أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

وما تنطق به كتب التواريخ والسّير ، فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق ، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار ، والبراءة من فاعله من أوكد عرى الإيمان ، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها ، وتهدّدها بالتّحريق من أوكد عرى الدين وأثبت دعائم الإسلام ، ومما أعزّ الله به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة ، والحرمتان واحدة ، والسّتران واحد ، وما نحبّ أن نقول لكم : إن حرمة فاطمة أعظم ، ومكانها أرفع ، وصيانتها لأجل رسول الله أولى ، فإنها بضعة منه ، وجزء من لحمه ودمه ، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج ، وإنما هي وصلة مستعارة ، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة ، وكما يملك رقّ الأمة بالبيع والشراء ... وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة ، وقد أجمع المسلمون كلّهم من يحبّها ومن لا يحبّها منهم أنها سيّدة نساء العالمين! ..» (١).

هذه نبذة مما ورد في كتب العامة حول التهديد بالإحراق ، وهناك الكثير يحصل عليه المتتبع.

وأما ما يدل على ذلك من كتب الشيعة الإمامية فكثير جدا ، على الرغم من حساسية الموضوع ، لظروف قاسية وأليمة ، عانى مؤرخو الإمامية منها الكثير يوم ذاك ، ومع هذا وصلنا الجم الغفير من تلكم النصوص الصحيحة والصريحة منها :

(١) قال سليم بن قيس «رضي الله عنه» (ولد عام ١١ للبعثة ، وتوفى ٧٦ ه‍):

«وانطلق ـ أي قنفذ لعنه الله تعالى ـ فاستأذن على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فأبى أن يأذن لهم ، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر ، وهما جالسان في المسجد والناس حولهما ، فقالوا : لم يؤذن لنا ، فقال عمر : اذهبوا فإن أذن لكم

__________________

(١) شرح النهج ج ٢٠ / ٢٧١.

٤٠١

وإلّا فادخلوا بغير إذن.

فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت «الصدّيقة» فاطمة عليها‌السلام : أحرّج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن ، فرجعوا وثبت قنفذ الملعون ، فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا ، فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن ، فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء؟! ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب ، فحملوا الحطب ، وحمل معهم عمر ، فجعلوه حول منزل عليّ وفاطمة وابناهما ، ثم نادى عمر حتى أسمع عليّا وفاطمة عليها‌السلام : والله لتخرجنّ يا عليّ ، ولتبايعنّ خليفة رسول الله ، وإلّا أضرمت عليك النار! فقالت فاطمة عليها‌السلام : يا عمر! ما لنا ولك؟ فقال : افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم ، فقالت : يا عمر أما تتقي الله ، تدخل عليّ بيتي؟!

فأبى أن ينصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ، ثم دفعه فدخل ..» (١).

وقال في موضع آخر :

«فلما افتتن الناس بالذي افتتنوا به من الرجلين ، فلم يبق إلّا عليّ وبنو هاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير ، قال عمر لأبي بكر : يا هذا إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر ، فابعث إليه ، فبعث إليه ابن عمّ لعمر يقال له قنفذ ، فقال : انطلق إلى عليّ فقل له : أجب خليفة رسول الله فانطلق فأبلغه فقال عليّ عليه‌السلام : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله وارتددتم ، والله ما استخلف رسول الله غيري ، فارجع يا قنفذ فإنما أنت رسول ، فقل له قال لك عليّ : والله ما استخلفك رسول الله وأنك لتعلم من خليفة رسول الله ، فأقبل قنفذ إلى أبي بكر فبلّغه الرسالة ، فقال أبو بكر : صدق عليّ! ما استخلفني رسول الله ، فغضب عمر ووثب وقام ، فقال أبو بكر : اجلس ثم قال لقنفذ : اذهب إليه ... إلى أن قال :

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس الهلالي ص ٧٥ ط / دار الإرشاد الإسلامي ـ بيروت ١٩٩٤ م.

٤٠٢

فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر ، فوثب عمر غضبان ، فنادى خالد بن الوليد وقنفذا ، فأمرهما أن يحملا حطبا ونارا ، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب عليّ وفاطمة عليها‌السلام ، وفاطمة قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله ، فأقبل عمر ، حتى ضرب الباب ثم نادى : يا ابن أبي طالب! افتح الباب ، فقالت فاطمة : يا عمر ، ما لنا ولك ، لا تدعنا وما نحن فيه؟!

قال : افتحي الباب وإلّا أحرقناه عليكم! فقالت : يا عمر أما تتقي الله عزوجل ، تدخل بيتي وتهجم على داري؟! فأبى أن ينصرف.

ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب ، ثم دفعه عمر فاستقبلته فاطمة وصاحت : يا أبتاه يا رسول الله! فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت ، فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت : يا أبتاه! فوثب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأخذ بتلابيب عمر ، ثم هزّه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته ، وهمّ بقتله ، فذكر قول رسول الله وما أوصى به من الصبر والطاعة ، فقال : والذي كرّم محمّدا بالنبوة يا ابن صهاك ، لو لا كتاب من الله سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي فأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار ، وسلّ خالد بن الوليد السيف ليضرب فاطمة عليها‌السلام فحمل عليه بسيفه ، فأقسم ـ أي خالد ـ على عليّ عليه‌السلام إلّا كف ...»(١).

(٢) قال المؤرخ والنسّابة المسعودي الهذلي (المتوفى عام ٣٤٦ ه‍):

«وبايع عمر بن الخطاب أبا بكر ، وصفق على يديه ، ثم بايعه قوم ممن قدم المدينة ذلك الوقت من الأعراب والمؤلفة قلوبهم (٢) ، وتابعهم على ذلك غيرهم ،

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ص ٢٣١ ط / دار الإرشاد ، وج ٢ / ٨٦٢ تحقيق محمد باقر الأنصاري ط / قم نشر الهادي ١٤١٦ ه‍.

(٢) من هنا يعرف أن الحلف الثنائي جلب الأعوان والأنصار للانقلاب على خليفة الله أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، حيث إن قدوم هؤلاء إلى المدينة كان مخططا له قبل وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٠٣

واتصل الخبر بأمير المؤمنين عليه‌السلام بعد فراغه من غسل رسول الله وتحنيطه وتكفينه وتجهيزه ودفنه بعد الصلاة عليه مع من حضر من بني هاشم ، وقوم من صحابته مثل سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وأبي بن كعب وجماعة نحو أربعين رجلا ، فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

إن كانت الإمامة في قريش فأنا أحق قريش بها ، وإن لم تكن في قريش فالأنصار على دعواهم ، ثم اعتزلهم ودخل بيته ، فأقام فيه ومن اتبعه من المسلمين وقال : إن لي في خمسة من النبيّين أسوة ، نوح إذ قال : إني مغلوب فانتصر ، وابراهيم إذ قال : واعتزلكم وما تدعون من دون الله ، ولوطا إذ قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ، وموسى إذ قال : ففررت منكم لمّا خفتكم ، وهارون إذ قال : إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. ثم ألّف عليه‌السلام القرآن وخرج إلى الناس ، وقد حمله في إزار معه .. فقال لهم : هذا كتاب الله قد ألّفته كما أمرني وأوصاني رسول الله كما أنزل ، فقال له بعضهم : اتركه وامض ، فقال لهم : إن رسول الله قال لكم : إني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فإن قبلتموه فاقبلوني معه أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله ، فقالوا ؛ لا حاجة لنا فيه ولا فيك ، فانصرف به معك ، لا تفارقه ولا يفارقك ، فانصرف عنهم فأقام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله فوجهوا إلى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كرها ، وضغطوا سيّدة النساء بالباب حتى أسقطت محسنا ، وأخذوه بالبيعة فامتنع ، وقال : لا أفعل ، فقالوا : نقتلك ، فقال : إن تقتلوني فإني عبد الله وأخو رسوله ، وبسطوا يده فقبضها ، وعسر عليهم فتحها ، فمسحوا عليها وهي مضمومة ...» (١).

(٣) وقال أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي (٢٥٨ ـ ٣٣٤ ه‍):

«ثم تبتدئ فاطمة عليها‌السلام بشكوى ما نالها من أبي بكر وعمر من أخذ فدك

__________________

(١) إثبات الوصية ص ١٥٤ ط / دار الأضواء.

٤٠٤

منها ومشيها إليهم في مجمع الأنصار والمهاجرين وخطابها إلى أبي بكر في أمر فدك وما ردّ عليها من قوله إن الأنبياء لا وارث لهم واحتجاجها بقول الله عزوجل بقصة زكريا ويحيى (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (١) وقوله بقصة داود وسليمان : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٢) وقول عمر لها هاتي صحيفتك التي ذكرت إن أباك كتبها لك على فدك وإخراجها الصحيفة وأخذ عمر إياها منها ونشره لها على رءوس الأشهاد من قريش والمهاجرين والأنصار وسائر العرب وتفله فيها وعركه لها وتمزيقه إياها وبكاءها ورجوعها إلى قبر أبيها باكية تمشي على رمضاء وقد أقلقتها ، واستغاثتها بأبيها وتمثلها بقول رقية بنت صفية :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ أهلك (٣) واختلّت بها الرّيب

أبدى رجال لنا ما في صدورهم

لما نأيت وحالت دونك الحجب

لكلّ قوم لهم قربى ومنزلة

عند الإله عن الأدنين مقترب

يا ليت بعدك كان الموت حلّ بنا

أملوا أناس [أناسا] ففازوا بالذي طلبوا

وتقص عليه قصة أبي بكر وإنفاذ خالد بن الوليد وقنفذ وعمر جميعا لإخراج أمير المؤمنينعليه‌السلام من بيته إلى البيعة في سقيفة بني ساعدة واشتغال أمير المؤمنين وضمّ أزواج رسول الله وتعزيتهنّ وجمع القرآن وتأليفه وإنجاز عداته وهي ثمانون ألف درهم باع فيها تالده وطارفه وقضاها عنه وقول عمر له : «اخرج يا عليّ إلى ما أجمع عليه المسلمون من البيعة لأمر أبي بكر فما لك أن تخرج عمّا اجتمعنا عليه فإن لم تخرج قتلناك». وقول فضة جارية فاطمة عليها‌السلام : «إنّ أمير المؤمنين عنكم

__________________

(١) سورة مريم : ٥ ـ ٦.

(٢) سورة النمل : ١٦.

(٣) في نسخة الاحتجاج ج ١ / ١٢٣ و ١٤٥ : «واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب» مع وجود اختلاف ببعض الألفاظ ببقية الأبيات ، وما في الاحتجاج أضبط.

٤٠٥

مشغول والحقّ له لو أنصفتموه واتقيتم الله ورسوله» وسبّ عمر لها وجمع الحطب الجزل على النار لإحراق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب ورقية وأم كلثوم وفضّة وإضرامهم النار على الباب وخروج فاطمة عليها‌السلام وخطابها لهم من وراء الباب وقولها : «ويحك يا عمر ما هذه الجرأة على الله ورسوله ، تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتفنيه وتطفئ نور الله والله متمّ نوره» وانتهاره لها وقوله : «كفى يا فاطمة فلو أنّ محمّدا حاضر والملائكة تأتيه بالأمر والنهي والوحي من الله وما عليّ إلا كأحد من المسلمين فاختاري إن شئت خروجه إلى بيعة أبي بكر وإلّا أحرقكم بالنار جميعا». وقولها له : «يا شقي عديّ ، هذا رسول الله لم يبل له جبين في قبره ولا مسّ الثرى أكفانه» ، ثم قالت وهي باكية : «اللهم إليك نشكو فقد نبيّك ورسولك وصفيّك وارتداد أمته ومنعهم إيانا حقّنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيّك بلسانه» وانتهار عمر لها وخالد بن الوليد وقولهم : «دعي عنك يا فاطمة حماقة النساء فكم يجمع الله لكم النبوة والرسالة» وأخذ النار في خشب الباب وأدخل قنفذ لعنه الله يده يروم فتح الباب وضرب عمر لها بسوط أبي بكر على عضدها حتى صار كالدملج الأسود المحترق وأنينها من ذلك وبكاها وركل عمر الباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حاملة بمحسن لستة أشهر وإسقاطها وصرختها عند رجوع الباب وهجوم عمر وقنفذ وصفقة عمر على خدها حتى أبرى قرطها تحت خمارها فانتثر وهي تجهر بالبكاء تقول : «يا أبتاه يا رسول الله ابنتك فاطمة تضرب ويقتل جنين في بطنها وتصفق ، يا أبتاه ، ويسقف خدّ [لما] لها كنت تصونه من ضيم الهوان يصل إليه من فوق الخمار» وضربها بيدها على الخمار لتكشفه ورفعها ناصيتها إلى السماء تدعو الله تعالى ..» (١).

وقال في موضع آخر :

«وروي أنها تكفنت من بعد غسلها وحنوطها وطهارتها لا دنس فيها ، وأنها لم يكن يحضرها إلا أمير المؤمنين والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة

__________________

(١) الهداية الكبرى / الخصيبي ص ٤٠٦.

٤٠٦

جاريتها وأسماء ابنة عميس ، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام جهّزها ومعه الحسن والحسين في الليل ، وصلّوا عليها وأنها وصّت ، وقالت لا يصلّي عليّ أمة نقضت عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يعلم بها أحدا ، ولا حضر وفاتها أحد ، ولا صلّى عليها من سائر الناس غيرهم ، لأنها وصّت عليه‌السلام ، وقالت : لا يصلّي عليّ أمة نقضت عهد الله وعهد أبي رسول الله وأمير المؤمنين بعلي وظلموني وأخذوا وراثتي وحرقوا صحيفتي التي كتبها أبي بملك فدك والعوالي ، وكذّبوا شهودي وهم والله جبرائيل وميكائيل وأمير المؤمنين وأم أيمن ، وطفت عليهم في بيوتهم ، وأمير المؤمنين يحملني ومعي الحسن والحسين ليلا ونهارا إلى منازلهم يذكرهم بالله ورسوله لئلا يظلمونا ويعطونا حقنا الذي جعله الله لنا فيجيبون ليلا ويقعدون عن نصرتنا نهارا ، ثم ينفذون إلى دارنا قنفذا ومعه خالد بن الوليد ليخرجا ابن عمي إلى سقيفة بين ساعدة لبيعتهم الخاسرة ، ولا يخرج إليهم متشاغلا بوصية رسول الله وأزواجه وتأليف القرآن وقضاء ثمانين ألف درهم وصّاه بقضائها عنه عدات ودينا ، فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت فأخذت بعضادتي الباب ، وقلت : ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفّوا عنا وتنصرفوا ، فأخذ عمر السوط من قنفذ مولى أبي بكر ، فضرب به عضدي ، فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج ، وركل الباب برجله فردّه عليّ وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر ، وصفق وجهي بيده حتى انتثر قرطي من أذني ، وجاءني المخاض ، فأسقطت محسنا قتيلا بغير جرم ، فهذه أمة تصلي عليّ؟ وقد تبرأ الله ورسوله منها وتبرأت منها ..» (١).

(٤) وقال السيد المرتضى (المتوفى ٤٣٦ ه‍) في ردّه على أبي عليّ القاضي عبد الجبار المعتزلي الذي أنكر ضرب عمر للصدّيقة الطاهرة الزكية :

«وبعد ، فلا فرق بين أن يهدّد بالإحراق للعلة التي ذكرها وبين ضرب فاطمة عليها‌السلام لمثل هذه العلّة ، فإن إحراق المنازل أعظم من ضربه بالسوط وما يحسن الكبير ممن أراد الخلاف على المسلمين أولى بأن يحسن الصغير فلا وجه

__________________

(١) الهداية الكبرى ص ١٧٨ و ١٧٩ ط / مؤسسة البلاغ ١٩٩١ الطبعة الرابعة.

٤٠٧

لامتعاض صاحب الكتاب من ضربة السوط وتكذيب ناقلها وعنده مثل هذا الاعتذار» (١).

(٥) وروى الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍) بسند معنعن إلى مروان بن عثمان قال :

لمّا بايع الناس أبا بكر دخل عليّ عليه‌السلام والزبير والمقداد بيت فاطمة عليها‌السلام ، وأبوا أن يخرجوا ، فقال عمر بن الخطاب : أضرموا عليهم البيت نارا ، فخرج الزبير ومعه سيفه ، فقال أبو بكر ؛ عليكم بالكلب فقصدوا نحوه ، فزلّت قدمه وسقط إلى الأرض ووقع السيف من يده ، فقال أبو بكر : اضربوا به الحجر ، فضرب بسيفه الحجر حتى انكسر ، وخرج عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام نحو العالية ، فلقيه ثابت بن قيس شمّاس ، فقال : ما شأنك يا أبا الحسن؟ فقال : أرادوا أن يحرقوا عليّ بيتي وأبو بكر على المنبر يبايع له ، ولا يدفع عن ذلك ، ولا ينكره ، فقال له ثابت : ولا تفارق كفي يدك حتى أقتل دونك ، فانطلقا جميعا حتى عادا إلى المدينة ، وإذ فاطمة عليها‌السلام واقفة على بابها ، وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول : لا عهد لي بقوم أسوأ محضرا منكم ، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا وصنعتم ما صنعتم ولم تروا لنا حقا (٢).

وروى المفيد أيضا عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه ، عن جده قال : ما أتى على عليّعليه‌السلام يوم قط أعظم من يومين أتياه ، فأمّا أوّل يوم ، فاليوم الذي قبض فيه رسول الله ، وأمّا اليوم الثاني فو الله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر والناس يبايعونه إذ قال له عمر : يا هذا لم تصنع شيئا ما لم يبايعك عليّ فابعث إليه حتى يأتيك فيبايعك ، قال : فبعث قنفذا ، فقال له : أجب خليفة رسول الله ، قال عليّ عليه‌السلام : لأسرع ما كذبتم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما خلّف رسول الله أحدا غيري ، فرجع قنفذ وأخبر أبا بكر بمقالة عليّ عليه‌السلام ، فقال أبو بكر : انطلق

__________________

(١) الشافي للمرتضى ج ٤ / ١٢٠ ط / مؤسسة الصادق ، طهران.

(٢) أمالي المفيد / المجلس السادس ص ٤٩ ح ٩.

٤٠٨

إليه فقل له : يدعوك أبو بكر ويقول : تعال حتى تبايع ، فإنما أنت رجل من المسلمين ، فقال عليّ عليه‌السلام : أمرني رسول الله أن لا أخرج بعده من بيتي حتى أؤلّف الكتاب ، فإنه في جرائد النخل وأكتاف الإبل فأتاه قنفذ وأخبره بمقالة عليّ عليه‌السلام ، فقال عمر : قم إلى الرجل ، فقام أبو بكر وعمر وعثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وأبو عبيدة بن الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة ، وقمت معهم ، وظنت فاطمة عليها‌السلام أنه لا تدخل بيتها إلّا بإذنها ، فأجافت الباب وأغلقته ، فلما انتهوا إلى الباب ضرب عمر الباب برجله فكسره ـ وكان من سعف ـ فدخلوا على عليّ عليه‌السلام وأخرجوه ملبّبا.

فخرجت فاطمة عليها‌السلام فقالت : يا أبا بكر وعمر تريدان أن ترملاني من زوجي ، والله لئن لم تكفّا عنه لأنشرنّ شعري ولأشقنّ جيبي ولآتينّ قبر أبي ولأصيحنّ إلى ربي ، فخرجت وأخذت بيد الحسن والحسين عليهما‌السلام متوجهة إلى القبر ، فقال عليّ عليه‌السلام لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمّد فإني أرى جنبتي المدينة تكفئان (١) ، فو الله لئن فعلت لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها ، قال : فلحقها سلمان فقال : يا بنت محمّد إن الله تبارك وتعالى إنما بعث أباك رحمة فانصرفي ، فقالت : يا سلمان ما عليّ صبر فدعني حتى آتي قبر أبي ، فأصيح إلى ربي (٢) ، قال سلمان : فإن عليّا عليه‌السلام بعثني إليك وأمرك بالرجوع ، فقالت : أسمع له وأطيع (٣) فرجعت ، وأخرجوا عليّا ملبّبا قال : وأقبل الزبير مخترطا سيفه وهو يقول : يا معشر بني عبد المطلب أيفعل بعليّ وأنتم أحياء وشدّ على عمر ليضربه بالسيف فرماه خالد بن الوليد بصخرة فأصاب قفاه ، وسقط السيف من يده فأخذه

__________________

(١) كيف لا تكفئان والله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها؟!

(٢) أي والله ـ بنفسي هي وأبي وأمي ـ حق لها أن تصيح لشدة ما لاقت من الظلم ولا ناصر لها ولا معين!

(٣) لا يظنن أحد أن سلمان أراد أن يعلّمها فأمرها بالرجوع إلى دارها ، وإنما كان مأمورا من قبل أمير المؤمنين بأن يبلغ الصدّيقة الطاهرة ، من هنا عند ما قال لها سلمان إن الإمام عليه‌السلام بعثني إليك ، قالت : سمعا له وطاعة ، دفعا للتصور المذكور.

٤٠٩

عمر وضربه على صخرة فانكسر ومرّ عليّ عليه‌السلام على قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اي ابن أمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، وأتي بعليّ عليه‌السلام إلى السقيفة إلى مجلس أبي بكر ، فقال له عمر : بايع ، قال : فإن لم أفعل فمه؟ قال : إذا والله نضرب عنقك ، قال عليّ عليه‌السلام : إذا والله أكون عبد الله وأخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقتول ، فقال عمر : أما عبد الله المقتول فنعم ، وأما أخا رسول الله فلا ـ حتى قالها ثلاثا ـ وأقبل العبّاس فقال : يا أبا بكر ارفقوا بابن أخي ، فلك عليّ أن يبايعك ، فأخذ العبّاس بيد «الإمام» عليّ عليه‌السلام فمسحها على يدي أبي بكر ، وخلّوا عليّا مغضبا فرفع رأسه إلى السماء ثم قال : اللهم إنك تعلم أن النبيّ الأمي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي : إن تمّوا عشرين فجاهدهم ، وهو قولك في كتابك (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) اللهم إنهم لم يتمّوا ـ حتى قالها ثلاثا ـ ثم انصرف (١).

(٦) قال شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (قدس‌سره) (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍):

«ومما أنكر عليه ـ أي أبي بكر ـ ضربهم لفاطمة عليها‌السلام ، وقد روي : أنهم ضربوها بالسياط ، والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة : أن عمر ضرب على بطنها حتى أسقطت ، فسمي السقط (محسنا) ، والرواية بذلك مشهورة عندهم ، وما أرادوا من إحراق البيت عليها ، حين التجأ إليها قوم وامتنعوا عن بيعته ..» (٢).

وروى أعلى الله مقامه الشريف في موضع آخر عدة نصوص منها :

ما عن البلاذري والمدائني عن مسلمة بن محارب عن سليمان التميمي عن أبي عون : أن أبا بكر أرسل إلى علي عليه‌السلام يريده على البيعة ، فلم يبايع ـ ومعه قبس ـ فتلقته فاطمة عليها‌السلام على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب ، أتراك محرقا عليّ بابي؟ قال : نعم وذلك أقوى فيما جاء به أبوك ، وجاء عليّ فبايع (٣).

__________________

(١) الاختصاص / الشيخ المفيد ص ١٨٥ حديث سقيفة بني ساعدة.

(٢) تلخيص الشافي ج ٣ / ١٥٦ ط / دار الكتب الإسلامية ، الطبعة الثالثة ، قم.

(٣) تلخيص الشافي ج ٣ / ٧٦ ، والمراد بالبيعة : أي الالتزام بمصافحة أبي بكر ، وإلّا فإن البيعة لا تتم ـ

٤١٠

ـ ومنها ما رواه ابراهيم بن سعيد الثقفي قال : حدثني أحمد بن عمرو البجلي قال : حدثنا أحمد بن حبيب العامري عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله جعفر بن محمد قال : والله ما بايع عليّ حتى رأى الدخان قد دخل بيته (١).

٧ ـ وروى الشيخ الطبرسي (المتوفى عام ٦٢٠ ه‍):

«فقال ـ أي عمر ـ إن أذن لكم ـ (أي أمير المؤمنين عليه‌السلام) ـ وإلّا فادخلوا عليه بغير إذنه ، فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : أحرّج عليكم أن تدخلوا بيتي بغير إذن ، فرجعوا وثبت قنفذ ، فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا فحرّجتنا أن ندخل البيت بغير إذن منها ، فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء ، ثم أمر أناسا حوله فحملوا حطبا وحمل معهم فجعلوه حول منزله وفيه عليّ وفاطمة وابناهما عليهم‌السلام ، ثم نادى عمر حتى أسمع عليّا عليه‌السلام : والله لتخرجنّ ولتبايعنّ خليفة رسول الله أو لأضرمنّ عليك بيتك نارا ، ثم رجع فقعد [ظ : قنفذ] إلى أبي بكر وهو يخاف أن يخرج عليّ بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته ، ثم قال لقنفذ : إن خرج وإلّا فاقتحم عليه ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم نارا.

فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر عليّ إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه ، فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه وألقوا في عنقه حبلا أسود ، وحالت فاطمةعليها‌السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنفذ بالسوط على عضدها ، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج (٢) من ضرب قنفذ إياها ، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ : اضربها فألجأها إلى عضادة باب بيتها ، فدفعها فكسر ضلعا من جنبها وألقت جنينا من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة صلوات الله عليها.

__________________

ـ إلا عن اختيار ورضا ، وهما غير حاصلين عند أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأن الخلافة نص وليست ترشيحا.

(١) تلخيص الشافي ج ٣ / ٧٦.

(٢) الدملوج : حلي يلبس في المعصم.

٤١١

ثم انطلقوا بعليّ عليه‌السلام ملببا بحبل حتى انتهوا به إلى أبي بكر وعمر قائم بالسيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حصين وبشير بن سعد وسائر الناس قعود حول أبي بكر عليهم السلاح ، وهو يقول أما والله لو وقع سيفي بيدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إليّ ، هذا جزاء مني وبالله لا ألوم نفسي في جهد ولو كنت في أربعين رجلا لفرقت جماعتكم ، فلعن الله قوما بايعوني ثم خذلوني ، فانتهره عمر فقال : بايع ، فقال : وإن لم أفعل؟ قال : إذا نقتلك ذلا وصغارا ..» (١).

٨ ـ وروى الشيخ محمد باقر المجلسي أعلى الله مقامه الشريف (١٠٣٧ ـ ١١١١ ه‍) أخبارا كثيرة نقلا عن المصادر المعتبرة كأمالي الشيخ والشافي والتلخيص والاحتجاج وتفسير العياشي والاختصاص وبصائر الدرجات.

فقد روي عن العياشي عمّن روى عنه قال :

«.. فلما قبض نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان الذي كان ، لما قد قضي من الاختلاف ، وعمد عمر فبايع أبا بكر ، ولم يدفن رسول الله بعد ، فلمّا رأى ذلك عليّ عليه‌السلام ورأى الناس قد بايعوا أبا بكر ، خشي أن يفتتن الناس ففرغ إلى كتاب الله وأخذ يجمعه في مصحف ، فأرسل أبو بكر إليه أن تعال فبايع ، فقال عليّ عليه‌السلام : لا أخرج حتّى أجمع القرآن ، فأرسل إليه مرة أخرى فقال : لا أخرج حتى أفرغ ، فأرسل إليه الثالثة عمر رجلا يقال له قنفذ ، فقامت بنت رسول الله صلوات الله عليها تحول بينه وبين عليّ عليه‌السلام فضربها ، فانطلق قنفذ ، وليس معه عليّ ، فخشي أن يجمع عليّ الناس ، فأمر بحطب فجعل حوالي بيته ثم انطلق عمر بنار فأراد أن يحرق على عليّ بيته وعلى فاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، فلما رأى عليه‌السلام ذلك خرج فبايع كارها غير طائع(٢).

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٨ / ٢٣١ ح ١٦.

٤١٢

وفي رواية المفضل بن عمر قال : قال عمر : اخرج يا عليّ إلى ما أجمع عليه المسلمون وإلّا قتلناك ، وقول فضة جارية فاطمة : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام مشغول والحقّ له إن أنصفتم من أنفسكم وأنصفتموه ، وجمعهم الجزل والحطب على الباب لإحراق بيت أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة ، وإضرامهم النار على الباب ، وخروج فاطمة إليهم وخطابها لهم من وراء الباب (١).

٩ ـ وروي عن العلّامة الحسن بن يوسف المطهر الحلي قدس‌سره (٦٤٨ ـ ٧٣٦ ه‍) قال : أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ عليه‌السلام فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ للبيعة (٢).

ثم روى (٣) الحلي أعلى الله مقامه الشريف عدة أخبار عن الطبري والواقدي وابن خيزرانة وابن عبد ربه.

وبالجملة : إن هجوم عمر على دار سيّدة الطهر مولاتنا فاطمة عليها‌السلام وعزمه على إحراقها بمن فيها لا مجال لنكرانه ، فقد رواه عامة المؤرخين من العامة ـ حسبما تقدم في بحثنا هذا ـ ومما يدل أيضا على ذلك : اعتراف الخصم بذلك ، فذاك القاضي عبد الجبّار شيخ المعتزلة يردّ على الشيعة معترضا عليهم بقوله : «إن حديث الإحراق ما صح ، ولو صح لم يكن طعنا لأن له ـ أي لعمر ـ أن يهدّد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين» (٤).

وردّ عليه السيّد المرتضى عليه الرحمة في الشافي :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٣ / ١٨.

(٢) نفس المصدر ج ٢٨ / ٣٣٨ ح ٥٩ ونهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص ٢٧٠ ط / مؤسسة دار الهجرة ، قم.

(٣) كشف الصدق ص ٢٧١.

(٤) الشافي ج ٤ / ١١٩.

٤١٣

أولا : بأن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة ممن لا يتّهم على القوم ، وأن دفع الروايات من غير حجة لا يجدي شيئا ، فروى البلاذريّ وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة ، والضبط لما يرويه معروفة ، عن المدائني عن سلمة بن محارب عن سليمان التيمي عن ابن عون : أن أبا بكر أرسل إلى عليّ عليه‌السلام يريده على البيعة فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه قبس فلقيته فاطمةعليها‌السلام على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب أتراك محرقا عليّ داري؟ قال : نعم وذلك أقوى فيما جاء به أبوك ..

وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة ، وإنما الطريف أن يرويه شيوخ محدّثي العامة.

وروى إبراهيم بن سعيد الثقفي بإسناده عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام قال : والله ما بايع عليّعليه‌السلام حتى رأى الدخان قد دخل بيته.

ثانيا : بأن من اعتذر به من حديث الإحراق إذا صحّ ، طريف وأيّ عذر لمن أراد أن يحرق على أمير المؤمنين وفاطمة عليهما‌السلام منزلهما ، وهل يكون في ذلك علّة تصغى إليه ، وإنما يكون مخالفا للمسلمين ، وخارقا لإجماعهم ، إذا كان الإجماع قد تقرّر وثبت ، وإنما يصحّ لهم الإجماع متى كان أمير المؤمنين ومن قعد معه عن البيعة ممن انحاز إلى بيت فاطمة عليها‌السلام داخلا فيه وغير خارج عنه ، وأيّ إجماع يصح من خلاف أمير المؤمنين عليه‌السلام وحده فضلا عن أن يتابعه غيره ، وهذه زلته من صاحب الكتاب ـ أي كتاب المغني ـ وممن حكى احتجاجه (١).

ثالثا : إن التهديد بإحراق الدار من أجل البيعة غير جائز عقلا ونقلا :

أمّا عقلا : فلأن المبايعة قهرا توجب كبت الحريات وقمع الأفكار ، وتقديم المفضول على الأفضل وهو قبيح. وأمّا شرعا : فلأن أبا بكر ليس منصوصا عليه ،

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ١١٩ ـ ١٢٠ وبحار الأنوار ج ٢٨ / ٣١١.

٤١٤

فكيف تؤخذ له البيعة ، وهو نفسه قد بايع أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام يوم غدير خم ، هذا مضافا إلى أن إكراه الناس لا سيّما سيّدهم وأميرهم عليّ المرتضى وزوجه المطهّرة فاطمة عليها‌السلام اللذين يدور الحق معهما حيثما دارا يوجب الكفر والارتداد ، عدا عن أنه لا يحق إكراه الناس على قبول الدين حتى اليهود والنصارى وعبدة الأوثان (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فكيف إذا كانت البيعة لغير الدين ، وهل يأمر الدين الشيخين أبا بكر وعمر أن يجبرا الناس على مبايعتهما في حين أن الله لم يكره الناس على الدين ، وإذا كان كذلك فلم لم يجبرا اليهود والنصارى على غير البيعة ، وهل أن الله سبحانه فوّض أمر دينه للشيخين؟ وهل البيعة أهم من الدعوة إلى نبذ الوثنية ، وإذا كان كذلك فما بال الشيخين لم يشاركا في معركة أيام الدعوة إلى الإسلام ومحاربة الوثنية وعبادة الأصنام؟!!

فإن قيل : إن البيعة لأجل إقامة الدين.

قلنا : إن البيعة التي تمت في عهد أبي بكر لم يأمر الله تعالى بها حتى يدّعى أنها لإقامة الدين ، بل هي بهذا الوصف لإبليس اللعين ، مع أن الله تعالى قد أمر يوم غدير خم بالبيعة لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فإقامة بيعة أخرى بالقهر والاضطهاد بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.

وعلى فرض أن بيعة أبي بكر كانت للدين ـ وحاشا أن تكون كذلك ـ فهل كان قهر أمير المؤمنين ومن أحبّ الله ورسوله ، وأحبه الله ورسوله من إقامة الدين؟ وكذا قهر زوجه الزهراء التي كان رسول الله يقبّل يدها ويقوم من مجلسه لها ويغضبه ما يغضبها ويرضيه ما يرضيها؟!

فإذا كانت البيعة للدين ، فأهل البيت عليهم‌السلام الذين أراد قهرهم أبو بكر على البيعة هم أساس الدين ، وفي بيتهم نزل الكتاب المبين وطهّرهم في محكم التنزيل ، فكيف يسوغ لعمر بن الخطاب أن يهدّدهم بالإحراق وبيوتهم مهبط الوحي والتنزيل؟!

٤١٥

تبا ليد حملت قبس نار لتحرق بيوت الله تعالى ، وتعسا لسواعد أرادت طمس معالم الحق ، وهي تدّعي أنّها على سنّة نبيّه وهديه!

النقطة الثانية :

الدخول إلى الدار.

وهو متفق عليه بين جميع المؤرخين من الطرفين ، وأظن أنّ الشاكّ فيه يكون شاكا في المسلّمات التاريخية! ..

(١) قال ابن قتيبة الدينوري :

«... وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليّا عليه‌السلام فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له : بايع ..» (١).

والإخراج ملازم لدخول الدار بلا إشكال.

(٢) وقال الطبري :

«أن عمر أتى منزل عليّ عليه‌السلام وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف ..».

وقال في موضع ثان :

«فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال : لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان ..» (٢).

ومعلوم أن انطلاقة عمر إنما كانت إلى منزل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام لا لمكان آخر سواه.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ج ١ / ٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

٤١٦

(٣) قال ابن الأثير :

«.. إن جماعة من الأنصار قالوا : لا نبايع إلّا عليّا وقد تخلّف عليّ عليه‌السلام وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة ، وقال الزبير : لا أغمد سيفا حتى يبايع عليّ ، فقال عمر : خذوا سيفه واضربوا به الحجر ، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة ..» (١).

(٤) روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن أبي زيد عمر بن شبّة ، عن إبراهيم بن المنذر ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، قال : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب عليّ والزبير ، فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة ، فيهم أسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن قريش ، وهما من بني عبد الأشهل ، فاقتحما الدار ، فصاحت فاطمة وناشدتهما الله ، فأخذوا سيفيهما فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما ، فأخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا ، ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، فاعتذر إليهم وقال : إن بيعتي كانت فتلة وقى الله شرها ، وخشيت الفتنة» (٢).

وروى مثله عن الشعبي وقد تقدم مصدره.

(٥) قال اليعقوبي :

«وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في منزل فاطمة بنت رسول الله فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار وخرج الإمام عليّعليه‌السلام .. فخرجت فاطمة عليها‌السلام وقالت : والله لتخرجنّ أو لأكشفنّ شعري ولأعجنّ إلى الله ، فخرجوا وخرج من كان في الدار» (٣).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٢٥.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٦ / ٢٠٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٢٦.

٤١٧

ملاحظة :

ليس المقصود من كشف شعرها روحي فداها أنها أرادت أن تكشفه أمام الرجال المقتحمين دارها ـ حسبما سمعته من بعض المشكّكين ـ حاشاها ـ بأبي وأمي ـ كيف! وهي الكاملة الطاهرة المطهّرة ، تتنزه عن هذا الفعل أبسط النساء المتدينات ، فكيف بسيّدة نساء العالمين!

(٦) اعتراف أبي بكر بكشفه دار الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، حيث ندم وهو على فراش الموت على فعلته الشنعاء فقال :

«إني لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث أني تركتهنّ ... إلى أن قال : فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب» (١).

إن مقاله الأخير «وإن كانوا قد غلّقوه ..» يكشف عن سوء عقيرته ، وأنه ينفث عن حقد على آل بيت النبوة ، إنّ أبا بكر يقلب الحقائق بذيل كلامه ، إذ لو غلّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بيته على حرب لما كان أمكنهم الدخول إلى داره ، وهم يعلمون شدة بطشه وقوة جنانه ، ومن ذا يقدر على مواجهة مولى الثّقلين عليّ المرتضى عليه‌السلام إلّا إذا كان متهورا ويحب الانتحار ، لكنّ القوم لمّا عرفوا أنه موصى تجرءوا على ذلك الطود الشامخ ، هيكل القداسة والعظمة أمير المؤمنين عليّ روحي فداه ، لذا قادوه كما يقاد الجمل المخشوش ، من هنا كان سوقه إلى أبي بكر سوقا عنيفا امتحانا لهذه الأمة المتخاذلة التي وقفت تنظر إلى المظلومية بعين الرضا والطمع والتملق إلى خليفتهم أبي بكر (إن الطيور على أشكالها تقع) ، ولا أحد يحرّك ساكنا ليرفع الضيم عن ذاك الطود العظيم الذي طالما أعزّ به الإسلام والمسلمين ، وطالما أعطى كل ما لديه لنصرة الدين ، لكنه كوفئ بالقهر

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٦١٩ والأموال لأبي عبيد ص ١٣١ والإمامة والسياسة ج ١ / ٣٦ والمسعودي في مروج الذهب ج ١ / ٤١٤ والعقد الفريد لابن عبد ربه ج ٢ / ٢٥٤.

٤١٨

والاعتداء ، وصدق عدي بن حاتم حينما قال :

«والله ما رحمت أحدا قط رحمتي على عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حين أتي به ملبّبا بثوبه ، يقودونه إلى أبي بكر ..» (١).

وقد روى قصة الاقتحام إلى دار الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام عامة مؤرخي الإمامية ، بل إننا ندّعي الإجماع على ذلك ، وما تقدّم في النقطة الأولى يجري هنا في هذه النقطة بالذات ، ونؤكد أن:

١ ـ الشيخ الجليل سليم بن قيس «أعلى الله مقامه الشريف» قال :

«قال عمر للصدّيقة الطاهرة : افتحي الباب وإلّا أحرقنا عليكم بيتكم ، فقالت : يا عمر أما تتقي الله ، تدخل عليّ بيتي؟

فأبى أن ينصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ، ثم دفعه فدخل ، فاستقبلته فاطمةعليها‌السلام وصاحت : يا أبتاه! يا رسول الله ، فرفع السوط فضرب به ذراعها ..» (٢).

٢ ـ الشيخ الجليل أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي قال :

«قالت ـ أي مولاتنا المعظّمة فاطمة عليها‌السلام ـ أنفذوا إلى دارنا قنفذا ومعه خالد بن الوليد ليخرجا ابن عمي إلى سقيفة بني ساعدة لبيعتهم الخاسرة .. فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت فأخذت بعضادتي الباب وقلت : ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفّوا عنا وتنصرفوا ، فأخذ عمر السوط من قنفذ مولى أبي بكر فضرب به عضدي فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج ، وركل الباب برجله فردّه عليّ ..» (٣).

__________________

(١) فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى ج ٢ / ٥٤٤ أحمد الرحماني الهمداني ، ط / مؤسسة النعمان ، وتلخيص الشافي ج ٣ / ٧٩ وأعلام النساء ج ٣ / ١٢٠٦ وشرح النهج ج ٢ / ٨ و ١٩.

(٢) كتاب سليم بن قيس ص ٧٥ و ٢٣١.

(٣) الهداية الكبرى ص ١٧٩ وص ٤٠٧.

٤١٩

٣ ـ الشيخ المؤرخ المسعودي الهذلي قال :

«فوجهوا إلى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كرها ..» (١).

٤ ـ الشيخ أبي محمّد الحسن بن محمّد الديلمي قال :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأما ابنتي فاطمة فإنها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وهي بضعة مني ونور عيني وثمرة فؤادي .. وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي كأني بها ، وقد دخل الذل بيتها وغصب حقها وكسر جنبها وأسقطت جنينها ..» (٢).

٥ ـ الشيخ المفيد قال :

«.. فأجافت الباب وأغلقته ، فلمّا انتهوا إلى الباب ، ضرب عمر الباب برجله فكسره ـ وكان من سعف ـ فدخلوا على عليّ عليه‌السلام وأخرجوه ملبّبا» (٣).

وقال في موضع آخر :

«.. وإذا فاطمة عليها‌السلام واقفة على بابها ، وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول : لا عهد لي بقوم أسوأ محضرا منكم ..» (٤).

٦ ـ الشيخ أبي منصور الطبرسي قال :

«.. فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر عليّ إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه ..» (٥).

__________________

(١) إثبات الوصية ص ١٥٥.

(٢) إرشاد القلوب ج ٢ / ٢٦٣ نقلا عن أمالي الشيخ الصدوق ص ١٠٠ المجلس ٢٤ ح ٢ ط / قم.

(٣) الاختصاص ص ١٨٦.

(٤) أمالي الشيخ المفيد ص ٥٠ المجلس السادس.

(٥) الاحتجاج ج ١ / ١٠٩.

٤٢٠