أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

وعليه فما ذكرته الشبهة من تضعيف أبان أو نسبة وضع الكتاب إليه لا تلائم رواية أجلّاء الطائفة قبل ابن الغضائري لهذا الكتاب ولروايات سليم ، وفيهم من صرّح كالنجاشي وغيره بكونه غير مطعون في حديثه ثقة في رواياته مسكونا إليه في أحاديثه وغير ذلك مما ينافي روايتهم لكتاب موضوع ، وهؤلاء مثل ابن أبي جيد شيخ النجاشي والشيخ الصدوق وابن الوليد وأحمد بن محمد بن عيسى والحسين بن سعيد وعبد الله بن جعفر الحميري ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب وهارون بن موسى التلعكبري ويعقوب بن يزيد وحماد بن عيسى ومحمد بن أبي عمير وغيرهم من أجلّاء الرواة. هذا مضافا إلى أنه لا توجد أية أمارات تدل على الوضع ، من هنا استنكر علماء الإمامية على نسبة الوضع والدّس.

قال المجلسي الأول : «إن متن كتابه دال على صحّته» (١).

وقال الفاضل التفريشي : «الصدق مبيّن في وجه أحاديث هذا الكتاب من أوله إلى آخره» (٢).

وقال الميرزا الأسترآبادي : «وشيء من ذلك لا يقتضي الوضع» (٣).

وقال الشيخ الحر : «ليس فيه شيء فاسد ولا ما استدل به على الوضع» (٤).

وقال السيّد الخوئي : «لا وجه لدعوى وضع كتاب سليم أصلا» (٥).

وقال ابن طاوس في التحرير : «سليم بن قيس تضمن الكتاب ما يشهد بشكره وصحة كتابه ..» (٦).

__________________

(١) روضة المتقين ج ١٤ / ٣٧٢.

(٢) نقد الرجال ص ١٥٩.

(٣) منهج المقال ص ١٧١.

(٤) وسائل الشيعة ج ٢٠ / ٢١٠.

(٥) معجم رجال الحديث ج ٨ / ٢٢٥.

(٦) تنقيح المقال ج ٢ / ٥٢.

٥٤١

قال الشيخ الممقاني أعلى الله مقامه : «وأما ابن عيّاش فقد رجّحنا كونه إماميا ممدوحا وكون خبره حسنا والحسنة حجة على الأظهر ، فظهر أن الرجل ـ أي سليم ـ مشكور وأن كتابه صحيح» (١).

الشبهة الرابعة :

استدل الأستاذ سهيل زكّار (٢) السوري ، بأن عمر بن الخطاب لم يعصر الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام بين الحائط والباب ، لأنه لم يكن لبيوت المدينة في عهد الرسول أبواب ذات مصاريع خشبية ، بل كان هناك ستائر توضع على عتبات الأبواب. وقد نقل عنه هذا السيّد البيروتي متبنّيا ـ بحسب الظاهر ـ رأيه لقرائن تثبت ذلك ، تقدم بعض منها ، والبعض الآخر مبثوث في مطاوي كلماته هنا وهناك في المجلات والجرائد والكتب والاذاعات ، وآخر ما توصل إليه: أنه لا يثبت ولا ينفي ، أو أنه يستبعد ما حصل عليها لأن محبة المسلمين للزهراء كانت أكثر من محبتهم لعليّ (٣) .. الخ.

يرد عليه :

أولا : إن دعوى عدم وجود أبواب خشبية مجرد مزحة لا يكاد أحد يصدّقها ، بل مهزلة تردّ على صاحبها ، فلسنا أمّعة نتلقّى كل ما يلقى إلينا ، لا سيّما من جامعيين تربّوا في جحور الغرب وجامعاته إلّا المتقون منهم وهم قليل ، ويكفي لردّ هذه المهزلة أن نحيل صاحبها على مئات المصادر التاريخية ـ من عامة الأديان والفرق ـ فيرى الكثير من النصوص الدالة على وجود أبواب خشبية ذوات مصارع وحلق ومسامير. فالتاريخ القديم يغص بذكر المدن والبيوت ذات الأبواب ،

__________________

(١) تنقيح المقال ج ٢ / ٥٢.

(٢) وهو مؤرخ علماني يعتمد على النصوص الآشورية أكثر من اعتماده على النصوص الإسلامية سوى ما يدخل في نطاق هدفه ، له نظريات لا تتوافق مع أصول الإمامية ، وقد أخذ مادة التاريخ من جامعات الغرب والحفريات الكلدانية والآشورية وغيرها.

(٣) الزهراء المعصومة ص ٥٥ الطبعة الأولى ١٩٩٧ دار الملاك.

٥٤٢

ويشهد لهذا ما ذكره القرآن المجيد من قصة النبيّ يوسف عليه‌السلام وزوجة العزيز ملك مصر آنئذ حيث أرادت إغوائه فامتنع ، قال تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١).

وقال تعالى حكاية عنهما : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) (٢) والسيرة العقلائية تؤكد ما قلنا إذ لم يعهد عندهم أنهم بنوا بيوتا بلا أبواب ذات مصارع وحلق ، بل كان وجود الأبواب الحجرية وغيرها متعارفا لدى المجتمعات البدائية التي كانت الكهوف مسكنا لهم ، حفاظا على أنفسهم من السباع والضباع والأسود والأفاعي وغيرها ، فإخراج المجتمع المدني من سيرة العقلاء يعدّ فصلا بلا دليل معتبر.

ثانيا : كان المجتمع المدني آنذاك خليطا من الأفراد ، فيهم الصالح والطالح ، المؤمن والكافر والمنافق ، ويشهد له قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٣).

وحيث إنّ المنافق يضمر الشرك والكفر ، ويظهر الإيمان ، وجب حينئذ الحذر منه على الأموال والأنفس ، وهل يتصور عاقل أن ينام الفرد في بيت لا مصراع خشبي له ، «وهو يعلم أن ضررا ما سيلحقه من منافق أو كافر ، بل وسبع أو حيوان ، لا سيّما وأن يثرب كانت مسرحا للحروب الداخلية والتجاذبات الحزبية والقبلية قبل الإسلام ، بل لقد بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان أهل المدينة فيه لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وللعربي حالاته ومفاهيمه تجاه قضايا الثأر والغزو والحروب والعداء والولاء ، وأكبر شاهد على ما قلنا هو ما فعلوه بعترة نبيّه بعد وفاته حيث ينمّ عداؤهم لعترة رسول الله محمّد على استحكام الحقد المستكنّ

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٣.

(٢) سورة يوسف : ٢٥.

(٣) سورة التوبة : ١٠١.

٥٤٣

في النفوس ، فكيف يمكن حينئذ أن نتصور أن يعيش هكذا إنسان مع هذه المفاهيم حالة من الرخاء والاسترخاء في مواجهة كل الاحتمالات المخيفة التي تحيط به ، فيترك بيته من دون باب ، مكتفيا بالمبيت بالسلاح الذي لن يكون قادرا على حمايته حين يكون مستغرقا في نومه لا يشعر بما يحيط به ، ولا يلتفت إلى ما يجري حوله ، خصوصا إذا كان العداء بين قبيلتين أو فريقين يعيشان في بلد واحد كالأوس والخزرج أو هما مع اليهود من بني النضير وقينقاع وقريظة».

وبالجملة : فإن فائدة وجود الباب الخشبي وما شابهه ليست من أجل دفع اللصوص فحسب ، وإنما لدفع الحشرات والسباع والحيوانات ، هذا مضافا إلى أن أعظم فائدة مترتبة عليه هي ستر النساء عن أعين الرجال ، ودفع حسيسهنّ عن آذان غير الأزواج ، بل إن الخلوة بالزوجة للجماع يستلزم وجود أبواب ذوات مصارع حرصا على اللوازم المترتبة على الجماع كما لا يخفى ، مع الإشارة إلى أن لوجود الأبواب ذوات المصارع فائدة أيضا في دفع الهواء الحار المختلط بالرمال الصحراوية.

إن تشكيك سهيل بن زكّار يستلزم نفي أمرين :

الأول : تنزيه عمر بن الخطاب عن تهمة قتل الصدّيقة فاطمة بنت رسول الله محمّد صلّى الله عليهما.

الثاني : نفي الفضيلة عن آل البيت عليهم‌السلام من خلال نفي ما ورد ، أو التشكيك به على أقل تقدير من أن النبيّ بعد نزول آية التطهير بحق أهل بيته السادة الميامين : فاطمة وعليّ الحسن والحسين عليهم‌السلام بقي ثمانية أشهر يطرق باب سيّدة النساء فاطمة ويأخذ بعضادتي الباب ثم يقول : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، الصلاة رحمكم الله «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ..» (١).

ومهما حاول تيار التشكيك ـ سواء من العامة أم ممن يحسب نفسه من

__________________

(١) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج ٢ / ٥٢.

٥٤٤

الخاصة ـ أن يحرف بقيمنا التاريخية والعقائدية ليثبت الحق لأهل الباطل ، فلن يصل إلى بغيته ، لأن الله تعالى أرصد للأمة من يحميها من ضربات اولئك المشكّكين المتغربين.

إن لم تع الأمة عقائدها الصحيحة عبر التلقين السليم فسوف يتسلّط عليها عفاريت الإنس والجن ، وتلك خيانة للمبادىء والقيم التي أوصلها إلينا المتقدّمون وضحّوا في سبيل ذلك بالغالي والنفيس ، فحريّ بنا أن ننهج منهجهم بعين الرضا لأهل البيت عليهم‌السلام ، فنحبّ ما أحبّوا ونبغض ما كرهوا ، فلا تغرينا الشعارات الإسلامية التي تصبغها على نفسها شخصيات ومنظمات وأحزاب ، حتى لا نقع في المصيدة فيسهل أكلنا.

إن عالمنا الإسلامي تقوده حركات وأحزاب دينية ، تخفي في طياتها عقائد وتوجهات عامية تنصب العداء لأهل البيت عليهم‌السلام. شعارها محاربة الاستعمار ، ومضمونها وواقعها محاربة عقيدة آل البيت عليهم‌السلام.

إن أي تنظيم ـ مهما كان لونه وشكله ـ إن لم يحمل توجهات صحيحة مستوحاة من مشكاة الولاية لن يكتب له النجاح طويلا ، بل سيرتدّ أفراده على قيادته وتنقلب الصورة ويتهشم البناء بتحطم الأساس.

الشّبهة الخامسة :

سئل (١) أحدهم : لما ذا أصرت الزهراء عليها‌السلام على أن يبقى قبرها غير معروف مع أنها كانت قمة في التسامح؟

فأجابه : كانت المسألة احتجاجية وقد عرف قبرها بعد ذلك ، ويقصد الحديث المشهور : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة (٢).

__________________

(١) والمسئول هو السيّد محمد حسين فضل الله.

(٢) مرآة العقول / محمد باقر المجلسي ج ٥ / ٣٤٩ هامش حديث ١٠ : وقد تبنّى صاحبه الرأي القائل أن قبر الصدّيقة عليها‌السلام هناك.

٥٤٥

والجواب :

(١) إن الاستدلال بهذا الحديث على موضع قبرها أول الكلام ، إذ من أين عرف المستدل أن هذه الروضة هي للصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ، إذ قد تكون موضع جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ ما حل جسد المعصوم في مكان إلّا وكان روضة من رياض الجنّة ، والأظهر عندي أن الروضة هي موضع السقط محسن الشهيد عليه‌السلام ويشهد لما نقول ما رواه حسين بن حمدان عن محمّد بن المفضل عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقص عليه ما جرى على أمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرةعليهما‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليّ لعمر بن الخطاب :

«.. اخرج قبل أن أخرج سيفي (١) ذا الفقار ، فأفني غابر الأمة ، فخرج عمر وخالد بن الوليد وقنفذ وعبد الرحمن بن أبي بكر وصاروا خارج الدار ، فصاح أمير المؤمنين بفضة : إليك مولاتك فاقبلي منها ما يقبل النساء وقد جاءها المخاض من الرفسة وردة [ورده] الباب فسقطت [فأسقطت] محسنا عليه [ظ : عليه‌السلام] قتيلا وعرفت أمير المؤمنين إليه التسليم فقال لها : يا فضة لقد عرّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرّفني وعرّف فاطمة وعرّف الحسن وعرّف الحسين اليوم بهذا الفعل ونحن في نور الأظلة أنوار عن يمين العرش فواريه بقعر البيت فإنه لاحق بجده رسول الله ..» (٢).

وما اعتمده من قال إنّها دفنت في الروضة أو في بيتها جلّه أخبار آحاد ، معارض لأخبار أخرى دلت على أنّها دفنت صلوات الله عليها بالبقيع ، والبقيع واسع لا ندري في أي مكان دفن جسدها الطاهر فيه!

وتترجح أخبار البقيع لكثرتها على غيرها من الأخبار التي دلت على أنه دفنها

__________________

(١) هذه إشارة مهمة على أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام لم يكن مأمورا بإشهار سيفه بوجه تلك العصابة الظالمة لحكمة هو أدرى بها.

(٢) الهداية الكبرى ص ٤٠٨.

٥٤٦

في بيتها ، وما يدرينا لعلّ المراد من بيتها هو الذي اتخذه لها أمير المؤمنين عليه‌السلام في البقيع لتبكي على أبيها بعد أن منعها أبو بكر وعمر من ذلك ، فبهذا يمكن الجمع بين الطائفة التي قالت : إنها ـ بنفس هي وأبي وأمي ـ دفنت في بيتها ، وبين الطائفة التي دلت على أنها صلوات الله عليها دفنت في البقيع.

نعم هناك خبر يشير إلى أنها دفنت في بيتها الملصق بحجرة رسول الله فلمّا زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد (١). فقوله (لما زادت بنو أمية ..) قرينة على أن البيت هو المتاخم لحجرة رسول الله ، فتصرف الروايات إليه.

لكنه غير كاف لضعفه ، فنبقى مع الأخبار التي دلت على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام «لمّا مضى شطر من الليل أخرجها ومعه ولداه الحسن والحسين وعمّار والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان وبريدة ... وسوّى قبرها مع الأرض مستويا فمسح مسحا سواء مع الأرض حتى لا يعرف موضعه» وفي بعض النصوص حفر أربعين قبرا فأراد عمر أن ينبشها فقال له الإمام عليه‌السلام : والله لو رمت ذلك يا ابن صهّاك لأرجعت إليك يمينك ، ولئن سللت سيفي لا غمدته دون إزهاق نفسك ، فانكسر عمر وسكت (٢).

(٢) كيف نجمع بين قوله «إن الزهراء أصرت على إبقاء قبرها غير معروف؟ مع أنها كانت قمة في التسامح من أجل أن المسألة كانت احتجاجية» وبين قوله : «إنّ أبا بكر وعمر قد جاءا لاسترضائها قبل وفاتها فرضيت عنهما؟» (٣).

الشّبهة السادسة :

كيف ترك أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام زوجه الزهراء عليها‌السلام تواجه التحدي لوحدها ، ألا يجدر به عليه‌السلام أن يردّ على عصابة الضلال بدلا من الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام ، أو أن تردّ فضة مثلا على القوم؟

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٦٠ ح ٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٣ / ١٩٣ وص ١٩٩ وص ٢١٢.

(٣) خلفيات كتاب مأساة الزهراء عليها‌السلام ج ٦ / ٢٢٦.

٥٤٧

والجواب :

(١) إن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يترك مولاتنا الصدّيقة الطاهرة تواجه الأمر لوحدها ، بل كلّ ما في الأمر أنها روحي فداها كلّمتهم من وراء الباب ، وأيّ نقيصة أن تكلّم المرأة رجلا من خلف ستار؟ ولكنّ القوم دخلوا الدار عنوة وبسرعة حيث إن الإمام عليه‌السلام كان منشغلا مع بعض أصحابه في إحدى غرف داره ، فلو خرج وكلّمهم هو وأصحابه لكان ذلك مبرّرا لعصابة النفاق فيشيعون بين الناس أن الإمام وأصحابه هجموا على أبي بكر ، فيصبح بذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ظالما ـ بنظر أتباع عصابة النفاق ـ والطرف الآخر مظلوما ، فعدم خروج مولانا الإمام عليه‌السلام وردّه عليهم إنما كان من أجل دفع الفتنة المتوجهة إليه من قبل القوم ، لأنه لو خرج إليهم لقالوا للناس إنه واجهنا بالعنف ، ولم يكن أمامنا خيار إلّا أن اعتقلناه درءا للفتنة ، وحفاظا على الدين والأمة ، ومن الذي يستطيع أن ينكر عليهم ما يدّعون ويرى الناس أنهم حكّام متسلطون ، ولدى الحكام عادة السياط والسيوف إلى جانبها الأموال والمناصب ، وبإمكانهم تلبية المطامح والمآرب ، ويبقى إعلامهم هو الأعلى صوتا ، لأنه يضرب بسيوف المال والجاه والجبروت والأطماع ، وهناك الحقد الظالم من الكثيرين على الإمام عليّ عليه‌السلام ، وعلى كلّ من يلوذ به أو ينسب إليه ، وعليهم أن يستفيدوا من هذه الأحقاد لتثبيت أمرهم وتقوية سلطانهم ، وحين إجابتهم مولاتنا فاطمة عليها‌السلام كان جوابها المفاجأة أو الصدمة التي ضيّعت عليهم الفرصة التي رأوها سانحة ، كانوا يريدون قتل الإمام عليه‌السلام ـ حسبما أفصحت الأخبار عن ذلك ـ وقتل الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ، من هنا تعمّد عمر رفسها على بطنها ولكزها بالسيف مضافا إلى عصرها بين الحائط والباب ، فواجهوها بتلك القسوة والفظاظة والغلظة لأنها حالت دون وصولهم إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكانت ـ فديتها بنفسي ـ شهيدة الحق ، وقضى محسن عليه‌السلام شهيدا في سبيل مظلومية أمير المؤمنين وزوجه سيّدة نساء العالمين فاطمة عليهم‌السلام.

وإصرار القوم بأخذ البيعة من الإمام عليّ عليه‌السلام لإرغامه على السكوت ، إذ

٥٤٨

بمبايعته لمن اغتصب حقه سيخفف من حدّة المعارضة لهم والاحتجاج عليهم ، كما أنهم بهذا الجو الإرهابي يظهرون الإمام عليّا عليه‌السلام على أنه متمرد على الشرعية ، فكان موقف الصدّيقة الشهيدة مفاجئا لهم ، فقد أفقدهم القدرة على التصرف المناسب ، وضيّع عليهم ما جاءوا لأجله ، فتصرفوا معها برعونة وبانفعال وحقد ، وتسبّب هذا في فضح أمرهم وتعريتهم على واقعهم ، فكان خطابها (روحي فداها) لهم من خلف الباب ضربة فاطمية موفّقة منها ـ ـ (وكلّ ما يصدر منها حكمة وصوابا ونورا) ـ محقت كلّ كيد وزيف ، وأبطلت كلّ تزوير أو تحوير للوقائع والحقائق.

(٢) أن الإمام عليّا عليه‌السلام لم يتوان لحظة عن مولاتنا الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام فها هي الأخبار الصحيحة تذكر كيف أخذ بتلابيب عمر بن الخطاب ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله لو لا وصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكف عنهم ما دامت العدة ـ وهي أربعون رجلا ـ لم تكتمل ، لذا قال الإمام عليّ لابن الخطاب : «يا ابن صهّاك لو لا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليّ رسول الله ، لعلمت أنك لا تدخل بيتي» ، من هنا قال ابن صهّاك عمر لمّا اعترضه جماعة ممن كان معه أأنت تدخل على عليّ بن أبي طالب داره؟ قال : نعم! إنّ الرجل لموصى.

وتصف لنا الأخبار الصحيحة المشهد البطولي لمولى الثقلين عليّ عليه‌السلام بالقول : «فأرسل ابن صهّاك يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وثار الإمام عليّ إلى سيفه فتكاثروا عليه وأخذوه فحالت بينهم وبينه مولاتنا فاطمة عليها‌السلام فضربها قنفذ «لعنه الله تعالى» بالسوط. أبعد هذا يقال إنه عليه‌السلام لم يواجه القوم؟!

(٣) إن تصدّي الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام للقوم كان تكليفا من الله تعالى لها ، ويشهد لما نقول : أن مولاتنا فاطمة عليها‌السلام محدّثة كما دلت على ذلك النصوص المتواترة ، ومعنى كونها محدّثة أنّ الله تعالى محدّثها والآمر لها أن تفعل كذا وكذا ، هذا بالإضافة إلى كونها معصومة مطهّرة ، فعلها وقولها وتقريرها حجة من الله تعالى على الخلق ، فالاعتراض بأنها لم جابهت هي القوم في غير محله ، لأنها لم تشهر سيفا بوجه أحد أو تأمر بقتل أحد ، وكل ما في الأمر أنها عليها‌السلام ردّت على القوم

٥٤٩

من خلف الباب فكان جزاؤها أن تلصق أحشاؤها بين الحائط والباب.

(٤) أن فضة تكلّمت مع القوم حسبما تصف رواية الخصيبي أعلى الله مقامه لكنّ عمر جابهها بالسبّ والشتم ، قالت فضة : إن أمير المؤمنين عنكم مشغول والحق له لو أنصفتموه واتقيتم الله ورسوله ، فسبها عمر ، وجمع الحطب الجزل على الباب لإحراق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم [ورقية] (١) وفضة وإضرامهم النار على الباب ، وخروج فاطمةعليها‌السلام وخطابها لهم من وراء الباب ..» (٢).

فدعوى أنه لم لم يكلّمهم أحد غير الصدّيقة مردودة على أصحابها لما تقدم آنفا ، فلا بدّ إذن من الحكم بأن خطاب الصدّيقة لهم كان حجة على القوم وعلى عامة المسلمين الذين كانوا من الكثرة ما يمنع من الاعتداء على بضعة المصطفى فاطمة عليها‌السلام ، لكنّهم تخاذلوا ووقفوا على بابها يتفرجون كيف يقتحم عمر بن الخطاب الباب على ابنة النبيّ محمّد ، لا لجرم ارتكبته ـ وحاشاها ثم حاشاها ـ وإنما لأجل أحقاد تغلغلت في صدور قوم منافقين.

فالصدّيقة الشهيدة عليها‌السلام التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها ، حفظت بعملها الرائع الإسلام من مخالب الحاقدين ، كما أنها حفظت الإمامة المطلقة من التجنّي والتزوير ، ومكّنت الناس حتى غير المسلمين من اكتشاف الحقيقة ، سواء من عاش منهم في ذلك العصر أو الذين جاءوا ويجيئون بعد ذلك ، ومن هنا أوصت ألّا يصلي الشيخان ـ أبو بكر وعمر ـ عليها وأن تدفن سرا ولا يعرف قبرها ليكون ذلك علامة احتجاج صارخ مدى الدهر ، وليبقى السؤال يتردّد على كلّ لسان : لما ذا أوصت أن لا يصلّيا عليها ولا يشيّعا جنازتها ، ولما ذا دفنت بضعة المصطفى وثمرة فؤاده سرا ولم يعرف أحد من المسلمين قبرها إلى الآن؟

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زائد من الصحّاف والله أعلم.

(٢) الهداية الكبرى / أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي ص ٤٠٧ والمذكور أحد أعلام القرن الثالث الهجري ولد عام ٢٥٨ ه‍ ـ وتوفى عام ٣٣٤ ه‍ ـ.

٥٥٠

(٥) لعلّ السبب في عدم فتح أمير المؤمنين عليه‌السلام الباب هو كونه بعيدا عنه ، أو لوجود مانع يشغله عن فتح الباب ، والسيّدة الزهراء عليها‌السلام هي الأقرب منهم جميعا لذا تولّت هي الإجابة دونهم بصورة طبيعية ، وما المانع أن تردّ الصدّيقة من خلف الباب ، وقد كان رسول الله يأمر بعض نسائه بإجابة الطارق حين لا تتهيأ له المبادرة للإجابة لأمر يشغله؟.

(٦) إن ردّها على القوم كان لإلقاء الحجة عليهم لعلّهم يرتدعون أو يخجلون من امرأة جليلة تكلّمهم ، فكيف إذا ما كانت المتكلّمة فاطمة الزهراء ، لكنّهم لم يعطوها اهتماما بل تخطوا كل الحدود والقيود والآداب والدساتير ، وقد كانت الصدّيقة عالمة (١) بكلّ ما سيجري عليها ، من هنا كانت موطنة نفسها على نزول البلاء ، فلبست خمارها وجلبابها ولاذت وراء الباب فحصل ما حصل.

ودعوى «أن عليّا ومن معه ربما لا يكونون قد عرفوا بوجود أناس على الباب إلّا بعد فوات الأوان ، وبعد حصول ما حصل ..» (٢) غير سديدة وذلك لمنافاتها للعموميات القرآنية والأخبار النبوية الدالة على إحاطة العترة الطاهرة للموضوعات التي يترتب عليها حكم شرعي ، إذ جهل المعصوم به يعتبر تنزيلا له عن مرتبته ، فالعلم بالموضوعات المقررة من صلب مهامه ووظائفه.

فإن قيل : إذا كان ما زعمتم من أن الصدّيقة الشهيدة كانت عالمة بمصيرها فلما ذا لم تلتجئ إلى دار غير دارها لتحافظ على حياتها؟

قلنا : ليس هناك دارا أخرى تلتجئ إليها مولاتنا الزهراء عليها‌السلام ، ودعوى أن دور المسلمين ترحب بها غير صحيحة ، وذلك لأن من تقاعس عن نصرتها كيف يمكن له أن يأويها ، مضافا إلى أنها ليست ملزمة بالخروج من دارها لمجرد علمها

__________________

(١) ومولاتنا فاطمة عليها‌السلام هي الولية لله تعالى وقد حباها سبحانه بالمعارف والعلوم ، فقد ورد ما معناه في الصحيح : أن الله قسّم العلم إلى ثلاث وسبعين حرفا ، أعطى اثنين وسبعين للنبيّ محمّد وعترته الطاهرة ، واستأثر لنفسه حرفا واحدا.

(٢) خلفيات مأساة الزهراء ج ٦ / ١٩٥.

٥٥١

بما سيجري عليها وإلا لتعدى هذا إلى بقية الأئمة عليهم‌السلام إذ كانوا يقدمون على مواقع الشهادة مع علمهم المسبق بها ترجيحا للأهم على المهم (١) ، فلم يعهد منهم أنهم فروا من الموت ، فإن لم يموتوا بالسيف ، ماتوا بغيره ، والموت بالسيف في سبيل الله أشرف وأعظم.

هذه أهم الشبهات التي طرأت على قضية الاعتداء على الصدّيقة الشهيدة ، وما عداها دونه خرط القتاد.

وفي الختام نذكّر المسلمين : بأنّ بضعة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ظلمها أبو بكر وعمر بن الخطاب ولم يرعيا حرمتها كامرأة جليلة عظيمة مطهّرة ، وابنة أعظم نبي ، وصحابية من أعاظم الأصحاب ، ونحن لا ننبش الماضي بذكر المآسي حبا له ، بل لأننا نريد إثبات مظلومية أئمتنا وفي طليعتهم مولانا أمير المؤمنين وزوجه الطاهرة فاطمة عليهم‌السلام جميعا ، هذه المظلومية التي لو صبّت على الأيام لصرن ليالي على حدّ تعبير الشهيدة المظلومة. إن المسلمين اليوم مدعوون إلى الوقوف بجانب الحق الذي يدور مع فاطمة الشهيدة حيثما دارت ، ويزداد تعجبي من بعض فرق المسلمين كيف يؤولون كلمات عائشة وأبيها وفاروقه ، وينسبون إليهم الفضائل والمكرمات وينزهونهم عن المعايب والأخطاء ، في حين ينسبونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى البخاري عن محمد بن سعد عن أبيه قال : استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته ، فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب ، فأذن له النبي فدخل والنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) يضحك ، فقال :

أضحك الله سنّك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، فقال :

عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب.

__________________

(١) شبهة إلقاء الأئمة أنفسهم إلى التهلكة والرد عليها ، مخطوط للمؤلف.

٥٥٢

فقال : أنت أحق أن يهبن يا رسول الله ، ثم أقبل عليهم فقال :

يا عدوات أنفسهن ، أتهبنني ولم تهبن رسول الله؟!

فقلن : إنك أفظ وأغلظ من رسول الله (١).

وغيرها من الفظائع والفضائح التي يتنزه عنها المؤمن التقي ، فكيف بسيد المؤمنين رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن على علماء العامة أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لعترة رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم سفن النجاة وباب الله الذي منه يؤتى وحبل الله المتين وصراطه المستقيم ، كما عليهم أن يجلسوا على طاولة الحوار مع العلماء المتقين المخلصين من الشيعة لا الذين يدورون مع الساسة والسياسيين ، والذين يدعون إلى الوحدة كذبا ونفاقا لأجل مآرب سياسية ودنيوية ، فهؤلاء ـ أعاذنا الله من شرورهم ـ مستعدون دائما للتنازل عن عقيدة أهل البيت عليهم‌السلام (وهي في الواقع دين الله عزوجل) وتقديمها لقمة سائغة للعامة بحجة التآلف ولمّ الشعث ووحدة الكلمة ، وكأن الله تعالى فوّضهم أمر دينه وأعطاهم الولاية عليه يتصرفون به كيفما تحلو لهم طبائعهم.

نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لخدمة دينه والتمهيد لوليّه الحجّة المنتظر عليه‌السلام والذود عنه وعن آبائه الميامين عليهم‌السلام.

* * * * *

__________________

(١) صحيح البخاري مشكول ج ٤ / ٦٣ ـ ٦٤ باب التبسم والضحك. وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ٦٠ والرياض النضرة ج ١ / ٢٩٩ ، وكتاب «من حياة الخليفة عمر بن الخطاب» / عبد الرحمن البكري ص ٨٤.

٥٥٣

قال الملك للوزير : هل ما يذكره العلوي صحيح؟

قال الوزير : نعم إني رأيت في التواريخ ما يذكره العلوي!

قال العلوي : وهذا هو السبب لكراهية الشيعة لأبي بكر وعمر!

وأضاف العلوي قائلا :

ويدلّك على وقوع هذه الجريمة من أبي بكر وعمر أنّ المؤرخين ذكروا أنّ فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر وعمر وقد ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدة أحاديث له :

«إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها» (١).

وأنت أيها الملك تعرف ما هو مصير من غضب الله عليه!؟

قال الملك (موجّها الخطاب للوزير) : هل صحيح هذا الحديث؟

وهل صحيح أن فاطمة ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر؟

قال الوزير : نعم ذكر ذلك أهل الحديث والتاريخ (٢).

قال العلوي : ويدلّك أيّها الملك على صدق مقالتي : أنّ فاطمة أوصت إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أن لا يشهد أبا بكر وعمر وسائر الذين ظلموها جنازتها ، فلا يصلّوا عليها ، ولا يحضروا تشييعها ، وأن

__________________

(١) راجع : ينابيع المودة ص ٢٠٣ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٥٣ ، أسد الغابة ج ٥ / ٥٢٢ ، تهذيب التهذيب ج ١٢ / ٤٤٢ ، كنز العمال ج ٦ / ٢١٩ ، ذخائر العقبى ص ٣٩.

(٢) لاحظ الإمامة والسياسة ط / قم ص ٣١ ، وقد تقدم ما قالت مولاتنا الزهراء عليها‌السلام ولاحظ أيضا تاريخ ابن كثير ج ٦ / ٣٣٣ والتاج الجامع للأصول ج ٢ / ٢٩٣ وشرح النهج ج ٤ / ٨٠ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٠٥.

٥٥٤

يخفي عليّ قبرها حتى لا يحضروا قبرها ، ونفّذ عليّ عليه‌السلام وصاياها!

قال الملك : هذا أمر غريب ، فهل صدر هذا الشيء من فاطمة وعليّ؟

قال الوزير : هكذا ذكر المؤرخون!

قال العلوي : وقد آذى أبو بكر وعمر فاطمة عليها‌السلام أذية أخرى!

قال العبّاسي : وما هي تلك الأذية؟

قال العلوي : هي أنهما غصبا ملكها (فدك).

قال العبّاسي : وما هو الدليل على أنهما غصبا (فدك)؟

قال العلوي : التواريخ ذكرت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فدكا لفاطمة عليها‌السلام ، فكانت فدك في يدها ـ في أيام رسول الله ـ فلما قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل أبو بكر وعمر من أخرج عمّال الصدّيقة فاطمة من فدك بالجبر والسيف والقوة ، واحتجت فاطمة على أبي بكر وعمر ، لكنّهما لم يسمعا كلامها ، بل نهراها ومنعاها ، ولذلك لم تكلّمهما حتى ماتت غاضبة عليها!

قال العبّاسي : لكنّ عمر بن عبد العزيز ردّ فدكا على أولاد فاطمة أيام خلافته.

قال العلوي : وما الفائدة؟

فلو أن إنسانا غصب منك دارك وشرّدك ثم جاء إنسان آخر بعد أن متّ أنت ، وردّ دارك على أولادك كان ذلك يمسح ذنب الغاصب الأول؟

٥٥٥

قال الملك : يظهر من كلامكما أيها العبّاسي والعلوي أن الكل متفقون على غصب أبي بكر وعمر فدكا!

قال العبّاسي : نعم ذكر ذلك التاريخ.

قال الملك : ولما ذا فعلا ذلك؟

قال العلوي : لأنهما أرادا غصب الخلافة ، وعلما بأنّ فدكا لو بقيت بيد فاطمة لبذلت ووزّعت واردها الكثير (مائة وعشرين ألف دينار ذهبا على قول بعض التواريخ) في الناس ، وبذلك يلتف الناس حول الإمام عليّ عليه‌السلام ، وهذا ما كان يكرهه أبو بكر وعمر!

قال الملك : إذا صحت هذه الأقوال فعجيب أمر هؤلاء! وإذا بطلت خلافة هؤلاء الثلاثة ، فمن يا ترى يكون خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال العلويّ : لقد عيّن الرسول بنفسه ـ وبأمر من الله تعالى ـ خلفاءه من بعده ، في الحديث الوارد في كتب الحديث حيث قال : «الخلفاء بعدي اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل وكلّهم من قريش» (١).

قال الملك للوزير : هل صحيح أن الرسول قال ذلك؟

قال الوزير : نعم.

قال الملك : فمن هم اولئك الاثنا عشر؟

قال العبّاسي : أربعة منهم معروفون وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠ ط / قم.

٥٥٦

قال الملك : فمن البقية؟

قال العبّاسي : خلاف في البقية بين العلماء.

قال الملك : عدّهم.

فسكت العبّاسي.

قال العلويّ : أيّها الملك ، الآن أذكرهم لك بأسمائهم حسب ما جاء في كتب علماء السّنّة وهم : عليّ ، الحسن ، الحسين ، عليّ ، محمّد ، جعفر ، موسى ، عليّ ، محمّد ، عليّ ، الحسن ، المهديّ عليهم الصلاة والسلام (١).

قال العبّاسي : اسمع أيّها الملك ، إن الشيعة يقولون بأن المهدي حيّ في دار الدنيا منذ سنة ٢٥٥ ه‍ ـ وهل هذا معقول؟

ويقولون : إنه سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا بعد أن تملأ جورا.

قال الملك (موجّها الخطاب إلى العلوي) : هل صحيح أنكم تعتقدون بذلك؟

قال العلوي : نعم صحيح ذلك ، لأن الرسول قال بذلك ، ورواه الرواة من الشيعة والسنّة.

قال الملك : وكيف يمكن أن يبقى إنسان هذه المدة الطويلة؟

__________________

(١) لقد ورد عشرون نصا عن النبي عليه‌السلام في التنصيص على أسماء الأئمة الاثني عشر من طرق العامة وكتبهم ، منها : فرائد السمطين ، تذكرة الخواص ، ينابيع المودة ، الأربعين للحافظ أبي محمّد بن أبي الفوارس ، مقتل الحسين لأبي المؤيد ، منهاج الفاضلين ، ودرر السمطين.

٥٥٧

قال العلوي : الآن لم يذهب من عمر الإمام المهدي عليه‌السلام مقدار ألف سنة ، والله يقول في القرآن حول نوح النبيّ : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤ فهل يعجز الله أن يبقي إنسانا هذه المدة؟

أليس الله بيده الموت والحياة وهو على كل شيء قدير؟

ثم إن الرسول قال ذلك وهو صادق مصدّق.

قال الملك (موجّها الخطاب إلى الوزير) : هل صحيح أن الرسول أخبر عن المهدي [بالمهدي] على ما يقوله العلوي؟

قال الوزير : نعم (١).

____________________________________

(١) الإمام المهديّ روحي لتراب نعليه الفداء هو الحجّة القائم ابن الإمام الحسن العسكري بن الإمام الهادي بن الإمام الجواد بن الإمام الرضا بن الإمام الكاظم بن الإمام الصادق بن الإمام الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين ، (عمه الإمام الحسن المجتبى) بن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم جميعا آلاف التحية والسلام ، ولد عليه‌السلام في ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة (٨٦٩ م).

والإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف بهذا التسلسل النسبي هو ما نجمع عليه نحن الإمامية ، بل هو من صلب عقيدتنا الدينية ، والقطعيات التي لا تقبل التأويل والتحريف ، وكل من نسب إلينا غير ذلك فهو مفتر على إمامنا ـ فديته بنفسي ـ وعلى عقيدتنا الإسلامية. وليس هناك إمام غير هذا الإمام يأتي لينقذ المستضعفين بل هو أحد لا شريك له ولا نظير إلّا آباؤه الميامين ، ومن ادّعى أن

٥٥٨

هناك إماما اسم أبيه عبد الله فقد افترى على الشيعة الإمامية سددهم المولى ، لأنه إمامنا ونحن أدرى به من غيرنا «وأهل مكة أدرى بشعابها» ، ألسنا الذين اضطهدنا لأننا نعتقد بما يقول ويقولون عليهم‌السلام؟!

أليس هو ابن الصدّيقة فاطمة الزهراء وابن عليّ المرتضى وابن الحسين الشهيد وهؤلاء أئمتنا؟! ولو قلنا للعامة إن أبا بكر ليس ابن أبي قحافة مثلا ، فكيف يكون موقف العامة من الشيعة؟ وهل يوافقونا على مدعانا أو أن الدنيا علينا تقوم ولا تقعد؟!

هذا هو حالنا مع مشهور العامة حيث ادّعوا بخبر واحد ـ وهو لا يوجب علما ولا عملا ـ أن اسم والد الإمام المهديّ هو عبد الله استنادا إلى ما نسب إلى رسول الله أنه ـ كما في رواية أبي داود عن زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم ، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا» (١) ، بل إنّ السفاريني وهو أحد أكابر العامة وصف الاعتقاد بولادة الإمام المهديّ عام خمس وخمسين بعد المائتين إلى الآن بأنه ضرب من الجنون والهذيان (٢).

يرد عليه :

١ ـ متى كان الاعتقاد بوجود مخلوق من مئات السنين ضربا من الهذيان إلّا عند ضعاف العقول والإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة؟ ولم لا يعتبر الاعتقاد بوجود عيسى ضربا من الهذيان والجنون عند السفاريني وأمثاله من النواصب الألداء لأهل البيت عليهم‌السلام؟! وهل الاعتقاد بوجود إدريس والياس والخضر عليهم‌السلام بل الملائكة

__________________

(١) الإمام المهدي عند أهل السنّة / مهدي الفقيه إيماني ج ١ / ٨ نقلا عن لوائح الأنوار البهية وعون المعبود في شرح أبي داود ج ١١ / ٣٧٠ حديث ٤٢٦٢.

(٢) المصدر السابق.

٥٥٩

الكرام والجن والشياطين ضربا من الهذيان بنظر المهذي صاحب المقال مع أن القرآن ونبيّ الإسلام أخبرا بصحة ذلك من دون جدال؟!

٢ ـ المجمع عليه عند الإمامية هو أن والد الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف هو الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام الحادي عشر من أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين وما خالف إجماعنا المرتكز على الضرورة القطعية لا اعتداد به ، ودونه خرط القتاد.

٣ ـ لا اعتناء بما ورد في رواية أبي داود لدلالة الأخبار الكثيرة المتواترة على أن الحسن إنما هو اسم أبيه عليهما‌السلام ، ونفسه أبو داود ذكر أحاديث أخرى خالية من ذكر «اسم أبيه» منها حديث سفيان : «لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» (١).

ومنها ما ورد مثله عن عليّ وأبي سعيد وأمّ سلمة وأبي هريرة. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح (٢).

ومنها ما ورد (٣) عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. قال عاصم : وأنا أبو صالح عن أبي هريرة قال : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي ..».

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

ويظهر أن الزيادة من الراوي المسمى زايدة (وهو اسم على مسمّى حيث زاد على أحاديث رسول الله). ويزيدك بيانا أن الكنجي ذكر في البيان أن الترمذي ذكر الحديث ولم يذكر قوله (واسم أبيه اسم أبي) وأن الإمام أحمد مع ضبطه وإتقانه روى هذا الحديث في مسندة في عدة مواضع «واسمه اسمي» وجمع الحافظ أبو

__________________

(١) عون المعبود في شرح سنن أبي داود ج ١١ / ٣٧١ ، وسنن أبي داود ج ٤ / ١٠٧ ح ٤٢٨٢.

(٢) سنن الترمذي ج ٤ / باب ٥٢ ح ٢٢٣٠.

(٣) نفس المصدر ج ٤ / باب ٥٢ ح ٢٢٣١.

٥٦٠