أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

فالشق الأول : يتناول الاعتداء على جسدها الطاهر وروحها الزكية المطهّرة.

والشق الثاني : ويتناول الاعتداء على متعلقاتها وحقوقها المالية.

وقد تقدّم الكلام في البحوث السابقة ، عن الشق الثاني.

أما الشق الأول :

فهو عرض موجز لدراما مفجعة ، صبّت أحداثها الممضة على شخصية عظيمة مباركة ، أحبّها الله ورسوله ، مستلّا أخبارها مما تناقله الرواة الثقات والمحدّثون في بطون مصادر الخاصة والعامة ، ومنتزعا أحداثها مما رواه لنا التاريخ بصدق وأمانة ، لنضعها بين يدي الباحث عن الحقّ ، ليطّلع عليها بصدر واسع رحيب ، ويطالعها بعلمية وموضوعية ، ثم ينتهج الصراط المستقيم.

هذه المأساة الكبرى مع ما لها من دلالات واضحة ، تكشف عن وعورة صدور القوم اتجاه إمام الحق وزوجه البتول عليهما‌السلام ، صدور امتلأت حقدا وحسدا ، غلّقها الرين ، فعمت عن رؤية الحقّ ، فلم تتورع عن الإتيان بأخزى الأعمال ، وممارسة أنكر الأفعال ، بل وهتك أقدس المقدّسات ، وهو ما حدّثنا التاريخ عن شرذمة ضالة ، تمادى بها الغي ، وطال بها الضلال للتجاوز على امرأة هي سيّدة نساء العالمين ـ بل «ما ساوى الله قط امرأة برجل إلّا ما كان من تسوية الله فاطمة بعلي عليهما‌السلام وإلحاقها به وهي امرأة ، بأفضل رجال العالمين ـ» (١) فكسر الفظّ صاحب الدرة (٢) عمر بن الخطّاب ضلعها وأسقط جنينها ، مع ما له من سوابق هو وزميله ابن أبي قحافة ، حيث استغلا صحبتهما لرسول الله فتبوءا قيادة الأمة رغما

__________________

(١) الكوثر في أحوال فاطمة عليها‌السلام ج ١ / ٢٥٩ ح ٢٧١.

(٢) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٢ / ٢٤٢ : «إن عمر أحرق بيت رويشد الثقفي ، وكان نبّاذا ، وأول من حمل الدرّة وأدّب بها ، وقيل بعده : كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج» وقال في موضع آخر : «وعمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة ، بل مفارقة دار الإسلام كلها ، وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية» شرح النهج ج ١ / ١٤٢ ، وقال أيضا : «وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة. شرح النهج ج ١ / ١٤٢.

٣٨١

عنها ، فقلّبا الأحكام وغيّرا السنن ، فما فعله عمر بالخصوص كاعتدائه على الصدّيقة الطاهرة ورفسه على بطنها حتى ألقت جنينها ، لأكبر شاهد على فظاظته وسوء عشرته ، وكذا ما ثبت عنه من صلافة على رسول الله تهكّمها حتى نعته وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فراش الموت بالهجر (١). ومع وفور الأدلة على مسألة الاعتداء على سيّدة الطهر مولاتنا فاطمة روحي فداها لم يثبت عند (٢) من التقى بكثير من عقائده ومنهجه الفقهي بمرتكزات الأشاعرة ، بأن عمر بن الخطّاب فعل ما فعل بالسيّدة فاطمة عليها‌السلام ، حيث أنكر مسألة الاعتداء عليها ، مدّعيا بذلك أنه من البعيد جدا أن يدخل بعض الصحابة على الصدّيقة ـ بأبي هي وأمي ـ ويضربوها أمام حشود المسلمين ، وله تعبيرات في مواضع عدة أن القوم لم يكسروا ضلعها ولا أنهم أسقطوا جنينها ، بل ادّعى أن إسقاط الجنين كان بفعل عامل طبيعي لا غير تحريفا منه للمسألة برمتها ، وكأن لسان حاله يقول للعامة «اشهدوا لي عند الأمير إني أول رام رمى بنت محمد في عصر التطور والحداثة والمرجعية المتطورة».

ففي الوقت الذي يؤكد فيه عن رأيه بإسقاط الجنين بفعل عامل طبيعي ، يعلن تراجعه عن ذلك في رسالة (٣) مؤرخة ب : ٣ / ٦ / ١٤١٤ ه‍ ، ثم تراه يكذّب كل من نسب إليه إنكاره لكسر الضلع والاعتداء ، وفي الوقت نفسه ينسف كلّ ما قاله في تلك الرسالة ، بل يناقض نفسه حيث يقول :

«أنا من الأساس لم أقل إنه لم يكسر ضلع الزهراء عليها‌السلام وكلّ ما ينسب إليّ ذلك فهو كاذب ، أنا استبعدت الموضوع استبعادا ، رسمت علامة استفهام على أساس التحليل التأريخي ، قلت : أنا لا أتفاعل مع هذا ، لأن محبة المسلمين للزهراء عليها‌السلام كانت أكثر من محبتهم لعليّ وأكثر من محبتهم للحسن والحسين ،

__________________

(١) روى القصة الشهرستاني في الملل والنحل ج ١ / ٢٢ ، والبخاري في باب العلم ، وابن الأثير في تاريخه ج ٢ / ٣٢٠.

(٢) عنيت به السيد محمد حسين فضل الله.

(٣) جوابه على رسالة بعثها إليه السيد جعفر مرتضى. لاحظ الحوزة تدين الانحراف ص ٩٠.

٣٨٢

وفوقها محبتهم لرسول الله ، قلت : إنه من المستبعد أن يقدم أحد على فعل ذلك ، مع الإقرار بوجود نوايا سيئة ومبيتة ، ليس لبراءة فلان من الناس ، بل خوفا من أن يهيّج الرأي العام الإسلامي. وفي هذا المجال ، هناك روايات مختلفة ، فبعضهم يقول : دخلوا المنزل ، والبعض الآخر يقول : لم يدخلوا ، فقلت : أنا أستبعد ذلك ولا أتفاعل مع الكلمة نفسها ..» (١).

وفي موضع آخر يقول : «وكانت هناك مشاكل أحاطت ببيت عليّ عليه‌السلام وفاطمة عليها‌السلام يختلف المؤرخون في طبيعتها مما أساء القوم فيه إليهما» (٢).

هذا مضافا إلى تشكيكه «بوجود ارتباك في الروايات حول وقوع الإحراق أو التهديد به ، مع تأكيده إلى أن شخصية الزهراء عليها‌السلام كانت الشخصية المحترمة عند المسلمين بحيث إنّ التعرض لها بهذا الشكل قد يثير الكثير من علامات الاستفهام وذلك من خلال ما نلاحظه من تعامل الجميع معها في أكثر من خبر» (٣).

يتمخّض عن كلامه أمور :

١ ـ إنكاره للاعتداء على الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام.

٢ ـ تراجعه عن ذلك.

٣ ـ ثم تأكيده على أن القوم لم يدخلوا عليها بحجة أن ذلك يثير استفهاما.

وله تشكيك آخر برواية الطبري في دلائل الإمامة ـ التي من خلالها اعترف بتلك الرسالة أن القوم أسقطوا جنينها ـ مدّعيا أن راويها محمّد بن سنان وفي وثاقته محل نظر ، إذ لو كان عبد الله بن سنان فهو ثقة ، ولكنه محمّد بن سنان ، والأغلبية لا يأخذون بأقواله (٤).

__________________

(١) الزهراء المعصومة ص ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) نفس المصدر ص ٢٣.

(٣) الحوزة تدين الانحراف ص ٩٠ نقلا عن جواب رسالة.

(٤) شريط مسجّل بصوته بتاريخ ١ / ١٠ / ١٩٩٨.

٣٨٣

يورد عليه :

١ ـ تشكيكه بالراوي محمد بن سنان لا يقدح بحدوث الاعتداء على الصدّيقة (١) فاطمةعليها‌السلام ، لأن الحادثة رويت بطريق آخر غير عبد الله بن سنان ، وليس محمّد ابن سنان مع أن الموجود في سند دلائل الإمامة هو عبد الله بن سنان الثقة.

٢ ـ إن عدم تفاعله مع كل ما جرى على الصدّيقة الطاهرة يعني أنه غير معتقد بحصول الظلم عليها ، مما يستلزم القول بنفي كسر الضلع وإسقاط الجنين وضربها ، في حين قد صرّح بأنه لم يقل بأن الضلع لم ينكسر بل نعت كل من نسب إليه ذلك بالكذب. ومما يؤكد ذلك ما ورد عنه : بأن القضية ليست من المهمات التي تهمني ، سواء قال القائلون : أن ضلعها كسر ، أو لم يقل القائلون ، هذا لا يمثّل بالنسبة لي أية سلبية أو أية إيجابية ، هي قضية تاريخية ، تحدثت عنها في دائرة خاصة ، ولم أتحدث عنها في الهواء الطلق .. فهذه القضية ليست من المهمات التي اهتم بإثباتها ونفيها ، لا من ناحية علمية ولا من ناحية سياسية» (٢).

__________________

(١) مما يلاحظ في أكثر كتابات وخطابات صاحب الشبهة أنه لا يذكر الألقاب المخصوصة بالأئمة والصدّيقة الطاهرة في حين أن أتباع «معاليه» يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا ما ذكر «أميرهم» دون تزيين اسمه بعبارات «صاحب السماحة .. آية الله العظمى .. المرجع .. الإمام ..» ومن طريف ما وقع لي في لبنان هذا أني هوجمت بشراسة من قبل عشّاقه محاولين الاعتداء عليّ بالضرب في قاعة مسجد مطر التابع للمجلس الشيعي ـ وللأسف لم يتخذ ضدهم أيّ عقوبة ـ وذنبي أنني تعرّضت لأفكاره ومعتقداته بالنقد والإبرام وهكذا جرى لي في بعض الأماكن خلال محاضرة تناولت خلالها أفكار الرجل بدون ذكر الألقاب الفخمة التي اعتاد عليها المتزلّفون من الناس ..! ترى! .. أفهناك مظلوميّة أعظم من مظلوميّة أهل البيت عليهم‌السلام في بلد كلبنان يدّعي بعض شيعته ـ ويا للأسف ـ أنّهم على خطى عترة رسول الله ، ولا تحرّكهم الغيرة عليهم والحماس لذواتهم المقدّسة في حين أنهم مستعدون لسفك الدماء من أجل داعية العامة ومروّج أفكارها؟ اللهم احكم بيننا وبينهم بالحق وأنت الحكم الفصل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم!!.

(٢) خلفيات ج ٦ / ١٢٣.

٣٨٤

ويقول أيضا : «أنا لا أتفاعل مع كثير من الأحاديث التي تقول بأن القوم كسروا ضلعها أو ضربوها على وجهها أو ما إلى ذلك ، إنني أتحفظ في كثير من هذه الروايات» (١).

نعم! إن ذلك لا يمثّل له شيئا ، إذ لو كانت المضروبة أو المعتدى عليها إحدى بناته ، لكانت المسألة من أعظم اهتماماته ، ولأدّى تفاعله بها أن يأمر أجهزته الأمنية بالاقتصاص ممن همّ بضربها أو الإساءة إليها.

هذا مضافا إلى أنه إذا كان ذلك لا يدخل في دائرة اهتماماته ، فلما ذا كان مهتمّا ببحث هذا الأمر؟ حسبما سجله في رسالة منه لأحدهم بتاريخ ٣ / ٦ / ١٤١٤ ه‍ حيث يقول : «إن لدي تساؤلات تاريخية تحليلية في دراستي الموضوع ، كنت أحاول إثارتها في بحثي حول هذا الموضوع».

فإذا كان الاعتداء على الصدّيقة المظلومة غير داخل في دائرة اهتماماته ، فأي شيء من تاريخها ـ يا ترى ـ يدخل في دائرة اهتماماته ـ اللهم إلّا ما كان موافقا للعامة ـ وهل أن التشكيك بتاريخنا ـ تحت عنوان الاجتهاد المتطور والمرجعية الرشيدة ـ هو من صلب اهتماماته وتفاعلاته؟! اللهم أشهد أنه كذلك.

٣ ـ إن استبعاده وعدم تفاعله ، فيه تبرئة لساحة الظالمين ، إذ إن إنكار النصوص من الطرفين (والتي دلت على حصول الاعتداء على أمير المؤمنين عليّ وزوجه الطاهرة فاطمة عليهما‌السلام) يستلزم إنكار المسلّمات التاريخية ، معتمدا بإنكاره هذا على الاستحسانات العقلية في استكشاف الأمور التاريخية الماضية ، مع أن الذين نفى عنهم صدور الظلم أناس لهم سوابق معروفة بالظلم والعدوان ـ لا سيّما مع أبيها على فراش الموت ثم سلبهم للخلافة وحقوق آل البيت عليهم‌السلام ـ مع تأكيده على أن القوم دخلوا الدار وأخرجوا منها الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) نفس المصدر والصفحة.

٣٨٥

٤ ـ إن إنكار الاعتداء يعني حسن الظن بأعداء الله وأعداء رسوله وعترته الطاهرة ، وحسن الظن بالمنافقين والمشركين والكافرين حرام نهى الله عزوجل عنه بقوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) (١) ومن اعتدى على أهل البيت عليهم‌السلام لا ريب أنه من أعداء الله ورسوله ، فيحرم أن يحسن الظن بهم.

إن الاعتقاد بمسألة الاعتداء على سيّدة الطهر فاطمة عليها‌السلام ليست مسألة تاريخية محضة حتى يدّعى أنها لا تدخل في دائرة اهتماماته وتفاعلاته ، لأن موضوعا كهذا يدخل في سلّم الأولويات العقيدية والتشريعية والأخلاقية ، كيف لا ، وهو موضوع يترتب عليه حكم ، لأن الاعتداء عليها وسلب حقوقها عليها‌السلام من أعظم المحرّمات في الشريعة المقدّسة ، لأن حرمة أذية المؤمن من صلب الضروريات لما يشكّل الاعتداء من انتهاك لحرمات الله ومقدساته ، فكيف لو كان هذا المؤمن هو الصدّيقة الطاهرة التي قامت الأدلة من الكتاب والسنّة المباركة على طهارتها وعصمتها وقداستها ، ألا يشكّل الأمر ـ بنظر من شكّك بمظلوميتها ـ حيزا من اهتماماته وتفاعلاته؟! وهل البحث في أشعار العرب وقصص الماضين أهم من البحث في مظلومية سيّدة نساء العالمين التي طالما يتشدق المشكّك المذكور بأنه أحد أحفادها؟!! أم أن البحث في مشكلة أفغانستان والحركة الأصولية في الجزائر وولاية الفقيه .. الخ أعظم أجرا عند الله تعالى من الدفاع عن مظلومية آبائه وأجداده الميامين؟!

لقد عانت مولاتنا سيّدة النساء فاطمة روحي فداها المصائب الجمّة ، جراء ما فعله بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى ثقاة المؤرخين أن أبا بكر وعمر وحلفهما قد تطاولوا على بضعة الرسول إرغاما لزوجها أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام كي يبايع أبا بكر بن أبي قحافة ، فدخلوا الدار وضربوا حبيبة المصطفى سيّد الرسل محمّد وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها الذي سماه النبيّ «محسنا» قبل أن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧٣.

٣٨٦

يولد (١).

ولأهمية الموضوع عندنا معشر الإمامية ولأن من أنكره ممن ينسب إلى الإمامية لا يعبّر عن وجهة نظرنا ، لا بأس بالتطرق إلى عدة أمور :

الأمر الأول : الاعتداء على سيّدة النساء الصدّيقة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله واقتحام دارها.

الأمر الثاني : إجماع الإمامية على حصول الاعتداء.

الأمر الثالث : ردّ الشبهات الطارئة على المسألة.

أما الأمر الأول :

مما لا ريب يعتريه أن أصحاب السقيفة اعتدوا على أمير المؤمنين عليّ المرتضى وزوجه البتول فاطمة عليها‌السلام ، وقد دلت على ذلك الأخبار المتواترة من الفريقين ، ويكفي ما أظهره أمير المؤمنينعليه‌السلام من التفجع على عظيم المصاب بسيّدة الطهر فاطمة عليها‌السلام حيث قال :

[السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة

__________________

(١) شاع في الفترة الأخيرة لفظ «المحسن» أو «المحسّن» أو «المحسّن» بالكسر والفتح والتخفيف مع لام التعريف ، مع أنه لم يرد شيء من ذلك في الأخبار ، بل ما ورد إنما هو من دون لام التعريف والتشديد ، كل ما هنالك أن ابن الأثير الجزري وأمثاله من مؤرخي العامة أثبتوا اللفظ مشددا ومكسورا قياسا على الحديث المروي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أروني ابني ، ما سميتموه؟ قالوا : حربا ، قال : «بل هو محسّن» ثم قال : سميتم بأسماء ولد هارون : شبّر وشبّير ومشبّر» أسد الغابة ج ٥ / ٧٠ هذا مع أن القندوزي الحنفي في الينابيع ص ٢٠٨ و ٢٦١ أثبت النص من دون تشديد. وعليه فإن التشديد بالكسر والفتح وإضافة اللام من دون حاجة للإضافة يعتبر مخالفا للأخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وها هم المؤرخون القريبون من عصر النص أمثال الطبري في دلائل الإمامة ، والمسعودي في إثبات الوصية والخصيبي في الهداية الكبرى وغيرهم يثبتون الاسم كما ذكرنا ، هذا مضافا إلى أننا سألنا أهل الخبرة باللغة العبرانية عن تشكيل الكلمات الواردة في الحديث : «شبر شبير مشبر» فأجابوا : إن «مشبر» بالتخفيف هكذا «مشبر» فمن أين جاء التشديد؟!

٣٨٧

اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، إلّا أنّ لي في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك ، موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسّلام عليكما سلام مودّع ، لا قال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقيم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصّابرين] (١).

هذه الشكوى منه عليه‌السلام لحبيبه رسول الله تكشف عن واقع الأمة المتخاذلة بعد وفاة نبيّها ، فبدلا من أن تقف لتدافع عن أعزّ الخلق إلى محمّد رسول الله ، وقفت وتعاونت وتضافرت على هضم ابنته والاعتداء عليها ، مع أن المرء يحفظ في ولده ، مما يستلزم القول أن الأمة ارتدت عن بكرة أبيها إلّا خمسة آنذاك ، فسكوت الأمة على الظلم يعني أنها راضية به ، لأن حلف النفاق في ذاك اليوم لم يكن بمقدورهم الاعتداء على بضعة المصطفى لو وجدت ـ بنفسي هي وأبي وأمي ـ أنصارا يدفعون عنها درّة عمر بن الخطّاب وسوط خالد وقنفذ.

لو أن الأمة وقفت إلى جنبها عليها‌السلام لما تربع أصحاب السقيفة على سدّة الخلافة!؟ إن تخاذل الأمة أدى إلى كل ذلك ، مما يعني أن الأمة كلّها هضمت سيّدة الطهر حقّها ، وستنبّأ أباها تأكيدا بما جرى عليها من أمته ، مع أنه لم يطل بموته العهد ، ولم يخل منه الذكر.

وهنا نبحث في عدة نقاط :

__________________

(١) نهج البلاغة / محمد عبده ص ٢٠٧ خطبة ١٩٧ وشرح النهج / صبحي الصالح ص ٣١٩ خطبة ٢٠٢ وشرح النهج / العلّامة الميرزا حبيب الله ج ١٣ / ٣.

٣٨٨

النقطة الأولى : إحراق الباب على سيّدة النساء عليها‌السلام.

النقطة الثانية : الدخول عنوة إلى دارها.

النقطة الثالثة : ضربها وإسقاط جنينها محسن وكسر ضلعها.

والسر الذي دعاني لذكر هذه النقاط هو تشكيك (١) من مال ببعض معتقداته ـ إن لم يكن جلّها ـ إلى العامة ، حيث لم يثبت لديه ـ تبعا للدكتور سهيل زكار ـ وجود أبواب لبيوت المدينة ، وكذا لم يدخلوا البيت ، فكيف يحصل الضرب حينئذ؟

أما النقطة الأولى :

فحديث التهديد بالإحراق بل إحراق الباب رواه معظم المؤرخين :

فقد روى ابن قتيبة الدينوري (٢١٣ ـ ٢٧٦ ه‍) وهو من أكابر علماء العامة بأنّ أبا بكر تفقّد قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر بن الخطّاب فناداهم وهم في دار عليّ عليه‌السلام فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال :

والذي نفس عمر بيده ، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة؟ فقال : وإن ، فخرجوا فبايعوا إلّا عليّا عليه‌السلام فإنه زعم أنه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن (٢).

وقال في موضع آخر :

«.. قام عثمان بن عفان ومن معه من بني أميّة فبايعوه ـ أي أبا بكر ـ وقام

__________________

(١) ليس «السيد محمد حسين فضل الله» الوحيد الذي مال وانحرف إلى العامة ببعض معتقداته ، وإنما يوجد مثله من العلماء انحرفوا ببعض المسائل ، إلّا أن ما يميزه عنهم أنه تبنّى الكثير من تلك الشطحات ، فصارت منهجا له وطريقا يسلكه.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٣٠.

٣٨٩

عبد الرحمن بن عوف وجماعة من بني زهرة فبايعوا ، وأما عليّ والعبّاس بن عبد المطّلب ومن معهما من بني هاشم ، فانصرفوا إلى رجالهم ومعهم الزبير بن العوّام ، فذهب إليهم عمر في عصابة إلى بيت فاطمة ، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم ، فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبا بكر ، فأبوا ، فخرج الزبير بن العوام رضي الله عنه بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرجل فخذوه فوثب عليه سلمة بن أسلم ، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ، وانطلقوا به فبايع ..» (١).

* وقال أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (٢٢٤ ـ ٣١٠ ه‍):

«فبايعه عمر وبايعه الناس ، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع إلّا عليّا ، فأتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه ..» (٢).

وقال في موضع آخر :

«قال عمر أبسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك ، فقال أبو بكر : بل أنت يا عمر ، فأنت أقوى لها مني ، قال : وكان عمر أشدّ الرجلين ، قال وكان كلّ واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده ، يضرب عليها ، ففتح عمر يد أبي بكر ، وقال : إن لك قوتي مع قوتك ، قال : فبايع الناس واستثبتوا للبيعة ، وتخلّف عليّ والزبير ، واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتى يبايع عليّ ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فقال عمر : خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر ، قال : فانطلق إليهم عمر ، فجاء بهما تعبا وقال : لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان فبايعا ..» (٣).

ملاحظة : لم يبايع أمير المؤمنين أحدا بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن البيعة

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٧.

(٢) تاريخ الأمم والملوك / الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٣) نفس المصدر ج ٢ / ٤٤٤.

٣٩٠

تعني الالتزام بأحقية المعقود له البيعة ، وشيء من هذا لم يكن حاصلا عند المغتصبين ، هذا بالإضافة إلى أن الخلافة تعيين من الله تعالى ، وقد بايعا ـ أي أبو بكر وعمر ـ أمير المؤمنين عليّاعليه‌السلام في غدير خم ، يظهر أن بيعتهما له عليه‌السلام كانت نفاقا.

* وقال عز الدين الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي (٥٨٦ ـ ٦٥٦ ه‍):

«إنه عليه‌السلام لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه ، وكان يحمل فاطمةعليها‌السلام ليلا على حمار ، وابناها معها ، وهو عليه‌السلام يسوقه ، فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم ، ويسألهم النصرة والمعونة ، أجابه أربعون رجلا ، فبايعهم على الموت ، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلّقي رءوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافه منهم إلّا أربعة : الزبير ، والمقداد ، وأبو ذر وسلمان ، ثم أتاهم من الليل ، فناشدهم ، فقالوا : نصبّحك غدوة ، فما جاء منهم إلّا أربعة ، وكذلك في الليلة الثالثة ، وكان الزبير أشدّهم له نصرة ، وأنفذهم في طاعته بصيرة ، حلق رأسه ، وجاء مرارا وفي عنقه سيفه ، وكذلك الثلاثة الباقون ، إلّا أن الزبير هو كان الرأس فيهم ، وقد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة عليه‌السلام وكسر سيفه في صخرة ضربت به ، ونقلوا اختصاصه بعليّ عليه‌السلام وخلواته به ، ولم يزل مواليا له ، متمسكا بحبه ومودته ، حتى نشأ ابنه عبد الله وشب ، فنزع به عرق من الأم ومال إلى تلك الجهة وانحرف عن هذه ..» (١).

وقال : «روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن أبي الأسود قال : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب عليّ والزبير ، فدخلا بيت فاطمة ، معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة ، فيهم أسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن قريش وهما من بني عبد الأشهل ، فاقتحما الدار ، فصاحت فاطمة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١١ / ١٢. ملاحظة : لقد تجاهل ابن أبي الحديد دور عمّار بن ياسر وأنه كان من الثابتين على الولاء لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

٣٩١

وناشدتهما الله ، فأخذوا سيفيهما فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما ، فأخرجهما عمر يسوقهما ..»(١).

وقال : جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ عليكم ، فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ، فندر السيف من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا ..» (٢).

وقال أبو بكر بن عبد العزيز قال أحد الطالبيين :

«يا أبا حفص الهوينى وما

كنت مليّا بذاك لو لا الحمام

أتموت البتول غضبى ونرضى

ما كذا يصنع البنون الكرام!

يخاطب عمر ويقول له : مهلا ورويدا يا عمر ، أي ارفق واتّئد ولا تعنف بنا ، وما كنت مليّا ، أي وما كنت أهلا لأن تخاطب بهذا أو تستعطف ، ولا كنت قادرا على ولوج دار فاطمة على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه ، لو لا أن أباها الذي كان بيتها يحترم ويصان لأجله ، مات فطمع فيها من لم يكن يطمع ، ثم قال : أتموت أمّنا وهي غضبى ونرضى نحن! إذا لسنا بكرام ، فإن الولد الكريم يرضى لرضا أبيه وأمه ويغضب لغضبهما.

والصحيح عندي أنّها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر ، وأنها أوصت ألّا يصلّيا عليها ، وكان الأولى بهما إكرامها واحترام منزلها ..» (٣).

وقال أبو بكر : أخبرني أبو بكر الباهلي عن إسماعيل بن مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : قال أبو بكر : يا عمر ، أين خالد بن الوليد؟ قال : هو هذا ، فقال :

__________________

(١) شرح النهج ج ٦ / ٢٠٥.

(٢) نفس المصدر ج ٦ / ٢٠٦.

(٣) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٦ / ٢٠٧.

٣٩٢

انطلقا إليهما ـ يعني عليّا والزبير ـ فأتياني بهما ، فانطلقا ، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج ، فقال عمر للزبير ، ما هذا السيف؟ قال : أعددته لأبايع عليّا ، قال : وكان في البيت ناس كثير ، منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين ، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير ، فأقامه ثم دفعه فأخرجه ، وقال : يا خالد ، دونك هذا ، فأمسكه خالد ، وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس ، أرسلهم أبو بكر ردءا لهما ، ثم دخل عمر ، فقال لعليّ : قم فبايع ، فتلكّأ واحتبس فأخذ بيده ، وقال : قم ، فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ، ثم أمسكهما خالد ، وساقهما عمر ومن معه سوقا عنيفا ، واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة ما صنع عمر ، فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهنّ ، فخرجت إلى باب حجرتها ، ونادت : يا أبا بكر ، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا أكلّم عمر حتى ألقى الله ..» (١).

وهكذا مضى القوم في تعنّتهم وظلمهم من أجل أخذ البيعة لأبي بكر ، وها هو البراء بن عازب يصف شناعة القوم يوم السقيفة فيقول :

لم أزل لبني هاشم محبّا ، فلمّا قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله فكنت أتردّد على بني هاشم وهم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحجرة ، وأتفقّد وجوه قريش ، فإني كذلك ، إذ فقدت أبا بكر وعمر ، وإذا قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ، وإذا قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ، فلم البث ، وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانيّة لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه ، وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى ، فأنكرت عقلي ، وخرجت أشتدّ حتى انتهيت إلى بني هاشم ، والباب مغلق ، فضربت عليهم الباب

__________________

(١) نفس المصدر ج ٦ / ٢٠٦.

٣٩٣

ضربا عنيفا ، وقلت : قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة ، فقال العبّاس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر أما إني قد أمرتكم فعصيتموني ..» (١).

* قال أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني : (٤٧٩ ـ ٥٤٨ ه‍).

«انفرد النظّام عن أصحابه بمسائل منها :

ميله إلى الرفض ، ووقيعته في كبار الصحابة قال : أولا : لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرا مكشوفا ، وقد نصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عليّ رضي الله عنه في مواضع ، وأظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة ، إلّا أن عمر كتم ذلك ، وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة ، ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال : ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال : نعم ، قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال هذا شك وتردد في الدين ، ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم ، وزاد في الفرية فقال :

إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها ، وكان يصيح : أحرقوا دارها بمن فيها ، وما كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين ..» (٢).

قال أبو الفداء إسماعيل :

«لمّا قبض الله نبيه ، قال عمر بن الخطّاب : من قال إن رسول الله مات ، علوت رأسه بسيفي هذا ، وإنما ارتفع إلى السماء! فقرأ أبو بكر (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٣).

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ١٦٨.

(٢) الملل والنحل ج ١ / ٥٧ الفصل الأول. ورواه بألفاظه صلاح الدين الصفدي الشافعي المتوفى ٧٦٤ في ترجمة النظّام في كتابه «الوافي بالوفيات» ج ٥ / ٣٤٧.

(٣) سورة آل عمران : ١٤٤.

٣٩٤

فرجع القوم إلى قوله ، وبادروا سقيفة بني ساعدة ، فبايع عمر أبا بكر ، وانثال الناس عليه يبايعونه في العشر الأوسط من ربيع سنة إحدى عشرة خلا جماعة من بني هاشم ، والزبير ، وعتبة بن أبي لهب ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي ، وأبي ذر ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب ، ومالوا مع عليّ بن أبي طالب ، وقال في ذلك عتبة بن أبي لهب :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف

عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن

عن أوّل الناس إيمانا وسابقة

واعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبيّ ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

ومن فيه ما فيهم لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن

وكذلك تخلّف عن بيعة أبي بكر : أبو سفيان من بني أمية.

ثم أن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى عليّ ومن معه يخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها ، وقال : إن أبوا عليك فقاتلهم.

فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار ، فلقيته فاطمة رضي الله عنها ، وقالت : إلى أين يا ابن الخطاب ، أجئت لتحرق دارنا!!

قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت به الأمة!! (١).

* روى البلاذري بإسناده عن سليمان التيمي ، وعن ابن عون :

إن أبا بكر أرسل إلى عليّ يريد بيعته ، فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ، فتلقّته فاطمة على الباب ، فقالت :

يا ابن الخطّاب! أتراك محرقا عليّ بابي؟

قال : نعم ، وذلك أقوى مما جاء به أبوك (٢).

__________________

(١) المختصر في أخبار البشر ج ١ / ١٥٦.

(٢) أنساب الأشراف ج ١ / ٥٨٦ ح ١١٨٤ ط / دار المعارف ، ونقل عنه المجلسي في البحار ج ٢٨ / ٣٨٩ ط / دار الوفاء.

٣٩٥

* وروى ابن عبد ربّه : إن الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر هم : عليّ «أمير المؤمنين» والعبّاس والزبير ، وسعد بن عبادة.

فأمّا عليّ «أمير المؤمنين» والعبّاس والزبير ، فقعدوا في بيت فاطمة «الصدّيقة» عليها‌السلام حتّى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطّاب ليخرجوا من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيته فاطمة ، فقالت :

يا ابن الخطّاب! أجئت لتحرق دارنا؟

قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة ..» (١).

* وروى المتقي الهندي عن أسلم أنّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله كان عليّ «أمير المؤمنين» والزبير يدخلون على «سيّدة النساء» فاطمة بنت رسول الله ويشاورونها ويرتجعون في أمرهم ، فلمّا بلغ عمر بن الخطاب ، خرج حتّى دخل على فاطمة «سيّدة النساء» فقال :

يا بنت رسول الله! والله ما من الخلق أحد أحبّ إليّ من أبيك .. وأيم الله ما ذاك بمانعي أن أجمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم الباب. فلما خرج عمر ، جاءوها ، قالت : تعلمون أن عمر قد جاءني ، وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقنّ عليكم البيت ، وأيم الله ليمضينّ لما حلف عليه (٢).

قال ابن أبي الحديد :

«وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال :

__________________

(١) العقد الفريد ج ٥ / ١٢ ط / مكتبة الرياض الحديثة.

(٢) كنز العمال ج ٥ / ٦٥١ ، ومنتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج ٢ / ١٧٤ ، والسقيفة وفدك / أبو بكر الجوهري ص ٣٨ و ٥٠. نهاية الأرب / النويري ج ١٩ / ٣٩ ، تشييد المطاعن وكشف الضغائن ج ١ / ٢٢٣ ، وقرة العين / الدهلوي ص ٧٨ ط / بيشاور.

٣٩٦

اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب ، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة «الصدّيقة» عليها‌السلام من الهاشميين ، وأخرجهم منها ، ولو لاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة» (١).

وقال عمر رضا كحالة :

«تفقد أبو بكر قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ بن أبي طالب كالعبّاس ، والزبير ، وسعد بن عبادة ، فقعدوا في بيت فاطمة ، فبعث أبو بكر عمر بن الخطاب ، فجاءهم عمر فناداهم ، وهم في دار فاطمة «الصديقة» فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب ، وقال :

والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها!!

فقيل له : يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة!!

قال : وإن (٢)!!

* قال حافظ إبراهيم شاعر النيل ، رافعا عقيرته بعد مضي قرون على تلكم المعرّات ، مبتهجا متبجحا بقوله في القصيدة (العمرية) تحت عنوان : عمر وعليّ :

وقولة لعليّ قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنان وحاميها (٣)

وقد علّق أحمد أمين في هامش الديوان المذكور : بأن حافظ يشير بهذه

__________________

(١) شرح النهج / ج ١ / ١٣٥.

(٢) أعلام النساء ج ٤ / ١١٤.

(٣) ديوان حافظ إبراهيم ج ١ / ٧٥ ط / دار الكتب المصرية بالقاهرة. الغدير ج ٧ / ٨٦ ، والمراجعات ص ٣٦٦ المراجعة ٨٣ ط / الأعلمي ، بتحقيقنا ، ودلائل الصدق ج ٣ / ٩٢.

٣٩٧

الأبيات إلى امتناع الإمام عليّ عليه‌السلام عن البيعة لأبي بكر يوم السقيفة ، وتهديد عمر إياه بتحريق بيته إذا استمر على امتناعه ، وكان فيه زوجة «الإمام» عليّ فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم).

* وقدح الذهبي في أحمد بن محمّد بن السري بن يحيى بن أبي دارم المحدّث ، بأنه كوفي رافضي كذّاب ، وروى عنه الحاكم وقال : رافضي ، غير ثقة.

وقال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ ـ بعد أن أرّخ موته : كان مستقيم الأمر عامة دهره ، ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه : إن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن ..» (١).

* ونقل ابن قتيبة الدينوري عن أبي بكر قال على فراش الموت :

«والله ما آسى إلّا على ثلاث فعلتهن ، ليتني كنت تركتهنّ ، وثلاث تركتهن ليتني فعلتهن ، وثلاث ليتني سألت رسول الله عنهنّ ، فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن ، فليتني تركت بيت عليّ وإن كان أعلن علي الحرب ، وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر ، فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير ، وليتني حين أتيت بذي الفجاءة السلمي أسيرا أني قتلته ذبيحا أو أطلقته نجيحا ، ولم أكن أحرقته بالنار ..» (٢).

* نقل ابن خيزرانة في غرره ، قال زيد بن أسلم :

كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع عليّ وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا ، فقال عمر لفاطمة : أخرجي من في البيت وإلّا أحرقته ومن فيه ، قال : وفي البيت عليّ وفاطمة والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه [وآله] ، فقالت فاطمة : تحرق على ولدي؟ قال : أي والله أو

__________________

(١) ميزان الاعتدال ج ١ / ١٣٩ ط / دار المعرفة ، ورواه بألفاظه أيضا ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ج ١ / ٢٦٨.

(٢) الإمامة والسياسة ج ١ / ٣٦ ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني في ترجمة علوان ج ٤ / ١٨٩.

٣٩٨

ليخرجنّ وليبايعنّ (١).

* قال الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود : ... فهلّا كان عليّ كابن عبادة حريّا في نظر ابن الخطّاب بالقتل حتى لا تكون فتنة ولا يكون انقسام؟! كان هذا أولى بعنف عمر إلى جانب غيرته على وحدة الإسلام ، وبه تحدّث الناس ولهجت الألسن كاشفة عن خلجات خواطر جرت فيها الظنون مجرى اليقين ... وكذلك سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب ذلك النهار ، وهو يسير في جمع من صحبه ومعاونيه إلى دار فاطمة ، وفي باله أن يحمل ابن عمّ رسول الله ـ إن طوعا وإن كرها ـ على إقرار ما أباه حتى الآن ، وتحدّث أناس بأنّ السيف سيكون وحده متن الطاعة! .. وتحدّث آخرون بأنّ السيف سوف يلقى السيف! .. ثم تحدّث غير هؤلاء بأنّ «النار» هي الوسيلة المثلى إلى حفظ الوحدة وإلى الرضا والإقرار! .. وهل على ألسنة الناس عقال يمنعها أن تروي قصة حطب أمر به ابن الخطّاب فأحاط بدار فاطمة ، وفيها عليّ وصحبه ، ليكون عدة الإقناع أو عدة الإيقاع؟ ..

أقبل الرجل محنقا مندلع الثورة على دار عليّ وقد ظاهره معاونوه ومن جاء بهم ، فاقتحموها أو أوشكوا على اقتحام ، فإذا وجه كوجه رسول الله يبدو بالباب حائلا من حزن ، على قسماته خطوط آلام ، وفي عينيه لمعات دمع ، وفوق جبينه عبسة غضب فائر وحنق ثائر ..

وراحت الزهراء وهي تستقبل المثوى الطاهر ، تستنجد بهذا الغائب الحاضر : يا أبت يا رسول الله! .. ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟! فما تركت كلماتها إلّا قلوبا صدعها الحزن وعيونا جرت دمعا ..» (٢).

* قال المسعودي :

وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصر بني هاشم في الشّعب ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٠٥ ، تاريخ ابن شحنة بهامش الكامل ج ٧ / ١٦٤ ، ونهج الحق وكشف الصدق ص ٢٧١.

(٢) الغدير ج ٣ / ١٠٣.

٣٩٩

وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول : إنما أراد بذلك ألّا تنتشر الكلمة ، ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فإنه أحضر الحطب ليحرّق عليهم الدار» (١).

* وقال النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري (عام ٦١١ ه‍) في معرض رده على أبي المعالي الجويني في أمر الصحابة :

«فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه ، وقد غاب عنكم! وبرئتم من قتلته ولعنتموهم ، وكيف لم تحفظوا أبا بكر في محمّد ابنه فإنكم لعنتموه وفسّقتموه ، ولا حفظتم عائشة في أخيها محمّد المذكور ، ومنعتمونا أن خوض وندخل أنفسنا في أمر أمير المؤمنين عليّ والإمامين الحسن والحسين ، ومعاوية الظالم له ولهما ، المتغلّب على حقه وحقوقهما! وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنّة عندكم ، ولعن ظالم الإمام عليّ والحسن والحسين تكلّفا! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها ، ومن القائل لها : حميراء ، أو إنما هي حميراء ، ولعنته بكشفه سترها ، ومعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها.

فإن قلتم : إن بيت فاطمة إنما دخل ، وسترها إنما كشف حفظا لنظام الإسلام ، وكيلا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة.

قيل لكم : وكذلك ستر عائشة إنما كشف ، وهودجها إنما هتك لأنها نشرت حبل الطاعة ، وشقت عصا المسلمين ، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى البصرة ، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٢٠ / ٣٥١ نقلا عن مروج الذهب للمسعودي ج ٣ / ٩.

٤٠٠