أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

١ ـ أنها كانت على دين الحنيفية ، بدليل أنها كانت زوجة أبي طالب عليه‌السلام وصي الأنبياء ، ومن كان هكذا يبعد في حقه أن يتزوج مشركة ، تماما كما كان آباء النبيّ وأجداده كانوا جميعهم موحدين وصدّيقين (١).

٢ ـ أنها لمّا ولد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استبشرت بمولده ، مما يدل على أنها كانت من المنتظرين لمجيئه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى الكليني والصدوق والمجلسي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب عليه‌السلام تبشّره بمولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها أبو طالب : اصبري سبتا آتيك بمثله إلّا النبوة. وقال : السبت ثلاثون سنة ، وكان بين رسول الله وأمير المؤمنين ثلاثون سنة (٢).

٣ ـ ما ورد بالمستفيض من مناجاتها مع الله عزوجل عند ما أتاها الطلق حول بيت الله وهي حامل بمولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فقالت : «أي ربي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بنى البيت العتيق ، فبحق الذي بنى هذا البيت ، وبحق المولود الذي في بطني إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي ..».

وهنا أتبرك بما ورد عنها عليها‌السلام رزقني الله شفاعتها ، فأروي عن كشف الغمة عن بشائر المصطفى ، والبحار عن غيبة النعماني ومعاني الأخبار وعلل الشرائع ، عن سعيد بن جبير قال :

قال يزيد بن قعنب : كنت جالسا مع العبّاس بن عبد المطلب وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وكانت حاملة به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق ، فقالت : يا ربّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدي ابراهيم الخليل ... إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي.

__________________

(١) راجع كتابنا : الفوائد البهية ج ١ / ٤٧٥ ط ثانية.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢ ، بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٧ ح ١ عن معاني الأخبار.

٣٤١

قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشقّ عن ظهره ، ودخلت فاطمة فيه ، وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله والتزق الحائط فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عزوجل ، ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ثم قالت : إني فضّلت على من تقدّمني من النساء ، لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عزوجل سرا في موضع لا يحب الله أن يعبد فيه إلا اضطرارا ، وأن مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا جنيا ، وأني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها ، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف : يا فاطمة ، سمّيه عليّا ، فهو عليّ والله العليّ الأعلى ، يقول إني شققت اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسّر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذّن فوق ظهر بيتي ويقدّسني ويمجدني ، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه ، وويل لمن أبغضه وعصاه.

قالت : فولدت عليّا ولرسول الله ثلاثون سنة ، وأحبّه رسول الله حبا شديدا وقال لها : اجعلي مهده بقرب فراشي ، وكان يلي أكثر تربيته ، وكان يطهّر عليّا في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ورقبته ويقول : هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي وصهري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي ، وكان رسول الله يحمله دائما ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها صلّى الله على الحامل والمحمول» (١).

وهل يفتح الله تعالى جدار الكعبة ـ مع أن للكعبة بابا يمكن الدخول والخروج منه ـ لكافرة ـ حاشاها ـ؟

وهل أن الله تعالى يعجزه أن يضع نطفة عليّ المرتضى خليفة الله وخليفة

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٩ عن كشف اليقين وكشف الحق وبشائر المصطفى ، وكشف الغمة ج ١ / ٨٢ ، والمناقب ج ٢ / ١٧٤ بلفظ آخر.

٣٤٢

رسوله في رحم طاهرة؟ معاذ الله إنه ربها أحسن مثواها إنه على كل شيء قدير.

(٤) إن إبا طالب عليه‌السلام دعا وزوجته فاطمة ربّهما في أن يلهمهما في اسم وليدهما الذي سوف يولد ، حينما كانت تسميه وهو في بطنها باسم أبيها «أسد» فلم يرض أبو طالب بهذا الاسم فقال : هلمّ حتى نعلو أبا قبيس ليلا ، وندعوا خالق الخضراء ، فلعله أن ينبئنا في اسمه ، فلما أمسيا خرجا وصعدا أبا قبيس ، ودعيا الله تعالى ، فأنشأ أبو طالب شعرا :

يا رب هذا الغسق الدجي

والفلق المبتلج المضي

بيّن لنا عن أمرك المقضي

لما نسمي ذلك الصبي

فإذا خشخشة من السماء ، فرفع أبو طالب طرفه ، فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر فأخذه بكلتا يديه وضمّه إلى صدره ضما شديدا ، فإذا مكتوب :

خصصتما بالولد الزكيّ

والطاهر المنتجب الرضي

وسامه من قاهر العليّ

عليّ اشتق اسمه من العليّ

فسر أبو طالب عليه‌السلام سرورا عظيما ، وخرّ ساجدا لله تعالى وعقّ بعشرة من الإبل وكان اللوح معلّقا في البيت الحرام يفتخر به بنو هاشم على قريش حتى غاب زمان قتال الحجاج ابن الزبير (١).

وليس صحيحا ما روي في خبر ضعيف : أن فاطمة سمّت ابنها باسم أبيها (٢) بعد خروجها من الكعبة ، فإن ذلك يعتبر تحريفا لمضامين الأخبار المتضافرة التي دلت على أن الله تعالى أمرها وهي في الكعبة أن تسميه عليا ، فالأولى طرح ذاك

__________________

(١) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٢٥٥ وكفاية الطالب / الكنجي الشافعي ص ٢٦٠.

(٢) اسم أبيها «أسد» وحيدر من أسماء الأسد ، والإمام علي عليه‌السلام كان يقول فيما نسب إليه في وقعة خيبر :

«أنا الذي سمتني أمي حيدرة

كليث غابات كريه المنظرة

أكيلكم بالسيف كيل السندره»

٣٤٣

الخبر بتقديم ما أشرنا إليه ، أو أننا نجمع بين الأخبار المتعارضة بحمل ذاك الخبر على أنها سمته باسم أبيها قبل أن تلد الإمام عليه‌السلام ، ثم لمّا دخلت الكعبة سماه الله عليّا ، أو أن أبا طالب بعد ولادة زوجته جاءه التأكيد مرة أخرى من الله على تسميته بعليّ. أو يكون «حيدر» من ألقابه الشريفة ، فكانت أمه تناديه بحيدر لما عرفت منه القوة والشجاعة والبطولة والحمية ، وهل هناك مثل أمير المؤمنين عليّ إلّا رسول الله محمّد؟ صلّى الله على محمّد وعليّ وآلهما.

(٥) كشف المعصوم عليه‌السلام عن طهارة آباء الإمام الحسين عليه‌السلام وأجداده ومنهم فاطمة بنت أسد ، بقوله عليه‌السلام :

«يا مولاي يا أبا عبد الله أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها ..» (١).

إن التقلّب في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة يستلزم أن تكون ـ أي هذه الأرحام والأصلاب ـ مؤمنة بالله تعالى لا مشركة ، قال تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢).

ومعناها : تقلّبك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّا (٣). وكذا أئمة آل البيتعليهم‌السلام تقلبوا في الأصلاب والأرحام المطهّرة عن السفاح والكفر والفسق والفجور وما شابه ذلك.

(٦) دلت السيرة العقلائية القريبة من عصر النص ، على طهارتها قبل الإسلام ، لذا مدحها الشعراء والأدباء بقصائدهم للتدليل على علو شأنها ، وممن أنشد الشاعر الكبير «الحميري» في قصيدة قال فيها :

__________________

(١) رواها الشيخ الطوسي في «المصباح» وكذا ابن قولويه في كتاب «المزار».

(٢) سورة الشعراء : ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٣) تفسير مجمع البيان ج ٧ / ٢٠٧ ، وتفسير القمي ج ٢ / ٢٥ ، والفوائد البهية ج ١ / ٤٧٦.

٣٤٤

ولدته في حرم الله وأمنه

والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها

وبدت مع القمر المنير الأسعد

ما لفّ في خرق القوابل مثله

إلا ابن آمنة النبيّ محمّد (١)

وأما النقطة الثانية :

لا ريب أن أبا طالب عليه‌السلام كان مؤمنا قبل البعثة وبعدها ، وهذا ما أجمع عليه شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، بل يظهر من الأخبار أنه كان من الأوصياء حسبما ورد في بعضها عن الإمام السبط الحسين بن عليّ عن والده أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «... والذي بعث محمّدا بالحق أن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلّا خمسة أنوار : نور محمّد ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ونور ولده من الأئمة ، ألا إن نوره من نورنا ، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام(٢).

وجلّ الأدلة التي سيقت على إيمان زوجه فاطمة بنت أسد ، هي بنفسها حجة على إيمانه ، «وقد ألف في إثبات إيمانه الكثير من السنّة والشيعة ، وقد أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كتابا ، ومنها كتاب : أبو طالب مؤمن قريش للأستاذ عبد الله الخنيزي ، الذي كاد أن يدفع حياته ثمنا لهذا الكتاب ، حيث حاول الوهابيون في السعودية تنفيذ حكم الإعدام فيه ، بسبب كتابه هذا.

وقد نقل العلّامة الأميني أسماء الكتب في إثبات ذلك ، كالبرزنجي في أسنى المطالب ، والأجهوري والإسكافي ، وأبي القاسم البلخي ، وابن وحشي في شرحه لكتاب : شهاب الأخبار ، والتلمساني في حاشية الشفاء ، والشعراني وسبط ابن الجوزي ، والقرطبي والسبكي ، وأبي طاهر ، والسيوطي وغيرهم.

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ج ٢ / ١٧٤.

(٢) الغدير ج ٧ / ٣٨٧ وبحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٠ حديث ٣٩.

٣٤٥

«بل حكم جماعة منهم كأحمد بن الحسين الموصلي الحنفي المشهور بابن وحشي في شرحه على الكتاب المسمى بشهاب الأخبار للعلّامة القضاعي المتوفى ٤٤٥ ه‍ : إن بغض أبي طالب كفر ، ونص على ذلك أيضا من المالكية العلّامة الأجهوري في فتاويه ، والتلمساني في حاشيته على الشفاء قال : لا ينبغي أن يذكر إلّا بحماية النبيّ لأنه حماه ونصره بقوله وفعله ، وفي ذكره بمكروه أذية للنبيّ ، ومؤذي النبيّ كافر ، والكافر يقتل ، وقال أبو طاهر : من أبغض أبا طالب فهو كافر» (١).

ومن الأدلة على إيمان أبي طالب ما يلي :

١ ـ ما ورد من المديح على لسان المعصومين عليهم‌السلام دلالة عظمى على جلالة خطره وعظم أمره وعلو شأنه ، وأهل البيت عليهم‌السلام أدرى بأجدادهم من كل أحد ، من هذه الأخبار ما رواه المجلسي بإسناده عن الكراجكي بسند معنعن إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنه كان جالسا في الرحبة والناس حوله ، فقام إليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين إنك بالمكان الذي أنزلك الله وأبوك معذّب في النار ، فقال : مه فضّ الله فاك ، والذي بعث محمّدا بالحق نبيّا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله فيهم ، أبي معذّب في النار وابنه قسيم الجنّة والنار؟ والذي بعث محمّدا بالحق إن نور أبي طالب ليطفئ أنوار الخلائق إلّا خمسة أنوار : نور محمّد ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ونور ولده من الأئمة ، ألا إن نوره من نورنا ، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام(٢).

وعن الكراجكي بإسناده إلى أبان بن محمّد قال :

كتبت إلى الإمام عليّ بن موسى عليه‌السلام : جعلت فداك إني شككت في إيمان أبي طالب قال : فكتب «بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن يبتغ عير سبيل المؤمنين

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ٣٨١.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٠ ح ٣٩.

٣٤٦

نولّه ما تولّى» إما إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار (١).

* وعن محمد ابن عليّ بن بابويه مثله (٢).

ملاحظة :

إن الحكم بالمصير إلى النار لأجل الشك بإيمان أبي طالب عليه‌السلام دلالة كبرى على أن الاعتقاد بإيمانه هو من صلب العقيدة ، ولو لم يكن على درجة عالية من الإيمان واليقين بل والعصمة لما كان الشك بإيمانه موجبا لدخول النار ، وهل الشك بإيمان رجل عادي موجب للدخول في النار؟!

* وعن ليث المرادي قال :

قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : سيدي إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، قال عليه‌السلام : كذبوا والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم (٣).

إلى غيرها من الأخبار الكثيرة بفضله ، ويكفي أن الله تعالى أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج من مكة لما مات أبو طالب ، فليس بعده ناصر (٤).

٢ ـ الأخبار الدالة على أنه كان من المنتظرين لولادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنه الوصي عليّ لمّا جاءت فاطمة بنت أسد تبشّره ، فقال لها : اصبري سبتا يأتيك مثله ، وقد تقدّم الحديث (٥).

وما ورد في روضة الكافي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان حيث

__________________

(١) نفس المصدر ج ٣٥ / ١١٠ ح ٤٠.

(٢) نفس المصدر ح ٤١.

(٣) نفس المصدر ج ٣٥ / ١١٢ ح ٤٤.

(٤) نفس المصدر ح ٤٣.

(٥) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢.

٣٤٧

طلقت آمنة بنت وهب ، وأخذها المخاض بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب ، فلم تزل معها حتى وضعت ، فقالت إحداهما للأخرى : هل ترين ما أرى؟ فقالت : وما ترين؟

قالت : هذا النور قد سطع ما بين المشرق والمغرب ، فبينما هما كذلك ، إذ دخل عليهما أبو طالب ، فقال لهما : ما لكما؟ من أي شيء تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت ، فقال لها أبو طالب : ألا أبشّرك؟ فقالت : بلى ، فقال : إما أنك ستلدين غلاما يكون وصي هذا المولود (١).

وهذان الحديثان يدلان على أن أبا طالب عليه‌السلام كان وصيّا من أوصياء الأنبياء ، ويؤكد ما قلنا ما رواه الصدوق : «من أن عبد المطلب كان حجة ، وأبو طالب كان وصيّه» (٢). ولما رواه الكليني : إن أبا طالب كان مستودعا للوصايا فدفعها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

٣ ـ لو كان أبو طالب كافرا لكان شنّع معاوية وحزبه والزبيريون وأعوانهم على الإمام عليّ المرتضى عليه‌السلام مع أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يذمهم ويزري عليهم بكفر الآباء والأمهات ورذالة النسب.

٤ ـ ورد في نصوص عدة أن أبا طالب أمر ولده جعفرا أن يصل جناح ابن عمه رسول الله محمّد في الصلاة ، كما أمر حمزة بالثبات على الدين ، هذا مضافا إلى أنه أظهر سروره بالنبيّ عند ما جهر بدعوته ، فكان المدافع القوي عن ابن أخيه النبيّ محمّد والمحامي الوحيد له من المشركين ، كما أنه أطاع النبيّ عند ما أمر أعمامه باتباع مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يوم الدار في السنة الثالثة للبعثة.

٥ ـ لو كان أبو طالب كافرا لما أمر ابنه المؤمن ـ بل الإيمان متجسد به ـ

__________________

(١) روضة الكافي ص ٢٥٠ رقم الحديث ٤٦٠.

(٢) اعتقادات الصدوق ص ١١٠ وبحار الأنوار ج ١٥ / ١١٧.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٤٤٥ ، وبحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٣ ح ٨.

٣٤٨

بتولية أمره ، ولكان الكافر حينئذ أحقّ به ، مع أن الخبر قد ورد مستفيضا بأن جبرائيل قال لرسول الله عند موت أبي طالب : إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : اخرج من مكة فقد مات ناصرك(١) ، وهذا يبرهن عن إيمانه لتحققه بنصرة رسول الله.

٦ ـ ترحم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه عند ما مات ، واستغفاره له باستمرار ، وجزعه عليه ، وواضح أنه لا يصح الترحم ولا الاستغفار للمشركين ، من هنا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسفانة بنت حاتم الطائي : «لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه» (٢).

هذا مضافا إلى مرثيات أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بأبيه لدلالة على إيمانه ، منها ما ورد :

أبا طالب عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظلم

لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ

فصلّى عليك وليّ النعم

ولقّاك ربك رضوانه

فقد كنت للطهر من خير عم (٣)

فلو كان كافرا ما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يرثيه بعد موته ، ويدعو له بالرضوان من الله تعالى.

٧ ـ لو كان كافرا لما أبقاه مع زوجه فاطمة بنت أسد مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فرّق بين ربائبه وأزواجهن عتبة وعتيبة على ما تقدم. ورد متواترا أن الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام سئل عن أبي طالب أكان مؤمنا؟

فقال : نعم ، فقيل له : إن هاهنا قوما يزعمون أنه كافر ، فقال : وا عجباه! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله؟ وقد نهاه الله أن يقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن ، ولا يشك أحد أن بنت أسد من المؤمنات السابقات ، وأنها لم

__________________

(١) روضة الكافي ص ٢٨١ رقم ٥٣٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٠٥.

(٣) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٤.

٣٤٩

تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه (١).

٨ ـ الأشعار الصادرة عن عبد مناف بن عبد المطلب «أبو طالب» تدل على إيمانه بالله تعالى وبرسوله. ومن شعره في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطمئنا إياه من أنه لا يسلمه للأعداء ، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال :

خليليّ ما أذني لأوّل عاذل

بصغواء في حق ولا عند باطل

ولمّا رأيت القوم لا ودّ فيهم

وقد قطعوا كل العرى والوسائل

وقد صارحونا بالعداوة والأذى

وقد طاوعوا أمر العدوّ المزايل

وقد حالفوا قوما علينا أظنّة

يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة

وأبيض عضب من تراث المقاول

أعوذ برب الناس من كل طاعن

علينا بسوء أو ملحّ بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة

ومن ملحق في الدين ما لم نحاول

وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه

وراق ليرقى في حراء ونازل

وبالبيت حقّ البيت من بطن مكة

وبالله إنّ الله ليس بغافل

وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه

إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

كذبتم وبيت الله نترك مكة

ونضعن إلّا أمركم في بلابل

كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا

ولمّا نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وينهض قوم بالحديد إليكم

نهوض الرّوايا تحت ذات الصلاصل

وحتى نرى ذا الضّغن يركب ردعه

من الطعن فعل الأنكب المتحامل

وإنّا لعمر الله إن جدّ ما أرى

لنلتبسن أسيافنا بالأماثل

بكفّي فتى مثل الشهاب سميدع

أخي ثقة حامي الحقيقة باسل

شهورا وأياما وحولا مجرّما

علينا وتأتي حجّة بعد قابل

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ١١٤ حديث ٥٢.

٣٥٠

وما ترك قوم ـ لا أبا لك ـ سيّدا

يحوط الذّمار غير ذرب مواكل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في رحمة وفواضل

بميزان قسط لا يخيس شعيرة

له شاهد من نفسه غير عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدّلوا

بني خلف قيضا بنا والغياطل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم

وآل قصيّ في الخطوب الأوائل

وسهم ومخزوم تمالوا وألّبوا

علينا العدا من كلّ طمل وخامل

فعبد مناف أنتم خير قومكم

فلا تشركوا في أمركم كلّ واغل

ألم تعلموا أنّ ابننا لا مكذّب

لدينا ولا نعبأ بقول الأباطل؟

أشمّ من السّمّ البهاليل ينتمي

إلى حسب في حومة المجد فاضل

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد

وأحببته حبّ الحبيب المواصل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها

وزينا لمن والاه ربّ المشاكل

فأصبح فينا أحمد في أرومة

تقصّر عنه سورة المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته

ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فأيّده ربّ العباد بنصره

وأظهر دينا حقّه غير باطل (١)

وأنشد مرة مطيّبا قلب ابن أخيه واعدا له بالنصر :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

فلقد صدقت وكنت أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه

من خير أديان البريّة دينا

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ٣٣٨ نقلا عن ابن هشام في السيرة ج ١ / ٢٨٦ وقال ابن أبي الحديد في شرحه ج ٢ / ٣١٥ بعد ذكر جملة من شعر أبي طالب : فكل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر. وقال ابن كثير في تاريخه ج ٣ / ٥٧ : هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلّا من نسبت إليه ، وهي أفحل من المعلّقات السبع ، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعا ، راجع الغدير ج ٧ / ٣٤٠.

٣٥١

لو لا المخافة أن يكون معرة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا (١)

ولمّا جمع أبو طالب بني هاشم وبني عبد المطلب في شعبه وكانوا أربعين رجلا ، فحلف أبو طالب لئن شاكت محمّدا شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم ، وحصّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار ، وفي ذلك يقول :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا

نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

أليس أبونا هاشم شدّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

وأن الذي علّقتم من كتابكم

يكون لك يوما كراغية السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى

ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب (٢)

هذه جملة من شعر أبي طالب عليه‌السلام الطافح من كلّ شطره الإيمان الخالص ، والإسلام الصحيح. قال العلّامة ابن شهرآشوب المازندراني في كتابه متشابهات القرآن عند قوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) في سورة الحج : إن أشعار أبي طالب الدالة على إيمانه تزيد على ثلاثة آلاف بيت يكاشف فيها من يكاشف النبيّ ويصحّح نبوته.

والعجب كيف لا تكون كثرة أشعاره دليلا ـ عند المعاندين ـ على إيمانه وإسلامه؟ ولو وجد واحد منها في شعر أي واحد من كبرائهم وساداتهم أو نثره لأصفق الكلّ على إسلامه ، لكن جميعها لا يدل على إسلام أبي طالب بنظر المعاندين.

ولا عجب من هذا أن القوم زمّروا لإسلام أبوي أبي بكر دون أبوي رسول الله والإمام عليّ ، وذلك بعد أن عجزوا عن الوقيعة في الولد فوجّهوها إلى والديه ، مع أن سيرته لو اتصف بشطر منها أبو قحافة لعلّقوها على الأعواد تتلى على الناس سرا وجهرا ، ولكنّه أبو طالب سيّد البطحاء وكفيل صاحب الرسالة ، ودرعه من كل سوء

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٨٧.

(٢) نفس المصدر ص ٩٢.

٣٥٢

وعادية ، حيث أبى الباطل إلا أن يكون ضدا للحق والحقيقة.

٩ ـ تواتر عنه عليه‌السلام أنه استسقى بالنبيّ يوم أصاب مكة قحط ، أخرج ابن عساكر في تاريخه عن جلهمة بن عرفطة قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش : يا أبا طالب! أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلمّ واستسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلّت عنه سحابة قتماء وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بإصبعه الغلام ، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هنا وهناك وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب البادي والنادي ، ففي ذلك قال أبو طالب :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة

ووزّان صدق وزنه غير هائل (١)

مضافا إلى سروره عند ولادة ابنه الإمام علي وما فعله على جبل أبي قبيس.

١٠ ـ ما قاله النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معظّما ومبجّلا لأبي طالب بقوله : «يا عم كفّلت يتيما وربّيت صغيرا ونصرت كبيرا ، فجزاك الله عني خيرا ، ثم أمر عليّا بغسله».

ويروى أن أبا طالب عليه‌السلام قال لرسول الله : أتفقه الحبشة؟ قال : يا عمّ إن الله علّمني جميع الكلام ، قال : «يا محمّد اسدن لمصافا قاطالاها» يعني اشهد مخلصا : إن لا إله إلا الله ، فبكى رسول الله وقال : إن الله أقرّ عيني بأبي طالب (٢).

__________________

(١) شرح البخاري للقسطلاني ج ٢ / ٢٢٧ والمواهب اللدنية ج ١ / ٤٨ ، الخصائص الكبرى ج ١ / ٨٦ ، ١٢٤ ، شرح بهجة المحافل ج ١ / ١١٩ ، السيرة الحلبية ج ١ / ١٢٥ السيرة النبوية / زيني دحلان هامش الحلبية ج ١ / ٨٧ ، طلبة الطالب ص ٤٢ ، الشهرستاني في الملل والنحل ، الفصل ٣ / ٢٢٥ والغدير ج ٧ / ٣٤٦.

(٢) البحار ج ٣٥ / ٧٨ نقلا عن المناقب لابن شهرآشوب.

٣٥٣

والحزن الذي صدر من النبيّ عند ما توفى أبو طالب ، حتى أنه سمّى ذاك العام بعام الحزن حبا له ولخديجة ، لدلالة مهمة على أهمية أبي طالب كركن من أركان الرسالة يوم ذاك.

الشبهات الواهية :

قد استدل القائلون بكفر أبي طالب ـ وحاشاه أن يكون كذلك ـ بشبهات واهية ، نذكر أهمها ، وهي :

الشبهة الأولى :

ما رواه هؤلاء عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر عنده عمه ، فقال : «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه».

وفي لفظ آخر من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الحارث قال : حدّثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال : قلت للنبيّ : ما أغنيت عن عمّك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال : «هو» في ضحضاح من نار ، ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل (١).

يورد عليه :

أ ـ حديث الضحضاح متهافت ، فرواية تقول إنه في ضحضاح من نار بالفعل ، وأخرى تنص على أنه سيكون في ضحضاح يوم القيامة ، وهذا التعارض والتهافت يوجب سقوط روايات الضحضاح عن الاعتبار.

هذا مضافا إلى المناقشة في الأسانيد لمكان سفيان الثوري والمغيرة بن شعبة وأمثالهما من روايات أهل الضلال وموضوعات بني أمية.

__________________

(١) صحيح البخاري / أبواب المناقب ـ باب قصة أبي طالب. صحيح مسلم ج ٩ / ٩٢ : كتاب الإيمان / باب كنية المشرك. طبقات ابن سعد ج ١ / ١٠٦ ط / مصر ، مسند أحمد ج ١ / ٢٠٧ ، تاريخ ابن كثير ج ٣ / ١٢٥.

٣٥٤

ب ـ أفاد حديث الضحضاح أن الشفاعة قد تنفع أبا طالب يوم المعاد ، مع أن المشرك لا تناله الشفاعة ، ولو سلّمنا أنه مات مشركا ، فكيف يرجو النبيّ أن يتشفع لعمّه يوم القيامة والشفاعة رحمة وقد نهاه عزوجل أن يترحم على مشرك؟.

قد يقال :

إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من أبي طالب عليه‌السلام النطق بالشهادتين حتى تناله الشفاعة يوم الآخر ، كما هو مفاد بعض الأخبار (١) : «من أن النبيّ طلب منه النطق بهما ليستحل له بها الشفاعة» فلم يعطه إياها.

قلنا : إن الشفاعة لا تحل لمشرك ، فلما ذا حلّت لهذا المشرك بالذات ، ولو فرضنا أن أبا طالب مات على غير الإسلام ، فلا مجال لقول النبيّ «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة» وذلك لأن الشرك ينفي حكم الشفاعة ، فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم ، وهنا هكذا ، فحيث إنّ الشفاعة حكم يدور مدار وجود المسلم ، فالحكم معلّق بموضوعه وهو هنا المسلم ، فلا شفاعة حينئذ لكافر.

ولو مات كافرا ـ حسبما يدّعون ـ كيف تناله الشفاعة يوم القيامة ، فلمّا دل الخبر على الشفاعة له ، استلزم ذلك أنه مات مؤمنا.

ج ـ إن عدم نطق أبي طالب بالشهادتين ، ليس دليلا على كفره ، لأن التشهد طريق لإظهار الإيمان والإسلام ، وقد يكون أبو طالب مأمورا بذلك لحكم منها دفاعه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا قال : «ما تجرأ عليّ المشركون إلّا بعد موت أبي طالب». هذا مضافا إلى أن التشهد يكون مسبوقا دائما بحالة عدم الإيمان لا سيّما في بداية البعثة ، أما بعدها أو في وسطها ، فالتشهد حينئذ يعتبر تأكيدا لحالة الإسلام واعترافا بفضله أمام الناس.

__________________

(١) الغدير ج ٨ / ٢٤.

٣٥٥

د ـ من كان قادرا على إخراج أبي طالب من الدرك الأسفل إلى الضحضاح ، هو قادر على إخراجه أيضا من الضحضاح ، وإخراجه من الدرك الأسفل يعتبر شفاعة ، فلما لا يكمل لعمّه هذه الشفاعة فيخرجه من أصل الجحيم؟

الشبهة الثانية :

ما رواه البخاري ومسلم عن ابن المسيب عن أبيه قال : حضرت أبا طالب الوفاة ، أتى إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال له النبيّ : يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ، فالتفت أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية إلى أبي طالب وقالوا : أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبد المطلب؟ وكرّر النبيّ قوله ، إلّا أن أبا جهل وعبد الله منعاه من ذلك ، وكان آخر ما قاله أبو طالب : على دين عبد المطلب ، وامتنع عن قول : لا إله إلا الله ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١).

وأنزل الله في أبي طالب : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٢).

والجواب :

إن المسيب الناقل للرواية متهم ببغض الإمام عليّ عليه‌السلام كما نصّ عليه البعض (٣) ، فالرواية مضافا إلى ذلك من المراسيل ، ولا حجيّة فيها ، فهي من دسائس بني أمية.

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٣.

(٢) سورة القصص : ٥٦ ، والرواية أخرجها البخاري في الصحيح من كتاب التفسير في القصص ج ٧ / ١٨٤.

(٣) الغارات للثقفي ج ٢ / ٥٦٩.

٣٥٦

إن الآية ١١٣ من سورة التوبة نزلت على رسول الله في السنة التاسعة للهجرة على ما هو المشهور بين المحدثين والمفسرين ، بل إن بعض (١) المفسرين يرى أنها نزلت آخر ما نزلت من القرآن ، مع أن مشهور (٢) المؤرخين ينص على أن وفاة أبي طالب كان في السنة العاشرة للبعثة.

قال ابن إسحاق :

«إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله المصائب بهلك خديجة ، وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها ، وبهلك عمّه أبي طالب ، وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا» (٣).

٣ ـ إن الله تعالى نهى المسلمين عن مودة الكفار في آيات عدة نزلت قبل سورة التوبة وقبل موت أبي طالب كما في قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (٤). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٥).

ونحن نعلم أن الاستغفار من أظهر مصاديق المودة والمحبّة للكافر ، وقد نهى الله عن مودتهم في الآيات المتقدّمة وغيرها ، فكيف يمكن ـ والحال هذه ـ أن

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٧ / ٦٧ في آخر سورة النساء ، الكشاف ج ٢ / ٤٩ وتفسير القرطبي ، والاتقان ، وتفسير الشوكاني.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٩٠ ، سيرة ابن هشام ج ٢ / ٥٧.

(٣) سيرة ابن هشام ج ٢ / ٥٧ ، والكامل في التاريخ ج ٢ / ٩٠.

(٤) سورة المجادلة : ٢٢ قال في الاتقان ج ١ / ١١ انّها نزلت قبل التوبة بسبع سور.

(٥) سورة النساء : ١٤٤.

٣٥٧

يرحل أبو طالب من الدنيا ، ويقسم النبيّ بأنه سيستغفر له حتى ينهاه الله تعالى عن ذلك؟

إن إلقاء نظرة على أسباب نزول الآية ١١٣ من سورة التوبة ، يدفع ما ظنه العامة بشأن طلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاستغفار للمشركين ، فقد ورد في أسباب نزولها : أن جماعة من المسلمين كانوا يقولون للرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت الآية ونظيرها تنذرهم بأن لا حق لأحد أن يستغفر للمشركين حتى لو كان المستغفر هو رسول الله.

الشهبة الثالثة :

استدل المنكرون (١) لإيمان أبي طالب عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢).

بدعوى أن هناك فريقا من المكّيين المدافعين عن رسول الله ، ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه.

وبعبارة أخرى : إن الآية المباركة ـ بنظر هؤلاء ـ نزلت بأبي طالب الذي كان ينهى الناس عن أذى الرسول ، وينأى عن أن يدخل في الإسلام.

يورد عليه :

١ ـ إن هذه الآية ليست صريحة في المدّعى ، بمعنى أنها ليست نصا قطعيا للدلالة على دعواهم هذه ، بل هي مجملة من حيث التطبيق على سيّد البطحاء أبي طالب ، فلا بدّ من الرجوع ـ في حال وجود إجمال في آية ما ـ إلى النصوص التي توضّح المراد ، وقد دلت ـ أي النصوص الصحيحة ـ على عكس ما يدّعون ، فقد ذكر الطبرسي عن ابن عبّاس ومحمّد ابن الحنفية والحسن والسدي وقتادة ومجاهد

__________________

(١) أمثال العسقلاني في الإصابة ج ٤ / ١١٥ وتفسير ابن كثير ج ٢ / ١٢٧ وتفسير الخازن ج ٢ / ١١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ / ٣٤٠.

(٢) سورة الأنعام : ٢٦.

٣٥٨

والجبائي : من أن المراد بالآية هم الكفار كانوا ينهون الناس عن إتباع النبيّ ويتباعدون عنه فرارا منه(١). بل إن الروايات التي فسّرت الآية بأبي طالب مروية بواسطة عطاء ومقاتل (٢) ، وهذا لا يصح لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها وما تأخر عنها معطوف عليها ، وكلها في ذم الكفار المعاندين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقوله تعالى في الآية المتقدمة على الآية موضع البحث (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣) ، وكذا الآية المتأخرة عن الآية ٢٦ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤) لا ينطبق شيء من أوصافها على سيّدنا أبي طالبعليه‌السلام الذي لم يعهد أو يعرف منه إلّا التشجيع على اتّباع النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنصرة له باليد واللسان ، فكان كثير الطلب من غيره ممن تربطه به علاقة حميمة أو نسبية أن يدخل في هذا الدين ، وأن يتمسك به ويصبر عليه ، والأخبار بهذا الصدد كثيرة يشهد له بها العامة والخاصة.

٢ ـ إن قوله تعالى في سورة القصص : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) نزلت في أبي طالب بعد وفاته فيما زعموه عن الصحيحين ، وهذا لا يتم مع قوله تعالى : (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ) النازلة في أناس أحياء ـ أي في أبي طالب ـ فإن سورة الأنعام التي فيها الآية المبحوث عنها نزلت جملة واحدة بعد سورة القصص بخمس سور (كما في الاتقان ج ١ / ١٧) فكيف يمكن تطبيقها على أبي طالب وهو رهن أطباق الثرى ، وقد توفي قبل نزول الآية ببرهة طويلة (٥).

وبعبارة أخرى :

إن الآية ٢٦ من سورة الأنعام ، والآية ٥٦ من القصص نزلتا ـ بحسب زعم

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ٤ / ٢٢ ، والغدير ج ٨ / ٥.

(٢) نفس المصدر.

(٣) سورة الأنعام : ٢٥.

(٤) سورة الأنعام : ٢٧.

(٥) الغدير ج ٨ / ٥ ـ ٦ بتصرف في بعض ألفاظه.

٣٥٩

بعض العامة ـ بعد وفاة أبي طالب عليه‌السلام ، مع أن الآية ٥٦ / القصص نزلت قبل الأنعام ـ التي نزلت جملة واحدة ـ بخمس سور ، وهذا دليل على أن سورة الأنعام قد نزلت بعد وفاة أبي طالب بمدة ، فكيف يدّعى إذن أنها نزلت حين وفاته عليه‌السلام؟

ومما يؤكد أن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة ما رواه ثلة من المفسرين (١) من أن أسماء بنت يزيد كانت ممسكة بزمام ناقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بعد بيعة العقبة ، التي كانت بعد وفاة أبي طالب عليه‌السلام بمدة طويلة.

٣ ـ كيف ينهى أبو طالب عليه‌السلام عن رسول الله وقد كان معتقدا به مذ كان ابن أخيه صغيرا ، ففي أخبارنا أن أبا طالب كان من المنتظرين مجيء النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي أخبار العامة ، كان يعلم بنبوة النبيّ بواسطة الراهب بحيرا ونصيحته لأبي طالب بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا مضافا إلى ما أورده الطرفان ـ الخاصة والعامة ـ من أن أبا طالب عليه‌السلام كان يستسقي برسول الله عند ما تجدب سماء مكة بمطرها.

٤ ـ أن ما استدل به المنكرون لإيمانه بالآية المتقدّمة ، مخالف لسيرة سيّدنا أبي طالبعليه‌السلام المدافع عن رسالة الإسلام ، ويكفي ما فعله مؤمن قريش ـ سيد العرب والعجم آنذاك ـ من النصرة والتأييد لرسول الله عند ما حاصر المشركون ابن أخيه حصارا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، وظل في تلك الفترة فيها المحامي والناصر والمعين ، ترك فيها كلّ أعماله وسلك ببني هاشم إلى واد بين جبال مكة يعرف بشعب أبي طالب حيث بنى الأبراج الخاصة في الشعب للوقوف بوجه أيّ هجوم قد تشنه قريش عليهم ، وكان في كل ليلة يوقظ رسول الله من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر بعده ، ويجعل ابنه الحبيب إليه أمير المؤمنين عليّ روحي فداه في مكانه ، ألا يدل هذا على أنه كان مؤمنا بالنبيّ ورسالته؟!

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ / ٢ ، عن الطبراني ، وابن مردويه وقد ذكر فيه نزولها جملة واحدة في مكة أو باستثناء آية أو آيتين ليست الآية المذكورة واحدة منها. والاتقان ج ١ / ٣٧ ، السيرة الحلبية ج ١ / ٢٦٠.

٣٦٠