أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

وجحد ابن أخيه ، وحمل السلطان على ما سار به في مخلّفيه وشيعته ، من هذه الأخبار :

* ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري رحمه‌الله أن يوصل إليه ـ للحجّة المنتظر عليه‌السلام ـ سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام :

أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك الله من أمر المنكرين من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنه ليس بين الله عزوجل وبين أحد قرابة ، ومن أنكرني فليس مني ، وسبيله سبيل ابن نوح ، وأما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف عليه‌السلام (١).

* وعن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي خالد الكابلي قال : سألت عليّ بن الحسين صلوات الله عليه : من الحجّة والإمام بعدك؟ فقال : ابني محمّد ، واسمه في التوراة الباقر يبقر العلم بقرا هو الحجّة والإمام بعدي ، ومن بعد محمّد ابنه جعفر واسمه عند أهل السماء الصادق. فقلت له : يا سيّدي كيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون؟ فقال : حدّثني أبي ، عن أبيه عليهما‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسمّوه الصادق فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراء على الله وكذبا عليه ، فهو عند الله جعفر الكذّاب المفتري على الله ، المدّعي لما ليس له بأهل ، المخالف على أبيه ، والحاسد لأخيه ذلك الذي يكشف سرّ الله عند غيبة وليّ الله.

ثم بكى عليّ بن الحسين عليهما‌السلام بكاء شديدا ثم قال : كأني بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله ، والمغيّب في حفظ الله والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته ، وحرصا على قتله إن ظفر به ، طمعا في ميراث أبيه حتى يأخذه بغير حقه (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٠ / ٢٢٧ ح ١.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٦ / ٣٨٦ ح ١ وج ٥٠ / ٢٢٧ ح ٢.

٦٢١

* وعن سعد بن عبد الله الأشعري عن الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري رحمة الله عليه أنه جاءه بعض أصحابنا يعلمه بأن جعفر بن عليّ كتب إليه كتابا يعرّفه نفسه ، ويعلمه أنه القيّم بعد أخيه ، وأن عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه وغير ذلك من العلوم كلّها.

قال أحمد بن إسحاق : فلما قرأت الكتاب ، كتبت إلى صاحب الزمان عليه‌السلام وصيّرت كتاب جعفر في درجه فخرج إليّ الجواب في ذلك :

«... وقد ادّعى هذا المبطل ـ يقصد جعفر عمّه ـ المدّعي على الله الكذب بما ادّعاه ، فلا أدري بأية حالة هي له رجاء أن يتم دعواه أبفقه في دين الله ، فو الله ما يعرف حلالا من حرام ولا يفرّق بين خطأ وصواب ، أم بعلم فما يعلم حقا من باطل ، ولا محكما من متشابه ولا يعرف حدّ الصلاة ووقتها ، أم بورع فالله شهيد على تركه لصلاة الفرض أربعين يوما يزعم ذلك لطلب الشعبذة ، ولعلّ خبره تأدّى إليكم ، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه لله عزوجل مشهودة قائمة ، أم بآية فليأت بها أم بحجّة فليقمها أم بدلالة فليذكرها ... فالتمس تولّى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك ، وامتحنه واسأله آية من كتاب الله يفسّرها أو صلاة يبيّن حدودها ، وما يجب فيها لتعلم حاله ومقداره ويظهر لك عواره ونقصانه والله حسيبه ..» (١).

* وعن سعد عن جعفر بن محمّد بن الحسن بن الفرات عن صالح بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن زياد ، عن أمّه فاطمة بنت محمّد بن الهيثم المعروف بابن سبانة قالت : كنت في دار أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه‌السلام في الوقت الذي ولد فيه جعفر فرأيت أهل الدار قد سرّوا به ، فصرت إلى أبي الحسن عليه‌السلام فلم أره مسرورا بذلك ، فقلت له : يا سيّدي ما لي أراك غير مسرور بهذا المولود؟

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٠ / ٢٣٩ ح ٣.

٦٢٢

فقال عليه‌السلام : يهون عليك أمره ، فإنه سيضلّ خلقا كثيرا (١).

وبالجملة : فإنّ جعفر بن عليّ قد ادّعى الإمامة لنفسه وكان يجبر الناس على إطاعته والقول بإمامته بل سأل وزير الخليفة العبّاسي آنذاك أن يعرفه بأنه وارث أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام ، ليثبت له عند الناس العوام إمامته ، فزبره الوزير عن ذلك واستخف به حسبما جاء في خبر أحمد بن عبيد الله الخاقان فليراجع (٢).

الشبهة الثالثة :

ورد في خبر (٣) أحمد بن عبيد الله بن خاقان أن الإمام أبا محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام قد أوصى في مرضه الذي توفي فيه إلى والدته المكناة بأمّ الحسن رضي الله عنها بوقوفه وصدقاته ، وإسناد النظر في ذلك إليها دون غيرها.

«فقد دلت هذه الرواية على بطلان ولادة المهديّ المزعوم ، ولا يستطيع الرافضة أن ينكروا هذه الرواية أو الطعن فيها وذلك لورودها في أكثر من مصدر من مصادرهم الموثقة والمعتمدة عندهم ، وقد رواها عدة من كبار رجالات الرافضة في الحديث والتفسير والتاريخ أمثال : الكليني في الكافي ، والمفيد في الإرشاد والطبرسي في أعلام الورى ، والاربلي في كشف الغمة ، والمجلسي في جلاء العيون وابن الصبّاغ في الفصول المهمة والقمي في منتهى الآمال» (٤).

والجواب :

(١) إن عبارة [وتوقفوا عن قسمة ميراثه ... فلما بطل الحمل عنهنّ قسّم ميراثه بين أمّه وأخيه جعفر وادّعت أمّه وصيته وثبت ذلك عند القاضي ..] غير

__________________

(١) نفس المصدر ح ٥.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٠ / ٣٢٥ ح ١ باب شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام ح ١ ، وأصول الكافي ج ١ / ٥٠٣ ح ١.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٥٠٣ ح ١.

(٤) راجع : بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود / للزنديق الناصبي عبد الله الجميلي ج ١ / ٢٦٨.

٦٢٣

موجودة في الإرشاد ولا في أعلام الورى والفصول المهمة ، وهذه الكتب من المصادر الموثوقة عندنا نحن الشيعة ، فكيف يدّعي الجميلي وجود الرواية بتمامها في مصادرنا؟! وعلى فرض وجودها في بقية الكتب والمصادر فإن أصحابها رووها عن الكليني في الكافي ، وليس كلّ ما في الكافي يعتبر صحيحا وموثقا ، فهناك الأسانيد الضعاف والمراسيل ، فلم يدّع أحد من علماء الشيعة صحة كل ما في الكتاب المذكور ، نعم جلّ ما فيه موافق للأصول عندنا ، والشاذّ إن أمكن تأويله أخذنا به وإلّا فيضرب به عرض الجدار.

(٢) لقد عرف أحمد بن عبيد الله بن خاقان بالنصب والعداوة لآل البيت عليهم‌السلام وقد ذكر الكليني والمفيد في كتابيهما (١) الكافي والإرشاد أن الرجل كان شديد النصب كما لم يوثّقه أحد على الاطلاق ، فالرجل لا شك أنه من الضعاف كما نص على ذلك أيضا علماء الرجال منهم صاحب الوجيزة والحاوي فلاحظ (٢).

وعليه فلمّا كان الرجل ناصبيّا ولا أحد من الإمامية يأخذ بقوله ، فكيف حينئذ ينسب عبد الله الجميلي الناصبيّ ومن كان على شاكلته الحديث إلى ثقاة الإمامية في مصادرهم المعتبرة؟!!

(٣) وعلى فرض صحة ما في الخبر فإن فيه شيئا من التقية والمصلحة حفاظا على المولود المبارك وصونا لنقض الغرض ، «ولو ذكر في وصيّته ولدا له وأسندها إليه ، لناقض ذلك الغرض منه ، ونافى مقصده في تدبير أمره له ، وعدل عن النظر بولده وأهله ونسبه ، لا سيّما مع اضطراره كان إلى شهادة خواصّ الدولة العبّاسية

__________________

(١) قال الكليني في الكافي ج ١ / ٥٠٣ في صدر الحديث الأول : باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام : كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم ، فجرى في مجلسه يوما ذكر العلوية ومذاهبهم وكان شديد النصب. وقال المفيد في الإرشاد ج ٢ / ٣٢١ : «.. وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيتعليهم‌السلام.

(٢) تنقيح المقال للممقاني ج ١ / ٦٧.

٦٢٤

عليه في الوصيّة وثبوت خطوطهم فيها ـ كالمعروف بتدبر مولى الواثق وعسكر الخادم مولى محمّد بن المأمون والفتح بن عبد ربّه وغيرهم من شهود قضاة سلطان الوقت وحكّامه ـ لما قصد بذلك من حراسة قومه ، وحفظ صدقاته ، وثبوت وصيته عند قاضي الزمان ، وإرادته مع ذلك الستر على ولده وإهمال ذكره ، والحراسة لمهجته بترك التنبيه على وجوده ، والكفّ لأعدائه بذلك عن الجدّ والاجتهاد في طلبه ، والتنزيه عن شيعته لما يشنّع به عليهم من اعتقاد وجوده وإمامته.

ومن اشتبه عليه الأمر فيما ذكرناه ، حتى ظن أنه دليل على بطلان مقال الإمامية في وجود ولد للحسن عليه‌السلام مستور عن جمهور الأنام ، كان بعيدا عن الفهم والفطنة ، بائنا عن الذكاء والمعرفة ، عاجزا بالجهل عن التصوّر أحوال العقلاء وتدبيرهم في المصالح وما يعتمدونه في ذلك من صواب الرأي وبشاهد الحال ، ودليله من العرف والعادات.

وقد تظاهر الخبر فيما كان عن تدبير أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليه‌السلام وحراسته ابنه موسى بن جعفر عليه‌السلام بعد وفاته من ضرر يلحقه بوصيته إليه ، وأشاع الخبر عن الشيعة إذ ذاك باعتقاد إمامته من بعده ، والاعتماد في حجّتهم لذلك على إقراره بوصيته مع نصّه عليه بنقل خواصه ، فعدل عن إقراره بالوصية عند وفاته ، وجعلها إلى خمسة نفر : أولهم المنصور وقدّمه على جماعتهم إذ هو سلطان الوقت ومدبّر أهله ، ثم صاحبه الربيع من بعده ، ثم قاضي وقته ، ثم جاريته وأمّ ولده حميدة البربرية ، وختمهم بذكر ابنه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، يستر أمره ويحرس بذلك نفسه ، ولم يذكر مع ولده موسى أحدا من أولاده ، لعلمه بأنّ منهم من يدّعي مقامه من بعده ، ويتعلق بإدخاله في وصيته. ولو لم يكن موسى عليه‌السلام ظاهرا مشهورا في أولاده ، معروف المكان منه وصحة نسبه واشتهار فضله وعلمه وحكمته وامتثاله وكماله ، بل كان مثل ستر الحسن عليه‌السلام ولده ، لما ذكره في وصيته ، ولاقتصر على ذكر غيره ممن سمّينا ، لكنه ختمهم في الذكر به كما بيناه.

وهذا شاهد لما وصفناه من غرض أبي محمّد عليه‌السلام في وصيته إلى والدته

٦٢٥

دون غيرها ، وإهمال ذكر ولد له ، ونظر له في معناه على ما بيّناه» (١).

الشبهة الرابعة :

لقد عاش أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الاضطهاد والتقية من ملوك بني أميّة وبني العبّاس لعنهم الله تعالى ومع هذا لم يغب أحد منهم ولا خفيت ولادته ولا ستر وجوده من أحد من الناس ، هذا مع التأكيد على أن الأئمة عليهم‌السلام عاشوا في عصور حالكة ، كانت التقية فيها أشدّ من عصر الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ولم يحدث منهم أنهم ستروا أولادهم خوفا من اولئك الطغاة اللئام ، وعليه فما الداعي إلى أن يستر الإمام العسكري عليه‌السلام ابنه الإمام المهديّ عليه‌السلام عن الناس ويخفي أمره؟!

وبعبارة أخرى : أن الشبهة تستبعد على الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام إلى ستر ولده ، وتدبير الأمر في إخفاء شخصه ، ونهيه عليه‌السلام لشيعته عن تسميته وذكره ، مع كثرة الشيعة في زمانه وانتشارهم في البلاد وثرائهم وحسن حالهم ، وقد صعب الزمان فيما سلف على آبائه عليهم‌السلام واعتقاد ملوكه فيهم ، وشدة غلظتهم على المعتقدين بإمامتهم ، واستحلالهم الدماء والأموال ، ولم يدعهم ذلك إلى ستر ولدهم ولا مؤهّل الأمر من بعدهم!

والجواب :

١ ـ إن علة عدم تعرّض ملوك بني أميّة وبني العبّاس لأولاد أئمتنا عليهم‌السلام هي عدم خروج الأئمة وأولادهم بالسيف على ولاة أزمانهم ، فكان الطواغيت في مأمن من ذلك ، هذا مضافا إلى أن الأئمة عليهم‌السلام أنفسهم كانوا يعملون بالتقية ويحرّمون الخروج بالسيف عليهم لعدم التكافؤ بينهم وبين أعدائهم من حيث القوة والعدّة والعدد ، ومع هذا لم يسلم أحد منهم من طغاة زمانهم ، فكان لكلّ واحد منهم عليهم‌السلام من يطارده ويؤذيه ، فسجن منهم من سجن حتى لم يخرج أحد من الدنيا إلّا مقتولا أو مسموما. فكان سكون الأئمة وعملهم بالتقية هم وأصحابهم

__________________

(١) الفصول العشرة في الغيبة / الشيخ المفيد ص ٦٩ ـ ٧٢.

٦٢٦

وشيعتهم للأمر الذي ذكرنا ، وتأكيدهم على شيعتهم أن يلزموا السكون إلى أن يسمع النداء من السماء باسم الإمام المهديّ ويخسف بالبيداء بجيش السفياني ، فيخرج إمام الحق بالسيف ليزيل دولة الباطل.

٢ ـ إن ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون الخصوصية التي يمتاز بها الإمام المهديّ روحي فداه عن بقية الأئمة عليهم‌السلام من حيث ورود الأخبار الكثيرة بشأنه من الرسول الأكرم جدّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ الله عزوجل يطهّر به الأرض من الجور والظلم ، ويبيد العتاة والمردة من الحكام والظالمين والفسقة والكافرين ، وكل هذا بدوره عاملا قويا يساعد في ملاحقة السلطات الظالمة للإمام المهديّ الموعود وتتبع حركاته ونشاطه ، وبالأخير إلى القبض عليه وقتله إن سنحت لهم الظروف بذلك ، ونظير هذا ما وقع لنبيّ الله موسى بن عمران عليه‌السلام مع طاغية زمانه فرعون ، فإنه كان يذبح أبناءهم بغية العثور على موسى عليه‌السلام لئلا يكون زوال ملكه وسلطانه على يده ، هذا مضافا إلى أن الله عزوجل غيّب وليّه الأعظم حفاظا عليه من القتل لقلة أنصاره ، ولأن الحاجة إليه ستكون مستمرة ليس لبضع سنين كما حصل لآبائه الميامين ، بل تتعداها إلى مئات أو آلاف السنين ، لكونه في حكمة الله عزوجل الثاني عشر الذي ختمت به الإمامة والولاية فلا إمام بعده على ما نطقت به أحاديث الفريقين كما ختمت النبوة بجدّه رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا نبيّ بعده ، حتى عيسى فقد بطلت نبوته التشريعية وبقيت التسديدية. وقد أشرنا إلى بعض الأخبار الدالة على ذلك منها الحديث المتواتر : «لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش». وهو صريح في أن الأئمة اثنا عشر لا يزيدون واحدا ولا ينقصون وإلّا لزم الكذب في أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو باطل إجماعا ، وأنه لا بدّ من رجل من أهل البيت عليهم‌السلام في كل زمان هو بحكم القرآن في وجوب التمسك به ، كما نص عليه حديث الثقلين المتواتر نقله عن نيف وعشرين صحابيا أو أكثر كما في سنن الترمذي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن تمسّكتم بهما لن تضلوا ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ

٦٢٧

الحوض» وهو نصّ في وجود الإمام الثاني عشر الذي لا يفارق القرآن ، ولا القرآن يفارقه ما دامت الدنيا ، وإلا لو لم يكن هناك إمام ثاني عشر لخلت أزماننا من الإمام وهو خلف ما جاء في الحديث المتواتر أعلاه ، وخلف حديث «الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش».

الشبهة الخامسة :

١ ـ إن الإمام المهديّ عليه‌السلام إلى وقتنا الحاضر مستتر لا يعرف أحد مكانه ولا يعلم مستقره ، ولا يأتي واحد بخبره ، وغيبته خارجة عن العادة والعرف ، إذ لم تجر العادة لأحد من الناس بذلك ، إذ كان كلّ من اتفق له الاستتار عن ظالم لخوف منه على نفسه ولغير ذلك من الأغراض ، تكون مدة استتاره مرتّبة بمدة زمنية محدودة ، وعليه فإنّ دعوى الإمامية في غيبة إمامهم منذ ولد إلى الآن خارجة عن العادة لدى العقلاء يلزم منها بطلان ما ذهبوا إليه من قيام الحجّة المنتظر عليه‌السلام.

يورد عليها :

إن توهم الخصم كون الشيعة الإمامية لا يعلمون مكانه ومحل استقراره ، ولا يعرفون أثره أو لا يمكن الوقوف على خبره دعوى لا تستند على حجة أو دليل ، لا سيّما إطلاق القول على كافة الشيعة بعدم الوقوف على خبره أو أثره ، ومن هذا من الشيعة الذي قال إنه لا يعرف لإمامه أثرا ولا يقف على شخصه الميمون خبرا ، ومن الذي ادّعى من الشيعة أن الإمام المهدي لم يعرف مكانه يوم ولد؟ وفي أيّ كتاب هو مسطور؟! ليكون دليلا على صدق دعواه ، أجل! الله يعلم ، والشيعة العارفون المخلصون يعلمون أن الإمام ولد في سامراء وأن جماعة من أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام قد شاهدوا الإمام المنتظر عجّل الله فرجه الشريف ، مضافا إلى أن السفراء والوسائط بين الإمام المهديّ وبين شيعته دهرا طويلا في استتاره ، ينقلون إلى الشيعة من الإمامعليه‌السلام معالم دينهم ، ويخرجون إليهم أجوبة عن مسائلهم فيه ، ويقبضون منهم حقوقهم لديهم.

٦٢٨

وممن رآه جماعة كان الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام وثّقهم وعدّلهم في حياته ، واختصهم أمناء له في وقته ، وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه ، معرفون بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم : كأبي عمرو عثمان بن سعيد السمّان وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان وبني الرحبا من نصيبين وبني سعيد ، وبني مهزيار بالأهواز وبني الركولي بالكوفة وبني نوبخت ببغداد ، وجماعة من أهل قزوين وقم وغيرها من الجبال ، مشهورون بذلك عند الإمامية والزيدية ، معروفون بالإشارة إليه به عند كثير من العامة ، وكانوا أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة ، وكان السلطان يعظم أقدارهم بجلالة محلّهم في الدنيا ، ويكرمهم لظاهر أمانتهم واشتهار عدالتهم ، حتى أنه كان يدفع عنهم ما يضيفه إليهم خصومهم من أمرهم ظنا منه بحسن سريرتهم واعتقاده ببطلان ما ينسب إليهم ، وذلك لأنهم كانوا مستترين في حالهم واعتقادهم إلى الغاية ، ومتكتمين لجودة آرائهم وصواب تدبيرهم إلى النهاية ، فما كان يظهر منهم ما يوجب إهانتهم والاستخفاف بحقوقهم ، أما بعد موت هؤلاء الأخيار والأمناء الأبرار فقد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهما‌السلام بأنه لا بدّ للإمام المنتظرعليه‌السلام من غيبتين : إحداهما أطول من الأخرى ، يعرف خبره الخواص من شيعته في الغيبة الصغرى ، ولا يعرف أحد من العامة له مستقرا في الغيبة الكبرى إلّا من قام بخدمته من ثقاة أوليائه ، ولم ينقطع عنه إلى الاشتغال بغيره.

والأخبار بذلك مستفيضة في مصنفات الشيعة الإمامية قبل مولد الإمام المهدي وأبيه وجدّهعليهم‌السلام ، وظهر حقها عند مضي الوكلاء والسفراء الذين سميناهم رحمهم‌الله ، وظهر صدق رواتها بالغيبة الكبرى ، فكان ذلك من الآيات الباهرات في صحة ما ذهبت إليه الإمامية ودانت به في معناه ، وقد أثبت العلّامة النوري «أعلى الله مقامه» في كتابه القيّم «جنّة المأوى» العديد من الأفراد الممحصين الذين تشرفوا بلقاء الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام فليراجع.

٢ ـ إنّ خروج جماعة من الناس عن حكم العادة في استتارهم مئات السنين

٦٢٩

هو بتدبير الله تعالى في ذلك لمصالح خلقه لا يعلمها إلّا هو ، وامتحان لهم بذلك في عبادته ، مع أنّا لم نحط علما بأنّ كلّ غائب عن الخلق مستترا بأمر دينه يقصده عنهم ، يعرف جماعة من الناس مكانه ويخبرون عن مستقره. وكم وليّ لله تعالى يقطع الأرض بعبادة ربّه تعالى والتفرّد من الظالمين بعمله ، ونأى بذلك عن دار المجرمين ، وفر بدينه عن محل الفاسقين ، لا يعرف أحد من الخلق له مكانا ولا يدّعي إنسان له لقاء ولا معه اجتماعا ، نظير هذا هو الخضر عليه‌السلام موجود قبل زمان موسى عليه‌السلام إلى يومنا هذا ، بإجماع أهل النقل واتفاق أصحاب السير والأخبار ، سائحا في الأرض ، لا يعرف له أحد مستقرا ولا يدّعي له اصطحابا ، إلّا ما جاء في القرآن به من قصته مع موسى عليه‌السلام ، وما يذكره بعض الناس على أنه يظهر أحيانا ولا يعرف ، ويظن بعض من رآه أنه بعض الزّهاد ، فإذا فارق مكانه توهّمه المسمّى بالخضر ، وإن لم يكن يعرف بعينه في تلك الحال. وقد كان من غيبة موسى عليه‌السلام عن وطنه وفراره عن رهطه ما قصّ خبره القرآن ، ولم يظهر عليه أحد مدة غيبته عنهم فيعرف له مكانا ، حتى ناجاه الله عزوجل وبعثه نبيّا ، فدعا إلى توحيد الله وطاعته ، وعرفه أولياؤه وأعداؤه.

وكان من قصة يوسف بن يعقوب عليهما‌السلام ما جاءت به سورة كاملة بمعناه وتضمنت ذكر استتار خبره عن أبيه ، وهو نبيّ الله تعالى يأتيه الوحي منه سبحانه صباحا ومساء ، وأمره مطوي عنه وعن إخوته ، وهم يعاملونه ويبايعونه ويبتاعون منه ويلقونه ويشاهدونه فيعرفهم ولا يعرفونه ، حتى مضت على ذلك السنون وانقضت فيه الأزمان ، وبلغ من حزن أبيه عليه‌السلام لفقده ، ويأسه من لقائه ما أوجب انحناء ظهره وأنهك به جسمه ، وذهب لبكائه عليه بصره ، وليس في زماننا الآن مثل ذلك ، ولا سمعنا بنظير له في سواه.

وكان أيضا من أمر يونس نبيّ الله عليه‌السلام مع قومه وفراره عنهم عند تطاول المدة في خلافهم عليه واستخفافهم بحقوقه ، وغيبته عنهم لذلك عن كلّ أحد من الناس حتى لم يعلم أحد مكانه إلّا الله تعالى وحده إذ كان المتولّي لحبسه في جوف

٦٣٠

حوت في قرار بحر ، وقد أمسك عليه رمقه حتى بقي حيّا ، ثم أخرجه من ذلك إلى تحت شجرة من يقطين.

وهذا أيضا خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا ، وقد نطق به القرآن المجيد ، وأجمع عليه أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل والأديان.

ونظير ما ذكرنا قصة أصحاب الكهف ، وقد نزل القرآن بخبرهم وشرح أمرهم في فرارهم بدينهم من قومهم والتجائهم إلى كهف ناء عن بلدهم ، فأماتهم الله فيه وبقي كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد ، ودبّر أمرهم في بقاء أجسامهم على حال لا يلحقها تغيّر ، فكان يقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال كالحي الذي يتقلّب في منامه بالطبع والاختيار ، ويقيهم حرّ الشمس التي تغيّر الألوان ، والرياح التي تمزّق الأجساد فبقوا على ذلك ثلاث مائة سنة وتسع سنين على ما جاء به الذكر الحكيم ، ثم أحياهم فعادوا إلى معاملة قومهم ومبايعتهم ، وأنفذوا إليهم بورقهم إلى آخر قصتهم ، مع استتار أمرهم عن قومهم وطول غيبتهم وخفاء أمرهم عليهم.

وليس في عادتنا مثل ذلك ولا عرفناه ، ولو لا أن القرآن جاء بذكر هؤلاء القوم وخبرهم وما ذكرناه من حالهم لتسرّعت الناصبة إلى إنكار ذلك كما يتسرّع إلى إنكاره الملحدون والزنادقة والدهريون ويحيلون صحة الخبر به إلى غير المقدور. كما أن القرآن ذكر صاحب الحمار الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فاستبعد عمارتها وعودها إلى ما كانت عليه ورجوع الموتى منها بعد هلاكهم بالوفاة ف (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) (١) وبقي طعامه وشرابه بحاله لم يغيّره تغيير طبائع الزمان ، فلمّا تبيّن له ذلك من خلال ما أراه الله عزوجل من الآيات الأخر بقوله (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وهذا منصوص عليه في القرآن مشروح في الذكر والبيان لا يختلف فيه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٩.

٦٣١

المسلمون وأهل الكتاب ، وهو خارج عن عادتنا وبعيد من تعارفنا ، منكر عند الملحدين ومستحيل على مذهب الدهريين والمنجمين وأصحاب الطبائع من الكفار والزنادقة والمتفلسفين. وهل يمكن للمسلمين المنكرين لحياة الحجّة المنتظر «عجّل الله فرجه الشريف» أن يتركوا كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الزنادقة والملحدين حكموا باستحالته؟! على أن ما تعتقده الشيعة الإمامية في تمام استتار مولاهم الإمام المهدي روحي له الفداء وغيبته ومقامه على ذلك أقرب في العادات والعقول مما أوردناه من أخبار المذكورين في القرآن ، فأيّ طريق للمقرّ بالإسلام إلى إنكار مذهبنا في ذلك لو لا أنه بعيد عن شريعة سيد المرسلين ، تتحكم به الأهواء والشياطين.

على أن المنكر لو تصفّح كتب التأريخ وسير الآثار لوقف على غيبات كثيرين من ملوك الفرس عن رعاياهم دهرا طويلا لضروب من التدبيرات ، لم يعرف أحد لهم فيها مستقرا ولا عثر لهم على موضع ولا مكان ، ثم ظهروا بعد ذلك وعادوا إلى ملكهم بأحسن حال ، وكذلك جماعة من حكماء الروم والهند وملوكهم ، وكم كانت لهم غيبات وأخبار بأحوال تخرج عن العادات ، جاء على ذكرها المؤرخون لم نتعرّض لذكرها ، لعلمنا بتسرّع الخصوم إلى إنكاره تعصّبا وعنادا منهم تارة ، ودفعا لصحة الأخبار به تارة أخرى ، وتعويلهم في إبطاله على بعده من عاداتهم وذلك لضعف عقولهم وإيمانهم بقدرة الله تعالى ، وحسدا وبغضا لأهل بيت النبوة عليهم‌السلام ، وقد اعتمدنا القرآن فيما يحتاج إليه منه ، وإجماع أهل الإسلام لإقرار الخصم بصحة ذلك وأنه من عند الله تعالى ، لعدم قدرتهم على تكذيب ما ورد من الذكر الحكيم بشأن من ذكرنا ، هذا مضافا إلى اعترافهم بحجة الإجماع ، وإن كان كثير منهم لا ينزل على حكم الكتاب والإقرار به ، بل يتأوّلون الآيات ويحرّفون الكلم حبا للعناد واللجاج ، قال تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)(١٦) (١).

__________________

(١) سورة طه : ١٦.

٦٣٢

الشبهة السادسة :

اقتضت العادة فساد قول الإمامية في دعواها بطول عمر الإمام المهديّ عليه‌السلام وبقائه حيّا إلى يومنا هذا وإلى وقت ظهوره مع تكامل قواه البدنية مع بقاء صفته وما له عليه‌السلام من وفور العقل والقوة والشباب والمعارف بأحوال الدين والدنيا ، كل هذا بخلاف حكم العادات في أحوال البشر وما يعتريه من الشيب والضعف والشيخوخة ، وما يوجب قطع حبل حياته ، يدلّ على فساد معتقدهم فيه.

يرد عليها :

إن خرج عمّا نعهده نحن الآن من أحوال البشر ، فليس بخارج عن عادات سلفت لشركائه في البشرية وأمثاله في الإنسانية. وما جرت به العادة في بعض العصور الخالية لم يمتنع وجوده في غيرها ، وكان حكم مستقبلها كحكم ماضيها على البيان ، ولو لم تجر العادة بذلك جملة ، لكانت الأدلّة على أن الله تعالى قادر على فعل ذلك تبطل توهّم المخالفين للحق فساد القول به وتكذيبهم في دعواهم.

وقد أطبق العلماء من أهل الملل وغيرهم أنّ آدم أبا البشر عليه‌السلام عمّر نحو الألف لم يتغيّر له خلق ولا انتقل من قوة إلى ضعف ، ولا من علم إلى جهل ولا من شباب إلى شيخوخة ، فلم يزل على صورة واحدة حتى قبضه الله تعالى إليه. هذا مع الأعجوبة في حدوثه من غير نكاح ، وخلقه من التراب ، وانتقاله من طين لازب إلى طبيعة الإنسانية ، ولا واسطة في صنعته باتفاق أهل الكتب السماوية ، والقرآن مع ذلك ناطق ببقاء نوح نبيّ الله عليه‌السلام في قومه تسعمائة سنة وخمسين للإنذار لهم خاصة ، وقبل ذلك ما كان له من العمر الطويل إلى أن بعث نبيّا من غير ضعف كان به ولا هرم ولا عجز ولا جهل ، مع امتداد بقائه وتطاول عمره في الدنيا وسلامة حواسه.

وأن الشيب أيضا لم يحدث في البشر قبل حدوثه في إبراهيم الخليل عليه‌السلام بإجماع من سميناه من أهل العلم من المسلمين خاصة. وهذا ما لا يدفعه إلّا

٦٣٣

الملاحدة من المنجمين وشركاؤهم في الزندقة من الدهريين ، فأما أهل الملل كلّها فعلى اتفاق منهم على ما وصفناه.

والأخبار متناصرة بامتداد أيام المعمّرين من العرب والعجم والهند ، وأصناف البشر وأحوالهم التي كانوا عليها مع ذلك ، والمحفوظ من حكمهم مع تطاول أعمارهم ، ونقلوا من أشعارهم الشيء الكثير مما لا يختلف في صحته اثنان من حملة الآثار ونقلة الأخبار ، وقد صنّف المؤرخ العامي الشيخ السجستاني كتابا سماه : «المعمرون» سجّل فيه جماعة تنوف أعمارهم على مئات السنين ، عدا عمّا ذكره مصنفون أجلّاء من علماء الإمامية فليراجع (١).

فمن هؤلاء المعمّرين :

ـ لقمان بن عاد الكبير ؛ وكان أطول الناس عمرا بعد الخضر عليه‌السلام ، وذلك أنه عاش على رواية العلماء بالأخبار ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة سنة ، وقيل أنه عاش عمر سبعة أنسر ، وكان يأخذ فرخ النسر فيجعله في الجبل فيعيش النسر منها ما عاش ، فإذا مات أخذ آخر فرباه ، حتى كان آخرها لبد ، وكان أطولها عمرا ، فقيل : طال الأمد على لبد.

وفيه يقول الأعشى :

لنفسك إذ تختار سبعة أنسر

إذا ما مضى نسر خلدت إلى نسر

فعمّر حتى خال أنّ نسوره

خلود وهل تبقى النفوس على الدهر

وقال لأدناهنّ إذ حلّ ريشه

هلكت وأهلكت ابن عاد وما تدري

 ـ ومنهم ربيع بن ضبيع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عديّ بن فزارة. عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة ، وأدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يسلم. وهو الذي يقول وقد طعن في ثلاثمائة سنة :

__________________

(١) الغيبة للطوسي ص ١١٣ ـ ٣٢٣ وكمال الدين ج ٢ / ٥٢٣ ب ٤٦ ، البحار ج ٥١ / ٢٢٥ ـ ٣٩٣ ب ١٤ ، تقريب المعارف ص ٢٠٧ ـ ٢١٤ ، كنز الفوائد ج ٢ / ١١٤ ـ ١٣٤.

٦٣٤

صبح منّي الشباب قد حسرا

إن ينأ عنّي فقد ترى عصرا

والأبيات معروفة ..

وهو الذي يقول (١) أيضا منه :

ذا كان الشتاء فأدفئوني

فإنّ الشيخ يهدمه الشتاء

وأما حين يذهب كلّ قرّ

فسربال خفيف أو رداء

إذا عاش الفتى مأتين (٢) عاما

فقد أودى المسرّة والفتاء

 ـ ومنهم : المستوغر بن ربيعة بن كعب. عاش ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين سنة وهو الذي يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وعمرت من عدد السنين مئينا

مائة حدتها بعدها مائتان لي

وعمرت من عدد الشهور سنينا

 ـ ومنهم : أكثم بن صيفي الأسدي. عاش ثلاثمائة وثمانين سنة ، وكان ممّن أدرك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمن به ومات قبل أن يلقاه ، وله أحاديث كثيرة وحكم وبلاغات وأمثال. وهو القائل:

وإنّ امرأ قد عاش تسعين حجّة

إلى مائة لم يسأم العيش جاهل

خلت مائتان بعد عشر وفائها

وذلك من عدّى ليال قلائل

وكان والده صيفي بن رياح بن أكثم أيضا من المعمّرين. عاش مائتين وستة وسبعين سنة ، ولا ينكر من عقله شيء ، وهو المعروف بذي الحلم الذي قال فيه المتلمّس اليشكري :

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما علّم الإنسان إلّا ليعلما

__________________

(١) المسائل العشرة ص ٩٦ وكمال الدين ج ٢ / ٥٥٠.

(٢) ظ : مائتي عام.

٦٣٥

ـ ومنهم : ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو. عاش مائتي وعشرين سنة فلم يشب قطّ ، وأدرك الإسلام ولم يسلم.

وروى أبو حاتم والرياشي عن العتبي عن أبيه أنه قال : مات ضبيرة السهمي وله مائتا سنة وعشرون سنة ، وكان أسود الشعر صحيح الأسنان.

ورثاه ابن عمّه قيس بن عدي فقال :

من يأمن الحدثان بع

د ضبيرة السّهميّ ماتا

سبقت منيّته المشي

ب وكان ميتته افتلاتا

فتزوّدوا لا تهلكوا

من دون أهلكم خفاتا

 ـ ومنهم : دريد بن الصمّة الجشمي. عاش مائتي سنة وأدرك الإسلام فلم يسلم ، وكان قوّاد المشركين يوم حنين ومقدّمهم ، حضر حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقتل يومئذ.

ـ ومنهم : محصّن بن عتبان بن ظالم الزبيدي. عاش مائتي وخمسة وخمسين سنة.

ـ ومنهم : عمرو بن حممة الدوسي. عاش أربعمائة سنة ، وهو الذي يقول :

كبرت وطال العمر حتى كأنني

سليم أفاع ليله غير مودع

فما الموت أفناني ولكن تتابعت

عليّ سنون من مصيف ومربع

ثلاث مئات قد مررن كواملا

وها أنا هذا أرتجي نيل أربع

 ـ ومنهم : الحرث بن مضاض الجرهميّ. عاش أربعمائة سنة ، وهو القائل :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

والفرس تزعم أن قدماء ملوكها جماعات طالت أعمارهم وامتدت وزادت في الطول على أعمار من أثبتنا اسمه من العرب ، ويذكرون أنّ من جملتهم الملك

٦٣٦

الذي استحدث المهرجان ، عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة.

فلو لم يكن من جملة المعمّرين إلّا من التنازع في طول عمره مرتفع ، وهو سلمان الفارسي رحمة الله عليه ، وأكثر أهل العلم يقولون بأنه رأى المسيح ، وأدرك النبي صلوات الله عليه وآله ، وعاش بعده ، وكانت وفاته في وسط أيام عمر بن الخطاب ، وهو يومئذ القاضي بين المسلمين في المدائن ، ويقال : إنه كان عاملها وجابي خراجها ، وهذا أصح (١).

وزبدة المخض : أن القول بطول عمر الإمام الحجّة المنتظر عليه‌السلام واقع تحت قدرة الله تعالى ، وليس الإمام عليه‌السلام الوحيد من بين مخلوقات الله ممن خصّه الله بذلك ، ولا يعتبر القول بطول العمر من الموبقات حتى يعيّر به الشيعة أو ينسب قائله إلى الهذيان والجنون (٢) ، وعليه فإن كل من دان بما تدين به الشيعة فهو مجنون على حدّ تعبير السفاريني الحنبلي ، وفي مقابل هذا الضال المضلّ ، نطق الحقّ على لسان العلّامة محمّد بن طلحة النصيبي الشافعي إذ قال :

«وأما عمره فإنه ولد في أيام المعتمد على الله ، خاف فاختفى وإلى الآن فلم يمكن ذكر ذلك إذ من غاب وإن انقطع خبره لا يمكن الحكم بمقدار عمره ولا بانقضاء حياته وقدرة الله واسعة وحكمه وألطافه بعباده عظيمة عامة ، ولو رام عظماء العلماء أن يدركوا حقائق مقدوراته وكنه قدرته لم يجدوا إلى ذلك سبيلا ... وليس ببدع ولا مستغرب تعمير بعض عباد الله المخلصين ولا امتداد عمره إلى حين فقده مدّ الله تعالى أعمار جمع كثير من خلقه من أصفيائه وأوليائه ومن مطروديه وأعدائه ، فمن الأصفياء عيسى عليه‌السلام ، ومنهم الخضر ، وخلق آخرون من الأنبياء طالت أعمارهم حتى جاز كلّ واحد منهم ألف سنة أو قاربها كنوح عليه‌السلام وغيره ، وأما من الأعداء المطرودين فإبليس والدّجال ، ومن غيرهم كعاد الأولى كان فيهم

__________________

(١) المسائل العشرة / الشيخ المفيد ص ١٠٣ والغيبة / الشيخ الطوسي ص ٢٧٩ ، تقريب المعارف ص ٢٠٧.

(٢) لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية للسفاريني الحنبلي ج ٢ / باب المهدي اسمه ونسبه.

٦٣٧

من عمره ما يقارب الألف ، وكذلك لقمان صاحب اليد ، وكل هذه لبيان اتساع القدرة الربانية في تعمير بعض خلقه فأي مانع يمنع من امتداد عمر الصالح الخلف الناصح إلى أن يظهر فيعمل ما حكم الله له به».

ثم قال مادحا عترة المصطفى بقوله : «وحيث وصل الكلام إلى هذا المقام وانتهى جريان القلم بما خطه من هذه الأقسام .. فلنختمه بالحمد لله ربّ العالمين فإنها كلمة مباركة جعلها الله آخر دعوى أهل جنانه ، وخصّ بها من اجتباه من خليقته فكساه ملابس مرضاته ، فهذا آخر ما حرّره القلم من مناقبهم السنية وسطّره من صفاتهم الزكية ونثره من مزاياهم العلمية وذلك وإن كثر قليل في جنب شرفهم الشامخ ويسير فيما أتاهم من فضله الراسخ ، وأنا أرجو من كرم الله أن يشملني ببركتهم ويدخلني في زمرتهم ويجعل هذا المؤلف مسطورا في صحيفة حسناتي المعدودة من حسنتهم ، فقد بذلت جهدي في جمع مزاياهم بذل المجدّ الطالب ولم آل جهدا في تأليفها وجمعها قضاء لحقهم اللازب اللازم ، ولسان الحال يقرع باب الأسماع لإسماع الشاهد والغائب وسأقول :

رويدك إن أحببت نيل المطالب

فلا تعد عن ترتيل أي المناقب

مناقب آل المصطفى المهتدى بهم

إلى نعم التقوى ورغبى الرغائب

مناقب آل المصطفى قدوة الورى

بهم يبتغى مطلوبه كل طالب

مناقب تجلى سافرات وجوهها

ويجلو سناها مدلهم الغياهب

عليك بها سرا وجهرا فإنها

تحلك عند الله أعلى المراتب

وخذ عند ما يتلو لسانك أيها

بدعوة قلب حاضر غير غائب

لمن قام في تأليفها واعتنى به

لتقضى من مفروضها كل واجب

عسى دعوة يزكو بها حسناته

فيحظى من الحسنى بأسنى المواهب

فمن سئل الله الكريم أجابه

وجاوره الإقبال من كل جانب

انتهى» (١).

__________________

(١) مطالب السئول في مناقب آل الرسول / النصيبي الشافعي ج ١ / الباب ١٢ في أبي القاسم.

٦٣٨

الشبهة السابعة :

إن استمرار غيبة الإمام المهديّ على الوجه الذي تزعمه الشيعة الإمامية من حيث عدم ظهوره للناس ، ولا يتولّى إقامة الحدود ولا ينفذ الأحكام ولا تظهر له دعوة إلى حقّ ، ولا يهدي ضالا ولا يجاهد كافرا ، فمنع انتفاء هذه الفوائد عنه بطلت الحاجة إليه في حفظ الشرع والملّة ، وكان وجوده في العالم كعدمه.

يرد عليها :

(١) إنّ الأمر بخلاف ما ذكرته الشبهة وذلك لأن غيبة الإمام المهدي المنتظر عجّل الله فرجه الشريف لا تضرّ في الحاجة إليه في حفظ الشريعة وقوام الملّة ، وإن كان يتراءى ذلك ذي بدء إلّا أن الواقع يخالفه ويناهضه ، ألا ترى أن الدعوة إلى إمام الزمان ـ التي هي في الواقع دعوة إلى دين الله عزوجل لأنه ـ روحي فداه ـ يمثّل التوحيد بشتى أقسامه ـ إنما يتولّاها شيعته من العارفين به والمخلصين لشخصه الكريم فتقوم الحجّة حينئذ بهم في ذلك ، ولا يحتاج هو إلى تولّي ذلك بنفسه ، وله في ذلك أسوة بمن تقدّمه من المرسلين والأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام حيث كانت دعواتهم تنتشر بواسطة نوابهم ووكلائهم لا سيّما رسول الله إذ كان له وكلاء في الأمصار والأقطار ينوبون عنه في تبليغ الأحكام والمهام ، ولا يحتاجون إلى قطع المسافات لذلك بأنفسهم ، فكانت الحجة تصل إلى الناس بأتباع الأنبياء والمقرّبين بنبوتهم عليهم‌السلام ، وهكذا كانت الدعوة إليهم تقوم بأولئك التابعين لهمعليهم‌السلام بعد وفاتهم ، وتثبت الحجّة لهم في نبوّتهم ، وكذلك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام ودرء الفساد ، فقد كان المتولّي لها أمراء الأئمة عليهم‌السلام وعمّالهم المنصوبون من قبلهم دون أشخاصهم وأعيانهم ، كما كان يتولّى ذلك أمراء الأنبياء عليهم‌السلام وولاتهم ولا يحوجونهم إلى تولّي ذلك بأنفسهم ، وكذلك القول في الجهاد ، ألا ترى أنه يقوم به الولاة من قبل الأنبياء والأئمة دونهم ، ويستغنون بذلك عن تولّيه بأنفسهم.

٦٣٩

فعلم بما ذكرنا آنفا أن الذي أحوج إلى وجود الإمام عليه‌السلام ومنع من عدمه ما اختصّ به من حفظ الشرع ومراعاة حدوده ، الأمر الذي لا يجوز أن يؤتمن عليه سواه من أفراد الرعية ، كما أن على الرعية حفظ ما كلّفوا بأدائه ، فمتى وجد منهم قائما بذلك فهو في سعة من الاستتار والصمت ، ومتى وجدهم قد أطبقوا على تركه وضلّوا عن الطريق الحقّ فيما كلّفوه من نقله وحمله ، ولو بانضمامه إليهم من حيث لا يعرفونه ، ظهر لتولّي ذلك بنفسه ، ولا يسعه حينئذ إهمال القيام به ، فلذلك وجب في حكم العقل وجوده وعدم جواز موته ، الأمر الذي يمنعه من رعاية الدين وحفظه وتفقّده لأحوال من تمسّك به أو فارقه ، وهذه هي الميزة التي يفترق بها الإمام عمّن سواه من رعيته ، وهذا بيّن لمن تدبره.

(٢) إذا غاب الإمام عليه‌السلام ـ روحي فداه ـ للخوف على نفسه من القوم الظالمين ، فضاعت لذلك الحدود وأهملت الأحكام وتعطلت الحدود ، ووقع بسبب الغيبة الفساد في الأرض ، كان المسئول عن ذلك كلّه فعل الظالمين دون الله عزوجل ، وكانوا هم المجرمين المؤاخذين به دون الإمام عليه‌السلام ، نعم لو أماته الله تعالى فوقع لذلك الفساد وارتفع لأجله الصلاح في البلاد ، كان سببه فعل الله دون العباد ولا يجوز نسبة سبب الفساد إلى الله تعالى أو ما يوجب رفعه رفع الصلاح. من خلال ما ذكرنا يتضح الفرق بين موت الإمام عليه‌السلام وغيبته واستتاره وثبوته.

الشبهة الثامنة :

إن غيبة الإمام المنتظر عليه‌السلام تستلزم سقوط الحدود عن الجناة وهو عين القول بنسخ الشريعة ، ولو قلنا بعدم نسخها فمن يقيمها حال غيبته؟

والجواب :

الحدود المستحقة ثابتة في حقّ الجناة والعصاة ، فإن ظهر الإمام ، وكان المستحق لهذه الحدود باقيا ، أقامها عليه الإمام المهديّ عليه‌السلام حال ظهوره ، فإن فات ذلك بموته كان الإثم في تفويت إقامتها على من أخاف الإمام وألجأه إلى

٦٤٠