أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

لم يكن لأبي طالب ذنب سوى أنه أبو عليّ بن أبي طالب إمام المتقين وقائد الغر المحجّلين وقسيم الجنّة والنار ، وباب حطة الذي من دخله فهو مؤمن ومن لم يدخله فهو كافر.

وصاية أبي طالب عليه‌السلام

كان أبو طالب عليه‌السلام وصيّا من أوصياء الأنبياء ، ومعنى كونه وصيا أي أنه كان منبئا من قبل الله عزوجل حسبما استظهرناه من الأخبار ، وكذا كان أبوه عبد المطلب حيث كان منبئا في نفسه من الله تعالى ، لما روي من أن عبد المطلب كان حجة ، وأبو طالب كان وصيّه عليه‌السلام (١).

ومفهوم الحجة وإن كان يشمل كل ما يحتج به على الآخرين سواء كان معصوما أم لا ، إلّا أنه هنا يصرف إلى خصوص المعصوم بقرينة أن هناك وصيّا من بعده ، هذا مضافا إلى القرائن الخارجية الدالة على نبوتهما التسديدية ، لأن النبوة من «النبأ» أي الخبر ، فالمنبئ أي المخبر ، لذا قال الله تعالى للملائكة : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) أي اخبروني إن كنتم صادقين بدعواكم أنكم أحقّ بالأمر من آدم. ثم قال الله لآدم : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (٣) فالإنباء هو الإخبار ، ونبوة أبي طالب كنبوة أبيه من قبل هي النبوة التسديدية التوفيقية وهكذا أغلب أنبياء بني إسرائيل كانوا مسددين من قبل الباري عزوجل وأما الموحى إليهم بالتشريع فكانوا قليلين كالأنبياء أولي العزم وزد عليهم قليلا.

وبالجملة فإن نبوة عبد المطلب وابنه عبد مناف مما لا يجب أن يرتاب بها ذو مسكة ، ولهما بأمّ موسى أسوة وهي التي أوحى الله إليها (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ

__________________

(١) الاعتقادات للصدوق ص ١١٠ وبحار الأنوار ج ١٥ / ١١٧.

(٢) سورة البقرة : ٣١.

(٣) سورة البقرة : ٣٣.

٣٦١

أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١).

فقد عيّن الله لأمّ موسى الوظيفة العملية ، وهكذا بالنسبة إلى عبد المطلب وعبد مناف فقد أراد الله بحكمته أن يبرز فضلهما على سائر الناس في الفترة ما بين عيسى ونبيّنا محمّد عليه وآله السلام.

كما أن لهما أسوة بمريم عليها‌السلام ، وبالخضر عليه‌السلام الذي أفاض الله تعالى عليه العلم اللدني مع أنه ليس بنبيّ بل وليّ صالح على قول المشهور حسبما جاءت به الأخبار ، وعلى فرض كونه نبيّا ـ حسبما استفاده بعض لنون العظمة في قوله تعالى آتيناه رحمة من عندنا (٢) ـ فلا يراد منها التشريعية في مقابل شريعة موسى عليه‌السلام ، بل هي نبوة تسديدية ، وعلى فرض سلّمنا بكونها تشريعية فلا تناهض تشريع موسى عليه‌السلام وذلك لأن النبيّ موسى مكلّف بالظاهر ، والخضر عليه‌السلام مكلّف بالباطن ، وكذا عبد المطلب وأبو طالب عليهما‌السلام طبق القذة بالقذة.

وهكذا حدّثنا التاريخ عن خالد بن سنان العبسي فقد ذكر المؤرخون :

[أنه كان في الفترة ـ أي ما بين النبيين الكريمين عيسى ومحمّد عليهما‌السلام ـ قيل : كان نبيا ، وكان من معجزاته أن نارا ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يتمجسون ، فأخذ خالد عصاه ودخلها حتى توسطها ففرّقها ، وهو يقول : بدّا بدّا كل هدى مؤدّى (٣) ، لأدخلنّها وهي تلظّى ولأخرجنّ منها وثيابي تندى ، ثم أنها طفئت وهو في وسطها.

فلما حضرته الوفاة قال لأهله : إذا دفنت فإنه ستجيء عانة من حمير يقدمها عير أبتر فيضرب قبري بحافره ، فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخبركم بجميع

__________________

(١) سورة القصص : ٧.

(٢) سورة الكهف : ٦٥ لاحظ تفسير الميزان للطباطبائي ج ١٣ / ٣٤٢.

(٣) في نسخة الأعلام للزركلي : يدا يدا كل هادي مورا إلى الله الأعلى ، لأدخلنّها وثيابي تندا.

٣٦٢

ما هو كائن ، فلما مات ودفنوه رأوا ما قال ، فأرادوا نبشه ، فكره ذلك بعضهم قالوا : نخاف إن نبشناه أن تسبّنا العرب بأنّا نبشنا ميتا لنا فتركوه.

فقيل إنّ النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قال فيه : ذلك نبيّ ضيّعه قومه ، وأتت ابنته النبيّ فآمنت به] (١).

وقد عبّرت النصوص المتضافرة عن أئمة آل البيت عليهم‌السلام بالرؤيا الصالحة بأنها جزء من سبعين جزء من النبوة ، ولا يراد منها النبوة التشريعية بل التسديد والإخبارات التكوينية.

فقد ورد عن رسول الله قال : الرؤيا الصالحة يبشّر بها المؤمن وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الرؤيا الصالحة بشرى من الله وهي جزء من أجزاء النبوة (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من النبوة.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن رأي المؤمن رؤياه جزء من سبعين جزء من النبوة ، ومنهم من يعطى على الثلاث.

وعنه عليه‌السلام : رأى المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءا من أجزاء النبوة.

وعن محمد بن كعب وعائشة : أول ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ، وكان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح (٤).

فإذا كان رؤيا المؤمن جزءا من أجزاء النبوة ، فليكن رؤيا عبد المطلب وأبي

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١ / ٣٧٦.

(٢) ميزان الحكمة / ري شهري ج ٣ / ١٠١١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) مصدر كل هذه الأحاديث : ميزان الحكمة ج ٣ / ١٠١١.

٣٦٣

طالب من هذا القبيل ولكن بمستوى أرقى مما هو عليه المؤمنون الصالحون ، وليس معنى صوابية رؤيا المؤمن أنه صار نبيّا مشرّعا بل رؤياه من قبيل التسديد والتوفيق ، وهكذا ورد عن عبد المطلب انه نبىء في المنام أن احفر طيبة ، قال : قلت : وما طيبة؟ قال : ثم ذهب ـ أي من أتاه في المنام ـ فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت ، فجاءني فقال : احفر برّة ، قال : قلت : وما برّة؟ ثم جاءه مرة ثالثة ، فقال له : احفر المضنونة ، قلت : وما المضنونة؟ ثم جاءه مرة رابعة ، فقال له : احفر زمزم ، إنك إن حفرتها لا تندم ، قلت : وما زمزم؟ قال : تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم ، .. فلما بيّن له شأنها ودلّ على موضعها وعرف أنه قد صدق ، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره ، فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها ، وقد رأى الغراب ينقر هناك ، فلمّا بدا له الطويّ كبّر ، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته ، فقاموا إليه فقالوا : إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك ، قال : ما أنا بفاعل ، هذا أمر خصصت به دونكم ، قالوا : فإنّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها ، قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم ، قالوا : كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بمشارف الشام ، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف ، فلما أشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ ، ركب عبد المطلب راجعا إلى دياره ، فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عين عذبة من ماء ، فكبّر وكبّر أصحابه وشربوا وملئوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل من قريش فقال : هلمّوا إلى الماء فقد سقانا الله ، ثم قالوا لعبد المطلب : والله لا نخاصمك في زمزم أبدا ، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشدا (١).

ويروى أن عبد المطّلب أوّل من تحنث بحراء ، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر (٢).

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ١٢ ـ ١٣ بتصرف.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ١٥.

٣٦٤

ويروى له كرامات تدل على علو مقامه ، منها دعاؤه على جيش أبرهة لما جاء إلى مكة ليهدم الكعبة ، فقام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقال :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا

امنعهم أن يخربوا فناكا

وقال أيضا :

لا همّ إنّ العبد يمنع

رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم غدرا محالك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرّزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.

ولمّا هجم جيش أبرهة ، ألقى الفيل نفسه إلى الأرض ، وكلما حاولوا إلى أن ينهضوه أبى ، ثم بعد ذلك أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار ، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك» (١).

ورد عن مولانا الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة وحده عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك (٢).

وعنه أيضا قال عليه‌السلام : إن عبد المطلب أول من قال : بالبداء يبعث يوم القيامة أمّة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء (٣).

بيان :

قوله عليه‌السلام : أمّة وحده ، إشارة إلى أنه يعادل أمة بكاملها يوم القيامة عند ما

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ٤٤٤.

(٢) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٥٧ نقلا عن أصول الكافي.

(٣) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٥٧.

٣٦٥

يحشر الناس فوجا فوجا هو يحشر وحده ليس لأنه كان في زمانه متفردا بدين الحق من بين قومه ـ حسبما ادّعى (١) العلّامة المجلسي عليه الرحمة ـ بل لأن إيمانه يوازي أمة بكاملها ، ويؤيد ما قلنا ما ورد عن مولانا الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام بقوله لمن قال له : إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، قال عليه‌السلام : كذبوا والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم (٢).

وروي عن ابن مسكان عن مولانا الإمام جعفر بن محمّد عليه‌السلام قال : سألته عن القائم في طريق الغريّ ، فقال : نعم إنه لمّا جازوا بسرير أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام انحني أسفا وحزنا على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكذلك سرير أبرهة لمّا دخل عليه عبد المطلب انحنى ومال (٣).

ولا يخفى أن انحناء السرير له دلالة مهمة على علو شأنه ، وانحناء الجماد له إشارة إلى كونه قبلة إلى الله تعالى ، فلو لا أنه معصوم لما سجدت الكائنات له ، ضرورة أنها لا تنحني لمؤمن عادي مهما بلغ شأنه بالتقى والورع.

وفي خبر آخر عن الكافي عن الحسن بن راشد عن الإمام أبي ابراهيم عليه‌السلام قال : «... فأتاه الله بالنوم ـ أي أنامه ـ فغشيه وهو في حجر الكعبة ، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول : يا شيبة الحمد أحمد ربك ، فإنه سيجعلك لسان الأرض ويتبعك قريش خوفا ورهبة وطمعا .. فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان ، فقالوا له : نحن أتباع ولدك ، ونحن من سكّان السماء السادسة ، السيوف ليست لك ، تزوّج في مخزوم تقوي (تقو : نسخة) .. فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية : إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبد الله ، فصار لأبي

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٥٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٢ ح ٤٤.

(٣) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٦٠ نقلا عن أمالي الطوسي.

٣٦٦

طالب من ذلك أربعة أسياف ، سيف لأبي طالب ، وسيف لعليّ ، وسيف لجعفر ، وسيف لطالب ..» (١).

وورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط ، قيل : فما كانوا يعبدون؟ قال : كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به (٢).

وروى صاحب المناقب فقال :

لما قصد أبرهة بن الصباح لهدم الكعبة أتاه عبد المطلب ليسترد منه إبله ، فقال : تعلمني في مائة بعير ، وتترك دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه؟ فقال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل ، وإن للبيت ربّا سيمنعه منك ، فردّ إليه إبله ، فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأخذ بحلقة الباب قائلا :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع منهم حماكا

إلى آخر الأبيات وقد تقدمت.

فانجلى نوره على الكعبة ، فقال لقومه : انصرفوا ، فو الله ما انجلى من جبيني هذا النور إلّا ظفرت ، والآن قد انجلى عنه ، وسجد الفيل له ، فقال للفيل : يا محمود ، فحرّك الفيل رأسه ، فقال له : تدري لم جاءوا بك؟

فقال الفيل برأسه : لا ، فقال : جاءوا بك لتهدم بيت ربّك ، أفتراك فاعل ذلك؟ فقال الفيل برأسه : لا (٣).

ومما يشهد أن عبد المطلب نبيّ ما جاء في الأخبار المتضافرة من أن نور رسول الله والأئمة الأطهار الميامين كان يتنقل من صلب نبيّ إلى صلب نبيّ آخر

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٥ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٢) نفس المصدر ص ١٤٤.

(٣) نفس المصدر ص ١٤٥.

٣٦٧

حتى وصل نور النبيّ إلى صلب عبد الله ، ونور الوحي إلى صلب عبد مناف «أبي طالب».

فعن أبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) قال :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : خلقت أنا وعليّ بن أبي طالب من نور واحد نسبّح الله تعالى عند العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام فلمّا أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه ، ولقد سكن الجنّة ونحن في صلبه ..» (١).

وعن الطبرسي (قدس‌سره) قال في تفسير قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) معناه : تقلّبك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّا ، عن ابن عبّاس في رواية عطا وعكرمة ، وهو المروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قالا : في أصلاب النبيّين ، نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه‌السلام» (٢).

وقال الطوسي (قدس‌سره):

(الذي يراك) يا محمّد (وتقلّبك في الساجدين) أي أنه أخرجك من نبيّ إلى نبيّ حين [حتى : ظ] أخرجك نبيّا ... إلى أن قال : وقال قوم من أصحابنا : إنه أراد تقلّبه من آدم إلى أبيه عبد الله في ظهور الموحدين ، لم يكن فيهم من يسجد لغير الله» (٣).

وقال القمي (قدس‌سره):

حدّثني محمّد بن الوليد عن محمد بن الفرات عن أبي جعفر عليه‌السلام : (الذي يراك حين تقوم ، وتقلّبك في الساجدين) أي أصلاب النبيين (٤).

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٣ / ١٩٣ ط / دار الهادي ـ بيروت.

(٢) تفسير مجمع البيان ج ٧ / ٢٠٧.

(٣) التبيان في تفسير القرآن ج ٨ / ٦٨.

(٤) تفسير القمي ج ٢ / ٢٥ وورد بطريق آخر في كنز الفوائد ، لاحظ البحار ج ١٥ / ٣ ح ٢.

٣٦٨

بيان :

نستظهر من هذه النصوص أن كلّ آباء النبيّ والولي أنبياء من لدن آدم عليه‌السلام إلى والد النبي عبد الله ، ووالد الإمام عليه‌السلام لاتحاد نور النبيّ والوصيّ ، هذا مضافا إلى أن تسلسل أنوار رسول الله وعترته في أصلاب النبيين دلالة القدرة الإلهية على الإعجاز حيث شاءت حكمته أن لا يكون صلب غير معصوم محيطا بنطفة معصوم.

إن قيل : لا ملازمة بين النبيّ والوليّ ، فحيث إن نبوة آباء النبيّ ثبتت بقوله : من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّا ، إلا أن نبوة أبي طالب تحتاج إلى دليل!

قلنا : إن الحكم بنبوته (١) يستند إلى قرائن أخر منها :

١ ـ ما رواه الصدوق : من أن عبد المطلب كان حجة ، وأبو طالب كان وصيّه.

والوصاية وإن كانت أعم من النبوة ، إذ قد يكون الوصي نبيّا كما في أوصياء الأنبياء وقد يكون غير نبيّ كالعلماء الأتقياء وأمثالهم ، لكن لمّا ثبت نبوة عبد المطلب بما تقدم ، ثبتت نبوة أبي طالب للملازمة بين النبوة والوصاية ، إذ إن كل الأنبياء كانوا يوصون إلى أنبياء مثلهم ، لذا أطلق عليهم تسمية «الوصي» تمييزا لهم عن غيرهم ممن قد يدّعي النيابة عن الأنبياء في مواريثهم وما جاءوا به من عند الله تعالى.

وعليه ، فحيث يوجد مائة وأربع وعشرون ألف نبيّ ، يوجد مثلهم مائة وأربع وعشرون ألف وصي ، وهؤلاء الأوصياء ـ في نفس الوقت ـ أنبياء يوحى إليهم كما كان يوحى لمن أوصى لهم. فهارون وصي موسى وكذا يوشع بن نون ، فهل يتصوّر

__________________

(١) دائما نقصد من النبوة ، النبوة التسديدية وهي عبارة عن إيحاءات ربانية لأبي طالب وآبائه الميامين عليهم‌السلام ، أما النبوة التشريعية فهي مخصوصة بأصحاب الشرائع المقدّسة فقط ، وقد فصّلنا ذلك في تعاليقنا على مراجعات العلّامة المحقّق الكبير السيّد عبد الحسين شرف الدين (قدس‌سره) فليراجع.

٣٦٩

أنهم ليسوا بأنبياء مع أن الأخبار دلت على أنهم أوصياء وأنبياء معا ، وهنا هكذا ، فبما أن عبد المطلب نبي لا بد أن يوصي إلى نبي مثله تماما.

ومن هنا أيضا قال العلّامة محمّد باقر المجلسي (قدس‌سره):

[وقد أجمعت الشيعة على إسلامه ـ أي أبي طالب عليه‌السلام ـ وأنه قد آمن بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل الأمر ، ولم يعبد صنما قط ، بل كان من أوصياء إبراهيم عليه‌السلام واشتهر إسلامه من مذهب الشيعة حتى إنّ المخالفين كلّهم نسبوا ذلك إليهم ، وتواترت الأخبار من طرق الخاصة والعامة في ذلك وصنّف كثير من علمائنا ومحدثينا كتبا مفردة في ذلك كما لا يخفى على من تتبع كتب الرجال] (١).

وقال في موضع آخر :

«اتفقت الإمامية (رضوان الله تعالى عليهم) على أن والديّ الرسول ، وكلّ أجداده إلى آدم عليه‌السلام كانوا مسلمين ، بل كانوا من الصدّيقين : إما أنبياء مرسلين ، أو أوصياء معصومين ، ولعلّ بعضهم لم يظهر الإسلام لتقية أو لمصلحة دينية ، وما روي : أن عبد المطلب كان حجة وأبو طالب كان وصيّه» (٢).

وقال في موضع ثالث :

«... قد آمن ـ أي أبو طالب ـ وأقرّ ، وكيف لا يكون كذلك والحال أن أبا طالب كان من الأوصياء ، وكان أمينا على وصايا الأنبياء وحاملا لها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..» (٣).

ويشهد لما قلنا من أن الوصاية ملازمة للنبوة بحكم الالتحام بين الأنبياء والأوصياء من ناحية الخصائص الروحية والكمالية ، أنه ورد عن درست بن أبي منصور أنه سأل أبا الحسن الأول عليه‌السلام: أكان رسول الله محجوجا بأبي طالب؟

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١٣٩.

(٢) نفس المصدر ج ١٥ / ١١٧.

(٣) نفس المصدر ج ٣٥ / ٧٤.

٣٧٠

فقال عليه‌السلام : لا ، ولكن كان مستودعا للوصايا فدفعها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قلت : فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟ فقال : لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية ، قال : فقلت : فما كان حال أبي طالب؟

قال : أقرّ بالنبيّ وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه (١).

بيان :

يفهم من الخبر أن أبا طالب عليه‌السلام معه مواريث الأنبياء ، وقبل موته سلّمها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ضرورة أن احتفاظه بمواريث الأنبياء دليل عصمته وطهارته من الدنس ، لأن مواريث الأنبياء دائما بيد الأوصياء لم تتخلف هذه السنّة منذ آدم عليه‌السلام إلى غياب مولانا وإمامنا الحجّة ابن الحسن المهدي عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف. من هنا ظن السائل أن أبا طالب حجّة على رسول الله! فأجابه الإمام عليه‌السلام بالنفي ، وظنّ السائل في محله وذلك : لأن القاعدة تقتضي أن يوصي الأعلى رتبة إلى الأدون منه أي يوصي النبيّ إلى وصيه ، فلمّا سلّم أبو طالب المواريث والوصايا ظن السائل أن أبا طالب أفضل من رسول الله وأعلى منه درجة ، لذا قال له الإمامعليه‌السلام: دفع الوصايا لا يستلزم كون أبي طالب حجة على رسول الله بل ينافيه بمعنى لو كان أبو طالب حجة على رسول الله (أي أعلى درجة) لما كان على أبي طالب أن يقدّم إلى رسول الله ليدفع إليه الوصايا ، بل كان على النبيّ أن يقدّم إليه لأخذ الوصايا كما هو سيرة الأوصياء كالكعبة تزار دائما.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٣ ح ٨ وأصول الكافي ج ١ / ٤٤٥. وقوله عليه‌السلام : ومات من يومه أي يوم الدفع لا يوم الإقرار ، ويحتمل تعلقه بهما ، ويكون المراد الإقرار الظاهر الذي اطّلع عليه غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤيد الاحتمال الثاني ما ورد عن ابن عبّاس قال : أخبرني العبّاس بن عبد المطّلب أن أبا طالب شهد عند الموت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، هامش الفصول المائة في حياة الأئمة ج ١ / ٧٤ السيّد أصغر ناظم زاده القمي.

أقول : المراد من الإقرار هنا تأكيد الاعتراف برسول الله كما كان يفعل الأئمة عليهم‌السلام حينما يوصون إلى بعضهم كانوا يؤكدون هذا المعنى ، وإلا فلا ملازمة بين الإقرار يوم الممات وبين إنكار رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٧١

قال العلّامة المجلسي (قدس‌سره):

«هل كان أبو طالب حجّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إماما له؟ فأجاب عليه‌السلام بنفي ذلك ، معلّلا بأنه كان مستودعا للوصايا ، دفعها إليه لا على أنه أوصى إليه وجعله خليفة له ليكون حجّة عليه ، بل كما يوصل المستودع الوديعة إلى صاحبها ، فلم يفهم السائل ذلك وأعاد السؤال ، وقال: دفع الوصايا مستلزم لكونه حجّة عليه؟ فأجاب عليه‌السلام بأنه دفع إليه الوصايا على الوجه المذكور ، وهذا لا يستلزم كونه حجّة بل ينافيه ، وقوله هل كان الرسول محجوجا مغلوبا في الحجة بسبب أبي طالب حيث قصّر في هدايته إلى الإيمان ولم يؤمن ، فقال عليه‌السلام : ليس الأمر كذلك ، لأنه كان قد آمن وأقرّ ، وكيف لا يكون كذلك والحال أن أبا طالب كان من الأوصياء ، وكان أمينا على وصايا الأنبياء وحاملا لها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال السائل : هذا موجب لزيادة الحجّة عليهما حيث علم نبوّته بذلك ولم يقرّ ، فأجاب عليه‌السلام بأنه لو لم يكن مقرّا لم يدفع الوصايا إليه (١).

٢ ـ روى الكليني (قدس‌سره) عن عبد الله بن مسكان ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبشّره بمولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أبو طالب : اصبري سبتا ، أبشّرك بمثله إلّا النبوة (٢).

يدل هذا الحديث على تقدّم إيمان أبي طالب ، وأنه كان من الأوصياء وأمينا على أسرار الأنبياء (٣).

أقول : إن كلّ وصي نبيّ ، وليس كلّ وصي نبيّا مشرّعا ، فبينهما خصوص وعموم من وجه ، فوصاية أبي طالب من مقتضيات نبوته التسديدية لا التشريعية ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٤.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢ وكذا حديث رؤية فاطمة بنت أسد للنور عند ولادة النبي وقد أثبتناه سابقا ، ولاحظ : روضة الكافي ص ٢٥٠ رقم ٤٦٠.

(٣) الفصول المائة ج ١ / ٧٣.

٣٧٢

فمثلا أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أوصياء النبيّ محمّد إلّا أنهم ليسوا أنبياء مشرّعين وإن كانت مقتضيات النبوة فيهم.

إن قيل : لا ملازمة بين الوصاية والنبوة فكيف قلتم إن وصايته عليه‌السلام دليل نبوته؟

قلنا : إن عدم الملازمة صحيحة في غير موضع المواريث والوصايا ، لكنّ الملازمة بينهما في موضع المواريث والوصاية صحيحة وثابتة ، إذ لم يعهد ـ حسبما جاء في أخبارهم عليهم‌السلام ـ للأنبياء أنهم أوصوا لغير الأوصياء المعصومين الذين هم في الواقع أنبياء أيضا لكن أدنى درجة ممن تقدّمهم ، لذا فإن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ظاهرهم الوصاية والخلافة ، لكنّ واقعهم نبوة ، إلّا أنه ورد عنهم النهي (١) عن اعتقاد النبوة فيهم ، بمعنى أنه لا يهبط عليهم جبرائيل بالحلال والحرام بعد وفاة جدهم رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا قالوا : نحن محدّثون ؛ أي أن الله تعالى يحدّثهم ويلهمهم ويوحي إليهم بالخيرات ، وهذا لا يفرق بشيء عن النبوة سوى أنّ الثانية عبارة عن هبوط الملك بالحلال والحرام ، والأولى هي الإخبار عن الحوادث والمجريات.

٣ ـ وفي البحار عن الاحتجاج عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : «إن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان ذات يوم جالسا في الرحبة والناس حوله مجتمعون ، فقام إليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت بالمكان الذي أنزلك الله به ، وأبوك معذّب في النار؟!!

فقال له أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : مه فضّ الله فاك ، والذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله فيهم ، أأبي معذّب في النار وابنه قسيم الجنّة والنار؟!!

__________________

(١) يحمل هذا النهي على الكراهة.

٣٧٣

والذي بعث محمّدا بالحق نبيّا إن نور أبي يوم القيامة يطفئ أنوار الخلائق كلّهم إلّا خمسة أنوار : نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونوري ونور الحسن ونور الحسين ونور تسعة من ولد الحسين ، فإنّ نوره من نورنا الذي خلقه الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام (١).

٤ ـ وفي كنز الفوائد ، عن ابان بن محمّد ، قال : كتبت إلى الإمام عليّ بن موسى عليه‌السلام جعلت فداك إني شككت في إيمان أبي طالب؟

قال : فكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ، إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب ، كان مصيرك إلى النار» (٢).

بيان :

الشك بإيمان مؤمن لا يوجب الدخول إلى النار ، إلّا إذا كان هذا المؤمن معصوما وله ما للأنبياء عليهم‌السلام ، فالشك حينئذ موجب لدخول النار.

٥ ـ وفي البحار أيضا عن محمّد بن يونس ، عن أبيه ، عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : يا يونس ، ما يقول الناس في إيمان أبي طالب؟

قلت : جعلت فداك ، يقولون : هو في ضحضاح من نار يغلي منها أمّ رأسه.

فقال عليه‌السلام : كذب أعداء الله ، إن أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا (٣).

٦ ـ وعن ليث المرادي قال :

قلت للإمام أبي عبد الله عليه‌السلام : سيّدي إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، قال عليه‌السلام :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٠ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٨٠.

(٢) كنز الفوائد ج ١ / ١٨٣ ط / دار الذخائر ، والبحار ج ٣٥ / ١١٠.

(٣) كنز الفوائد ج ١ / ١٨٣ ، وروى عنه في البحار ج ٣٥ / ١١١.

٣٧٤

كذبوا والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم (١).

بيان :

إن رجحان إيمان أبي طالب على إيمان هذا الخلق لدلالة على عصمته ، والعصمة ملازمة للنبوة والوصاية ، فتأمل.

وقد يقال : إن ما ورد في الحديث الخامس ليس دليلا على متعلق العصمة (أعني النبوة أو الوصاية) إذ قد يكون أبو طالب رفيقا للأنبياء والأوصياء وليس هو منهم.

قلنا : إن سماته وهيبته وسيرته هي سيرة الأنبياء والأوصياء ، وهو بدوره مستلزم لأن يكون منهم ، تماما كما ورد في الأخبار أن عليّا أمير المؤمنين له شبه بالأنبياء كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في عزمه وإلى ابراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب (٢). هذا مضافا إلى القرائن الأخرى الدالة على أن له ما للأئمة إلّا ما أخرجه الدليل.

٧ ـ روى الحافظ القندوزي الحنفي قال : عن عبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : لمّا ولدت فاطمة بنت أسد عليّا سمّته باسم أبيها أسد ولم يرض أبو طالب بهذا الاسم فقال : هلمّ حتى نعلو أبا قبيس ليلا وندعو خالق الخضراء لعلّه ينبئنا في اسمه ، فلما أمسيا خرجا وصعدا أبا قبيس ودعيا الله تعالى فأنشأ أبو طالب شعرا :

يا ربّ هذا الغسق الدّجيّ

والفلق المنبلج المضيّ

بيّن لنا عن أمرك المقضيّ

بما نسمّي ذلك الصبيّ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٢.

(٢) ينابيع المودة ص ١٤٢ باب ٤٠.

٣٧٥

فإذا خشخشة من السماء فرفع أبو طالب طرفه ، فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر فأخذه بكلتي يديه وضمّه إلى صدره ضما شديدا فإذا مكتوب :

خصصتما بالولد الزكيّ

والطاهر المنتجب الرضيّ

واسمه من قاهر العلى

عليّ اشتقّ من العليّ

فسر أبو طالب سرورا عظيما وخرّ ساجدا لله تبارك وتعالى وعقّ بعشر من الإبل ، وكان اللوح معلّقا في بيت الله الحرام يفخر به بنو هاشم على قريش حتى غلب الحجاج ابن الزبير (١).

بيان :

يستفاد من هذا الحديث أن أبا طالب كان صدّيقا موحّدا بل كان وصيّا محدّثا ملهما من الله تعالى.

وما ورد في الحديث الثالث : من أن نور أبي طالب يطفئ أنوار الخلائق إلّا أنوار النبيّ والعترة الطاهرة ، كما أن الله خلق نوره من نور الأئمة عليهم‌السلام دلالة عظمى على عصمته وطهارته ، ولم يخلق من نورهم إلّا الملائكة والمرسلين والأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام أجمعين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢) (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٣).

* * * * *

__________________

(١) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٣٠٤ ، المودة الثامنة.

(٢) سورة النازعات : ٢٦.

(٣) سورة يوسف : ١١١.

٣٧٦

قال الملك :

فلما ذا اشتهر بين أهل السّنّة أن أبا طالب مات كافرا؟

قال العلوي :

لأن أبا طالب أبو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فحقد أهل السنة على عليّ بن أبي طالب أوجب أن يقولوا : إن أباه مات كافرا ، كما أنّ حقد السنّة على عليّ عليه‌السلام أوجب أن يقتلوا ولديه الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ، حتى قال أهل السنّة الذين حضروا كربلاء لقتل الحسين عليه‌السلام : نقاتلك بغضا منّا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين!

قال الملك ـ موجّها الكلام إلى الوزير ـ :

هل قال هذا الكلام قتلة الحسين عليه‌السلام؟

قال الملك للعبّاسي :

فما جوابك عن قصة خالد بن الوليد.

قال العبّاسي :

إن أبا بكر رأى المصلحة في ذلك!

قال العلوي ـ متعجّبا ـ :

سبحان الله! وأيّ مصلحة تقتضي أن يقتل خالد الأبرياء ويزني بنسائهم ثمّ يبقى بلا حدّ ولا عقاب ، بل يفوّض إليه قيادة الجيش ، ويقول فيه أبو بكر إنه سيف سلّه الله ، فهل سيف الله يقتل الكفّار أو المؤمنين؟

٣٧٧

وهل سيف الله يحفظ أعراض المسلمين أو يزني بنساء المسلمين؟؟

قال العبّاسي :

هب ـ أيّها العلوي ـ أن أبا بكر أخطأ ، لكنّ عمر تدارك الأمر!

قال العلوي :

تدارك الأمر هو أن يجلد خالدا لزناه ، ويقتله لقتله الأبرياء المؤمنين ، ولم يفعل ذلك عمر ، فعمر أخطأ كما أخطأ أبو بكر من قبله.

قال الملك :

إنك أيّها العلوي قلت في أول الكلام إنّ أبا بكر أساء إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما هي إساءته إلى فاطمة عليها‌السلام؟

قال العلوي :

إن أبا بكر بعد ما أخذ البيعة لنفسه من الناس بالإرهاب والسيف والتهديد والقوّة أرسل عمرا وقنفذا وخالد بن الوليد وأبا عبيدة الجراح وجماعة أخرى ـ من المنافقين ـ إلى دار عليّ وفاطمة عليهما‌السلام وجمع عمر الحطب على باب بيت فاطمة (ذلك الباب الذي طالما وقف عليه رسول الله وقال : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، وما كان يدخله إلّا بعد الاستئذان) وأحرق الباب بالنار ، ولما جاءت فاطمة عليها‌السلام خلف الباب لتردّ عمر وحزبه ، عصر عمر فاطمة بين الحائط والباب عصرة شديدة قاسية حتى أسقطت جنينها ونبت مسمار الباب في صدرها وصاحت فاطمة عليها‌السلام : أبتاه يا رسول الله أنظر ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة! فالتفت عمر إلى من حوله وقال : أضربوا فاطمة ،

٣٧٨

فانهالت السياط على حبيبة رسول الله وبضعته حتى أدموا جسمها (١)! وبقيت آثار هذه العصرة القاسية والصدمة المريرة تنخر في جسم فاطمة ، فأصبحت مريضة عليلة حزينة حتى فارقت الحياة بعد أبيها بأيام ـ ففاطمة شهيدة بيت النبوة ـ فاطمة قتلت بسبب عمر بن الخطّاب!

____________________________________

(١) عاشت سيّدة النساء المعظّمة مولاتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام مأساة بعد مأساة مذ وفاة أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جرى عليها يكاد يخلع الأفئدة من مواقعها ، ويدهش العقول المتزنة ، فمن أصبغوا على أنفسهم ألقاب «الصدّيق والفاروق وسيف .. المسلول وذي النورين» حيث هجموا على دار من قام النبيّ إجلالا لها وقبّل يدها ، وقد يسأل المنصف : لما ذا هذا الهجوم؟ وهل دخل دارها ـ الذي هو دار الله ، وبابها باب الله فمن هتكه فقد هتك حجاب الله (١) ـ مشرك أو كافر حربي ، فحاولوا إخراجه ، أم أنّ الدخول كان لشيء آخر؟

كلا وحاشاها لم يكن في دارها من ذكرنا حتى يكون مبرّرا لاقتحامه ، ولم يكن فيه مال ـ حسبما ادّعى ذلك ابن تيمية ـ (٢) بل فيها عترة رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين طهّرهم الله تعالى في محكم القرآن المجيد (٣) ، وأمر بإطاعتهم ، وأنهم مع

__________________

(١) ورد عن رسول الله أنه قال : «ألا إن فاطمة بابها بابي ، وبيتها بيتي ، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله ، قال الراوي عيسى بن المستفاد : بكى الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام طويلا وقال : هتك والله حجاب الله هتك والله حجاب الله ، هتك والله حجاب الله يا أمه صلوات الله عليها. بحار الأنوار ج ٢٢ / ٤٧٧.

(٢) ذكر هذا الناصبي : «أن أبا بكر كبس بيت الإمام عليّ لينظر هل فيه شيء من مال الله ليعطيه لمستحقه». لاحظ : منهاج السنّة ج ٨ / ٢٩١ الطبعة الحديثة. أقول : متى كان أبو بكر حريصا على فقراء المسلمين حتى تنسب إليه هذه المثلبة ـ لا المنقبة ـ وهل هو أحرص من أمير المؤمنين عليّ يوم تصدّق بخاتمه في الصلاة ليعطيه لمستحقه؟! كلا وألف كلا. وهل الصدقة على المسلمين تجيز ترويع وإهانة وقتل ابنة أحب الخلق إلى الله تعالى؟!

(٣) بقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وقد تقدم البحث فيها فليراجع.

٣٧٩

الحق ، يدور معهم حيثما داروا ، في الدار فاطمة سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، فاطمة الصدّيقة التي يسخط الله لسخطها ويرضى لرضاها ، فاطمة التي طالما قال لها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فداك أبوك (١) وفاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما آذاها (٢).

فاطمة روحي التي بين جنبيّ من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله (٣).

فاطمة التي : لمّا زفت كان النبيّ أمامها وجبرائيل عن يمينها وميكائيل عن يسارها (٤).

فاطمة التي : كان يشم النبيّ منها رائحة الجنّة (٥).

وهنا نحاول باقتضاب أن نسلّط الضوء على جانب من جوانب حياتها المباركة الطاهرة ، ألا وهو الجانب المأساوي الحزين ، الذي ما برح التاريخ يردّده بأنين لا ينقطع ، ويدوّنه بحروف قاتمة على صفحات سوداء لما أصابها من غبن وحيف ، وما لحقها من تعسّف واضطهاد ، رائيا حال أولئك الذين تهافتوا على حطام الدنيا البالية ، وانقادوا للأباطيل التي منّت بها أنفسهم الأمارة بالسوء ، واتبعوا شهواتهم الفانية ، وغرّهم بالله الغرور.

والبحث في الجانب المأساوي ذو شقين :

الأول : الجانب النفسي.

الثاني : الجانب الحقوقي.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك ج ٣ / ٥٦ ط / حيدرآباد ، والخوارزمي في مقتل الإمام الحسين ص ٦٦ ط / الغري.

(٢) رواه مسلم في صحيحه ج ٧ / ١٤٠ ط / محمد صبح بمصر ، السنن الكبرى للبيهقي ج ١٠ / ٢٠١ ط / حيدرآباد.

(٣) منتخب كنز العمال / علي متقي الهندي (المطبوع بهامش المسند ج ٥ / ٩٦ ط / الميمنية بمصر).

(٤) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج ٥ / ٨٧.

(٥) ينابيع المودة ص ٢٠٤.

٣٨٠