أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

الغيبة ، وليس هذا بنسخ لإقامة الحدود ، لأن الحدّ إنما يجب إقامته مع التمكن وزوال الموانع ، ويسقط مع الحيلولة ، وإنما يكون مع ذلك نسخا لو سقط فرض إقامة الحدّ مع التمكن وزوال الأسباب المانعة. ثم يقلب هذا على العامة أصحاب الشّبهة ، فيقال لهم : كيف قولكم في الحدود التي تستحقها الجناة في الأحوال التي لا يتمكن فيها أهل الحل والعقد من اختيار الإمام ونصبه؟ فأي شيء قالوه في ذلك قلنا مثله.

هذا مضافا إلى أننا نسأل أصحاب الشبهة : كيف لا تقيمون الأحكام والحدود في وقتنا الحاضر مع أنكم لا تعتقدون بوجود الإمام عليه‌السلام ، فهل غيابه واستتاره هو المانع لكم من ذلك مع عدم اعتقادكم بوجوده ، أم أن المانع هو جهات خارجية اقتضت عدم القدرة على إقامة ما ذكرتم؟ فلا شك أن المانع عندكم هو الثاني ، وعليه فيتحقق مطلوبنا وهو أن المانع ليس غيابه وإنّما تصرفات العباد القبيحة فلا ملازمة حينئذ بين غيابه وسقوط الحدود عن الجناة.

الشبهة التاسعة :

إن الشيعة الإمامية يناقضون أنفسهم من حيث اعتقادهم بوجوب الإمامة وقولهم بشمول المصلحة للأنام بوجود الإمام وظهوره وأمره ونهيه وتدبيره ، واستشهادهم على ذلك بحكم العادات في عموم المصالح بنظر السلطان العادل وتمكّنه من البلاد والعباد ، وفي نفس الوقت يقول الشيعة إن الله تعالى قد أباح للإمام الغيبة عن الخلق ، وسوّغ له الاستتار عنهم ، وأن ذلك هو المصلحة وصواب التدبير للعباد ، وهل هذا إلا التناقض الواضح الذي لا يقرّه العقل والدين؟.

والجواب :

إن الشبهة المذكورة انطلت على المخالف واستولت عليه لبعده عن سبيل الاعتبار ووجود الصلاح وأسباب الفساد ، وذلك أن المصالح تختلف باختلاف الأحوال ، ولا تتفق مع تضادّها ، بل يتغير تدبير الحكماء في حسن النظر

٦٤١

والاستصلاح بتغيّر آراء المستصلحين وأفعالهم وأغراضهم في الأعمال ، ألا ترى أن الحكيم من البشر يدبّر ولده وأحبّته وأهله وعبيده وحشمه بما يكسبهم المعرفة والآداب ، ويبعثهم على الأعمال الصالحة ليستحقوا بذلك الذكر الجميل وحسن الثناء والمديح ، فيكونوا بذلك موضع ثقتهم واعتمادهم في الأمور كافّة إلى تجارة أو وكالة ، فيمكنوهم من الأموال ، فيحصل لهم السرور المتواصل ، وينالوا بما يحصل لهم من الأرباح الملذات ، وذلك هو الأصلح لهم ، ومتى واصلوا الجدّ في العمل وأخلصوا فيه بأقوالهم ، بما يوجب استمرار نشاطهم ، سهّلوا عليهم السبل الموصلة إليه ، وكان ذلك هو الصلاح العام ، وما أخذوا بتدبيرهم إليه وأحبّوه منهم وأبرّوه لهم ، وإن عدلوا عن ذلك إلى السفه والظلم ، وسوء الأدب والبطالة ، واللهو واللعب ، كانت المصلحة لهم قطع موارد السعة عنهم في الأموال والاستخفاف بهم والإهانة والعقاب ، وليس في ذلك تناقض بين أغراض العاقل ، ولا تضادّ في صواب التدبير والصلاح.

وعلى هذا الوجه الذي حقّقناه كان تدبير الله تعالى لخلقه ، وإرادته عمومهم بالصلاح ، ألا ترى أنه خلقهم فأكمل عقولهم وكلّفهم الأعمال الصالحات ليكسبهم بذلك حالا في العاجلة ، ومدحا وثناء حسنا وإكراما وإعظاما وثوابا في الآجل ، ويدوم نعيمهم في دار المقام ، فإن تمسّكوا بأوامر الله ونواهيه وجب في الحكم إمدادهم بما يزدادون به منه ، وسهّل عليهم سبيله ، ويسّره لهم ، وإن خالفوا ذلك وعصوه تعالى وارتكبوا نواهيه ، تغيّرت الحال فيما يكون فيه صلاحهم ، وصواب التدبير لهم لوجب قطع موادّ التوفيق عنهم ، وحسن منه ذمّهم وحربهم ، وكان ذلك هو الأصلح لهم والأصوب في تدبيرهم مما كان يجب في الحكمة لو أحسنوا ولزموا السداد ، فليس ذلك تناقضا في العقل ولا تضادا في قول أهل العدل ، بل هو ملتئم على المناسب والاتفاق.

ألا ترى أنّ الله تعالى دعا الخلق إلى الإقرار به وإظهار التوحيد والإيمان برسله عليهم‌السلام لمصلحتهم ، وأنه لا شيء أصوب في تدبيرهم من ذلك ، فمتى

٦٤٢

اضطرّوا إلى إظهار كلمة الكفر للخوف على دمائهم كان الأصلح لهم والأصوب في تدبيرهم ترك الإقرار بالله والعدول عن إظهار التوحيد والمظاهرة بالكفر بالرسل ، وإنما تعيّرت المصلحة بتغيّر الأحوال ، وكان في تغيير التدبير الذي دبّرهم الله به فيما خلقهم له مصلحة للمتّقين ، وإن كان ما اقتضاه من فعل الظالمين قبيحا منهم ومفسدة يستحقّون به العقاب الأليم.

وقد فرض الله تعالى الحجّ والجهاد وجعلهما صلاحا للعباد ، فإذا تمكّنوا منه عمّت به المصلحة ، وإذا منعوا منه بإفساد المجرمين كانت المصلحة لهم تركه والكفّ عنه ، وكانوا في ذلك معذورين وكان المجرمون به ملومين.

فهذا نظير لمصلحة الخلق بظهور الأئمة عليهم‌السلام وتدبيرهم إياهم متى أطاعوهم وانطووا على النصرة لهم والمعونة ، وإن عصوهم وسعوا في سفك دمائهم تغيّرت الحال فيما يكون به تدبير مصالحهم ، وصارت المصلحة له ولهم غيبته وتغييبه واستتاره ، ولم يكن عليه في ذلك لوم ، وكان الملوم هو المسبّب له بإفساده وسوء اعتقاده.

ولم يمنع كون الصلاح باستتاره وجوب وجوده وظهوره ، مع العلم ببقائه وسلامته وكون ذلك هو الأصلح والأولى في التدبير ، وأنه الأصل الذي أجرى بخلق العباد إليه وكلّفوا من أجله حسبما ذكرناه.

الشبهة العاشرة :

يدّعي الشيعة أنّ إمامهم المهديّ غائب منذ ولد وإلى أن يظهر ، فليس للخلق طريق إلى معرفته بمشاهدة شخصه ولا التفرقة بينه وبين غيره بدعوته فلا بدّ حينئذ من أن يظهر الله تعالى الأعلام والمعجزات على يده ليدل بها على أنه الإمام المنتظر ، وهذا مقام منحصر بالأنبياء والمرسلين ، فإثبات المعجزة للإمام عليه‌السلام عند قيامه ، يعتبر خروجا عن قول الأمة كلّها «أنه لا نبيّ بعد نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

والجواب :

٦٤٣

(١) إن الأخبار قد جاءت عن أئمة الهدى من آباء الإمام المنتظر عليه‌السلام بعلامات تدل عليه قبل ظهوره وتؤذن بقيامه بالسيف قبل سنته : منها خروج السفياني وظهور الدّجال وقتل رجل من ولد الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام يخرج بالمدينة داعيا إلى إمام الزمان فيذبحونه في مكة بين الركن والمقام ، وخسف بالبيداء بأصحاب السفياني وقد شاركت العامة الخاصة في الحديث عن رسول الله بأكثر هذه العلامات ، وأنها كائنة لا محالة على القطع بذلك والثبات ، وهذا بعينه معجز يظهر على يده ، ويبرهن به عن صحة نسبه ودعواه.

(٢) إن ظهور الآيات على أيدي الأئمة عليهم‌السلام لا توجب لهم الحكم بالنبوة ، لأنها ليست بأدلة تختص بدعوة الأنبياء من حيث دعوا إلى نبوّتهم ، لكنّها أدلة على صدق الداعي إلى ما دعا إلى تصديقه فيه ، فإن دعا إلى اعتقاد نبوته كانت دليلا على صدقه في دعواه ، وإن دعا الإمام إلى اعتقاد إمامته كانت برهانا له على صدقه في ذلك ، وإن دعا المؤمن الصالح إلى تصديق دعوته إلى نبوة نبيّ أو إمامة إمام أو حكم سمعه من نبيّ أو إمام كان المعجز على صحة دعواه.

وليس يختص ذلك بدعوة النبوة دون ما ذكرناه ، وإن كان مختصا بذوي العصمة من الضلال وارتكاب الموبقات والآثام ، وذلك مما يصحّ اشتراك الأئمة مع الأنبياء في صحيح النظر والاعتبار ، وقد أجرى الله تعالى آية إلى مريم ابنة عمران حيث رزقها فاكهة من السماء وهو خرق للعادة وعلم باهر من أعلام النبوة ، فقال عزوجل : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (١).

ولم يكن لمريم عليها‌السلام نبوّة ولا رسالة ، لكنّها كانت من عباد الله الصالحين المعصومين من الزلات ، وأخبر سبحانه أنه أوحى إلى أمّ موسى (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٧ ـ ٣٨.

٦٤٤

خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١).

والوحي معجز من جملة معجزات الأنبياء عليهم‌السلام ، ولم تكن أمّ موسى عليها‌السلام نبيّة ولا رسولة ، بل كانت من عباد الله البررة الأتقياء ، فما الذي ينكر من إظهار علم يدل على عين الإمام ليتميّز به عمّن سواه ، لو لا أن مخالفينا يعتمدون في حجاجهم لخصومهم الشبهات المضمحلات.

الشبهة الحادية عشرة :

قال ابن حجر الهيثمي المكي : «ثم المقرّر في الشريعة المطهّرة أن الصغير لا تصح ولايته ، فيكف يساغ لهؤلاء الحمقى المغفلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين وأنه أوتي الحكم صبيا ، ولقد صاروا بذلك وبوقوفهم بالخيل على ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج إليهم ضحكة لأولي الألباب ، ولقد أحسن القائل :

ما آن للسرداب أن يلد الذي

كلمتموه (٢) بجهلكم ما آنا

فعلى عقولكم العفاء فإنكم

ثلّثتم العنقاء والغيلانا (٣)

* يؤسفنا أن ينعتنا بالحمقى والغفلة من يدّعي لنفسه الحجى والفكر والعلم ، ويعتبره العامة علما من أعلامهم الذين يشار إليهم بالبنان ، فشرّع لأناس أتوا من بعده السباب والتكفير للشيعة لاعتقادهم بغيبة الإمام المهديّ عليه‌السلام ، فلم يقف هو أتباعه على روح الشريعة ، ولم يعرفوا شيئا من أصولها وفروعها سوى ما قرره لهم ابن تيمية وابن حجر والقصيمي وغيرهم من إرهابيي الفكر وحملة السيوف للفتك بكلّ شيعي لا يعتقد بإمامة الشيخين لا سيّما السلفية في زماننا هذا

__________________

(١) سورة القصص : ٧.

(٢) في نسخة : «غيبتموه بجهلكم».

(٣) الصواعق المحرقة ص ١٦٨ ط / القاهرة.

٦٤٥

حيث ترجع في جذورها إلى ابن تيمية الحنبلي الذي استغرق هو وأتباعه في سفك دماء الشيعة ، ومثاله ما جرى على الشيعة في أفغانستان عام ١٩٩٨ م من جرّاء ما جناه الطالبان وابن لادن على شيعة آل البيت عليهم‌السلام ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ويكفي في بطلان ما افتراه ابن حجر وابن تيمية على إمامنا المهديّ عجّل الله فرجه الشريف ما ذكره ثلة من محققي العامة وأكابرهم على حياة الإمام الثاني عشر عليه‌السلام ، مضافا إلى قيام إجماعنا على ثبوت تولّده وغيبته ، وهذا بدوره حجّة دامغة على من أنكر ، وبرهانا ساطعا يستأصل شأفة شبهاتهم من جذورها.

ويرد عليه :

١ ـ إذا كان اعتقادنا ـ نحن الشيعة ـ بإمامة من عمره خمس سنين يلحقنا بالحمقى المغفلين ـ حسبما زعم ابن حجر الهيثمي ـ لزمه أن يلصق الحماقة والغفلة بالله تعالى ـ عزّ اسمه ـ لا بالشيعة الإمامية ، وذلك لأن الله تعالى آتى يحيى بن زكريا عليهما‌السلام الحكم صبيّا وجعله نبيّا ووليّا حيث قال تعالى عنه (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١) وقد قرّرت شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحكم ولم تنسخه بآية ورواية متواترة عن رسول الله ، ونفي ابن حجر الصحة عن ولاية الصغير في شريعة الإسلام لم يعتمد فيه على دليل ، وإلّا كان عليه أن يذكره لنا سواء كان آية أم رواية متفقا عليها تدل على نفي ولاية الصغير في الشريعة المطهّرة ، فإن الحكم القطعي لا ينسخه إلّا حكم قطعي مثله ، وحيث إن ابن حجر لم يأت بدليل على نفيه ، علمنا أن الشريعة المقدّسة قد قررت ولايته ولم تنفها أبدا ، وكيف لا تصح ولاية الصغير في الشريعة المطهّرة ، والنصوص المتواترة دلت على ولايته وإمامته بعد أبيه؟ وهل هذا من الهيثمي إلا اجتهادا في مقابل النص المحجوج به؟!

ولاشتهار تلك النصوص النبوية وثبوت صحتها ترى الحافظ الكبير عند العامة وهو «الجامي» الذي يعتبر أقدم من الهيثمي بمئات السنين ، وغيره من عظمائهم ، يقول بعد ذكر تولّد الإمام المهديّ في كتابه شواهد النبوة :

__________________

(١) سورة مريم : ١٢.

٦٤٦

[أما ألقابه : فالمهديّ والحجّة ، والقائم والمنتظر وصاحب الزمان إلى غير ذلك ... وكان عمره وقت وفاة أبيه الحسن العسكري خمس سنين ، فصار إماما بعده مثل ما جعل الله يحيى بن زكريا نبيّا وهو صبي ، وعيسى بن مريم عليه‌السلام ، وظهر من صاحب الزمان من الخارق للعادة الكثير». ثم أنه بيّن حاله عن طريق حفّاظ العامة ، والرجل من معاريف أهل العلم من الشافعية ، وليس هو من علماء الشيعة ولا متّهما بالرفض حتى لا يقبل قوله.

والحمد لله أنه لم يسلم من العثرة فيما قاله ، وقد بلغ إنكاره إلى حدّ التناقض ، فها هو يسخر من الشيعة بقوله (ولقد صاروا بذلك ضحكة لأولي الألباب) وفي نفس الوقت وفي آخر الفصل الثالث في الأحاديث الواردة في أهل البيت ص ٢٠٨ من صواعقه يقول : «ولم يخلف ـ أبو محمّد الخالص ـ غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة ، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين ، لكن آتاه الله فيها الحكمة ، وسمّي القائم المنتظر».

ولو لم يكن إلّا هذا التناقض لكفى دليلا على بطلان قوله.

وأما فريته على الشيعة «بأنهم يقفون بخيلهم على ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج إليهم فصاروا بذلك ضحكة لأولي الألباب» فيقال فيه :

أليس من المؤسف أن يتحامل الهيثمي هذه الحملات على طائفة ما برحت مؤمنة بالله وبرسوله وبكل ما جاء به من عند الله ، ولم تشرك به طرفة عين أبدا ، ويحكم عليهم بشيء يكذّبه العيان ، ويشهد بفريته الوجدان؟

وليت ابن حجر يدلنا على المستند الذي اعتمده بفريته على الشيعة ، ومن الذي قاله؟ وفي أي زمان وقع؟ ومن هم شهوده؟ وفي أي كتاب هو مسطور؟ ليكون ذلك تبريرا له عمّا رمى به الشيعة من البهتان ، وحيث إنه أهمل ذلك كله واكتفى بالدعوى المجردة ، علمنا أن ذلك كذب لا أصل له ، وها هم الشيعة يزورون السرداب كما يزور العامة الأماكن المقدّسة يلتمسون فيها البركة وإجابة

٦٤٧

الدعاء ، مضافا إلى أن الشيعة «سدّدهم المولى» حينما يزورون السرداب يتوسلون برسول الله وعترته الطاهرة ومنهم الإمام الثاني عشر المهديّ روحي فداه ليقضوا حوائجهم ، ومعلوم أن التوسل بالأولياء أمر مشروع عقلا ونقلا وجميع المسلمين يقرون بذلك سوى ابن تيمية والحنابلة ، فما الضير إذن أن يتوسل الشيعة بإمام زمانهم المهديّ عليه‌السلام وقد قضى حوائج الكثيرين ممن توسّل به.

(٢) إن الإمامة عند الشيعة الإمامية كالنبوّة لا تحصلان باختيار الناس ، وإنما هما منصبان إلهيان ، أمر تفويضهما إلى الله تعالى واختياره لمن يكن أهلا لهما ، ولهذا لا يستبعد أن يقع اختياره عزوجل على من كان في المهد صبيّا كعيسى عليه‌السلام حيث جعله الله تعالى نبيا وقد كلّم قومه وعمره ساعات بقوله تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١) كما لا يستبعد أن يقع اختياره أيضا على يحيى بن زكريا حال كونه صغيرا حيث قال عنه : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٢) ، وعليه فما المانع أن يقع اختيارهعزوجل على الإمام المهديّ فيجعله إماما في سنّ الرابعة أو الخامسة من عمره؟ وهل في ذلك استحالة عقلية تستلزم أن يستنكر علينا ويستهزأ بنا ابن حجر وأمثاله؟! لقد احتج الله تعالى على المنكرين ، فأبدع حيث وهب في وقتنا الحاضر الطفل الافريقي «شريفو» (٣) معارف القرآن الكريم وهو بعد لم يتجاوز الخامسة من عمره ، كما أنه سبحانه أفاض على الطفل الإيراني النابغة السيّد محمّد حسين الطباطبائي من مواليد قم المقدّسة حيث رزق حفظ القرآن وفهم معانيه وأسراره ولم يتجاوز الرابعة من عمره ، ويجلس تحت منبره العلماء والمفكرون ، وقد نال درجة الدكتوراه بامتياز من إحدى جامعات بريطانيا ، كما أن المطّلعين لم يخف عليهم أمر الطفل الياباني الذي لم يتجاوز سن السابعة من عمره ، عند ما قطع المرحلة

__________________

(١) سورة مريم : ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) سورة مريم : ١٢.

(٣) جاء ذلك في مجلة «المجلة» عدد (١٠٠٧) الصادرة عن الشركة السعودية للأبحاث.

٦٤٨

الجامعية بتفوق ، أبعد هذا يقال : «كيف ساغ لهؤلاء الحمقى المغفلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين وأنه أوتي الحكم صبيا»؟!

(٣) إن حالة الرشد العقلي ليس لها سنّ معين ، فربّ فرد يكون راشدا وهو ابن خمس سنين في حالات خاصة ومواصفات معينة ، شاءت القدرة الإلهية ذلك لمقتضيات ذاتية عند صاحبها ، وعلى العكس من ذلك قد لا يكون الفرد راشدا نتيجة نقص ذاتي عنده حتى ولو كان ابن خمسين سنة.

فما المانع ـ إذن ـ لو أنه سبحانه وتعالى جعل سنّ الرشد عند الإمام عليه‌السلام في سنّ الخامسة ، وهل في ذلك استحالة عقلية أو أنه من الممكنات الواقعة تحت قدرته تعالى؟

فإذا كان إتيان النبوّة وتعليم الكتاب لصبيّ في المهد وإعطاء الحكم ـ وهو فصل النزاعات ومعرفة الأشياء على حقائقها ـ ليحيى حال صباه ممكنا ، فلا يمتنع ذلك عليه تعالى أن يجعل الإمامة للحجّة المهديّ عليه‌السلام وهو صبي إكراما لجدّه رسول الله وله صلّى الله عليه وعلى آبائه الميامين ، وليكون دليلا على بقاء هذا الدين واستمراره ، ولئلا يخلو الزمان من أهل بيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول جدّهم في حديث الثّقلين «إني تارك فيكم الثّقلين : كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

الشبهة الثانية عشرة :

إنّ وجود الإمام إنّما يكون لطفا فيما إذا كان ظاهرا زاجرا قاهرا ، أما في حال غيبته فلا لطف في ذلك.

يرد عليها :

١ ـ إنّ ما تصوّره أصحاب الشبهة لم يتفوه به أحد من العقلاء فضلا عن المتدينين لأن جلّ الأنبياء كانوا مقهورين مشردين بل مقتولين على أيدي الظالمين السفّاكين ، وعليه فيلزم على القول بهذه الشبهة أن وجود الأنبياء لا لطف فيه لما

٦٤٩

ذكرنا آنفا ، فتنتفي حينئذ الفائدة من بعثهم إلى الناس مما يستلزم العبث في أفعال المولى عزوجل وهو قبيح عقلا يتنزّه عنه عزّ اسمه ، فلا بدّ من الالتزام بعدم الملازمة بين اللطف وبين كونهم ظاهرين قاهرين ، فلا يلزم أن لا يكون الظاهر لطفا مقرّبا للعباد إلى الطاعة ومبعّدا عن المعصية ، لأن اللطف لا ينحصر في الظاهر فحسب ، فإن من له مدخلية في طاعة العباد سواء أكان ظاهرا أم غائبا عن الأبصار كجبرائيل وسائر الملائكة كان وجودهم لطفا بمعنى أنهم لو لم يكونوا لم تقع أكثر الطاعات لكونهم حافظين مسددين مؤيدين مبلّغين للأنبياء والأولياء الوحي ، فاللطف غير منحصر في الظاهر ، بل وجوده في الغائبات أكثر منه في الظواهر.

من هنا يتضح الجواب على ما قد يقال بأن وجود الإمام المهديّ روحي فداه وعدمه سيّان ما دام الناس لا ينتفعون به لكونه غائبا عنهم.

٢ ـ إن الغيبة لا تلازم عدم التصرف في الأمور ، فهو يتصرّف بالكائنات على حسب ما تقتضيه المصلحة الربانية من دون أن تشعر بوجوده تماما كخرق الخضر عليه‌السلام للسفينة دون علم أصحابها ، وإلّا لكانوا منعوه من خرقها ، فخرقه للسفينة لمصلحة كانت خافية على أصحاب السفينة ، كذلك قتل الغلام وإقامة الجدار كان خافيا على النبيّ موسى عليه‌السلام بحسب الظاهر ، فأي مانع من أن يكون للإمام الغائب (عجّل الله فرجه الشريف) في كل يوم وليلة تصرّف كهذا النمط من التصرفات ، ويؤيده ما ورد من أنه عليه‌السلام يحضر الموسم في أشهر الحج ويلتقي بأنصاره وأعوانه ، ويصاحب الناس إلى غير ذلك ، ومع هذا فالناس لا يعرفونه.

وزبدة المخض : أن مولانا وسيّدنا الإمام المهديّ فديته بنفسي ليس غائبا عن كل العباد بل يظهر لبعض خواص مواليه الذين لهم الشرف بلقائه والاستفادة من نور وجوده ، وبالتالي تستفيد الأمة بواسطتهم ، ويؤيد ذلك ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لجابر الأنصاري حينما سأله عن الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف في آخر الزمان ، قال : ذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان.

٦٥٠

قال جابر : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي والذي بعثني بالنبوّة إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب (١).

وورد عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

لم تخل الأرض منذ خلق آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله ، قال سليمان : فقلت للصادقعليه‌السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟

قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب (٢).

وكذا ما ورد عن مولانا وسيّدنا الإمام المهديّ روحي لتراب نعليه الفداء في توقيعه لإسحاق بن يعقوب على يد السفير الثاني في الغيبة الصغرى محمّد بن عثمان ، قال عليه‌السلام :

«وأمّا علة ما وقع من الغيبة فإن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٣) إنّه لم يكن أحد من آبائي إلّا وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي ، وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب ، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، فأغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم ، ولا تتكلّفوا على ما قد كفيتم ، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإن ذلك فرجكم ، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتّبع الهدى (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٢.

(٣) سورة المائدة : ١٠١.

(٤) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٢.

٦٥١

إشارات عرفانية :

والتشبيه بالشمس المجلّلة بالسحاب ترمز إلى أمور :

الأول : أن نور الوجود والعلم والهداية ، يصل إلى الخلق بتوسطه عليه‌السلام إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم العلل الغائية لإيجاد الخلق ، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم ، وببركتهم والاستشفاع بهم ، والتوسّل إليهم تظهر العلوم والمعارف على الخلق ، وتكشف البلايا عنهم ، فلولاهم لاستحق الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١) ولقد تفضّل علينا الله تعالى بالإنعام وتفريج الكرب عند انغلاق الأمور وإعضال المسائل ـ كما تفضّل على العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه (٢) ـ لمّا توسّلنا بهم واستشفعنا بحقهم ، فهذا حاصل لكلّ عبد أناب إلى ربّه وتوجّه إلى وجهه ، وهم عليهم‌السلام وجهه الذي لا بدّ للعباد أن يعرجوا إليه من خلالهم ، إذ بقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم ، تنكشف تلك الأمور الصعبة ، وتنجلي الكرب والبلوى.

الثاني : كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ، ليكون انتفاعهم بها أكثر ، فكذلك في أيام غيبته عليه‌السلام ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كل وقت وزمان ولا ييأسون منه.

الثالث : أن منكر وجوده عليه‌السلام مع وفور ظهور آثاره كمنكر وجود الشمس إذا غيّبها السحاب عن الأبصار.

الرابع : أن الشمس قد يكون غيابها في السحاب أصلح للعباد من ظهورها لهم بغير حجاب ، فكذلك غيبته عليه‌السلام أصلح لهم في تلك الأزمان ، فلذا غاب عنهم.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٣.

(٢) قد أفاد العلّامة المجلسي عليه الرحمة هذا الأمر في بحاره ج ٥٢ / ٩٣.

٦٥٢

الخامس : أن الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر إليها بارزة عن السحاب ، وربما عمي النظر إليها لضعف الباصرة عن الإحاطة بها ، فكذلك شمس ذاته المقدّسة ربما يكون ظهوره أضرّ لبصائرهم ، ويكون سببا لعماهم عن الحق ، وتحتمل بصائرهم الإيمان به في غيبته ، كما ينظر الإنسان إلى الشمس من تحت السحاب ولا يتضرر بذلك.

السادس : أن الشمس قد تخرج من السحاب وينظر إليها واحد دون آخر فكذلك يمكن أن يظهر عليه‌السلام في أيام غيبته لبعض الخلق دون بعض.

السابع : أنهم عليهم‌السلام كالشمس في عموم النفع ، وإنما لا ينتفع بهم من كان أعمى كما فسّر به في الأخبار قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(١).

الثامن : أن الشمس كما أن شعاعها يدخل البيوت ، بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك ، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع ، فكذلك الخلق إنما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسّهم ومشاعرهم التي هي روازن قلوبهم من الشهوات النفسانية ، والعلائق الجسمانية ، وبقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب (٢).

تساؤل :

قلتم إن الإمام المهديّ عليه‌السلام موجود ، ووجوده لطف ، فلم لا يظهر فيعم لطفه العالمين؟

قلنا : صحيح أن وجوده لطف ، وتصرّفه ظاهرا لطف آخر ، لكنّه لا يظهر لأنه يخاف على شيعته وعلى نفسه القتل ، بمعنى لو ظهر قبل تحقق أوان الظهور لكان

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٢ / ٩٣ ـ ٩٤.

٦٥٣

عجّل على نفسه وهذا لا يرتضيه الله سبحانه ، ولو كان عدم ظهوره غير ما ذكرنا لما ساغ له الاستتار ، وكان يتحمل المشاق والأذى ، فإن منازل الأئمة وكذلك الأنبياء إنما تعظم لتحمّلهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى.

فإن قيل : هلا منع الله عزوجل من قتله بما يحول بينه وبين من يريد قتله؟

قلنا : إن الحيلولة بالمعجزة بين الإمام وبين من يريد قتله ينافي التكليف وينقض الغرض ، لأن الغرض من التكليف استحقاق الثواب ، والحيلولة ينافي ذلك ، وربما كان في الحيلولة والمنع من قتله بالقهر مفسدة للخلق فلا يحسن من الله فعلها ، فالمنع بهذا المعنى ينافي التكليف كما قلنا ، وأما المنع الذي لا ينافي التكليف فهو النهي عن خلافه والأمر بوجوب اتباعه ونصرته وإلزام العباد بالانقياد إليه ، وكل ذلك قد فعله الله وأمر به عباده ، وهو صحيح لا غبار عليه ، فالعقل يقره والعقلاء يمضونه.

فإن قيل : أليس آباؤه كانوا ظاهرين ولم يخافوا ولا صاروا بحيث لا يصل إليهم أحد؟

قلنا : إن حاله يختلف عن حال آبائه الميامين ، حيث إنهم كانوا مأمورين بعدم الخروج على سلاطين زمانهم لعدم توفر الأسباب والظروف لذلك ، بل كانوا يعملون بالتقية حرصا على ما تبقّى من المؤمنين ، وانتظارا منهم للإمام المهديّ الذي سيبيد العتاة والمردة بسيفه ولا يعمل بالتقية ، فآباؤه إنما ظهروا للناس لعلمهم بأنهم لو حدث بهم حادث لكان هناك من يقوم مقامهم من أولادهم ، وليس كذلك صاحب الزمان عليه‌السلام لعدم وجود من يقوم مقامه بعده قبل حضور وقت قيامه بالسيف فلذلك وجب استتاره وغيبته ، ففارق حاله حال آبائه وهذا واضح بعون الله تعالى.

الشبهة الثالثة عشرة :

«إذا لم يمكن الوصول إلى إمام الزمان المهديّ المنتظر عليه‌السلام ولا أخذ

٦٥٤

المسائل الدينية عنه ، فأي ثمرة تترتب على مجرد معرفته حتى يكون من مات وليس عارفا به فقد مات ميتة جاهلية حسبما ورد في المتواتر والمشهور (١) ، ويشهد له إجماع أهل الآثار ويقوّي معناه صريح القرآن بقوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٢) ، وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٣).

وعليه فكيف تجمعون بين هذا الخبر الصحيح وبين غيبة إمامكم عليه‌السلام واستتاره عن الكل ، وعدم علمهم بمكانه والوصول إليه؟

والجواب :

١ ـ لا تنحصر الثمرة في مشاهدته وأخذ المسائل عنه ، فإن كثيرا من المؤمنين بالله وبرسوله كانوا يأخذون الأحكام بالواسطة ومن دون أن يروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهكذا في عصور الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، لكنّ الفرق بين عصر النّصّ وعصر غياب الإمام المهديّ واضح من حيث العمل بالأحكام الواقعية في العصر الأول دون الثاني حيث يغلب فيه العمل بالأحكام الظاهرية فقد تصيب الواقع وقد تخالفه ، ومع هذا فإنّ الثمرة في كلا الموردين أعم من المشاهدة كما قلنا إذ إن نفس التصديق بوجوده الشريف وأنه خليفة الله في الأرض والسماء أمر مطلوب لذاته ، وركن من أركان الإيمان ، تماما كتصديق من كان في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوده ونبوته ، ويشهد لما قلنا حديث جابر المتقدّم.

__________________

(١) ورد عن الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» رواه الفريقان بتفاوت ببعض الألفاظ ، انظر : الكافي ج ١ / ٣٧٧ ، المحاسن ص ١٥٣ وعيون أخبار الإمام الرضا عليه‌السلام ج ٢ / ٥٨ وكمال الدين ص ٤١٣ ، عقاب الأعمال ص ٢٤٤ ، غيبة النعماني ص ١٣٠ ، رجال الكشي ج ٢ / ٧٢٤ ، الاختصاص ص ٢٦٩. ومن مصادر العامة : مسند أبي داود الطيالسي ص ٢٥٩ / ١٩١٣ ، حلية الأولياء ج ٣ / ٢٢٤. هامش مستدرك الحاكم للذهبي ج ١ / ٧٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٩ / ١٥٥ ، ينابيع المودة ص ١١٧ ، المعجم الكبير للطبراني ج ١٠ / ٣٥٠ / ١٠٦٨٧ ، مجمع الزوائد ج ٥ / ٢٢٤.

(٢) سورة الإسراء : ٧١.

(٣) سورة النساء : ٤١.

٦٥٥

٢ ـ لا مضادة بن المعرفة بالإمام وبين جميع ما ذكر من أحواله ، لأن العلم بوجوده في العالم لا يفتقر إلى العلم بمشاهدته ، لمعرفتنا ما لا يصح إدراكه من الحواس ، فضلا عمّن يجوز إدراكه وإحاطة العلم بما لا مكان له أو عمّن يخفى مكانه والظفر بمعرفة المعدوم والماضي والمنتظر ، وقد بشّر الله تعالى الأنبياء المتقدّمين بنبيّنا أبي القاسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وجوده في العالم فقال سبحانه (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١).

وقال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٢).

فكان نبيّنا عليه وآله السلام مكتوبا مذكورا في كتب الله الأولى ، وقد أوجب على الأمم الماضية معرفته والإقرار به وانتظاره ، وهو عليه‌السلام وديعة في صلب آبائه لم يخرج إلى الوجود ، ونحن اليوم عارفون بالقيامة والبعث والحساب وهو ـ أي البعث أو الحساب ـ معدوم وغير موجود ، وقد عرفنا آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام ولم نشاهدهم ، ولا شاهدنا من أخبر عن مشاهدتهم ، ونعرف جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام ولسنا نعرف لهم شخصا ولا نعرف لهم مكانا ، فقد فرض الله عزوجل علينا معرفتهم والإقرار بهم وإن كنا لا نجد إلى الوصول إليهم سبيلا.

هذا مضافا إلى أن معرفتنا بوجوده وإمامته وعصمته وكماله نفع لنا في اكتساب الثواب ، وانتظارنا لطهوره عبادة نستدفع بها عظيم العقاب ، ونؤدي بها فرضا أوجبه علينا ربنا المالك للرقاب ، فكما أن معرفة الأمم الماضية لنبيّنا محمّد

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨١.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٧.

٦٥٦

قبل وجوده من أوكد فرائضهم يوم ذاك لأجل منافعهم ، كذا معرفة الباري جلّ اسمه أصل الفرائض كلّها وهو أعظم من أن يدرك بشيء من الحواس ، فإن معرفة إمام الزمان من أوكد الفرائض أيضا مع عدم اشتراط العلم بمكانه أو الوصول إليه ، وإن كان هذان الأمران من شرائط كمال الإيمان.

الشبهة الرابعة عشرة :

إذا كان الإمام عندكم ـ أيّها الشيعة ـ غائبا ، ومكانه مجهولا ، فكيف يصنع المسترشد؟ وعلى ما ذا يعتمد الممتحن فيما لو نزل به حادث لا يعرف له حكما؟ وإلى من يرجع المتنازعون لا سيّما والإمام إنما نصّب لما وصفناه؟

والجواب :

لم ينصّب الإمام عليه‌السلام لأجل هذين الأمرين فحسب ـ أعني الفصل بين المتخاصمين وبيان الحكم للجاهلين ـ بل مهامه أوسع منهما بحيث تشمل عامة مصالح الدنيا والدين ، غير أنه إنما يجب عليه القيام فيما نصّب له مع التمكّن من ذلك والاختيار ، وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه ، ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار ، ولم يؤت الإمام في التقية من قبل الله عزوجل ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين ، وإنما أوتي ذلك من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه وأنكروا حقّه وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته ، وكانت البلية فيما يضيع من الأحكام ويتعطل من الحدود ، ويفوت من الصلاح متعلقة بالظالمين ، وإمام الأنام بريء منها وجميع المؤمنين ، فأما الممتحن بحادث يحتاج إلى علم الحكم فيه فقد وجب عليه أن يرجع في ذلك إلى العلماء المخلصين من شيعة الإمام وليعلم ذلك من جهتهم بما استودعوه من أئمة الهدى المتقدمين ، وإن عدم ذلك ، ولم يكن فيه حكم منصوص على حال فيعلم أنه على حكم العقل ، لأنه لو أراد الله أن يتعبّد فيه بحكم سمعي لفعل ذلك ، ولو فعله لسهّل السبيل إليه. وهكذا القول في المتنازعين ، يجب عليهما ردّ ما اختلفا فيه إلى الكتاب والسنّة عن رسول الله وآله الطاهرين ويستعينوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم.

٦٥٧

وهذا الذي وصفناه إنما وجب على المكلّف الاعتماد عليه والرجوع إليه عند الضرورة بفقد الإمام المرشد ، ولو كان الإمام ظاهرا ما وسعه غير الردّ إليه ، والعمل بقوله ، وهذا كقول خصومنا : إن على الناس في نوازلهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجتهدوا فيها عند فقدهم النصّ عليها ، ولا يجوز لهم الاجتهاد واستعمال الرأي بحضرة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن قيل : إذا كانت عبادتكم تتم بما وصفتموه مع غيبة الإمام فقد استغنيتم عن الإمامعليه‌السلام؟

قلنا : ليس الأمر كذلك ، لأن الحاجة إلى الشيء قد تكون قائمة مع فقد ما يسدها ، ولو لا ذلك ما كان الفقير محتاجا إلى المال مع فقده ، ولا المريض محتاجا إلى الدواء وإن بعد وجوده ، ولا الجاهل محتاجا إلى العلم وإن عدم الطريق إليه ، فغيبته عنا لا تستلزم عدم الحاجة إليه ، ولو لزمنا ما أفادته الشبهة المذكورة للزم على جميع المسلمين أن يقولوا إن الناس كانوا في حال غيبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للهجرة وفي الغار أغنياء عنه ، وكذلك لكانت حالهم في وقت استتاره بشعب سيّدنا أبي طالب عليه‌السلام ، ولكان قوم موسى عليه‌السلام أغنياء عنه في حال غيبته عنهم لميقات ربه ، وكذلك أصحاب يونس عليه‌السلام أغنياء عنه لمّا ذهب مغضبا والتقمه الحوت وهو مليم ، وهذا مما لا يذهب إليه مسلم ولا ملّي.

الشبهة الخامسة عشرة :

إن الإمام المهديّ عليه‌السلام هو عيسى عيسى بن مريم عليه‌السلام حسبما أفاد ذلك حديث محمّد بن خالد الجندي تفرّد به عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبيّ نسبوا إليه أنه قال : لا يزداد هذا الأمر إلّا شدة ولا الدنيا إلّا إدبارا ولا الناس إلّا شحا ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس ، ولا المهديّ إلّا عيسى بن مريم (١).

__________________

(١) العطر الوردي بشرح القطر الشهدي / محمد البلبيسي الشافعي ص ٤١ عن ابن ماجة والبيان في أخبار صاحب الزمان للكنجي الشافعي ص ٢٨.

٦٥٨

يرد عليها :

إن محمّد بن خالد الجندي كان يتساهل في الحديث على حدّ تعبير الكنجي الشافعي في كتابه «البيان» ، وقال الذهبي : [محمّد بن خالد الجندي ، عن أبان بن صالح ، روى عنه الشافعي ، وقال الأزدي : منكر الحديث ، وقال عبد الله الحاكم : مجهول ، قلت : حديثه «لا مهديّ إلا عيسى ابن مريم» وهو خبر منكر أخرجه ابن ماجة ..] (١).

ولمّا كان الخبر ضعيفا لا يمكن تقديمه ـ وحتى لو كان صحيحا ـ على الأخبار المتواترة حيث استفاضت بكثرة رواتها في الإمام المهديّ عليه‌السلام وأنه من عترة نبيّنا محمّد من ولد الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام وأنه يخرج في زمنه عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ويساعده على قتل الدجال بباب لدّ بأرض فلسطين ، هذا مضافا إلى تواتر الأخبار بأن اسمه محمّد ، فلا يصح حينئذ تقديم الخبر الواحد الثقة ـ عدا عن الضعف ـ على الأخبار المتواترة.

الشبهة السادسة عشرة :

إن الإمام المهديّ عليه‌السلام فكرة ابتدعها الشيعة ، ومبتدع هذه الشّبهة هو المستشرق دوايت رونلدسن في كتابه «عقيدة الشيعة» ص ٢٣١ حيث أوعز فكرة المهدويّة إلى فشل الشيعة واضطهاد الأعداء لهم فقال : «من المحتمل جدا أن الفشل الظاهر الذي أصاب المملكة الإسلامية في توطيد أركان العدل والتساوي على زمن دولة الأمويين عام ٤١ ـ ١٣٢ ه‍ كان من الأسباب لظهور فكرة المهديّ آخر الزمان».

والجواب :

نحن لا نستغرب من كلام هذا المستشرق الحاقد على الإمامية ، فقد سبقه

__________________

(١) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٣ / ٥٣٥.

٦٥٩

إلى ذلك ابن خلدون (١) ، وقلدهما أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام متنكرا من القضية المهدوية ومدعيا أن لها أسبابا سياسية واجتماعية ودينية ، وأنها انبثقت من الشيعة بعد خروج الخلافة من أيديهم ، فأحمد أمين وابن خلدون وأمثالهما لا يمثّلون الشيعة والأشاعرة ، بل هم أناس انعزاليون بحاجة إلى رعاية فكرية.

ونحن نسأل أحمد أمين وأمثاله من النواصب : إذا كان الشيعة هم المخترعون لهذه الفكرة ، فما ذا يفعل بمئات الأحاديث التي رواها علماؤه وأساتذته في مصر وغيرها من الديار في مصادرهم وبطرقهم وأسانيدهم؟! ولما ذا لم يكلّف أحمد أمين نفسه مناقشة هذه الأحاديث في إسنادها ومتونها ، مكتفيا بشطحة قلم تطيح بمئات الأحاديث بل الألوف ، فهل يا ترى كل هذه الأخبار من صنع الشيعة الإمامية ، وإذا كانت من صنعهم ، فلما ذا أخذ بها كبار علماء العامة ودافعوا عنها بكلّ قوة؟! فلا يخلو الأمر حينئذ من شيئين :

إما تواطؤ علماء العامة مع الشيعة ، وإما جهلهم بطرق الحديث ومتونه ؛ وكلاهما لا يقرّ بهما أحمد أمين وأمثاله ، فيثبت أنّ ما ادّعاه الشيعة ليس من مبتدعاتهم وإنما هي من وحي السماء نزل على سيّد المرسلين محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي أخبر عن حفيده الإمام المهديّ ابن الحسن العسكري عليه‌السلام فنحن نؤمن بما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين رغما لأنفي ابن خلدون وأحمد أمين.

وأما ابن خلدون الذي طعن في تواتر الأحاديث الواردة بشأن الإمام المهديّ عليه‌السلام وأنكر إفادتها لظهوره عليه‌السلام ، فقد ردّ عليه أحد أكابر علماء العامة ومن أعاظم المحقّقين عندهم في كتابه «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون أو المرشد المبدي لفساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي» وصاحبه أحمد بن محمّد بن الصديق أبو الفيض الغماري الحسني الأزهري الشافعي المغربي (المتوفى عام ١٣٨٠ ه‍) قال في مقدّمة ردّه على ابن خلدون :

__________________

(١) لقد طعن ابن خلدون في الأحاديث الدالة على الإمام المهدي عليه‌السلام وضعّفها كما هو ملحوظ في كتابه «المقدمة» ص ٣١١ فصل ٥٢ في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس.

٦٦٠