهو كذاب مفتر» لذا كرّر روحي فداه كلمة «المشاهدة» في التوقيع مرتين ، تأكيدا لما قلنا ، وعليه : فإن مفهوم المشاهدة قد أخذ فيها تكرار الرؤية والحضور وهذا غير حاصل لمن رآه مرة أو مرتين لقضاء حاجة أو نجاة من ظالم ، وإلّا لكان عليه أن يعبّر عن هذا بما قلنا آنفا ، أو بقوله : «من ادّعى المشاهدة البصرية» إلا أن الإمام المهديّ عليه‌السلام لم يقل ذلك ، ومقتضاه تكذيب من ادّعى السفارة والوكالة الخاصة التي هي القدر المتيقن من دلالة النص ، وما عداه مشكوك به فيبقى ضمن أصالة الجواز أو الإباحة.

رأي العلّامة الصدر «قدس‌سره» :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٠ ـ ٣٢٣.

(٢) غيبة الطوسي ص ٢٥٥.

٦٧٥

نفى الشهيد السعيد محمد صادق الصدر أعلى الله مقامه أن تكون «المشاهدة» بمعنى ادّعاء السفارة فقط بل عمّمه إلى كل من ادّعى الرؤية ، فقال :

«حمل التوقيع الشريف على دعوى المشاهدة مع ادّعاء الوكالة أو السفارة عنه عليه‌السلام ، وإن استقربه بعض ، إلا أنه في الواقع بعيد جدا ، بمعنى أنه خلاف الظاهر من عبارة الإمام المهديّعليه‌السلام في بيانه ، فإنه يحتاج إلى ضم قيد أو لفظ إلى عبارته لم تقم قرينة على وجودها .. كما لو كان قد قال : ألا فمن ادّعى المشاهدة مع الوكالة فهو كذاب مفتر ، إلا أن الإمام المهديعليه‌السلام لم يقل ذلك كما هو واضح ، ومقتضاه عموم التكذيب لمن ادعى السفارة وغيره» (١).

والجواب :

(١) يورد عليه ما ذكرناه آنفا ، مضافا إلى أن التوقيع لو كان مقتضاه عموم التكذيب لمن ادّعى السفارة وغيره لكان الأجدر أن يحذف لام الجنس من كلمة «المشاهدة» مضيفا إليها ياء النسبة ، كما لو كان قد قال : «ألا فمن ادعى مشاهدتي» من دون ضم قيد آخر إليها حسبما ذكر قدّس سره.

(٢) مع وجود قرينة مقامية وعرفية في البين لا حاجة لنصب قرينة لفظية للدلالة على المطلوب ، هذا مع أن القرينة قد قامت على نفي السفارة والوكالة كما أفدت آنفا ، فدعوى أن التوقيع بحاجة إلى ضم قيد أو لفظ إلى عبارته لم تقم قرينة على وجودها غير تامة لأن التقييد بالوكالة أو السفارة موجود في نفس لفظ «المشاهدة» والذي كما قلنا يفيد استمرار عملية الاتصال بالإمام المهديّ عليه‌السلام.

هذا مضافا إلى أن ما أفاده أعلى الله مقامه آنفا يتعارض مع ما ذكره في موضع آخر من كتابه حيث استظهر هناك «من قوله [ادّعى المشاهدة] بما إذا ادّعى المتكلم رأسا أنه رأى الإمام المهديّ عليه‌السلام وتعهد بذلك للسامع ، فهو المنفي بلسان التوقيع ، وأما إذا لم يخبر بذلك صراحة وإنما أو كل الجزم بذلك إلى وجدان

__________________

(١) الغيبة الصغرى / السيّد محمد صادق الصدر ص ٦٤٤.

٦٧٦

السامع فهو مما لا ينفيه التوقيع الشريف» (١) فتخصيصه المشاهدة بهذا التعليل خلاف الاطلاق الذي ادّعاه فيما سبق ، هذا مع اعتقاده عليه الرحمة إمكان رؤية الإمام المهديّ عليه‌السلام في حال كون الرائي قاطعا (٢) بأن ما رآه هو الإمام عليه‌السلام.

(٣) شمول «المشاهدة» لمن ادّعى السفارة وغيره حسبما أفاد العلّامة الصدر يتعارض مع الأخبار المستفيضة منها : موثقة إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : للقائم غيبتان : إحداهما طويلة والأخرى قصيرة ، فالأولى يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه (٣). مضافا إلى ما ورد في الأسانيد المعتبرة منها موثقة أبي بصير عن مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة ولا بدّ له في غيبته من عزلة ، ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة (٤).

ومن المعلوم أن من يراه من خاصة مواليه في الغيبة الكبرى ليسوا سفراء أو وكلاء للإمام المهديّ عليه‌السلام ، ومع هذا فقد أثبت الخبر المتقدّم صحة مشاهدتهم لإمامهم المهدي عليه‌السلام ، وكذا الذين يلازمونه من الثلاثين الأبدال في كل عصر حيث قبل أن يتشرفوا باللقاء كانوا محجوبين عن المشاهدة ، ودليلنا على ذلك أيضا ما ورد في خبر عليّ بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي قال :

خرجت في بعض السنين حاجّا إذ دخلت المدينة وأقمت بها أياما أسأل وأبحث عن صاحب الزمان فما عرفت له خبرا ولا وقعت لي عليه عين فاغتممت غمّا شديدا وخشيت أن يفوتني ما أملته من صلب صاحب الزمان ، فخرجت حتى أتيت مكة فقضيت حجتي واعتمرت بها أسبوعا ، كل ذلك أطلب ، فبينما أنا أفكر إذ انكشف لي باب الكعبة ، فإذا أنا بإنسان كأنه غصن بان ، متزر ببرده متشح بأخرى

__________________

(١) نفس المصدر ص ٦٤٩.

(٢) نفس المصدر ص ٦٥٠.

(٣) غيبة النعماني ص ١١٣ وأصول الكافي ج ١ / ٣٤٠ ح ١٩ وبحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٤.

(٤) أصول الكافي ج ١ / ٣٤٠ ح ١٦ وبحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٠ وغيبة النعماني ص ١٢٥.

٦٧٧

قد كشف عطف بردته على عاتقه فارتاح قلبي وبادرت لقصده فأثنى إليّ وقال : من أين الرجل؟ قلت : من العراق ، قال من أي العراق؟ قلت من الأهواز ، فقال : أتعرف الحضيني؟ قلت : نعم ، قال : رحمه‌الله فما كان أطول ليله وأكثر نيله وأغزر دمعته! قال : فابن المهزيار؟ قلت : أنا هو ، قال : حيّاك الله بالسلام أبا الحسن ثم صافحني وعانقني ، وقال : يا أبا الحسن ، ما فعلت بالعلامة التي بينك وبين الماضي أبي محمّد نضّر الله وجهه؟ قلت : معي ، وأدخلت يدي إلى جنبي (جيبي) وأخرجت خاتما عليه : محمّد وعليّ ، فلما قرأه استعبر حتى بلّ طمره الذي كان عليه وقال : يرحمك الله أبا محمّد فإنك زين الأمة ، شرّفك الله بالإمامة وتوّجك بتاج العلم والمعرفة فإنّا إليكم صائرون ثم صافحني وعانقني ثم قال : ما الذي تريد يا أبا الحسن؟ قلت : الإمام المحجوب عن العالم ، قال : ما هو محجوب عنكم ولكن حجبه سوء أعمالكم ، قم سر إلى رحلك وكن على أهبة من لقائه إذا انحطت الجوزاء وأزهرت نجوم السماء ، فها أنا لك بين الركن والصفا (١) ، فطابت نفسي وتيقنت أن الله فضلني ، فما زلت أرقب الوقت حتى حان ، وخرجت إلى مطيتي واستويت على رحلي فإذا أنا بصاحبي ينادي يا أبا الحسن ، فخرجت فلحقت به فحياني بالسلام وقال : سر بنا يا أخ ، فما زال يهبط واديا ويرقى ذروة جبل إلى أن علقنا على الطائف ، فقال : يا أبا الحسن انزل بنا نصلّي باقي صلاة الليل .. إلى أن قال : وركب وأمرني بالركوب وسار وسرت معه حتى أشرفنا على وادي عظيم ، فقال : هل ترى شيئا؟ قلت : نعم أرى كثيب رمل عليه بيت شعر ، يتوقد البيت نورا ، فلما رأيته طابت نفسي ، فقال لي : هناك الأمل والرجاء ، ثم قال : سر بنا يا أخ ، فسار وسرت بمسيره إلى أن انحدر من الذروة وسار في أسفله ، فقال : انزل فههنا يذلّ كلّ صعب ، ويخضع كلّ جبار ، ثم قال : خلّ عن زمام الناقة ، قلت : فعلى من أخلّفها؟ فقال: حرم القائم عليه‌السلام ، لا يدخله إلّا مؤمن ولا يخرج منه إلا

__________________

(١) في نسخة بحار الأنوار ج ٥٢ / ١٠ : «حتى إذا لبس الليل جلبابه .. صر إلى شعب بني عامر فإنك ستلقاني هناك».

٦٧٨

مؤمن ، فخلّيت عن زمام راحلتي وسار وسرت معه إلى أن دنا من باب الخباء فسبقني بالدخول وأمرني أن أقف حتى يخرج إليّ ثم قال لي : ادخل هنأك السلامة ، فدخلت فإذا أنا به جالس قد اتّشح ببردة واتزر بأخرى ، وقد كسر بردته على عاتقه وهو كأقحوانة ارجوان قد تكاثف عليها الندى وأصابها ألم الهوى وإذا هو كغصن بان (١) أو قضيب ريحان سمح سخيّ تقي نفي ليس بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللازق ، بل مربوع القامة مدوّر الهامة صلت الجبين أزجّ الحاجبين أقنى الأنف سهل الخدّين ، على خده الأيمن خال كأنه فتات مسك على رضراضة عنبر.

فلمّا أن رأيته بدرته بالسلام فردّ عليّ أحسن ما سلّمت عليه ، قال لي : يا أبا الحسن قد كنّا نتوقعك ليلا ونهارا فما الذي أبطأ بك علينا؟ قلت : يا سيّدي لم أجد من يدلني إلى الآن ، قال لي : ألم تجد أحدا يدلك؟! ثم نكت بإصبعه في الأرض ، ثم قال : ولكنكم كثّرتم الأموال وتجبرتم على ضعفاء المؤمنين وقطعتم الرحم الذي بينكم فأي عذر لكم؟

فقلت : التوبة التوبة الإقالة الإقالة ، ثم قال : يا ابن المهزيار : لو لا استغفار بعضكم لبعض لهلك من عليها إلّا خواص الشيعة الذين تشبه أقوالهم أفعالهم ، ثم قال : يا ابن المهزيار ومدّ يده : ألا أنبئك الخبر إذا قعد الصبي وتحرك المغربي وسار العماني وبويع السفياني يؤذن لوليّ الله فأخرج بين الصفا والمروة في ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا فأجيء إلى الكوفة وأهدم مسجدها وأبنيه على بنائه الأول وأهدم ما حوله من بناء الجبابرة وأحج بالناس حجة الإسلام وأجيء إلى يثرب فأهدم الحجرة وأخرج من بهما وهما طريان (٢) فآمر بهما تجاه البقيع وآمر بخشبتين يصلبان عليهما فتورق من تحتهما فيفتتن الناس بهما أشدّ من الفتنة الأولى ، فينادي مناد من السماء : يا سماء أبيدي ويا أرض خذي ، فيومئذ لا يبقى على وجه الأرض

__________________

(١) البان : شجر سبط القوام لين وورقه كورق الصفصاف.

(٢) أي يحييهما الإمام المهدي عليه‌السلام ليحاسبهما في الدنيا أمام أعين محبيهما ليكونا عبرة لغيرهما وفتنة لمن اتبعهما.

٦٧٩

إلّا مؤمن قد أخلص قلبه للإيمان ..» (١).

والعبرة التي نستخلصها من هذا الحديث الشريف هي أمور :

الأول : أن سوء الأعمال تحجب عن رؤية الإمام عليه‌السلام ، إذ كيف يلتقي الظلام بالنور. فبما أن ابن مهزيار وصل إلى مرحلة الإخلاص تشرف باللقاء ، ومنه نفهم أن الإمام يحتجب عمّن يخاف منه على الإمام عليه‌السلام ، وأفلح عند ما قال السيّد المرتضى أعلى الله مقامه :

«إذا كانت العلة في استتار الإمام خوفه من الظالمين ، واتقائه من المعاندين ، فهذه العلة زائلة في أوليائه وشيعته ، فيجب أن يكون ظاهرا لهم ، وغير ممتنع أن يكون الإمام يظهر لبعض أوليائه ممن لا يخشى من جهته شيئا من أسباب الخوف ، وأن هذا مما لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه ، وإنما يعلم كلّ واحد من شيعته حال نفسه ، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره» (٢).

وقال شيخ الطائفة الطوسي أعلى الله مقامه :

«والذي ينبغي أن يقال : إنّا أولا لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه بل يجوز أن يبرز لأكثرهم ولا يعلم كل إنسان إلّا حال نفسه ، فإن كان ظاهرا له فعلّته مزاحة ، وإن لم يكن ظاهرا علم أنه إنما لم يظهر له لأمر يرجع إليه وإن لم يعلمه مفصّلا لتقصير من جهته ..» (٣).

وقال جمال العارفين ابن طاوس أعلى الله مقامه :

«الإمام عليه‌السلام حاضر مع الله جلّ جلاله على اليقين ، وإنما غاب من لم يلقه عنهم ، لغيبته عن حضرة المتابعة له ولربّ العالمين ..» (٤).

__________________

(١) دلائل الإمامة للطبري ص ٢٩١ ـ ٢٩٢ وبحار الأنوار ج ٥٢ / ٩ ـ ١٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٣ نقلا عن السيد المرتضى.

(٣) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٣ نقلا عن السيد الطوسي.

(٤) بحار الأنوار ج ٥٣ / ٣٢٣ نقلا عن السيد ابن طاوس.

٦٨٠