أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

دفعاها عنه عنادا وظلما

مزّقا صكها وما راعياها

وادّعت نحلة لها من أبيها

سيّد الأنبياء فلم ينحلاها

فانثنت والفضاء ضاق عليها

وشواظ الزفير حشو حشاها

وأتت دارها تجرّ رداها

والجوى كان أن يريها رداها

فأتوا دارها وأداروا الجز

ل كي يحرقوا عليها خباها

عصروها بالباب قسرا إلى أن

كسّروا ضلعها وهدّوا قواها

ألجئوها إلى الجدار فألقت

«محسنا» وهي تندب الطهر طاها

دخلوا الدار وهي حسرى فقادوا

بنجاد الحسام حامي حماها

برزت خلفهم تقوم وتكبوا

وحشاها ذابت بنار شجاها

وعلى رأسها قميص أبيها

وعلى متنها استوى فرخاها

وهي تعدو خلف الوصي وتدعو

بانكسار فلم يجيبوا نداها

أيّها القوم! أطلقوا صفوة الله

إمام الأنام عقد ولاها

أو لأدعو الله العظيم بشجو

فتخرّ الخضراء على غبراها

فأتاها العبد المشوم فأدمى

متنها فانثنت تطيل بكاها

وهي منهم بمسمع وبمرأى

نصب عينهم تقاسي أذاها

آذياها عند الحياة ولمّا

حضرتها الوفاة ما شيّعاها

دفنت في الدجى وعفى «عليّ»

قبرها ليته استطال دجاها

أفمثل ابنة النبيّ يوارى

شخصها في الدجى ويعفى ثراها؟ (١)

وللسيّد محمد نجل السيّد جمال الهاشمي :

أيّ خطب يبكي عليه خطابي

ومصاب قد شاب شهدي بصاب

آه يوم الزهراء أيّ فؤادي

علوي عليك غير مذاب

لك في الدهر رنّة رددتها

بخشوع أجياله واكتئاب

__________________

(١) الكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام ج ٧ / ٥٤ ـ ٥٦ ؛ وكتاب وفاة الصدّيقة الزهراء ص ١٣٨ ـ ١٤٠.

٤٨١

فهي نار تذكي القرون ونور

رف لألاؤه على الأحقاب

وهي للمجد فيه للسا

لك تبدو الصحاب غير صعاب

غاب نور النبي وانقطع الوحي

وخارت عزائم الأراب

وارتمى موكب الحياة وجاشت

نزعات النفاق في الأحزاب

فانطوى النور في ظلام كثيف

نشرته جرائم الانقلاب

وانمحى الحقّ والصراحة لمّا

ساد عهد الضلال والارتياب

موقف أربك العصور فأخفت

رأيها في القلوب والأهداب

غضبة الحق ثورة تجرف الباطل

في موج عرمها الوثاب

عجب أمرها وأعجب منه

إلها تنتمي لذات نقاب

وإذا اللبوة الجريحة ثارت

لهث الموت بين ظفر وناب

شمرت للجهاد سيّدة الإسلام

عن ذيل عزمها الصخاب

وأتت ساحة الجهاد بإيما

ن يرد السيوف وهي نواب

حاكمت عهدها المدمى بقلب

وأغرّ من شجونها لهاب

لم تدع للمهاجرين وللأنصار

رأيا إلا انمحى كالضباب

واستعانت بالحقّ والحق درع

من أمان وصارم من صواب

رجمتهم بالمخزيات فآبوا

وهم يحملون سوء المئاب

حجج كالنجوم ينثرها الحقّ

ويرمي الشهاب إثر الشهاب

فهي إما عقل وإما حديث

جاء عن نصّ سنّة أو كتاب

فتهاوت أحلامهم كصروح

شادها الوهم عاليا في السراب

آه لو لا ضعف النفوس لما استرجع

ركب الهدى على الأعقاب

ولما عادت الإمارة للقوم

وجازوا إمامة المحراب

واستقرّت هوج العواصف لمّا

قابلتها سياسة الإرهاب

لا خطاب من عاذل لا جواب

عن سؤال لا هجمة من عتاب

ومذ انهارت الرجال وعادوا

بتلول من خزيهم وروابي

٤٨٢

واختفى النصّ بالولاية لمّا

أظهر الكيد فكرة الانتخاب

أوقد الغدر في السقيفة نارا

علّقت في مواكب الأحقاب

وتلاشى «الغدير» إلّا بقايا

تترامى بها بطون الشّعاب

وتوالت مناظر مؤلمات

مثّلتها عداوة «الأصحاب»

من هجوم الأرجاس بالنار كي

تحرق بيت الأكارم الأطياب

وانكسار الضلع المقدّس بالضغط

وسقط الجنين عند الباب

وانتزاع الوصي سحبا من الدار

بتيّار ثورة الأعصاب

واغتصاب الحقّ الصريح جهارا

باختلاف الأعذار للاغتصاب (١)

وللسيّد عيسى الكاظمي :

خطب يذيب من الصخور صلابها

ويزيل من شمّ الجبال هضابها

فلو أنّ ما قاسيت منه صادفت

صم الصفا معشاره لأذابها

خطب له أمسيت أصفق راحتي

وذوو المعالي منه تقرع نابها

أجداث تيم لا سقت لك حفرة

ديم السحاب ويا عدمت ربابها

كلا ولا ريح الصبا لك روحت

أرضا ولا روى الغمام ترابها

قد ضمّ تربك من على إشراكها

يوم السقيفة نكصت أعقابها

لم ترع ذمّة أحمد من بعده

فلها أطال الله فيك عذابها

نسجت لها في الشرك برد ضلالة

ومن الخيانة فصلت جلبابها

عقدت بذلك بيعة مذ دحرجت

للمصطفى الهاد النبيّ (دبابها)

الله مما قد جنت إذ قدّمت

من ساد فيه بنو الضلال قبابها

قد أخّرت من كان غامض علمه

لمدينة العلم الرفيعة بابها

فأتتهم (الزهراء) تطلب إرثها

ولهم أطالت في الكلام خطابها

فعدت تنمق تيم من إشراكها

أخبار زور ما عدت كذابها

حتى إذا لم ترع ذمة أحمد

فيها ولا راعت لها أنسابها

__________________

(١) وفاة الصديقة الزهراء للمقرّم ص ١٤٦ ـ ١٤٧ ؛ الكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام ج ٧ / ٦٢ ـ ٦٤.

٤٨٣

عطفت على القبر الشريف برنة

تشكو إليه من اللئام مصابها

والله ما أدري لأي مصيبة

تشكو فقد هدّ القوى ما نابها

ألعصرها بالباب حتى أسقطت

أم حرقها يا للبرية بابها

أم لطمها حتى تناثر قرطها

وبه تقصد (عينها) فأصابها

أم ضربها حتى تكسر ضلعها

ضربا يروم به (الزنيم) إيابها

أم غصبهم من بعد ذلك نحلة

أم أنهم خرقوا لذاك كتابها

أم قودهم لإمامهم بنجاده

كيما يبايع جهرة أذنابها

والطهر تهتف خلفهم في رنة

ملأت من البيد القفار رحابها

ما عندهم لنبيهم فيها إذا

ما قد تولى في المعاد حسابها

يوم به (الزهراء) تحمل (محسنا)

سقطا فتذهل للورى ألبابها (١)

وللسيّد مهدي الأعرجي تغمده الله برحمته :

ما بال عينيك دما تنسكب

ونار أحشاك أسى تلتهب؟

أهل تذكرت عهودا سلفت

لزينب فأرقتك زينب؟

أم هل تشوقت ظباء سنحت

بالجزع أم راقك ذاك الربرب؟

أم هل شجتك أربع قد درست

فأخلقت جدتهن الحقب؟

أم هل دهتك الحادثات مثلما

دهت فؤادي يوم (طاها) النوب؟

يوم قضى فيه النبي نحبه

فضلت الدنيا له تنتحب

وانقلب الناس على أعقابهم

ولن يضر الله من ينقلب

وأقبلوا إلى (البتول) عنوة

وحول دارها أدير الحطب

فاستقبلتهم (فاطم) وظنّها

إن كلّمتهم رجعوا وانقلبوا

حتى إذا خلت عن الباب وقد

لاذت وراها منهم تحتجب

فكسروا أضلاعها واغتصبوا

ميراثها وللشهود كذبوا

وأخرجوا (الكرّار) من منزله

وهو ببند سيفه ملبب

__________________

(١) وفاة الصديقة الزهراء ص ٥٩ ـ ٦٠

٤٨٤

يصيح أين اليوم منّي (حمزة)

ينصرني و (جعفر) فيغضب

وخلفهم (فاطمة) تعثر في

أذيالها وقلبها منشعب

تصيح خلوا عن (علي) قبل أن

أدعوا وفيكم أرضكم تنقلب

فأقبل (العبد) لها يضربها

بالسوط وهي بالنبي تندب

يا والدي هذا (علي) بعد عين

يك على اغتصابه تألبوا

واعتزلوه جانبا وأمّروا

ضئيل تيم بعده ونصبوا

تجاهلوا مقامه وهو الذي

بسيفه في الحرب قدّ (مرحب)

ولو تراني والعدى تحالفوا

عليّ لما غيبتك الترب

وجرعوني صحبك الصاب وقد

تراكمت منهم عليّ الكرب

ولم تزل تجرع منهم غصصا

تندك منها الراسيات الهضب

حتى قضت بحسرة مهضومة

حقوقها وفيئها مستلب

وأخرج (الكرّار) ليلا نعشها

(وزينب) خلفهم تنتحب

فقال للزكي سكتها فلا

يسمع جهرا صوتها المحجب

فلو يراها بالطفوف والعدى

منها الرداء والخمار تسلب

تجول في وادي الطفوف كي ترى

أطفالها من الخيام هربوا

ثم انثنت نحو أخيها وإذا

به على وجه الثرى مخضب (١)

وللسيّد محمّد حسين الكيشوان :

ما لك لا العين تصوب أدمعا

منك ولا القلب يذوب جزعا

فأيما قلب أتاه نبؤ

الشورى فما ذاب ولا تصدعا

أما وعى سمعك وما جرى بها

فأي سمع فاته وما وعى

وما دريت باللذين استنهضا

جالية الغي فهبت سرعا

سلا من الأحقاد سيف فتنة

نتاجها من الضلال البدعا

وانتهزاها فرصة فاحتلبا

من ضرعها كأس النفاق مترعا

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٤٧ ـ ١٤٨ ؛ الكوثر ج ٧ / ٦٤ ـ ٦٥.

٤٨٥

واتعبا نهج الهدى وجانبا

من الرسول شرعه المتبعا

فليت شعري أي عذر لهما

وقد أساءا بعده ما صنعا

وأي قربى وصلا منه وعن

عترته حبل الولا قد قطعا

فقل لتيم لا هديت بعد ما

طاف أخوك بالضلال وسعى

خف لداعي الكفر نهضا فانثنى

بثقل أعباء الشقا مضطلعا

فقام وهو يستقيل عثرة

كبا على الغي بها فلا لعا

درى بأنّ (فاطما) بضعته

فما رأى حرمتها ولا رعى

كيف يطيب شيمة وعنصرا

وعن أروم البغي قد تفرعا

واجتمع الناس عليه ضلة

ففرقوا من الهدى ما اجتمعا

وأظهروا باطنة الكفر عمى

مذ أبصروها فرصة ومطمعا

وخالفوا نصّ الولاء بعد ما

أماط عن وجه الرشاد برقعا

وغادروا حقّ البتول نهلة

تجرعوها بالضلال جرعا

وافتتنوا من ولع بسورة

الدنيا فهاموا بالدنيا ولعا

وأودع الثقلين فيهم فأبوا

أن يحفظوا لأحمد ما استودعا

وجمعوا النار ليحرقوا بها

البيت الذي به الهدى تجمعا

بيت علا سمك الضراح رفعة

فكان أعلا شرفا وأمنعا

اعزه الله فما تهبط في

كعبته الأملاك إلا خضعا

بيت من القدس وناهيك به

محط أسرار الهدى وموضعا

وكان مأوى المرتجى والملتجى

فما أهز شأنه وأمنعا

فعاد بعى المصطفى منتهكا

حريمة وفيئه موزعا

وأخرجوا منه عليا بعدما

أبيح منه حقه وانتزعا

وأخرجوا منه عليا بعدما

أبيح منه حقه وانتزعا

قادوه قهرا بنجاد سيفسه

فكيف وهو الصعب يمشي طيعا

فعاد إلا انه عن حقه

صد وعن مقامه قد دفعا

ما نقمسوا منه سوى أن له

سابقة الإسلام والقربى معا

٤٨٦

وأقبلت فاطم تعدوا خلفه

والعين منها تستهلّ أدمعا

فانتهروها بسياط قنفذ

وكسروا بالضرب منها أضلعا

فانعطفت تدعو أباها بحشى

تساقطت مع الدموع قطعا

يا أبتا هذا عليّ أعرضوا

عنه ضلالا وابن تيم تبعا

أهتف فيهم لا أرى واعية

تعي ندائي لا ولا مستمعا

أمسى تراثي فيهم مغتصبا

منّي وحقّي بينهم مضيعا

وانكفأت إلى عليّ بعد ما

تجرّعت بالغيظ سما منقعا

قالت أتغضي والنفاق صارخ

حتى استعاذ الدين منه فزعا

ونمت عن ظلامتي عفوا وأنت

الموقظ العزم إذا الداعي دعا

أحجمت والذئاب عدوا وثبت

فأقحمت منك العرين المسبعا

ولنت أخدعيك في الضّيم وما

عهدت منك أن تلين أخدعا

وكيف أضرعت على الذلّ لهم

خدّك وهو للعدى ما ضرعا

عزّ عليك أن ترى تسومني

من بعد عزّ (قيلة) أن أخضعا

تهضمني بالأذى ولم أجد

مأوى إليه التجي ومفزعا

ألفيتها معرضة عني وما

أبقت بقوس الصبر مني منزعا

فقال يا بنت النبي احتسبي

حقك في الله وخلّي الجزعا

واجملي صبرا فما ونيت عن

ديني ولا أخطأت سهم موقعا

فاسترجعت كاظمة لغيظها

مبدية حنينها المرجعا

حتى قضت من كمد وقلبها

كاد بفرط الحزن أن ينصدعا

قضت ولكن مسقطا جنينها

مولعا فؤادها مروعا

قضت ومن ضرب السياط جنبها

ما مهدت له الرزايا مضجعا

قضت على رغم العدى مقهورة

ما طمعت أعينها أن تهجعا

قضت وما بين الضلوع زفرة

من الشّجى غليلها لن ينقعا (١)

__________________

(١) وفاة الصديقة الزهراء ص ١٤١ ـ ١٤٤.

٤٨٧

الأمر الثالث : ردّ الشّبهات الطارئة على ظلامات الصدّيقة الطاهرة.

لقد شهدت ساحتنا في الآونة الأخيرة هزّات تشكيكية أوّل ما تناولت إنكار مظلومية الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام لا سيّما ضربها وإسقاط جنينها وكسر أضلاعها ، بدعوى أنه من المستبعد أن يدخلوا عليها بمرأى من جموع المسلمين ، ثم ميّع تيار الحداثة تلك المأساة لصالح المعتدين ، فبات الأنصار لاحقا يشمتون بنا بحجة أن منّا من شكّك باعتداء أبي بكر وعمر على سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام ، لذا ارتأينا ـ ومن باب أنّ مصلحة التشيع فوق كلّ الاعتبارات والحساسيات ـ ذكر بعض الشّبهات والردّ عليها.

الشّبهة الأولى :

إنّ الاعتداء على الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لم يقم الإجماع الإمامي عليه ، ولو كان هناك إجماعا لما خالفه الشيخ المفيد حيث لم يذكر كسر الضلع في كتبه ، وعليه فلا وجه لمّا تمسّك به الشيعة ضد عمر بن الخطاب الذي كسر ضلع الصدّيقة وأسقط جنينها ، هذا مضافا إلى أن الشيخ المفيد خالف الإجماع المدّعى على سقوط جنين للصدّيقة الزهراء اسمه «محسن» فقال :

«أولاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه سبعة وعشرون ولدا ذكرا وأنثى : الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكنّاة أم كلثوم ، أمّهم فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين بنت سيّد المرسلين محمّد خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وفي الشيعة من يذكر أن فاطمة صلوات الله عليها أسقطت بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولدا ذكرا كان سمّاه رسول الله عليه‌السلام ـ وهو حمل ـ محسنا ، فعلى قول هذه الطائفة أولاد أمير المؤمنين عليه‌السلام ثمانية وعشرون ، والله أعلم» (١).

فمخالفة المفيد للإجماع يوحي بعدم تبنّيه للإسقاط ولكسر الضلع.

__________________

(١) الإرشاد ج ١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

٤٨٨

يرد عليها :

أولا : مخالفة المفيد للإجماع ـ لو سلّمنا بذلك ـ لا يضر بانعقاده ، ما دام المخالف معلوم النسب كما هو مقرّر في محله ، هذا مضافا إلى أن المفيد نفسه قد ذكر الإسقاط في كتابيه «الاختصاص والأمالي» ، وعدم ذكر المفيد لكسر الضلع في كتبه ، لا يدل على إنكاره له من الأساس ، وبعبارة أخرى : عدم وجود ذاك في كتبه ، ليس دليلا على عدم اعتقاده بالكسر.

ثانيا :

حينما ذكر الشيخ المفيد بعبارته المتقدمة «وفي الشيعة من يذكر ..» قصد به الإمامية الاثني عشرية ، حيث هم فرقة من فرق الشيعة ، إذ إن مصطلح الشيعة ليس مخصوصا بالاثني عشرية بل يعم كل من اعتقد بإمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وإن لم يعتقد بإمامة سائر الأئمة الميامين عليهم‌السلام ، فالزيدية والفطحية والناووسية والواقفية وغيرهم من فرق الشيعة.

وعليه فإن المفيد أراد تخصيص الإمامية عن غيرها من فرق الشيعة ، فقال : «وفي الشيعة من يذكر» وذيل كلامه : «فعلى قول هذه الطائفة ..» يؤكد ما قلنا من أنه ليس كلّ الشيعة يعتقد بإسقاط محسن بل خصوص الإمامية منهم ، من هنا لقّب الشيخ الطوسي ب «شيخ الطائفة» والمقصود هو طائفة الإمامية ، لا مطلق الشيعة.

ثالثا :

لقد راعى المفيد الظروف والأجواء السياسية المشحونة بالتعصب ضد الشيعة يوم ذاك ، فكان الحنابلة ـ بين الحين والآخر ـ يشنون الحملات المستعرة على الإمامية ، فكانوا يحرقون البيوت ويذبحون الأطفال والنساء ، فقد روى المؤرخون أن السنّة قد أحرقوا في عام ٣٦٢ ه‍ سبعة عشر ألف إنسان ، وثلاث مائة دكان ، وثلاثة وثلاثين مسجدا ، وثلاث مائة وعشرين دارا (١) ومن الأموال ما لا يحصى.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٨ / ٦٢٨ حوادث عام ٣٦٢ وحوادث ٣٦١ ه‍ وج ٩ / ٥٩١.

٤٨٩

بل إن هجوم السنّة كان متواصلا على بيوت الشيعة ومساجدهم وكانوا يلقبونهم بالروافض ، بل إن قتل رافضي أفضل من قتل كافر (١).

قال أبو الفداء الحافظ عن ابن كثير الحنبلي في تاريخه :

«في عاشر المحرّم منها عملت الشيعة مأتمهم ـ أي مراسم عاشوراء ـ وبدعتهم على ما تقدم قبل ، وغلقت الأسواق وعلّقت المسوح ، وخرجت النساء سافرات ، ناشرات شعورهن ، ينحن ويلطمن وجوههنّ في الأسواق والأزقة على الحسين.

وهذا تكلّف لا حاجة إليه في الإسلام ، ولو كان هذا أمرا محمودا ، لفعله خير القرون ، وصدر هذه الأمة ، وخيرتها وهم أولى به ، ولو كان خيرا ما سبقونا إليه ، وأهل السنّة يقتدون ولا يبتدعون.

ثم تسلّطت أهل السنّة على الروافض ، فكبسوا مسجدهم ، مسجد براثا الذي هو عش الروافض ، وقتلوا بعض من كان فيه من القومة» (٢).

ويذكر ابن الأثير :

إن الحنابلة لما أكثروا القتل في شيعة الكرخ ، تشدد زعيم الشيعة على أتباعه فمحوا : «خير البشر» ذيل قول الشيعة : محمّد وعليّ خير البشر ، فلم يقبل السنّة بذلك فقالوا : لا نرضى إلّا أن يقلع الآجرّ الذي عليه محمّد وعليّ وأن لا يؤذّن : حيّ على خير العمل. وامتنع الشيعة من ذلك ، ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول .. ثم لمّا قتل رجل سني ، هاج السنّة واستنفروا للأخذ بثأره ، فقصدوا مشهد الإمام موسى الكاظم وحفيده الإمام الجواد عليهما‌السلام وأحرقوا جميع الترب والآزاج ، واحترق الضريح والقبّتان الساج اللتان عليهما ، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه وعدة قبور ، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٨ / ٥٧١ حوادث عام ٣٥٥.

(٢) البداية والنهاية ج ١١ / ٢١٥ حوادث عام ٣٥٤ ه‍.

٤٩٠

بل تعدى ظلمهم إلى أنهم أرادوا حفر قبر الإمام موسى بن جعفر ومحمّد بن علي فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر ، فجاء الحفر إلى جانبه ..» (١).

وفي حوادث عام ٣٦٣ ه‍ قال ابن الأثير وابن خلدون أيضا :

«إن أبا تغلب قد قارب بغداد فثار العيارون بها وأهل الشرّ بالجانب الغربي ، ووقعت فتنة عظيمة بين السنّة والشيعة ، وحمل أهل سوق الطعام ، وهم من السنّة امرأة على جمل ، وسمّوها عائشة ، وسمّى بعضهم نفسه طلحة ، وبعضهم الزبير ، وقاتلوا الفرقة الأخرى ، وجعلوا يقولون : نقاتل أصحاب عليّ بن أبي طالب وأمثال هذا من الشر» (٢).

بل إن النصوص التاريخية تفيد أن الشيخ المفيد نفاه سلطان زمانه مرتين من الكرخ ، الأولى(٣) عام ٣٩٢ ه‍ ، والثانية (٤) عام ٣٩٨ ه‍.

كما «أن عميد الجيوش قد منع الروافض من النياحة في عاشوراء ، وما يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر من ذي الحجة ، الذي يقال له : غدير خم» (٥).

بعد كلّ هذا ، هل بمقدور الشيخ المفيد حينئذ أن يذكر قضية كسر الضلع ، ألا يزيد ذكرها تعصّب العامة وحقدهم على الشيعة؟ ولو ذكرها بتفاصيلها في الإرشاد لكان ذلك مستندا عليه.

ولكنّ ذكر المفيد لقضية رفس عمر للصدّيقة عليها‌السلام في كتابه الاختصاص يبقي الإشكال على حاله ، إذ لو أراد تطرية الأمور باستعمال المداراة لما كان ذكرها

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٩ / ٥٧٧ باب ذكر الفتنة بين العامة ببغداد وإحراق المشهد على ساكنيه.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٨ / ٢٣٢ وص ٦٣٢ حوادث سنة ٣٧٥ ه‍ ؛ والعبر لابن خلدون ج ٤ / ٤٤٧.

(٣) الكامل في التاريخ ج ٩ / ١٧٨.

(٤) نفس المصدر ج ٩ / ٢٠٨.

(٥) البداية والنهاية ج ١١ / ٣٤٤.

٤٩١

في الاختصاص ، وتعرّض للعن قاتل الصدّيقة وابنها السقط عليه‌السلام ، اللهم إلّا أن يقال : إن استعمال المداراة في كتاب الإرشاد الذي كان آخر مؤلفاته دون الأمالي والاختصاص للتخفيف من حدة الصراع القائم بين الشيعة والسنّة يومئذ ، فكان عدم ذكره للكسر نوع تقية يأمر بها الشرع والعقل حال خوف الضرر ، فهو وإن كان لم يشر إلى المسألة بشكل تفصيلي ، لكنه أشار إليها بصورة خفية وذكية حيث أثبت في المقنعة والمزار كونها عليها‌السلام «شهيدة طاهرة».

قد يقال : ربما كانت شهادتها نتيجة إسقاطها لابنها محسن عليه‌السلام وليس لكسر ضلعها.

قلنا : صحيح قد يكون سبب الموت ما ذكره الإشكال ، لكنه ضئيل عادة لا سيّما النساء اللاتي يملكن أجساما متكاملة وقوية ، فكيف بالصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام حيث إن مبدأ نشوء جسدها الطاهر كان في تفاحة الفردوس ، فمن البعيد جدا أن يكون سبب شهادتها الإسقاط لوحده ، بل إنّ تكسير الأضلاع الشريفة ونبت المسمار في الصدر المقدّس هو السبب الرئيسي في شهادتها عليها‌السلام ، لوجود قرائن منفصلة أخرى تثبت ذلك ، منها ما جاء في الزيارات المروية عنهمعليهم‌السلام من أنّها روحي فداها «مكسور ضلعها» و «شهيدة طاهرة». وقد روى ابن طاوس عن الأئمة عليهم‌السلام في كتاب الإقبال «باب زيارتها يوم مولدها» إن من زارها بهذه الزيارة واستغفر الله غفر الله له وأدخله الجنّة ، قال تقول : السلام عليك ... اللهم صلّ على الصدّيقة الطاهرة .. المظلومة المغصوبة حقها الممنوعة إرثها المكسور ضلعها المظلوم بعلها المقتول ولدها (١). ويظهر أن السيّد ابن طاوس أعلى الله مقامه الشريف أول من تجرّأ بذكر مسألة كسر ضلع جدته الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام في باب الزيارات ـ بحسب الظاهر ـ حسبما ذكرنا آنفا عنه أنه قال : «فقد روي أن من زارها بهذه الزيارة ..» وهذا يؤكد مدى حالة الخوف التي كان يعيشها الشيعة آنذاك ، عدا عن التقية التي هي السبب في عدم تجاهرهم بالمسألة ، لذا فإن الشيخ المفيد روى

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٧ / ٢٠٠.

٤٩٢

زيارتين مختصرتين للصدّيقة عليها‌السلام في كتاب المزار ومثلهما في المقنعة ص ٤٥٩ حرصا على ما ذكرنا ، وكذا كلّ من جاء بعده عدا ابن طاوس حيث خرق العادة فأثبت في مزاره كسر ضلع جدته السيّدة الزهراء عليها‌السلام. ومن جملة القرائن ما ورد من أنها ماتت بسبب ضرب عمر لها وضغطها بين الحائط والباب.

هذا مع التأكيد أن اللواتي يمتن حال الولادة أو بعدها ، مردّه إلى نفاسهنّ ـ بمعنى شدة ما يصيبهنّ من النزيف ، والصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لا نفاس لها ولا حيض كرامة لها من العليّ القدير كما استفاضت بذلك الأخبار من الخاصة والعامة.

رابعا :

لقد ادّعى الشيخ الطوسي رحمه‌الله الإجماع على ضرب الطاهرة الزكية وإسقاط جنينها ، ومن المعروف أن الطوسي تلميذ المفيد ، فكيف يدّعي التلميذ الإجماع ، وأستاذه مخالف له؟ ولو كان المفيد مخالفا للإجماع لكان على أقل تقدير أشار إلى مخالفة أستاذه ، أو لوّح إلى تأويل إنكاره ـ على فرض وجوده ـ.

وإذ لم يتعرّض الطوسي والمرتضى أيضا إلى قضية كسر الضلع فلا يعني ذلك أيضا عدم ثبوتها عندهم ، وذلك للظروف القاسية التي عاشها هؤلاء الأفاضل في العراق بداية القرن الرابع الهجري وأواسطه ، ومتى كان عدم الوجدان دليلا على الإنكار؟ قد يكون عدم ذكر كسر الضلع لمصلحة اطّلعوا عليها كتقية وغير ذلك مما لا نحيط بعلمه.

الشبهة الثانية :

ومفادها : استبعاد قضية ضرب الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام لأن السجايا العربية تمنع من ضرب المرأة أو تمد إليها يد سوء ، وهذه الشبهة للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ، ووافقه عليها السيّد محمّد حسين فضل الله فقال الأول :

«طفقت واستفاضت كتب الشيعة من صدر الإسلام والقرن الأول مثل كتاب

٤٩٣

سليم بن قيس ومن بعده إلى القرن الحادي عشر وما بعده بل إلى يومنا كلّ كتب الشيعة التي عنيت بأحوال الأئمة وأبيهم الآية الكبرى وأمّهم الصدّيقة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين وكل من ترجم لهم وألّف كتابا فيهم ، أطبقت كلمتهم تقريبا أو تحقيقا في ذكر مصائب تلك البعضة الطاهرة أنها بعد رحلة أبيها المصطفى ضرب الظالمون وجهها ولطموا خدّها حتى احمرّت عينها وتناثر قرطها وعصرت بالباب حتى كسر ضلعها وأسقطت جنينها وماتت وفي عضدها كالدملج ، ثم أخذ شعراء أهل البيت سلام الله عليهم هذه القضايا والرزايا ونظموها في أشعارهم ومراثيهم وأرسلوها إرسال المسلّمات من الكميت والسيّد الحميري ودعبل الخزاعي والنميري والسّلامي وديك الجن ومن بعدهم ومن قبلهم إلى هذا العصر ، وتوسّع أعاظم شعراء الشيعة في القرن الثالث عشر والرابع عشر الذي نحن فيه كالخطي والكعبي والكوّازين وآل السيّد مهدي الحلّيين وغيرهم ممن يعسر تعدادهم ويفوت الحصر جمعهم وآحادهم ، وكل تلك الفجائع والفظائع وإن كانت في غاية الفظاعة والشناعة ومن موجبات الوحشة والدهشة ولكن يمكن للعقل أنّ يجوزها وللأذهان والوجدان أن يستسيغها ، وللأفكار أن تقيلها [تقبلها : ظ] وتهضمها ولا سيّما وأنّ القوم قد اقترفوا في قضية الخلافة وغصب المنصب الإلهي من أهله ما يعدّ أعظم وأفظع.

ولكن قضية ضرب الزهراء ولطم خدها مما لا يكاد يقبله وجداني ويتقبّله عقلي ويقتنع به مشاعري ، لا لأن القوم يتحرجون ويتورّعون من هذه الجرأة العظيمة بل لأن السجايا العربية والتقاليد الجاهلية التي ركزتها الشريعة الإسلامية وزادتها تأييدا وتأكيدا تمنع بشدّة أن تضرب المرأة أو تمدّ إليها يد سوء ، حتى إنّ في بعض كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام ما معناه : أنّ الرجل كان في الجاهلية إذا ضرب المرأة يبقى ذلك عارا في أعقابه ونسله.

ويدلّك على تركّز هذه الركيزة بل الغريزة في المسلمين وأنها لم تفلت من أيديهم وإن فلت منهم الإسلام ، إنّ ابن زياد وهو من تعرف في الجرأة على الله

٤٩٤

وانتهاك حرماته لمّا فضحته الحوراء زينب عليها‌السلام وأفلجته وصيّرته أحقر من نملة وأقذر من قملة وقالت له : ثكلتك أما يا ابن مرجانة ، فاستشاط غضبا من ذكر أمّه التي يعرف أنها من ذوات الأعلام وهمّ أن يضربها فقال له عمرو بن حريث ، وهو من رءوس الخوارج وضروسها ، إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، فإذا كان ابن مرجانة امتنع من ضرب العقيلة خوف العار والشنار وكلّه عار وشنار وبؤرة عهار مع بعد العهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف لا يمتنع أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قرب العهد به من ضرب عزيزته ، وكيف يقتحمون هذه العقبة الكئود ولو كانوا أعتى وأعدى من عاد وثمود ، ولو فعلوا أو همّوا أن يفعلوا أما كان في المهاجرين والأنصار مثل عمرو بن حريث فيمنعهم من مدّ اليد الأثيمة وارتكاب تلك الجريمة ، ولا يقاس هذا بما ارتكبوه واقترفوه في حق بعلها سلام الله عليه من العظائم حتى قادوه كالفحل المخشوش فإنّ الرجال قد تنال من الرجال ما لا تناله من النساء.

كيف والزهراء ـ سلام الله عليها ـ شابّة بنت ثمانية عشر سنة ، لم تبلغ مبالغ النساء ، وإذا كان في ضرب المرأة عار وشناعة فضرب الفتاة أشنع وأفظع ، ويزيدك يقينا بما أقول أنها ـ ولها المجد والشرف ـ ما ذكرت ولا أشارت إلى ذلك في شيء من خطبها ومقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم وسوء صنيعهم معها مثل خطبتها الباهرة الطويلة التي ألقتها في المسجد على المهاجرين والأنصار وكلماتها مع أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رجوعها من المسجد ؛ وكانت ثائرة متأثرة أشدّ التأثّر حتى خرجت عن حدود الآداب التي لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها ، فقالت له : يا ابن أبي طالب افترست الذئاب وافترشت التراب ـ إلى أن قالت : هذا ابن أبي فلانة يبتزّني نحلة أبي وبلغة ابني ، لقد أجهد في كلامي ، وألفيته الألدّ في خصامي ، ولم تقل أنه أو صاحبه ضربني ، أو مدّت يد إليّ ؛ وكذلك في كلماتها مع نساء المهاجرين والأنصار بعد سؤالهن : كيف أصبحت يا بنت رسول الله؟ فقالت : «أصبحت والله عائفة لدنياكن ، قالية لرجالكنّ» ، ولا إشارة فيها إلى شيء من ضربة أو لطمة ، وإنما تشكو أعظم صدمة وهي غصب فدك وأعظم منها غصب الخلافة

٤٩٥

وتقديم من أخّر الله وتأخير من قدّم الله ، وكل شكواها كانت تنحصر في هذين الأمرين وكذلك كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد دفنها ، وتهيج أشجانه وبلابل صدره لفراقها ذلك الفراق المؤلم ، حيث توجّه إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك .. إلى آخر كلماته التي ينصدع لها الصخر الأصم لو وعاها ، وليس فيها إشارة إلى الضرب واللطم ولكنه الظلم الفظيع والامتهان الذريع ، ولو كان شيء من ذلك لأشار إليه سلام الله عليه ، لأن الأمر يقتضي ذكره ولا يقبل ستره ، ودعوى أنها أخفته عنه ساقطة بأن ضربة الوجه ولطمة العين لا يمكن إخفاؤها.

أما قضية قنفذ وأنّ الرجل لم يصادر أمواله كما صنع مع سائر ولاته وأمرائه وقول الإمامعليه‌السلام أنه شكر له ضربته فلا أمنع من أنه ضربها بسوطه من وراء الرداء وإنما الذي أستبعده أو أمنعه هو لطمة الوجه وقنفذ ليس ممّن يخشى العار لو ضربها من وراء الثياب أو على عضدها. وبالجملة فإنّ وجه الزهراء هو وجه الله المصون الذي لا يهان ولا يهون ويغشى نوره العيون ، فسلام الله عليك يا أمّ الأئمة الأطهار ما أظلم الليل وأضاء النهار ، وجعلنا الله من شيعتك الأبرار ، وحشرنا معك ومع أبيك وبنيك في دار القرار (١).

وقال لثاني :

«أنا من الأساس لم أقل إنه لم يكسر ضلع الزهراء عليها‌السلام ، وكل من ينسب إلي ذلك فهو كاذب ، أنا استبعدت الموضوع استبعادا ، رسمت علامة استفهام على أساس التحليل التاريخي ، قلت : أنا لا أتفاعل مع هذا ، لأن محبة المسلمين للزهراء عليها‌السلام كانت أكثر من محبتهم لعليّ وأكثر من محبتهم للحسن والحسين وفوقها محبتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت إنه من المستبعد أن يقدم أحد على فعل ذلك ، مع الإقرار بوجود نوايا

__________________

(١) جنّة المأوى ص ٧٨ ـ ٨٦.

٤٩٦

سيئة ومبيتة ، ليس لبراءة فلان من الناس ، بل خوفا من أن يهيّج الرأي العام الإسلامي.

وفي هذا المجال ، هناك روايات مختلفة ، فبعضهم يقول : دخلوا المنزل ، والبعض الآخر يقول : لم يدخلوا ، فقلت : أنا أستبعد ذلك ولا أتعامل مع الكلمة نفسها ..» (١).

والخلاصة : أنه لا يتفاعل مع ما نسب إلى عمر لشيئين :

الأول : لأن المسلمين كانوا محبين للصدّيقة فاطمة عليها‌السلام أكثر من محبتهم للإمام عليّ ولولديها الإمامين الحسن والحسين ، بل إن محبتهم لرسول الله أكثر من محبتهم للسيّدة الزهراءعليها‌السلام.

الثاني : أن القوم لا يقدمون على فعلهم الشنيع خوفا من أن يهيج الرأي العام الإسلامي.

يورد عليه :

أولا :

إذا كانت محبة المسلمين لرسول الله أكثر من محبتهم لابنته فلم لم يراعوه بها ، ألا يحفظ المرء في ولده (٢)؟ ولما ذا تخاذل هؤلاء عن نصرة رسول الله يوم أحد منهزمين عنه هاربين إلى الجبل ، ولما ذا لم نجدهم يواجهون من قال عن رسول الله «إنه ليهجر»؟

وإذا كان المعتدون يحبون رسول الله أكثر من الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام فلما ذا أنكروا على رسول الله قبل وفاته بجرأة ليس لها نظير عند ما قال عمر مقالته المشئومة أمام حشود المسلمين غير مبال ولا خائف أن يثور الرأي العام ضده ، بل

__________________

(١) الزهراء المعصومة انموذج المرأة العالمية ص ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) أشارت مولاتنا الزهراء عليها‌السلام بخطبتها فقالت : أما كان رسول الله أبي يقول المرء يحفظ في ولده؟

٤٩٧

إن الكثيرين منهم وقفوا بجانب عمر ويقولون مقالته.

هذا مضافا إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم بالالتحاق بجيش أسامة فخالفوا أمره وقد لعن من تخلّف عن جيش أسامة ، فلم يصغوا بل عتوا واستكبروا استكبارا فهل كل هذا كان علامة محبة لرسول الله بنظر صاحب الدعوى؟

ثانيا :

إذا كان المسلمون ـ وفي طليعتهم أبي بكر وعمر ـ يحبونها ، فلما ذا أوصت الصدّيقة عليها‌السلام بأن لا يحضر أحد ممن ظلمها جنازتها؟! ولم يصلّ عليها إلّا الخواص من أصحاب أمير المؤمنين مما يدل على أن الكلّ وقفوا ضدها ، وعلى فرض أنهم يحبونها فلما ذا حرمتهم من هذا الأجر ، وحجزتهم عن نيل هذا الشرف؟!

ثالثا :

لو كان المسلمون يحبونها عليها‌السلام فلما ذا تركوها تتعرض للأذى والظلم ، ولما ذا تركوا زوجها أمير المؤمنين معرّضا لسهام ظلمهم؟! ولما ذا احتاج أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام إلى أن يدور بها على بيوت المهاجرين والأنصار لطلب نصرتهم ، فلم يلبّ من الأربعين إلّا أربعة أو خمسة؟!

رابعا :

إن دعوى إقدام القوم على الاعتداء عليها خوفا من الرأي العام الإسلامي مزحة لا يكاد يصدّقها عاقل ، إذ كيف يخافون من الرأي العام وهو تحت إمرتهم ، يقول ما يقولون ، بل عباد مكرمون يفعلون ما يؤمرون ، حيث إن الأغلبية يوم ذاك كانوا أصحاب مطامع ، من هنا كشف الله سبحانه عن واقعهم بقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٤.

٤٩٨

وهل خاف المعتدون من الرأي العام عند ما اغتصبوا الخلافة من أصحابها الشرعيين وسلبوا الصديقة الزهراء حقها من فدك؟! اللهم إلا إذا كان المشكك لا يعترف بأنّ الخلافة غصبت أو أنّ فدكا ليست ملكا شخصيا لمولاتنا الزهراء؟! وما عشت أراك الدهر عجبا!

خامسا :

ليت صاحب الدعوى دلّنا على ذاك البعض الذي قال إنهم لم يدخلوا دارها ، مع أن العامة مجمعون مع الخاصة على دخول عمر وزمرته إلى دارها ، وعلى فرض وجود شاذ «لا يقول بأنهم دخلوا» فلا يعوّل عليه لمعارضته للإجماع المبتني على الأخبار من الطرفين ، ولو لم يكن إلّا أخبارنا لكفى في الحجّية ، وعليه فكيف يقدّم ـ صاحب الدعوى ـ قول هذا البعض الشاذ من العامة على أخبارنا؟!!

* وأمّا كاشف الغطاء فهو بعد أن استفاض بما طفحت به كتب الشيعة منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا في ذكر مصائب الصدّيقة الطاهرة وبعلها وأولادها عليهم‌السلام إلّا أنه استدرك باستبعاده ضرب الطاهرة الزكية ولطم خدها حيث لا يقبله وجدانه ولا تقتنع به مشاعره لأن السجايا العربية تمنع بشدة أن تضرب المرأة ، ثم أيّد كلامه بما ورد عن أمير المؤمنين أن الرجل في الجاهلية كان إذا ضرب المرأة يبقى ذلك عارا في أعقابه ونسله.

وبالجملة : يبتني استبعاده على أمرين :

(١) أن السجايا العربية تمنع بشدة أن تضرب المرأة.

(٢) أنها لو ضربت ـ بنفسي هي وأمي وأبي ـ لكانت أشارت وذكرت ذلك في خطبها ومقالاتها المتضمنة لتظلّمها من القوم بغصبهم الخلافة وفدك ، وليس فيها إشارة إلى شيء من ضربة أو لطمة.

يورد عليه :

أولا : إذا كانت السجايا العربية والتقاليد الجاهلية التي ركزتها الشريعة

٤٩٩

وزادتها تأييدا تمنع بشدة أن تضرب المرأة أو تمد إليها يد سوء فلا يعني استحالة هذا الأمر منهم فيما إذا كان ثمة داع أقوى ، يدفع إلى ارتكاب أفظع الجرائم ، وهتك أعظم الحرمات ، لا سيّما إذا كان هذا الداعي هو شهوة الحكم والسلطة.

وعلى فرض وجود سجايا عربية تمنع من ضرب المرأة ، فلا مانع من أن يخرج من هذا العموم السائد في الجزرية آنئذ أفراد على نحو التخصيص (١) ، ولا ضير في أن يشذ بعض الأفراد عن الأعراف والتقاليد والأخلاق في كل عصر ومصر ، ولو كانوا يملكون وازعا دينيا أو أخلاقيا لما نعتوا النبي بالهجر ، بل لو كان العرب يمنعون من ضرب المرأة في الجاهلية فلم كانوا يدسّون بناتهم في التراب وهنّ أحياء وقد قال تعالى مستنكرا عليهم (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٢). ولو كانت السجايا العربية تمنع من ضرب المرأة ، فلم لم تمنع هذه السجايا ضرب الصدّيقة الصغرى زينب عليها‌السلام حيث جلدت بالسياط في كربلاء وكذلك بقية بنات الوحي معها ، ولم همّ ابن زياد لعنه الله بأن يبطش بابنة أمير المؤمنين عليّ فمنعه عمرو بن حريث لا لأن السجايا العربية تمنع من ضرب المرأة احتراما لها ، بل لأنها لا تؤاخذ بشيء من منطقها ـ حسب تعبير عمرو بن حريث ـ.

ويؤكد ما قلنا ما نقله المؤرخون من سمية والدة عمار ماتت تحت وطأة التعذيب في مكة من قبل أبي جهل لعنه الله ، بل يروى أنه طعنها في أسفلها ، ويروى أن عمر نفسه كان يعذّب جارية بني مؤمل أيضا ، فكان يضربها حتى إذا ملّ ، قال : إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلّا ملالة (٣).

ويروى أيضا أن عمر ضرب النساء اللواتي بكين على أبي بكر ، فكان أول من ضرب بالدرة ـ على حد تعبير ابن أبي الحديد ـ أم فروة بنت أبي قحافة لمّا مات

__________________

(١) التخصيص : إخراج بعض أفراد العام عن الحكم.

(٢) سورة التكوير : ٨ ـ ٩.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ١ / ٣٤١ والسيرة الحلبية ج ١ / ٣٠.

٥٠٠