أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

أخوها ، فناح النساء عليه ، وفيهن اخته أم فروة ، فنهاهنّ عمر مرارا وهن يعاودن ، فأخرج أمّ فروة من بينهن وعلاها بالدرة ، فهربن وتفرقن (١).

ولما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين فجاء عمر فكان يضربهنّ بالدرة ، فسقط خمار امرأة منهنّ فقالوا : يا أمير المؤمنين خمارها؟ فقال : دعوها فلا حرمة لها ، وكان يعجب من قوله : لا حرمة لها (٢).

وروى ابن عبّاس قال :

لمّا ماتت زينب (٣) بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال رسول الله : ألحقوها بسلفنا الخيّر عثمان بن مظعون فبكت النساء فجعل عمر يضربهنّ بسوطه فأخذ رسول الله يده وقال : مهلا يا عمر دعهنّ يبكين ، وإياكنّ ونعيق الشيطان .. إلى أن قال : وقعد رسول الله على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي ، فجعل النبيّ يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها (٤).

وأخرج البيهقي (٥) عن ابن عبّاس قال : بكت النساء على رقية [بنت رسول الله] رضي الله عنها فجعل عمر ينهاهنّ ، فقال رسول الله ؛ مه يا عمر ، قال : ثم قال : إياكنّ ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الرّحمة ، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان. قال : وجعلت فاطمة رضي الله عنها تبكي على شفير قبر رقية فجعل رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يمسح الدموع على وجهها باليد ، أو قال : بالثوب.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١ / ١٨١ والغدير ج ٦ / ١٦١.

(٢) الغدير ج ٦ / ١٦٢ نقلا عن كنز العمال ج ٨ / ١١٨.

(٣) ماتت سنة ثمان من الهجرة.

(٤) الغدير ج ٦ / ١٥٩ نقلا عن مسند أحمد ج ١ / ٢٣٧ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٩١ وصحّحه وقال الذهبي في المستدرك : سنده صالح ، مسند أبي داود الطيالسي ص ٣٥١ ، الاستيعاب في ترجمة عثمان بن مظعون ج ٢ / ٤٨٢ ، مجمع الزوائد ج ٣ / ١٧.

(٥) السنن الكبرى ج ٤ / ٧٠.

٥٠١

وأخرج النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة أنه قال : مات ميّت في آل رسول الله فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهنّ ويطردهنّ ، فقال رسول الله : دعهنّ يا عمر فإنّ العين دامعة ، والقلب مصاب ، والعهد قريب (١).

ولا أدري إذا كان كاشف الغطاء وأمثاله قد قرءوا هاتيك المرويات عن عمر بن الخطاب حتى استدعت حمية الغيارى على العروبة أن يستبعدوا ضرب عمر للصدّيقة الطاهرة بحجة أن السجايا تمنع ، أو أن الرأي العام ينقلب ضدهم؟!

وهلا منعت تلك السجايا الكريمة أو الرأي العام من ضرب عمر لاولئك النسوة بمرأى من النبيّ المختار؟ وهل أن السجايا وغير ذلك يمنع من ضرب الزكية ولا يمنع من ضرب أختها زينب وأم فروة وغيرهن حتى أهدر النبيّ دم هبّار الأسود الذي روّع زينب وألقت ذات بطنها؟! وهل أن جميع هذه المرويات كانت خافية عن كاشف الغطاء وفضل الله حتى قالا ما قالا؟ لا أظن من يدّعي الفقاهة لنفسه أن تكون هذه الروايات على تواترها الإجمالي خافية عليه ، أو غير كافية لاقتناعه!

ثانيا :

إن كاشف الغطاء يعترف بأنّ قنفذا لعنه الله تعالى ضرب الصدّيقة الزكية روحي لتراب نعليها الفداء ، فكيف لم تمنعه السجايا العربية من ضربها ، مع أن عمر وقنفذا عربيان ومن قبيلتين كبيرتين في الجزيرة العربية؟! وهل أن التبعض بالأحكام جائز عند كاشف الغطاء وأمثاله ، بحيث يصح نسبة الضرب إلى قنفذ ولا يصح نسبتها إلى عمر وأبي بكر؟ وما وجه الفصل في ذلك؟!

وهل إن باء قنفذ تجر هنا ، ولا تجر عند ما تصل النوبة إلى عمر؟!

قد يقال :

إن قنفذا كان مولى لأبي بكر ، والمولى لا يؤاخذ بشيء من تصرفاته ، فلا لوم عليه في هذه القضية.

__________________

(١) الغدير ج ٦ / ١٥٩ ـ ١٦٠ نقلا عن عمدة القاري ج ٤ / ٨٧.

٥٠٢

قلنا : إن كونه مولى لأبي بكر لا يبرّر صحة فعله ، ما دامت التقاليد العربية تمنع ، فليست السجايا حكرا على السادة دون الموالي ، هذا مضافا إلى أن تصرف الموالي من دون إذن السادة يعتبر جريمة لا تغتفر آنئذ ، ولو صدر أمر من المولى بحق المرأة ، فإنه حتما سيواجه باستنكار الناس له ، مع التأكيد على أن قنفذا لم يضرب الصدّيقة الزهراء من دون إذن عمر بذلك كما أكدت المصادر التاريخية على هذا الأمر ، وقنفذ لعنه الله ليس الوحيد الذي اختصّ بضرب الزكية عليها‌السلام وإنما كان من ضمن مجموعة شاركته بذلك.

ثالثا :

بعد ما اعترف كاشف الغطاء أن السيرة والكتب والشعراء استفاضوا بذكر مظلومية الطاهرة الزكية ـ فديتها نفسي ـ فلما ذا لا يقبل وجدانه أن يكون عمر هو الذي ضربها عليها‌السلام بدعوى أن ضربه لها يوجب لحوق العار به ، وهل ـ يا ترى ـ يخاف عمر من العار ـ بعد ما فعله بالنسوة في عهد الرسالة وما فعله بالنبيّ في الحديبية وعلى فراش الموت ـ؟ وكيف يخاف العار وقد أمر قنفذا وخالدا والمغيرة بضرب حبيبة الله ورسوله وأمير المؤمنين؟! وهل ما استفاضت به كتب التاريخ منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا غير كافية لإقناع وجدان الشيخ ـ الفقيه حسبما يقولون ـ كاشف الغطاء ومسمّاه؟!

لا يحق لأي فقيه ـ مهما بلغت فقاهته علوا وارتقاء ـ أن يحكّم وجدانه وضميره وعاطفته في قضايا العقيدة والتاريخ وما شابههما ، لأن هذه القضايا تبتني على الأدلة العقلية والنقلية الصحيحة ، وبالأخص الأمور التاريخية التي لا يمكن استكشافها من خلال الوجدان والعاطفة بل ولا من خلال العقل ، لأن العقل دوره الكشف عما ثبت له بالنصوص الواردة والتحليل لمضمونها ، أما إنه يكشف من دون استعانة بالنصوص فهذا إن لم يكن من المستحيلات ، فهو على أقل تقدير من المتعذرات قطعا لم يدّعيها أحد لنفسه من الأولياء والمرسلين عليهم‌السلام.

٥٠٣

رابعا :

عدم إشارة الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام إلى ضربها أو لطمها ، وكذا عدم إشارة أمير المؤمنين إلى تلك الأعمال الصادرة من القوم في حق مولاتنا الزهراء عليها‌السلام إنما هو من جهة عدم الاعتناء لما صدر منهم ، فإن الأكابر والأعاظم من الناس فضلا عمّن هو في مقام العصمة والولاية لا يعبئون بما يصدر من الأرذال في حقهم من الوهن وعدم رعاية الاحترام بمثل الضرب واللطم ، فإن هؤلاء الأرذال بنظر الأكابر هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، فهل ترى أن حيوانا رفس شخصا جليلا أن يقابله بمثل عمله وسوء صنيعه؟ أو يأتي هذا الشخص إلى حشد من الناس شاكيا من عمل هذا الحيوان؟ بل إذا خاطبهم الجاهلون بالأفعال الشنيعة كالضرب واللطم والشتم وأمثاله مروا كراما وقالوا سلاما ، من هذا المنطلق لم تتعرض الصدّيقة الطاهرة ، هي وزوجها المقدّس إلى أعمال القوم لهذه العلة ، وأمّا شكواها من غصب الخلافة وغصب فدك فإن لهذين الأمرين من الأهمية ما ليست لغيرهما.

رأي العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين «أعلى الله مقامه الشريف» :

يتمسك منكر الاعتداء على الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لتأكيد دعواه ـ التي لم يقم عليها الدليل ـ بأن الحجّة السيّد شرف الدين (قدس‌سره) لم يذكر في كتابيه النص والاجتهاد والمراجعات قضية الاعتداء عليها داخل الدار بل قال له : إن الثابت أنهم جاءوا بالحطب ليحرقوا الباب.

والجواب :

١ ـ لم تقتض المصلحة آنئذ أن يذكر الحجّة السيّد «أعلى الله مقامه الشريف» قضية لطم وضرب الصدّيقة الطاهرة وإسقاط جنينها محسن عليه‌السلام ، إذ لكل مقام مقال ، فعدم ذكره للقضية صريحا في كتابيه ليس دليلا على عدم اعتقاده بمسألة الاعتداء على جدته الزهراءعليها‌السلام.

٢ ـ إن السيّد شرف الدين قد ذكر في هامش المراجعة ٨٣ ناقلا عن

٥٠٤

الشهرستاني عن النظام «أن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها ..» كما استشهد رحمه‌الله بما أفرده أبو مخنف في كتابه عن السقيفة حيث قال قدس‌سره :

«.. وأفرد أبو مخنف لأخبار السقيفة كتابا فيه تفصيل ما أجملناه ، وناهيك في شهرة ذلك وتواتره قول شاعر النيل الحافظ إبراهيم في قصيدته العمرية السائرة :

وقولة لعليّ قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص بقائلها

امام فارس عدنان وحاميها» (١)

وقال في المراجعة ٨٤ : «غير أنه قعد في بيته ولم يبايع حتى أخرجوه كرها» وكيف أخرجوه كرها؟ فتلك قضية لها قصتها التي حكاها أصحاب الأثر والتاريخ.

فعند ما يستشهد العلّامة شرف الدين بمن ذكرنا نعرف بالملازمة أنه يقرّ بمظلوميتها كالضرب والإسقاط الخ .. إذ كيف يستعرض ما ذكره الشهرستاني عن النّظام وفي نفس الوقت ينكر قضية الاعتداء؟!

ما نعتقده أن السيّد شرف الدين عليه الرحمة يذعن لمظلومية جدّته الصدّيقة الزكية عليها‌السلام لأن ما ذكره عن النظّام أكبر شاهد على ذلك ، هذا مضافا إلى أن كتب السيّد شرف الدين لا تنحصر في هذين الكتابين ، بل له مؤلفات أخرى مثل كتاب المجالس الفاخرة إذ يقول فيه :

«وكأني بها ، وقد أصلّي ضلعها الخطب ، ولاع قلبها الكرب ، ولعج فؤادها الحزن ، واستوقد صدرها الغبن ، حين ذهبت كاظمة ، ورجعت راغمة ، ثم انكفأت إلى قبر أبيها باكية شاكية قائلة :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا

__________________

(١) المراجعات ص ٣٦٦ المراجعة ٨٣ بتحقيقنا ، والنص والاجتهاد ص ٩٠ ط / الأعلمي ١٩٨٨ م.

٥٠٥

فليت بعدك كان الموت صادفنا

لما قضيت وحالت دونك الكتب

ولم تزل ـ بأبي هي وأمي ـ بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غصة لا تساغ ، ودموع تترى من مقلة عبرى ، قد استسلمت للوجد ، وأخلدت في بيت أحزانها إلى الشيحون ، حتى لحقت بأبيها ، معصبة الرأس ، قد ضاقت عليها الأرض ..» (١).

وشرف الدين حينما لم يذكر المسألة صريحا ، حرصا منه على أن لا يثير حفيظة القوم ويبعثهم على العناد ، فتفوت الفائدة من الحوار معهم ، بالإضافة إلى أنه لم يرد الدخول في قضية ، لا يسلّم العامة بتفاصيلها ، لذا نراه في هذين الكتابين يعتمد في جلّ نقوضاته على مصادر العامة أنفسهم لتكون الحجة أبلغ وآكد.

وفي ختام الرد على هذه الشبهة نقول :

إن مسألة الاعتداء على الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام من المسلّمات التاريخية التي قامت عليها النصوص المتواترة والصحيحة والصريحة ، فالتشكيك فيها يستلزم إنكار المتواتر وهو على حدّ الشرك بالله ـ حسبما جاء في النصوص ـ هذا مع التأكيد على أن الاستناد إلى أمر خطير كهذا على الاستحسان العقلي أو قول واحد أو اثنين أو ثلاثة من المتأخرين ، تفردوا بأمر لا شاهد لهم عليه ، ويخالفهم فيه آلاف العلماء ، بل علماء الأمة بأسرها ، وعشرات بل مئات النصوص ، يعتبر خيانة للحقيقة والبحث العلمي الموضوعي ، يراد منه تغيير الحقيقة التاريخية ، وترك كل ما عداه وتجاهله ، واقتلاع جذوره من أرض الواقع ومن وجدان المؤمنين.

الشّبهة الثالثة :

إن كتاب سليم بن قيس ـ الذي هو العمدة في الموضوع ـ ليس بمعتمد في صيغته ، بشهادة الشيخ المفيد وابن الغضائري اللذين صرّحا أن فيه خلطا لا يخفى على أحد.

__________________

(١) المجالس الفاخرة ص ٣٥.

٥٠٦

قال الشيخ المفيد :

«وأما ما تعلق به أبو جعفر الصدوق ـ رحمه‌الله ـ من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف إليه برواية أبان بن أبي عيّاش ، فالمعنى فيه صحيح ، غير أن هذا الكتاب غير موثوق به ، ولا يجوز العمل على أكثره ، وقد حصل فيه تخليط وتدليس ..» (١).

وعلى رغم شهرة سليم بن قيس التي أطبقت الآفاق نرى ابن الغضائري يشكّك به ، بل الأنكى من ذلك أنه ينسب التشكيك به إلى أصحابنا ، حيث قال :

«سليم بن قيس الهلالي العامري : روى عن أبي عبد الله والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهم‌السلام ، وينسب إليه هذا الكتاب المشهور ، وكان أصحابنا يقولون إن سليما لا يعرف ولا ذكر في خبر ، وقد وجدت ذكره في مواضع من غير جهة كتابه ولا من رواية أبان بن أبي عيّاش ، وقد ذكر ابن عقدة في رجال أمير المؤمنين عليه‌السلام أحاديث عنه ، والكتاب موضوع لا مرية فيه ، وعلى ذلك علامات فيه تدل على ما ذكرناه منها : ما ذكر أن محمّد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت ، ومنها : أن الأئمة ثلاثة عشر ، وغير ذلك ، وأسانيد هذا الكتاب تختلف تارة برواية عمر بن أذينة عن إبراهيم بن عمر الصنعاني عن أبان بن أبي عيّاش عن سليم ، وتارة يروي عن عمر عن أبان بلا واسطة ، والوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه ، والتوقف في الفاسد من كتابه ..»(٢).

وقبل الإيراد على هذه الشّبهة أقول :

لو كان ما ذكره الشيخ المفيد وابن الغضائري صحيحا بالنسبة لكتاب سليم لدلّ ذلك على قلة تدبّرهما وتتبعهما ، بل يدل على ضعف تحقيقهما ، إذ كما صحّح

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ص ١٤٩ للشيخ المفيد.

(٢) جامع الرواة / الشيخ الاردبيلي ج ١ / ٣٧٤ نقلا عن ابن الغضائري ؛ والتنقيح للممقاني ج ٢ / ٥٢ ط / حجري.

٥٠٧

المفيد عقائد الصدوق ، علينا أن نصحّح عقيدة هذين الرجلين في افترائهما على أصل الكتاب ، ولا يهمّنا أن فلانا شهدت له الطائفة بدفاعه عنها ، لأن أجره على الله تعالى إن كان مخلصا لا علينا ، وكثرة مصنفاته ودفاعه عن عقيدة آل البيت عليهم‌السلام لا تعني مطلقا أنه لا يخطئ أبدا ، ولا تستلزم أيضا أن يدور الحق معه حيثما دار ، وإلا فإن هناك من هو أجلّ منه وهو الصدوق الذي ولد بدعاء المعصوم عليه‌السلام ، وقد وقع في الخطأ ـ حسبما نسب إليه ـ حتى استدعى الأمر عند المفيد أن يردّ عليه مصحّحا له اعتقاداته.

وعليه فإن ما ذكره هذان الرجلان لا يعبّر عن وجهة نظر الإمامية في هجومهما على كتاب سليم ، لأن الحق فوقهما ، ومتى كانت أقوال الرجال حجّة في إثبات الحقائق أو نفيها؟

١ ـ عدم مطالعة الكتاب بدقّة وتعمّق ، وعدم ملاحظته كأصل أصيل اهتمّ به علماء الشيعة طيلة ١٤ قرنا.

٢ ـ الاشتباه في الآراء العلمية والمباني المتخذة في معنى الغلو وأمثاله ، ويتبع ذلك الاشتباه في فهم بعض مصطلحات الرجاليين المتقدمين.

٣ ـ إلقاء مجرد الاحتمالات وما يخطر بالبال في أول وهلة بلا تدبّر وتعمّق فيها وبدون ملاحظة أثرها في الأذهان.

٤ ـ أن جذور المسألة تنتهي في الأكثر إلى الدافع العقائدي في عدة من أعداء أهل البيتعليهم‌السلام المظهرين للبغض والعناد مع كل ما يوجب إحياء أمر آل رسول الله صلوات الله عليهم ، وذلك مثل الفيض آبادي الذي قام المير حامد حسين في وجهه وأحسن في إبطال ما أورده وذلك في كتابه استقصاء الإفحام.

٥ ـ رأينا بعض من ليس من المخالفين يواجه الكتاب بمثل ما واجهه المعاندون ، ولعلّ ذلك صادر عن غفلة ونسيان لما هو أساس عقائد الشيعة ، أو

٥٠٨

لعله نشأ من الفكرية الحاكمة على بعضهم حيث اعتادوا بأخذ المتفق عليه بين الشيعة ومخالفيها ورفض ما تتفرد به الشيعة خصوصا في القضايا التاريخية ، كما ويحتمل قويا أن يكون العلة في بعض تلك الاتجاهات هو التقية عن المخالفين وإظهار عدم الموافقة لمحتوى الكتاب اتقاء شرهم المتوجهة إليهم أو إلى الكتاب أو إلى المتحفظين على نسخه ، ويشهد لذلك أن عدة من هؤلاء بعد إظهارهم شيئا من المناقشات حول الكتاب استندوا إلى أحاديثه في كتبهم الاعتقادية والأحكام الشرعية (١).

ومنشأ القدح في صحة كتاب سليم ، أمور :

الأمر الأول : شبهة وعظ محمّد بن أبي بكر لأبيه عند موته ، مع أن سنّ محمّد وقتئذ ثلاث سنين أو أقل ، حسبما ورد في حديث ذكره سليم في كتابه.

وخلاصة الحديث :

أن سليم بن قيس أراد أن يعرف ما ذا صدر من أصحاب الصحيفة (٢) عند موتهم وهم : أبو بكر وعمر ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة. وفي هذا الصدد التقى بثلاثة أشخاص على الترتيب وهم : عبد الرحمن بن غنم ومحمد بن أبي بكر وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

أما ابن غنم فأخبره عمّا قاله معاذ وسالم وأبو عبيدة عند موتهم ، وذلك أن سليما سأل عن ذلك ابن غنم ـ وهو ختن معاذ بن جبل وكان حاضرا عند موته ـ فأخبره ابن غنم عمّا جرى بالتفصيل ، وذكر أن معاذا رأى رسول الله وعليّا صلوات الله عليهما عند موته وأنهما بشراه وأصحابه المذكورين بالنار.

__________________

(١) راجع مقدمة كتاب سليم للمحقّق البارع : الشيخ محمد باقر الأنصاري الزنجاني الخوئيني.

(٢) أصحاب الصحيفة هم خمسة أشخاص بنوا أساس الظلم على آل محمّد عليهم‌السلام وتواطئوا على غصب الخلافة ومهّدوا الطريق لمن جاء بعدهم من الغاصبين الظالمين ، وكان أول أمرهم أنهم كتبوا بينهم كتابا تعاهدوا فيه وتعاقدوا في الكعبة : إن مات محمّد أو قتل أن يتظاهروا على الإمام عليّ فيزوون عنه هذا الأمر.

٥٠٩

ثم أخبر ابن غنم سليما أنه فزع مما سمع من معاذ عند موته ، ولذلك حجّ والتقى بمن ولى موت أبي عبيدة وسالم ، فأخبره الحاضران عند موتهما أنهما قالا عند الموت مثل قول معاذ.

فإلى هنا عرف سليم ما قاله ثلاثة من أصحاب الصحيفة عند موتهم ، نقله سليم عن ابن غنم.

وأما محمّد بن أبي بكر فأخبره عمّا قاله أبو بكر وعمر عند الموت ، وذلك أن سليما التقى بمحمّد بن أبي بكر وأخبره بما سمعه من ابن غنم ، فلمّا سمع محمّد بن أبي بكر كلام ابن غنم من سليم أخبره أن أباه أبا بكر أيضا قال عند موته مثل مقالتهم ، فقالت عائشة : إن أبي ليهجر! قال محمّد : فلقيت عبد الله بن عمر في خلافة عثمان ، فحدثته بما قال أبي عند موته ، وأخذت عليه العهد والميثاق ليكتمنّ عليّ ، فقال لي ابن عمر : اكتم عليّ ، فو الله لقد قال أبي مثل مقالة أبيك ما زاد ولا نقص ، ثم تداركها عبد الله بن عمر وتخوّف أن أخبر بذلك عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لما قد علم من حبي له وانقطاعي إليه ، فقال : إنما كان أبي يهجر!

فأتى سليم أمير المؤمنين عليه‌السلام فحدثه بما سمع من أبيه وبما حدّثه ابن عمر عن أبيه ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قد حدثني بذلك عن أبيه وعن أبيك وعن أبي عبيدة وعن سالم وعن معاذ من هو أصدق منك ومن ابن عمر ، فقلت : من هو ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال : بعض من يحدثني ، ويقصد عليه‌السلام بذلك إمّا رسول الله قبل موته وبعده في المنام أو أخبره الملك الذي يحدّث الأئمةعليهم‌السلام تأكيدا لا تأسيسا.

وبعد شهادة محمّد بن أبي بكر بمصر التقى سليم بأمير المؤمنين عليه‌السلام وسأله عمّا أخبر به محمّد بن أبي بكر؟ فقال عليه‌السلام : «صدق محمّد رحمه‌الله ، أما إنه شهيد حيّ يرزق» ثم قرّر عليه‌السلام كلام محمّد بأن أوصيائه كلهم محدّثون.

هذا ملخّص ما جاء في رواية سليم في كتابه (١).

__________________

(١) مقدمة كتاب سليم للشيخ محمد باقر الخوئيني ج ١ / ١٨٨ وج ٢ / ٨١٩.

٥١٠

والجواب :

هناك قرائن محتفة بالحديث تثبت عدم تطرق التصحيف من النساخ على الحديث وهي :

(١) أن ما نقله محمد عن أبيه يوافق تماما ما نقله غيره عن الأربعة الآخرين من أصحاب الصحيفة.

(٢) إن أمير المؤمنين عليه‌السلام صدّقه فيما قال وأخبر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بذلك أو أخبره الملك المحدّث.

(٣) أن محمد بن أبي بكر يتعجب من إخبار أمير المؤمنين عليه‌السلام عمّا جرى بينه وبين أبيه في مجلس لم يكن فيه غيرهما ، ويراه من معجزاته عليه‌السلام.

(٤) أن أمير المؤمنين عليه‌السلام صدّق محمّدا مرة أخرى حينما أخبره سليم بمقالة محمّد بن أبي بكر بعد شهادته بمصر.

(٥) أن مسألة صغر سنّ محمّد بن أبي بكر لم يخطر ببال سليم مع شدة حرصه على الفحص عن صدق الأخبار والتطلّع على جزئياتها في جميع أحاديثه وخاصة في هذا الحديث ، فنراه يسأل محمّدا عن جزئيات القصة ولا يسأله عن صغر سنّه وأنه كيف صدرت منه تلك الأفعال ، وكيف بقيت في خاطره تلك المكالمات.

(٦) أن عبد الله بن عمر أيضا لمّا سمع من محمّد بن أبي بكر مقالة أبيه لم ينكر عليه صغر سنّه.

(٧) أن الصفّار والصدوق والشيخ المفيد وإبراهيم بن محمد الثقفي قبلهم حكوا هذا الحديث بعينه بالإسناد إلى سليم من غير طريق كتابه ، وعلى هذا فلا صلة لهذا الحديث بكون الكتاب موضوعا فإنه مرويّ عن سليم قطعا.

(٨) نرى تصديق مضمون كلمات أبي بكر (والتي سمعها منه ابنه محمّد) في

٥١١

سائر أحاديث الكتاب ، ففي الحديث ٤ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

سمعت رسول الله يقول : إن تابوتا من نار فيه اثنا عشر رجلا ، ستة من الأولين وستة من الآخرين في جبّ فيقعر جهنم في تابوت مقفل ، على الجبّ صخرة ، فإذا أراد الله أن يسعر جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجبّ ، فاستعرت جهنّم من وهج ذلك الجبّ ومن حرّه. ثم ذكرعليه‌السلام الاثني عشر وعدّ منهم أصحاب الصحيفة (١).

وروى المجلسي في البحار عن أبي الصلاح الحلبي في تقريب المعارف : «ولمّا طعن عمر .. قال لابنه عبد الله ـ وهو مسنده إلى صدره ـ ويحك ، ضع رأسي بالأرض ، فأخذته الغشية ، قال : فوجدت من ذلك؟ فقال : ويحك ضع خدي بالأرض ، فوضعت رأسه بالأرض فعفر بالتراب ثم قال : ويل لعمر ، ويل لأمه إن لم يغفر الله له (٢).

نطمئن من خلال ملاحظة هذه القرائن بوجود هذا الحديث في كتاب سليم قطعا ، هذا بالإضافة إلى ما سيأتي من غاية اعتبار الكتاب وتصديق الأئمة عليهم‌السلام لسليم وكتابه ، وكلمات العلماء في اعتباره ، بالإضافة إلى علمنا بوثاقة سليم ومحمّد بن أبي بكر ، فهذا كلّه لا سبيل إلى الخدشة في صدور هذا الكلام من محمّد بن أبي بكر ونقل سليم عنه ولا يتأتى أي تأويل واحتمال وضع أو اشتباه أو تصحيف فيه ، فضلا عن أن يكون هذا الحديث دالا على كون الكتاب موضوعا.

وأما مسألة صغر سنّ محمّد بن أبي بكر فيمكن علاجها بما يلي :

١ ـ لم يتفق المؤرخون على رأي ثابت في تاريخ ولادة محمّد بن أبي بكر ، ففي بعض الروايات أنه ولد في حجة الوداع ، وفي بعضها أنه ولد في سنة ثمان من

__________________

(١) كتاب سليم : مقدمة الأنصاري الجوئيني ج ١ / ١٩٠ وج ٢ / ٥٩٦ وهكذا بقية الأحاديث ، راجع نفس المصدر ج ٢ / ٥٨٩ وص ٦٥ وص ٧٢٧ وص ٦٥٢ وج ١ / ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) بحار الأنوار (طبع قديم) ج ٨ / ١٩٦ ومقدمة الأنصاري ج ١ / ١٩٢.

٥١٢

الهجرة ، وفي بعضها ما يدل على أن ميلاده كان قبل ذلك ، وإن كان الثالث مردودا للاتفاق على أن شهادة جعفر كانت في سنة ثمان للهجرة ، وقد تزوّج أبو بكر أسماء بنت عميس في نفس السنة التي استشهد فيها زوجها جعفر رضي الله عنهما وأرضاهما.

قال المير حامد حسين في «استقصاء الإفحام» نقلا عن فخر الدين الدهلوي قال : ولد (أي محمد بن أبي بكر) عام حجة الوداع بذي الحليفة ، أو بالشجرة سنة ثمان ، وقال ابن أثير الجزري في جامع الأصول : إنه ولد سنة ثمان ، وأشار إلى هذا الاختلاف القاضي تقي الدين المالكي في العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ، وأبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال والذهبي في اختصار تهذيب الكمال وابن عبد البرّ في الاستيعاب» (١).

٢ ـ دلت الروايات من غير طريق سليم أن محمّد بن أبي بكر تكلّم مع أبيه عند الموت ، فقد أورد العماد الطبري في تاريخه المعروف بكامل البهائي روايتين في ذلك :

الأولى : سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام محمّد بن أبي بكر يوما ، فقال : أما قرأ أبوك عندك قبل موته هذه الآية (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)؟ فقال لك عمر : احذر يا بنيّ ، لا يسمع منك عليّ بن أبي طالب ما قال أبوك فيشمت بنا؟ ثم تبسّم أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما أخبر محمّدا بالخبر ، فقال محمّد : صدقت يا عليّ ، وأنا سمعت يلعنه ويقول : أنت أوردتني الموارد ، فقال : بلى (٢).

الثانية : عن أبي عنان مالك بن إسماعيل الهندي ـ ويقال له الراهب أو الواهب ـ قال : جاء محمّد بن أبي بكر إلى أبيه وهو يجود بنفسه ، فقال : يا ابه ،

__________________

(١) مقدمة الأنصاري ج ١ / ١٩٣ نقلا عن استقصاء الإفحام ج ١ / ٥١٤.

(٢) نفس المصدر ، نقلا عن كامل البهائي ج ٢ / ١٢٩ الفصل الخامس.

٥١٣

أراك على حالة ما رأيتك عليها قبل اليوم؟! فقال : يا بنيّ ، الرجل على مظلمة إذا حلّلتني منها رجوت أن أفيق ، فقال محمّد : يا ابه ، من هو؟

قال : عليّ بن أبي طالب ، قال محمّد : أنا أضمن لك أن أكلّم عليّا في ذلك وأستحل لك فإنه رجل سليم.

فجاء محمّد إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : إن أبي على أسوأ حال وهو قال كذا وكذا وقد ضمنت له أن أستحلّه منك ، فإن رأيت أن تجعله في حلّ منك؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كرامة لك ، ولكن قل لأبيك ليصعد المنبر ويخبر الناس بذلك حتى أجعله في حلّ ، فرجع محمّد وقال : قد استجاب الله دعائك وذكر له كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال أبو بكر : ما أحبّ أن لا يصلّي عليّ بعدي اثنان (١).

ويؤيد هذا ما أورده الغزالي في أوائل كتابه سرّ العالمين قال : دخل محمّد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته فقال : يا بني ، ائت بعمّك عمر لأوصي له بالخلافة ، فقال : يا أبت ، كنت على حق أو باطل؟ فقال : على حق ، فقال : وصّ بها لأولادك إن كان حقا ، وإلّا فمكّنها لسواك ، ثم خرج إلى عليّ وجرى ما جرى (٢).

وعليه ، فإن رواية تكلّم محمّد بن أبي بكر مع أبيه عند موته التي رواها سليم مؤيدة برواية الطبري والغزالي وابن الجوزي وغيرهم ، وإن كنّا نرجّح (عند التعارض) رواية سليم ، لأن الترجيح دائما يكون لرواياتنا على ما رواه غيرنا بعد تمامية الوثوق في كل هذه الروايات ، هذا مضافا إلى موافقة الشيخ المفيد في الأمالي ، والكافية في إبطال توبة الخاطئة للمفيد أيضا ، والشيخ البحراني في مدينة المعاجز لما رواه سليم.

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) نفس المصدر ، وتذكرة الخواص ص ٦٢.

٥١٤

٣ ـ ما الضير في أن يكلّم محمّد وهو صغير أباه أبا بكر بهذا الكلام الذي لا يصدر عادة إلّا من الرجال العقلاء؟! ألا يحتمل المنكرون أن محمّدا بن أبي بكر كان من النوابغ الذين يصدر عنهم الأفعال العجيبة ، فها هو القرآن المجيد يحدّثنا عن حكمة يحيى عليه‌السلام بقوله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١) والشواهد التاريخية كثيرة على وجود أطفال نوابغ تصدّروا السنام الأعلى في الحكمة والفصاحة.

وقد تصدر الأفعال العجيبة من الأطفال العاديين ولا ينسون ذلك طيلة عمرهم ، خاصة إذا كانت القصة متعلقة بموت أبيهم ، فكيف بأبي بكر وهو ذاك الرجل المشهور في اعتدائه على أمير المؤمنين عليّ وزوجه الطاهرة الصدّيقة الزهراء عليهما‌السلام واغتصابه لحقهما.

هذا مضافا إلى أن محمّدا بن أبي بكر كان ربيب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتلميذه وكان من أعزّ الخلق إلى أمير المؤمنين وجاريا عنده مجرى أولاده ، وهو رضيع الولاء والتشيع منذ زمن الصبا فنشأ عليه ، فلم يكن يعرف أبا غير الإمام عليّ عليه‌السلام ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره ، لا سيّما أيضا وأن أمه أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها كانت زوجة أمير المؤمنين عليه‌السلام وكانت تعلّم ابنها محمّدا ليظهر بذلك باطن أبيه ، وهي التي كانت على اتصال دائم ببيت أمير المؤمنين قبل وفاة أبي بكر وكانت من أحبّ الخلق إلى الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام.

وعليه فما الضير أن ما صدر من محمّد بن أبي بكر كان من معجزات أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ظهر فيه؟.

٤ ـ أن من المحتمل قويا أن لإلقاء هذه الشّبهة جذورا عميقة ترجع إلى تطهير أبي بكر من تلك الكلمات التي صدرت عنه عند الموت والتي هي سند تاريخي يكشف عن أسرار وحقائق.

__________________

(١) سورة مريم : ١٢.

٥١٥

ويؤيد ذلك إذا انضم إليه ما ذكره صاحب الذريعة في شأن رجال ابن الغضائري الذي هو مبدأ شيوع هذه المناقشة حيث قال : «الظاهر أن المؤلف لهذا الكتاب ـ أي رجال ابن الغضائري ـ كان من المعاندين لكبراء الشيعة وكان يريد الوقيعة فيهم بكل حيلة ووجه ..».

وقال المحقّق السيّد الخوئي «رحمه‌الله» في رجاله :

«وأما الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري فهو لم يثبت ، ولم يتعرض له العلّامة في إجازاته ، وذكر طرقه إلى الكتب ، بل إن وجود هذا الكتاب في زمان النجاشي والشيخ أيضا مشكوك فيه ، فإن النجاشي لم يتعرض له ، مع أنه قدس‌سره بصدد بيان الكتب التي صنّفها الإمامية ، حتى أنه يذكر ما لم يره من الكتب ، وإنما سمعه من غيره أو رآه في كتابه ، فكيف لا يذكر كتاب شيخه الحسين بن عبيد الله أو ابنه أحمد.

والمتحصل من ذلك : أن الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري لم يثبت بل جزم بعضهم بأنه موضوع ، وضعه بعض المخالفين ونسبه إلى ابن الغضائري ..» (١).

الأمر الثاني : اشتمال كتاب سليم على أن الأئمة عليهم‌السلام ثلاثة عشر ، فقد جاء فيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة فاختار منهم رجلين : أحدهما أنا فبعثني رسولا ونبيّا ، والآخر عليّ بن أبي طالب ، وأوحى إليّ أن اتخذه أخا وخليلا ووزيرا ووصيّا وخليفة.

ألا وإنه وليّ كل مؤمن بعدي ، من والاه والاه الله ومن عاداه عاداه الله ، لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا كافر ، هو زرّ الأرض بعدي وسكنها ، وهو كلمة الله

__________________

(١) معجم رجال الحديث للخوئي ج ١ / ١٠٢.

٥١٦

التقوى وعروته الوثقى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

ألا وإن الله نظر نظرة ثانية فاختار بعدنا اثني عشر وصيّا من أهل بيتي فجعلهم خيار أمتي واحدا بعد واحد مثل النجوم في السماء ، كلّما غاب نجم طلع نجم ..» (٢).

وأورد سليم أيضا ثلاثة نصوص فيها العدد ثلاثة عشر هي :

١ ـ الحديث (١٦) فيما نقله عن كتاب الراهب قال سليم : أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين عليه‌السلام فنزل العسكر قريبا من دير نصراني ، فخرج إلينا من الدير شيخ كبير جميل [حسن الوجه] حسن الهيئة والسمت ومعه كتاب في يده ، حتى أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام فسلّم عليه بالخلافة ، فقال له عليّ عليه‌السلام : مرحبا يا أخي شمعون بن حمون ، كيف حالك رحمك الله؟

فقال : بخير يا أمير المؤمنين وسيّد المسلمين ووصي رسول ربّ العالمين إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم عليه‌السلام ، وأنا من نسل شمعون بن يوحنا وكان من أفضل حواري عيسى بن مريم الاثني عشر وأحبّهم إليه وآثرهم عنده ، وإليه أوصى عيسى بن مريم عليه‌السلام وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته ، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته فلم يكفروا ولم يبدّلوا ولم يغيّروا.

وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده ، وفيها كل شيء يفعل الناس من بعده ملك ملك ، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم ، حتى يبعث الله رجلا من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن من أرض تدعى تهامة من قرية يقال لها «مكة» يقال له «أحمد» [الأنجل العينين

__________________

(١) سورة الصف : ٨.

(٢) كتاب سليم بن قيس ج ٢ / ٨٥٧ ح ٤٥ وبحار الأنوار ج ٢٢ / ١٤٩ حديث ١٤٢.

٥١٧

المقرون الحاجبين صاحب الناقة والحمار والقضيب والتاج ـ يعني العمامة ـ] له اثنا عشر اسما.

ثم ذكر مبعثه ومولده وهجرته ومن يقاتله ومن ينصره ومن يعاديه وكم يعيش وما تلقى أمته من بعده من الفرقة والاختلاف.

وفيه تسمية كل إمام هدى وإمام ضلالة إلى أن ينزل الله عيسى بن مريم من السماء ، فذكر في الكتاب ثلاثة عشر رجلا من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله هم خير من خلق الله وأحبّ من خلق الله إلى الله ، وأن الله وليّ من والاهم وعدو من عاداهم ، من أطاعهم اهتدى ومن عصاهم ضلّ ، طاعتهم لله طاعة ، ومعصيتهم لله معصية ، مكتوبة فيه أسمائهم وأنسابهم ونعتهم ..» (١).

٢ ـ ما ورد في الحديث (٢٥) وهو طويل جاء فيه :

«.. قال سلمان : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس ، الذين اجتباهم الله وما جعل عليهم في الدين من حرج ملة أبيهم إبراهيم؟ قال رسول الله : إنما عنى بذلك ثلاثة عشر إنسانا ، أنا وأخي عليّ بن أبي طالب وأحد عشر من ولدي ..» (٢).

٣ ـ ما ورد في حديث (٤٥) وقد تقدم ، جاء فيه :

«ألا وإن الله نظر نظرة ثانية فاختار بعدنا اثني عشر وصيّا من أهل بيتي ، فجعلهم خيار أمتي واحدا بعد واحد مثل النجوم في السماء ..» (٣).

يورد على هذا الأمر :

أولا : إن التعبير ب «اختار بعدنا اثني عشر وصيّا» قد يكون تصحيفا لكلمة

__________________

(١) كتاب سليم ج ٢ / ٧٠٦ ح ١٦.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٧٦٢ ح ٢٥.

(٣) نفس المصدر ج ٢ / ٨٥٧ ح ٤٥.

٥١٨

«بعدي» خاصة وأن حرف (نا) وحرف (ي) يتقاربان في الرسم إلى حد ما.

قال العلّامة المجلسي (قدس‌سره) : «وقد وجدنا في بعض النسخ «بعدي» من دون تصحيف (١). وكما يحتمل تصحيف كلمة «بعدي» إلى «بعدنا» كذلك يحتمل تصحيف كلمة «أحد عشر» إلى «اثنا عشر» كما أشار العلّامة المجلسي إلى ذلك في البحار. وهذا لا يصير سببا للقدح بالكتاب ، إذ قلّما يخلو كتاب من إضعاف هذا التصحيف والتحريف ، ومثل هذا موجود في الكافي وغيره من الكتب المعتبرة ، كما لا يخفى على المتتبع.

ويؤيد ذلك أن هذا الحديث بعينه مذكور في الحديث ١٤ من كتاب سليم أيضا بهذه العبارة : «إن الله نظر نظرة ثالثة ، فاختار منهم بعدي اثني عشر وصيّا من أهل بيتي وهم من خيار أمتي ، منهم أحد عشر إماما بعد أخي واحدا بعد واحد ..» ثم أورد في آخر الحديث ذكر أسمائهم بقوله : «أول الأئمة عليّ خيرهم ثم ابني الحسن ..» (٢).

ثانيا : هناك نصوص كثيرة في كتاب سليم بلغ تعدادها أربعة وعشرين ، عدا عن الموارد الأخرى الكثيرة الدالة على أن عدد الأئمة اثنا عشر (٣) إماما.

وعليه فإن نسبة «الأئمة ثلاثة عشر» إلى كتاب سليم غير صحيحة ، فلا معنى حينئذ للتمسك بنص واحد للطعن على الكتاب كلّه بحجّة أنه قد جعل الأئمة ثلاثة عشر.

فإذا دار الأمر بين نصّ واحد [اعتبره البعض دليلا على وضع الكتاب] وبين أربع وعشرين نصّا ، فلا شك أن دفة الترجيح ستكون للأكثر ، إذ كيف يقابل نص واحد أربعا وعشرين نصّا؟ لا سيّما مع احتمال حصول تصحيف في كلمة «بعدنا» كما أشرت آنفا إليه.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥٠.

(٢) كتاب سليم ج ٢ / ٦٨٦ ح ١٤.

(٣) راجع : كتاب سليم بن قيس ج ١ / ١٧٣ ـ ١٨٠.

٥١٩

ثالثا : إن الأحاديث التي أشارت إلى أن «الأئمة ثلاثة عشر» قابلة للتأويل ، وكلّ ما كان قابلا للتأويل من الأخبار يجب الأخذ به وإلّا فلا ، وعليه فإن الحديثين المتقدّمين رقم ١٦ و ٢٥ الوارد فيهما الألفاظ التالية : «ثلاثة عشر رجلا» و «ثلاثة عشر إنسانا» يفسران بمقام الإمامة بإضافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، فالرسول بالإضافة إلى كونه رسولا ، له مقام آخر هو مقام الإمامة تماما كما كان لجدّه إبراهيم الخليل عليه‌السلام حيث شرّفه الله تعالى بمقام الإمامة بعد أن كان رسولا.

وأما الحديث رقم ٤٥ المتقدّم ، والذي ترتكز المناقشة في رجوع الضمير في «بعدنا» إلى رسول الله وأمير المؤمنين عليهما‌السلام ، وذكر «اثنا عشر وصيّا» بعدهما يرجع إلى تعيين مقام الوصاية من الله تعالى على العباد ، ونريد «بالوصاية» هنا الولاية الإلهية لآل محمّد ، وعليه : فلا إشكال في العبارة بأن تكون مولاتنا الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام ضمن الاثني عشر بعد رسول الله وأمير المؤمنينعليهم‌السلام ، وذلك أن موضوع الحديث هو من اختارهم الله وليّا لنفسه عند ابتداء خلقه من بين جميع أهل الأرض ، والذين جعلهم خيار أمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بل لا بدّ وأن يكون المذكورون اثني عشر شخصا ليشمل الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها ، فإنّا نعتقد بعصمتها وأنها صاحبة الولاية الإلهية إلّا أنها ليست بإمام. فالمعنى أن رسول الله يقول: إن الله تعالى بعد ما اختارنا (أي محمّدا وعليّا) من بين خلقه اختار اثني عشر وليّا وهم فاطمة وأحد عشر شخصا من ولده المعصومين ، فجعلهم خيار أمتي واحدا بعد واحد.

رابعا : إن اشتمال كتاب على أمر باطل في مورد أو موردين لا يدل على وضعه ، كيف ويوجد ذلك في أكثر الكتب حتى في كتاب الكافي الذي هو أمتن كتب الحديث وأتقنها (١). فقد جاء في الكافي في باب النصّ على الاثني عشر في خبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ولدي اثنا عشر نقباء نجباء مفهّمون آخرهم القائم

__________________

(١) معجم رجال الحديث للخوئي ج ٨ / ٢٢٥.

٥٢٠