أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

أغار جعفر الكذّاب على الدار جاءته فارّة من جعفر فتزوّج بها. قال أبو عليّ : فحدّثتني أنها حضرت ولادة السيّد عليه‌السلام وأنّ اسم أمّ السيّد صقيل ، وأنّ أبا محمّد عليه‌السلام حدّثها بما يجري على عياله ، فسألته أن يدعو الله عزوجل لها أن يجعل منيّتها قبله ، فماتت في حياة أبي محمّد عليه‌السلام وعلى قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر أمّ محمّد. قال أبو عليّ : وسمعت هذه الجارية تذكر أنه لمّا ولد السيّد عليه‌السلام رأت لها نورا ساطعا قد ظهر منه وبلغ أفق السماء ، ورأيت طيورا بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده ، ثم تطير ، فأخبرنا أبا محمّد عليه‌السلام بذلك فضحك ، ثم قال : تلك ملائكة نزلت للتبرّك بهذا المولود وهي أنصاره إذا خرج (١).

٥ ـ وعن محمّد بن أحمد العلويّ ، عن أبي غانم الخادم قال : ولد لأبي محمّد عليه‌السلام ولد فسمّاه محمّدا ، فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال : هذا صاحبكم من بعدي ، وخليفتي عليكم ، وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالانتظار ، فإذا امتلأت الأرض جورا وظلما خرج فملأها قسطا وعدلا (٢).

٦ ـ وعن أبي عبد الله محمّد بن خليلان قال : حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن غياث بن أسيد قال : ولد الخلف المهديّ عليه‌السلام يوم الجمعة ، وأمّه ريحانة ، ويقال لها : نرجس ، ويقال : صقيل (٣) ، ويقال : سوسن إلّا أنه قيل : لسبب الحمل صقيل ، وكان مولده عليه‌السلام لثمان ليال خلون من شعبان سنة ستّ وخمسين ومائتين ، ووكيله عثمان بن سعيد ، فلمّا مات عثمان أوصى ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان ، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح ، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد السمريّ رضي الله عنهم ، قال : فلمّا حضرت

__________________

(١) نفس المصدر والجزء ص ٤٣١ ح ٧.

(٢) نفس المصدر والجزء ح ٨.

(٣) الصقيل : الشيء الأملس ، وسميت صقيلا لما اعتراها عليها‌السلام من النور بسبب الحمل المنوّر ، أما الصّيقل : فهو مبالغة صاقل أي شحّاذ السيوف وجلّاؤها.

٦٠١

السمريّ الوفاة ، سئل أن يوصي فقال : لله أمر هو بالغه ، فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمريّ رضي الله عنه (١).

وهكذا رآه بعض أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في حياة أبيه.

هذا طرف يسير مما جاء في النصوص على ميلاد الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف ، والروايات في ذلك كثيرة قد دوّنها أصحاب الحديث من هذه العصابة المرحومة وأثبتوها في كتبهم (٢) فتراجع ، وهكذا النصوص التي دلت على من شاهد القائم المهديّ عليه‌السلام ورآه وكلّمه ، يجدها مبثوثة في كتبنا بكثرة تفوق التواتر بعشرات المرات (٣). وأما كتب المخالفين فليس فيها شيء مما ذكرته مصادرنا بخصوص ولادة مولانا الحجّة المنتظر عليه‌السلام سوى ما ذكره بعض علمائهم وقد تقدّمت أسماؤهم ، وسوى ما رواه ثلة منهم أمثال الحمويني الشافعي وابن الصبّاغ المالكي والقندوزي الحنفي.

* فقد روى الحمويني بسنده عن عبد الله بن عبّاس قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي لاثنا عشر ، أوّلهم أخي وآخرهم ولدي. قيل : يا رسول الله ومن أخوك؟ قال : عليّ بن أبي طالب ، قيل : فمن ولدك؟ قال : المهديّ الذي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

والذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهديّ ، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب (٤).

__________________

(١) كمال الدين ص ٤٣٢ ح ١٢.

(٢) كمال الدين والغيبة للنعماني ، وأصول الكافي ، وغيبة الطوسي.

(٣) مضافا للمصادر المتقدّمة ، فليراجع : مدينة المعاجز للبحراني ، وجنّة المأوى للطبرسي والبحار للمجلسي وإلزام الناصب للحائري.

(٤) فرائد السمطين ج ٢ / ٢٠٢ حديث ٥٦٢ باب ٦١.

٦٠٢

وروي بسند آخر متصل بعبد الله بن عبّاس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون (١).

وعن ابن عبّاس أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سيّد المرسلين ، وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيين ، وأن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم عليّ بن أبي طالب ، وآخرهم القائم(٢).

* وروى ابن الصبّاغ المالكي عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : الأئمة الاثنا عشر كلّهم من آل محمّد : عليّ بن أبي طالب وأحد عشر من ولده ثم قال : «وأما النص على إمامته من جهة أبيه فروى محمّد بن عليّ بن بلال قال : خرج إليّ أمر أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري قبل مضيّه بسنين يخبرني بالخلف من بعده ثم خرج إليّ قبل مضيّه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف بأنه ابنه من بعده.

وعن أبي هاشم الجعفري قال : قلت لأبي محمّد الحسن بن عليّ جلالتك تمنعني من مسألتك ، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال : سل ، فقلت : يا سيّدي هل لك ولد؟ قال : نعم ، قلت : فإن حدث حادث فأين أسأل عنه؟ قال : بالمدينة.

ثم أضاف : ولد أبو القاسم محمّد الحجّة ابن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة ، وأما نسبه أبا وأما فهو أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين ، وأما أمّه فأمّ ولد يقال لها نرجس خير أمة ..» (٣).

__________________

(١) فرائد السمطين ج ٢ / ٢٠٣ حديث ٥٦٣.

(٢) فرائد السمطين ج ٢ / ٢٠٣ حديث ٥٦٤.

(٣) الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة / ابن الصباغ المالكي ص ٢٨٢.

٦٠٣

* وروى القندوزي الحنفي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة وهو آخر من مات من الصحابة بالاتفاق عن عليّ رضي الله عنه قال :

قال رسول الله : يا عليّ أنت وصيي حربك حربي وسلمك سلمي وأنت الإمام وأبو الأئمة الأحد عشر الذين هم المطهّرون المعصومون ومنهم المهديّ الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا فويل لمبغضهم ، يا عليّ لو أن رجلا أحبّك وأولادك في الله لحشره الله معك ومع أولادك وأنتم معي في الدرجات العلى ، وأنت قسيم الجنّة والنار ، تدخل محبيك الجنّة ومبغضيك النار (١).

وروى القندوزي أيضا عن الحمويني في فرائد السمطين بسنده عن مجاهد عن ابن عبّاس قال: قدم يهودي يقال له نعثل ، فقال : يا محمّد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك؟ قال : سل يا أبا عمارة فقال : يا محمّد صف لي ربّك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه وكيف يوصف الخالق الذي تعجز العقول أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تجده والأبصار أن تحيط به جلّ وعلا عمّا يصفه الواصفون نائي في قربه وقريب في نأيه هو كيّف الكيف وأيّن الأين ، فلا يقال أين هو ، منقطع الكيفية والأينونية فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، قال : صدقت يا محمّد فاخبرني عن قولك أنه واحد لا شبيه له أليس الإله واحد والإنسان واحد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عزّ وعلا واحد حقيقي أحديّ المعنى أي لا جزء ولا تركيب له والإنسان واحد ثنائي مركب من روح وبدن! قال : صدقت ، فأخبرني عن وصيّك من هو؟ فما من نبيّ إلا وله وصيّ وأن نبينا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، فقال : إن وصيي عليّ بن أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين ، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين ، قال : يا محمّد فسمّهم لي ، قال : إذا مضى الحسين فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٥٨ ط / اسلامبول.

٦٠٤

محمّد ، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد ، فإذا مضى محمّد فابنه عليّ ، فإذا مضى عليّ فابنه الحسن ، فإذا مضى الحسن فابنه الحجّة محمّد المهديّ ، فهؤلاء اثنا عشر ...» (١).

والروايات بهذا المعنى من طرق العامة كثيرة تدل على أن الأئمة اثنا عشر وأنهم خلفاؤه ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرد بذكره الاثني عشر خليفة إلّا الأئمة من ذرية ابنته الصدّيقة سيّدة النساء فاطمة روحي فداها. وإليك أخي القارئ قسما منها :

١ ـ ما رواه البخاري في الجزء الرابع من كتاب الأحكام في باب جعله قبل باب إخراج الخصوم وأهل الريب ، قال : حدّثني محمد بن المثنى ، حدّثنا غندر ، حدّثنا شعبة عن عبد الملك قال : سمعت جابر بن سمرة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميرا ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال كلّهم من قريش (٢).

٢ ـ روى الترمذي في صحيحه : باب ما جاء في الخلفاء. قال : حدّثنا أبو كريب عن عمر بن عبيد عن سمّاك بن حرب عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله : يكون من بعدي اثنا عشر أميرا ثم تكلّم بشيء لم أفهمه ، فسألت الذي يليني فقال : قال : كلّهم من قريش. (قال الترمذي) : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة .. الخ وذكر نفس الحديث (٣).

٣ ـ وروى مسلم في كتاب الإمارة من الصحيح ، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش ، عن قتيبة بن سعيد ، حدّثنا جرير عن حصين عن جابر بن سمرة قال : قال سمعت النبيّ يقول : إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٤٤٠ ومنتخب الأثر ص ١٠٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٤ / ١٧٥ ط / مصر سنة ١٣٥٥ ه‍ ومنتخب الأثر ص ١٥.

(٣) صحيح الترمذي ج ٢ / ٤٥ ط / دهلي سنة ١٣٤٢ ه‍.

٦٠٥

عشر خليفة ، قال : ثم تكلم بكلام خفى عليّ ، فقلت لأبي : ما قال؟ قال : كلّهم من قريش(١).

٤ ـ وروى مسلم أيضا في كتاب الامارة عن ابن أبي عمر قال : حدّثنا عن سفيان بن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليّهم اثنا عشر رجلا ثم تكلّم النبيّ بكلمة خفيت عليّ ، فسألت أبي ما ذا قال رسول الله؟ فقال: كلّهم من قريش (٢).

٥ ـ وعنه أيضا عن هداب بن خالد الأزدي عن حمّاد بن مسلمة عن سمّاك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله يقول : لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي ما قال؟ فقال : كلّهم من قريش (٣).

٦ ـ وروى أحمد بن حنبل عن عبد الله عن أبيه حدثنا (حدثنا : أي حدّثنا) مؤمل بن إسماعيل حدثنا حمّاد بن سلمة حدثنا داود بن هند عن الشعبي عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة (٤).

٧ ـ وروى أحمد أيضا في المسند عن الشعبي عن مسروق قال : كنّا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٢ / ١٩١ ط / مصر سنة ١٣٤٨ ه‍.

(٢) صحيح مسلم ج ٢ / ١٩١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) مسند أحمد ج ٥ / ١٠٦ ط / مصر سنة ١٣١٣ ه‍ ، ورواه عن جابر من ٣٤ طريقا في ص ٨٦ ج ٥ ، كما أخرجه عن جابر بن سمرة صاحب المستدرك على الصحيحين ج ٣ / ٦١٨ ، وتيسير الوصول إلى جامع الأصول ج ٢ / ٣٤ ، ومنتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد ج ٥ / ٣١٢ ، وتاريخ بغداد ج ١٤ / ٣٥٣ رقم ٧٦٧٣ ، وتاريخ الخلفاء ص ٧ وينابيع المودة ص ٤٤٥.

٦٠٦

فقال : اثنى عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل (١).

٨ ـ وروى أبو داود في السنن عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله يقول : لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم تجتمع عليه الأمة ، فسمعت كلاما من النبيّ لم أفهمه ، قلت لأبي ما يقول؟ قال : كلّهم من قريش (٢).

٩ ـ روى القندوزي عن جابر بن سمرة ثم ساق الحديث إلى أن قال : كلهم من بني هاشم(٣).

والأخبار بهذا المعنى في مصادرنا فوق حد التواتر فلتراجع (٤).

وبهذا الحديث المتقدّم بضميمة القرائن من الآيات ـ كآية التطهير والإطاعة والبلاغ والإكمال والولاية ونظائرها ـ والروايات (كحديث الثّقلين المشهور المقطوع الصدور وحديث السفينة وغيرهما) نقطع بأن هذه الأحاديث لا تنطبق إلّا على دين الإمامية فإن بعضها يدل على أن الإسلام لا ينقرض ولا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، وبعضها يدل على أن عزة الإسلام إنما تكون إلى اثني عشر خليفة ، وبعضها يدل على بقاء الدين إلى أن تقوم الساعة ، وأن وجود الأئمة مستمر إلى آخر الدهر ، وبعضها يدل على أن الاثني عشر كلّهم من قريش ، وفي بعضها كلّهم من بني هاشم.

وظاهرها جميعا حصر الخلفاء في الاثني عشر وتواليهم ، ومعلوم أن تلك الخصوصيات لم توجد إلّا في الأئمة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين ، ولا

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ / ٣٩٨.

(٢) سنن أبي داود ج ٤ / ١٠٦ حديث ٤٢٧٩ و ٤٢٨٠.

(٣) ينابيع المودة ص ٤٤٥.

(٤) منتخب الأثر ص ١٩ ـ ٥٠ والغيبة للنعماني / باب أن الأئمة اثنا عشر ، والغيبة للطوسي ص ٨٧ ـ ٨٩.

٦٠٧

توافق مذهبا من مذاهب فرق المسلمين إلّا مذهب الإمامية ، وينبغي أن يعدّ ذلك من جملة معاجز النبيّ وأخباره عن المغيبات.

ذكر القندوزي في ينابيع المودة نقلا عن بعض المحقّقين قوله :

«إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان علم أن مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حديثه هذا الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم غير بني هاشم لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كلّهم من بني هاشم في رواية عبد الملك عن جابر وإخفاء صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا القول يرجح هذه الرواية لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم ولا يمكن أن يحمله على الملوك العبّاسية لزيادتهم على العدد المذكور ولقلة رعايتهم ، الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وحديث الكساء فلا بدّ من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلّهم وأورعهم وأتقاهم وأعلاهم نسبا وأفضلهم حسبا وأكرمهم عند الله ، وكان علومهم عن آبائهم متصلا بجدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالوراثة واللدنية ، كذا عرفهم أهل العلم والتحقيق وأهل الكشف والتوفيق ، ويؤيد هذا المعنى أي أن مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأئمة الاثني عشر من أهل بيته ويشهده ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكررة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها ، وأما قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّهم يجتمع عليه الأمة ، في رواية عن جابر بن سمرة فمراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الأمة تجتمع على الإقرار بإمامة كلهم وقت ظهور قائمهم المهديّ رضي الله عنهم» (١).

وفي نهج البلاغة من خطبة الإمام علي «كرّم الله وجهه» : (أين الذين زعموا

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٥٣٥.

٦٠٨

أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى وبنا يستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم) (وأنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر) (واعلموا أنكم لن تعرفوا الرّشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسّكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم وموت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صدق وصامت ناطق) (١).

وبما تقدّم يندفع ما قيل من المراد من الاثني عشر الوارد في الحديث هو حكم خلفاء بني أميّة وبني العبّاس بعد حكم بعض الصحابة. من هنا التجأ أناس من أهل التعصب والعناد من الذين يعدّون أنفسهم في زمرة العلماء إلى ارتكاب تأويلات باردة وإبداء احتمالات ضعيفة كي يصرفوا هذه الأحاديث عن ظواهرها الواضحة المؤيّدة بغيرها من النصوص المتواترة ، وإليك بعضا منها :

التأويل الأول :

أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر إشارة إلى ما بعد الصحابة من خلفاء بني أميّة وليس على المدح بل على استقامة السلطنة.

جوابه :

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٥٣٥ وقد اقتبس القندوزي المقاطع الثلاثة من خطبة ١٤٤ ص ٢٠١ وخطبة ١٤٧ ص ٢٠٤ من خطب نهج البلاغة / شرح صبحي الصالح.

٦٠٩

إذا كان هذا مراده فأية فائدة في الإخبار عن ذلك ، ومن أين علم صاحب التأويل المتقدّم بأن مرادة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإخبار بإمارة اثني عشر من بني أميّة وبني العبّاس ، ومن أين علم أيضا أنه إشارة إلى من بعد الصحابة؟ فلم لم يقل (يكون بعد الصحابة)؟ وقال (يكون بعدي) وإذا وصل الأمر إلى اقتراح مثل هذا الاحتمال لصرف الكلام عن ظاهره حذرا عن إثبات مذهب أهل الحق فلا اختصاص حينئذ لكثرة الاحتمالات الطارئة ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى من بعد عبد الملك وكان مراده (من بعدي) بعد عبد الملك ويحتمل أن يكون إشارة إلى من بعد هشام ، ويحتمل أن يكون ستة منهم من بعد يزيد بن عبد الملك وستة منهم من بني العبّاس ، ويحتمل أن يكون المراد بعد بني أميّة ، كما يحتمل أن يكون إشارة إلى من بعد السفّاح أو المنصور أو غيرهما من بين العبّاس ، ويكون بعضهم من الأمويين الذين ملكوا الأندلس ، وبعضهم من الفاطميين الذين حكموا مصر ، إذ لا مرجّح للاحتمال الأول على واحد من هذه الاحتمالات. هذا مضافا إلى أنه كيف يكون الحديث صادرا على غير سبيل المدح مع ما في بعض طرقه من العبارات الصريحة في المدح ، وكيف يصح تنزيل هؤلاء الجبابرة الفجرة منزلة نقباء بني إسرائيل وحواري عيس في هذه الروايات الكثيرة ، مع دلالة هذه الروايات على انحصار الخلفاء في الاثني عشر.

التأويل الثاني :

المراد من الاثني عشر خليفة هم الذين يأتون بعد وفاة الحجّة المهديّ المنتظر عليه‌السلام.

يرد عليه :

(١) إنّ هذا مخالف لبعض هذه الأحاديث مثل قوله (بعدي اثنا عشر خليفة) وقوله (لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا ، ولا يزال أمر الناس ماضيا) مما يدل على اتصال زمانهم بزمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمرار وجودهم إلى آخر الدهر وانحصار

٦١٠

الخلفاء فيهم كما صرّح به في رواية ابن مسعود المتقدّمة.

(٢) إن القرائن المنفصلة والمتصلة ـ من داخل وخارج هذا الحديث ـ لدلالة قاطعة على أن المراد بالاثني عشر خليفة هو الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وهو المشهور بين فرق المسلمين ، فإثبات الخلافة لما بعد وفاة الإمام الحجّة المهديّ «روحي لتراب نعله الفداء» دون ما قبل وفاته دعوى بلا برهان. هذا مضافا إلى أن هذا التأويل مخالف لخصوص هذه الأحاديث وما فيها من انحصار الخلفاء في الاثني عشر واستمرار واتصال زمانهم بزمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأما الاستناد لصحة حمل هذه الأحاديث على هذا التأويل بخبر «يلي بعد المهدي اثنا عشر رجلا : ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين وآخر من غيرهم» (١). ففيه مضافا إلى مخالفتها للأحاديث الكثيرة عن طريق الفريقين من أن خروج الإمام المهديّ عليه‌السلام في آخر الزمان الذي يأتم به عيسى بن مريم عليهما وعلى نبينا وآله السلام. هذا مع ما في سنده من الضعف والوهن حسبما صرّح ابن حجر في الصواعق ، ولمخالفته لخبر الطبراني : «سيكون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء ثم من بعد الأمراء ملوك ومن بعد الملوك جبابرة ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا».

التأويل الثالث :

ما حكي عن القاضي عيّاض وهو أن المراد أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره ، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أميّة ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد. وقال ابن حجر في فتح الباري : كلام القاضي عيّاض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة (كلهم يجتمع عليه الناس) ثم ذكر أسماء من وقع الاجتماع على خلافتهم وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ «أمير المؤمنين

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٦٦.

٦١١

وقائد الغر المحجلين» ومعاوية ويزيد وعبد الملك وأولاده الأربعة : الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام وعمر بن عبد العزيز ..

يرد عليه :

(١) إن هذا الوجه أردأ ما قيل في الحديث وأهونه ، «ونحن نترك الكلام في نسب بني أميّة وعدم صحة انتسابهم إلى قريش مع أن هذه الأحاديث مصرّحة بكون الأئمة الاثني عشر من قريش ، مضافا إلى أنه كيف يصح حمل هذه البشائر التي صدرت على سبيل المدح وإطلاق الخليفة على معاوية الذي حارب أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي قال فيه سيّد المرسلين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حربك حربي» وأعلن معاوية بسبّه على المنابر ، ودسّ السم إلى الإمام الحسن عليه‌السلام سيّد شباب أهل الجنّة؟ كما كيف يصح حملها على مثل يزيد بن معاوية الفاسق المعلن بالمنكرات والكفر قاتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، وهو الذي أباح بأمره مسلم بن عقبة أهل المدينة ثلاثا فقتل خلقا من الصحابة ونهبت المدينة وافتض في هذه الواقعة الف عذراء حتى أن الرجل من المدينة بعد ذلك إذا زوّج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول لعلّها قد افتضت في واقعة الحرة ، وقيل تولد من النساء أربعة آلاف ولد من تلك الواقعة ، وقد قال رسول الله فيما رواه مسلم «من أخاف أهل المدينة أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وحكي عن الواقدي أن عبد الله بن حنظلة (١) غسيل الملائكة قال : «والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء أنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة» وهو الذي أمر بغزو الكعبة ، وقد ذكر السيوطي أن نوفل بن أبي الفرات قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز ، فذكر رجل يزيد بن معاوية فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير المؤمنين وأمر به فضرب عشرين سوطا. إلى ما هنالك من

__________________

(١) روي أن حنظلة بن أبي عامر خرج يوم أحد وهو جنب ليقاتل المشركين فلمّا قتل غسّلته الملائكة.

راجع أسد الغابة ج ٢ / ٨٦.

٦١٢

مخازي ارتكبها بنو أميّة ، وعليه كيف يصح حمل هذه الأحاديث وإطلاق الخليفة على عبد الملك الغادر الناهي عن الأمر بالمعروف؟ قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : لو لم يكن من مساوي عبد الملك إلّا الحجّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة يهينهم ويذلهم قتلا وضربا وشتما وحبسا وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يخفى فضلا عن غيرهم وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختما يريد بذلك ذلهم فلا رحمه‌الله ولا عفا عنه». وكيف يطلق الخليفة على الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق الشارب للخمر والمتهتك لحرمات الله تعالى وهو الذي أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه ، وهو الذي فتح المصحف فخرج (فاستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) فألقاه ورماه بالسهام وقال :

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزّقني الوليد

فما يلبث بعد ذلك إلّا يسيرا حتى قتل ، ونقل صاحب تاريخ الخميس «أن من كفرياته أنه دخل يوما فوجد ابنته جالسة مع دادتها (١) فبرك عليها وأزال بكارتها فقالت له الدادة هذا دين المجوس ، فأنشد قائلا :

من راقب الناس مات غما

وفاز باللذة الجسور

أهذا معنى عزة الإسلام وخليفة رسول الله؟!! فالصواب تسمية هؤلاء بالفراعنة لا الخلفاء ، وتشبيههم بالملاحدة والكفرة لا بحواري عيسى ونقباء بني إسرائيل. والأعجب من ذلك كيف رضي القاضي عيّاض أن يجعل هؤلاء الجبابرة من خلفاء رسول الله الذين بشّر بهم وأخبر بأنهم يعملون بالهدى وإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها وفي نفس الوقت أخرج من الحديث الإمام الحسن المجتبى مع أنه خليفة بنص جده رسول الله حسبما أفادت الأخبار القطعية ، ثم أدخل يزيد بن معاوية وبني العاص الذين لعنهم رسول الله بمحكم النصوص من الفريقين.

__________________

(١) كلمة تركية مستعربة وهي : المربّية.

٦١٣

(٢) إن التمسك بقوله (كلّهم يجتمع عليه الأمة) ضعيف وذلك لأن تمسّك الأمة برجل لا يصلح دليلا على شرعية حكمه ، لا سيّما وأن الأكثرية ميّالة إلى الدعة والهوى وحبّ الدنيا ، مضافا إلى أن الظاهر من نسبة فعل إلى أحد صدوره منه بالاختيار دون الجبر والإكراه ، فالمراد بقوله (يجتمع) لو سلّمنا صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتماعهم بالقصد والاختيار إلّا أنه لا يصح لأحد أن يخبر عن وقوع اجتماع أهل مكة والمدينة وعظماء الفقهاء ووجوه المحدثين وبقية الصحابة وكبار التابعين على خلافة يزيد وأنهم اجتمعوا عليه واختاروه للخلافة ، أو اجتماع المسلمين على خلافة الوليد بن يزيد.

ولو بنينا على ذلك يلزم خروج أمير المؤمنين عليّ والإمام الحسن عليهما‌السلام من الخلفاء لعدم اجتماع أهل الشام عليهما مع قيام الإجماع والاتفاق على خلافتهما.

(٣) إن هذا التأويل لم يذكر في ضمنه الإمام الحجّة المهديّ عجّل الله فرجه الشريف مع نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه بالخلافة ، فإنّ عدّ في قبال الاثني عشر حينئذ يزداد عدد الخلفاء ، وظاهر تمام النصوص السابقة حصر العدد فيها وإلّا يلزم دخوله فيبطل ما عيّنوه بالوهم ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يكون في آخر الزمان خليفة يقسّم المال ولا يعدّه ، وفي تعبير آخر : يحثي المال حثيا ولا يعدّه.

(٤) ظاهر جملة من الأخبار وصريح بعضها أن بانقضاء الثاني عشر منهم ينقضي أمر الدين وتظهر علامات الساعة وتقوم أشراط القيامة والتي منها رجعة النبيّ محمّد وآله الطاهرين كما هو مفاد النصوص التي فاقت حدّ التواتر بعشرات المرات ، فرجعتهم عليهم‌السلام متمّمة ومكمّلة لسابق عدله ، ثم بعد ذلك تقوم أشراط الساعة بظهور الهرج والفساد ، فتقوم الساعة على شرار خلقه ، وما ألطف تعبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال :

«لا يزال هذا الدين قائما إلى اثني عشر من قريش فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها».

٦١٤

وعليه فلو فرض خلو زمانه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان ظهوره «عجّل الله فرجه المبارك» من خليفة منهم ، لزم عدم قيام الدين وذلته واضطراب الأرض وظهور الفتن والهرج قبل انقضاء حكم الثاني عشر ورجعة آبائه وأجداده بعده.

إن الأرجاف في حياة الإمام المهديّ عجّل الله فرجه المبارك من قبل العامة لا يضعّف من إيمان أتباعه والمعتقدين به كرسول وحجّة من الله تعالى على خلقه ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، بل يزيدنا إصرارا على التمسّك بأذياله المقدّسة والذّب عنه بكلّ ما أوتينا من قوة ، لاعتقادنا أن الدفاع عنه هو دفاع عن الله تعالى ورسالاته.

ولم يقتصر المرجفون في حياة الإمام المهديّ روحي لتراب نعليه الفداء على التشكيك بوجوده المقدّس بل زادوا في شبهاتهم للحدّ من الاعتقاد به كضرورة إلهية لا بدّ للعباد أن يتمسّكوا بها ، وما رفض هؤلاء لحياته سوى لصرف الناس البسطاء عن الإيمان بالأئمة الاثني عشر ، لأنهم لو اعتقدوا بجواز وجوده الآن لثبت حينئذ صحة الأحاديث الدالة على أنّ الإمامة حق شرعي لعليّ المرتضى وأولاده الأحد عشر.

ونحن سنذكر شبهاتهم الواهية ونردّ عليها بإذن الله تعالى ليسفر الصبح لذي عينين.

الشبهة الأولى :

إذا كان الإمام المهديّ الحجة ابن الحسن عليهما‌السلام قد ولد عام ٢٥٥ ه‍ فلما ذا ستره أبوه الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام عن الناس؟

والجواب :

(١) إن استتار الإمام المهدي عليه‌السلام عن عامة الشيعة إلّا الخواص منهم آنذاك واستمرار استتاره عنهم إلى الآن حرصا عليه من القتل ، لأن بني العبّاس كانوا يتربصون بالإمام المهديّ الدوائر لعلمهم عن طريق الرواة أن الإمام المهدي عليه‌السلام

٦١٥

سوف يستأصل أهل العناد والتضليل ، فكانوا يخافون على أنفسهم وعلى انهيار حكمهم منه ، لذا كانوا يقتفون أثره عن طريق الحوامل ، فكل حبلى أولدت ذكرا قتلوه ، هذا مضافا إلى ملاحقته بالبحث عنه ليقتلوه ، وعليه فكيف لا يختبأ من هؤلاء دفعا للضرر المتوجه إليه من الأعداء؟

(٢) إن استتاره عنهم ليس بخارج عن العرف والعقلاء ، ولا مخالفا لحكم العادات ، بل الاستتار كان سيرة الملوك والعظماء في أولادهم بل كان هذا عند البسطاء أو السّوقة من الناس ، لأسباب تقتضي ذلك لا شبهة فيها على العقلاء منها : أن يكون للإنسان ولد من جارية قد استتر تملّكها من زوجته وأهله ، فتحمل منه فيخفي ذلك عن كلّ من يشفق منه أن يذكره ، ويستره عمّن لا يأمن إذاعة الخبر به ، لئلا يفسد الأمر عليه مع زوجته بأهلها وأنصارها ، ثم إذا زال الخوف من الإخبار عنه ، أو حان وقت وفاته ، يعلن عنه ويعرّف به تحرّجا من تضييع نسبه ، وإيثارا لوصوله إلى مستحقه من ميراثه.

وقد يولد للملك ولد ولا يؤذن به حتى يترعرع ، فإن رآه على الصورة التي تعجبه يخلعن عنه وإلّا فلا ، وقد ذكر الناس عن جماعة من ملوك الفرس والروم والهند ، فسطروا أخبارهم في ذلك ، وأثبتوا قصة كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس ملك الفرس الذي جمع ملك بابل والمشرق وما كان من ستر أمّه حملها وإخفاء ولادتها لكيخسرو ، والخبر بأمره مشهور وسبب ستره وإخفاء شخصه معروف ، قد ذكره علماء الفرس وأثبته محمد بن جرير الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك (١).

وقد اشتهر عن بعض الملوك إخفاءهم بعض أولادهم لضرب من التدبير في إقامة خلفاء لهم ، وامتحان جندهم بذلك في طاعتهم ، وغير ذلك مما يكثر تعداده من أسباب ستر الأولاد وإظهار موتهم واستتار الملوك أنفسهم ، والإرجاف

__________________

(١) فليراجع : تاريخ الطبري ج ١ / ٣٥٧.

٦١٦

بوفاتهم ، وامتحان رعاياهم بذلك ، وأغراض له معروفة قد جرت من المسلمين بالعمل عليها العادات.

وكم ظهر أولاد بعد موت آبائهم بدهر طويل ، ولم يكن أحد من الخلق يعرفهم قبل ذلك حتى شهد لهم بذلك عدول من المؤمنين ، وذلك لداع دعا الأب إلى ستر ولادته عن كل أحد من قريب وبعيد إلّا من شهد به من بعد عليه بإقراره على الستر لذلك والوصيّة بكتمانه ، أو بالفراش الموجب لحكم الشريعة إلحاق الولد بوالده.

(٣) لقد أجمع علماء الملل على ما كان من ستر ولادة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وتدبير أمّه في إخفاء أمره عن ملك زمانه لخوفها عليه منه. وكذا اتفاقهم على ستر ولادة موسى بن عمران عليه‌السلام ، وبمجيء القرآن بشرح ذلك على البيان ، والخبر بأن أمّه ألقته في اليمّ على ثقة منها بسلامته وعوده إليها ، وكان ذلك منها بالوحي إليها به بتدبير الله جلّ وعلا لمصالح العباد.

فما الذي ينكره خصوم الإمامية من قولهم في ستر الإمام الحسن العسكري ولادة ابنه الإمام المهديّ عليهما‌السلام عن أهله وبني عمّه وغيرهم من الناس ، وأسباب ذلك أظهر من أسباب ستر من عددناه وسمّيناه ، بل إن الله عزوجل هو الذي ستر ولادة إبراهيم وموسى حينما أخفى على الناس حمل أمّ إبراهيم وأمّ موسى فلم يبن عليهنّ أثر الحمل حفاظا منه تعالى على المولودين الكريمين.

والخبر بصحة ولادة الإمام الحجّة المهدي عليه‌السلام قد ثبتت بأوكد ما ثبت به أنساب الجمهور من الناس ، إذ كان النسب يثبت : بقول القابلة ، ومثلها من النساء اللاتي جرت عادتهنّ بحضور ولادة النساء وتولّي معونتهم عليه ، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه ، وبشهادة رجلين من المسلمين على إقرار الأب بنسب الابن منه.

وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل والورع والزهد والعبادة

٦١٧

والفقه عن الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام : أنه اعترف بولده الإمام المهديّ عليه‌السلام ، وآذنهم بوجوده ، ونصّ لهم على إمامته من بعده ، وبمشاهدة بعضهم له طفلا ، وبعضهم له يافعا وشابا كاملا ، وإخراجهم إلى شيعته بعد أبيه الأوامر والنواهي والأجوبة عن المسائل ، وتسليمهم له حقوق الأئمة من أصحابه ، وذلك موجود في كتبنا (١).

الشبهة الثانية :

إن جعفر بن عليّ «عم الإمام المهديّ عليه‌السلام» قد أنكر شهادة الشيعة بوجود ولد لأخيه أبي الحسن بن عليّ ، ولد في حياته ، وحاز تركة أخيه مدّعيا استحقاقه بميراثه له ، وتظاهر بتكذيب كلّ من ادّعى لأخيه ولدا في حياته وبعد وفاته ، حتى رفع أمر المدّعين ذلك إلى السلطان العبّاسي في عصره ، وحمله على حبس جواري الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام وإيذائهنّ باستبراء حالهنّ من الحمل ليتأكد نفيه لابن أخيه ، وإباحته دماء شيعة الإمام الحسن عليه‌السلام بادعائهم وجود خلف من بعده هو أحق بمقامه من غيره ، لا سيّما أنه لم يظهر لواحدة منهنّ حمل بعد ذلك الاستبراء ، فكل ذلك يكفي في بطلان قول الشيعة ودعواهم وجود ولد للإمام الحسن العسكري ولا أقلّ أنها شبهة تبطل دعواهم إبطالا (٢).

والجواب :

(١) إن اعتماد صاحب الشبهة على إنكار جعفر لولادة الإمام المهديّ عليه‌السلام يصادم النصوص المتواترة الدالة على ولادته وغيبته عليه‌السلام ، وليس لمسلم عرف الله ورسوله أن يجعل تلك النصوص خلف ظهره ويأخذ بقول جعفر المعلوم لدى العامة والخاصة عدم صدقه ، ولثبوت فسقه بدعوى الإمامة لنفسه بعد أخيه عليه‌السلام ،

__________________

(١) راجع : الإرشاد للمفيد ج ٢ / ٣٥١ ، والنجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب للنوري عليه الرحمة.

(٢) ذكرها ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ص ١٦٨ والسفاريني في لوائح الأنوار ج ٢ / ٧١ ، وبذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود / عبد الله الجميلي ج ١ / ٢٥٤.

٦١٨

فلا يجوز الأخذ بقوله لأن الله تعالى قد أمر بالتبيّن في أخبار الفاسق ، حيث قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (١) فكيف يجوز الأخذ بقوله وقد خالف النصوص القطعية والنقول الثابتة وضرب بها عرض الجدار؟ ومن هذا الذي له دين يصغي إلى مقالته ويعتني بشأنه؟ اللهم إلّا من يريد أن يعاند الحق بعد وضوحه ، فلا يحسن حينئذ الكلام معه.

(٢) إن دعوى جعفر ابن الإمام الهادي عليه‌السلام وعمّ الإمام المهديّ عليه‌السلام ليست بحجّة لعدم عصمته باتفاق الأمة ، فإذا لم يكن معصوما بحيث يمتنع عليه لذلك إنكار الحق ـ وهو نفيه لابن أخيه الإمام الحسن العسكري ـ فكيف يمكن تصديقه مع مخالفته لإجماع الطائفة على وجود ولد للإمام العسكري ، هذا مضافا إلى أنه كان من جملة الرعيّة فكيف جاز تصديقه لوحده وتكذيب بقية الأفراد القائلين بوجود ولد للإمام العسكري؟! فهل جميع الأمة كاذبة وهو لوحده الصادق المصدّق؟ إنّ جعفر الذي أخذ بقوله من كان على شاكلته في الكذب هم من جملة الرعية التي يجوز عليها الزلل ، ويعتريها السهو ويقع منها الغلط ، ولا يؤمن منها تعمد الباطل ، ويتوقّع منها الضلال ، وقد نطق القرآن بما كان من أسباط يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام في ظلم أخيهم يوسف عليه‌السلام ، وإلقائهم له في غيابة الجبّ ، وتغريرهم بدمه بذلك ، وبيعهم إياه بالثمن البخس ، ونقضهم عهده في حراسته ، وتعمّدهم معصيته في ذلك وعقوقه ، وإدخال الهمّ عليه بما صنعوه بأحبّ ولده إليه وأوصلوه إلى قلبه من الغم بذلك ، وتمويههم على دعواهم على الذئب أنه أكله بما جاءوا به على قميصه من الدم ، ويمينهم بالله العظيم على براءتهم مما اقترفوه من الإثم ، وهم لما أنكروه متحقّقون ، ويبطلان ما ادّعوه في أمر يوسف عليه‌السلام عارفون ، وهؤلاء من أقرب الخلق نسبا بنبيّ الله وخليله إبراهيم ، فما الذي ينكر ممن هو دونهم في الدنيا

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

٦١٩

والدين أن اعتمد باطلا يعلم خطؤه فيه على اليقين ، ويدفع حقا قد قامت عليه الحجج الواضحة والبراهين.

(٣) إن دواعي جعفر لإنكار ابن أخيه الحجّة المنتظر عليه‌السلام من الأمور المعلومة ، فإنه بذلك يحوز تركة أخيه دونه ، مع جلالتها وكثرتها وعظم خطرها ، لتعجّل المنافع بها ، والنهضة بمآربه عند تملّكها ، وبلوغ شهواته من الدنيا بحيازتها ، وادعائه مقام الإمامة محل أخيه الإمام الحسن العسكري وهو عليه‌السلام في جلالة القدر عند جميع الناس بمكان لا ينكر ، وأنه المستحق له دون غيره ، هذا مضافا إلى طمعه في جمع المال والزكوات التي كان يأتي بها الشيعة من أقطار الأرض إلى الإمام عليه‌السلام ليوزّعها على الفقراء والمستحقين ، هذا وإضعافه دعاه إلى ارتكاب الضلال في إنكار ابن أخيه ، ودفعه له عن حقه ، ومثل من تشبّث بإنكار جعفر لابن أخيه كمثل من تشبّث من الكفار والمشركين بدعوى أبي لهب عمّ النبيّ ببطلان نبوة النبيّ محمّد وجحودها ، مع مشاركة أكثر بني هاشم وبني أميّة لأبي لهب واجتماعهم على عداوة النبيّ ، وتجريدهم السيف في حربه ، واجتهادهم في استئصاله ومتبعيه على ملته ، هذا مع ظهور حجته ووضوح برهانه في نبوته ، وضيق الأفق في معرفة ولادة الحجّة بن الحسن على جعفر وأمثاله من البعداء عن العلم بحقيقته لا يستلزم إنكار شخصيته عجّل الله فرجه الشريف ، ومن صار في إنكار شيء أو إثباته أو صحته وفساده إلى مثل التعلق بجعفر بن عليّ في جحد وجود خلف لأخيه ، وما كان من أبي جهل وشركائه من أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجيرانه وأهل بلده والناشئين معه في زمانه في دفع نبوته وإنكار صدقه في دعوته ، سقط كلامه عند العلماء ولم يعد في جملة الفقهاء ، وكان في أعداد ذوي الجهل والسفهاء.

ونزيد على ما ذكرنا من الأسباب الداعية إلى إنكار جعفر لابن أخيه ودفعه له عن حقه أدلة واضحة على بطلان قوله ، ما رواه الثقات عن أحوال جعفر بن عليّ في حياة أخيه أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، وأسباب إنكاره خلفا له من بعده

٦٢٠