أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

٧ ـ تزوّج عثمان بن عفان بنائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية (١) وغيرهم كثير(٢).

وعلى كل حال ، «فإن تربية تلك الجواري للنشء الجديد قد كان من شأنه أن يخفض من المستوى الديني ، ومن مستوى الالتزام بالأحكام الإسلامية لدى ذلك النشء بالذات ، وهذا بطبيعة الحال من شأنه أن يشكّل خطرا جديا على الإسلام والمسلمين ، ولذلك فإننا نجد الأئمةعليهم‌السلام يهتمون بتربية العبيد والجواري تربية إسلامية صالحة ثم عتقهم.

وقد شجّع الإسلام العتق على نطاق واسع ، وجعل له من الأسباب الإلزامية والراجحة الشيء الكثير ، الذي من شأنه أن يقضي على ظاهرة العبودية من أساسها» (٣).

الرابع : عدم اشتراك أمير المؤمنين وولديه العظيمين الإمامين الحسن والحسين عليهم‌السلام في تلك الفتوحات التي طالما تشدق بها العامة وجعلوها من الأدلة على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ، مع أنهم تناسوا فتوحات أمير المؤمنين عليّ في بدر وخيبر وأحد وحنين وكل المعارك التي خاضها الإسلام مع الكفر وخرج منها منتصرا ببركة ساعد مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

فسبب عدم مشاركته عليه‌السلام في تلك الفتوحات يرجع إلى أمرين :

الأول : حرمة دعم هؤلاء لكونهم مالوا عن الحقّ واعتدوا على الحرمات ، لأنّ في دعمهم تضعيف عقائد المؤمنين وتوهين شريعة سيّد المرسلين وإغراء بالقبيح ، هذا مضافا إلى أنّهم لم يطلبوا بهذه الفتوحات وجه الله والقرب منه بل كان

__________________

(١) تفسير الخازن ج ١ / ٤٣٩.

(٢) فليراجع : المحبّر ص ٣٠٥ لابن حبيب ط / عام ١٣٦١ ه‍ ، والأعلاق النفيسة ص ٢١٣ لابن رستة ط / ليدن ، وربيع الأبرار ج ١ / ٣٤٨. ، ونسب قريش لمصعب ص ٣١٩ ، والحياة السياسية للإمام الحسن / جعفر مرتضى ص ١٥٢ ؛ والمنمق لابن حبيب ط / الهند عام ١٣٨٤ ه‍ ، ص ٥٠٦.

(٣) الحياة السياسية للإمام الحسن ص ١٥٧.

٣٢١

كلّ همّهم الحصول على النفائس وصوافي الغنائم والاختصاص بالحسناوات من النساء بعنوان سبايا وجواري ... وعلى كلّ حال فإنّ الحرب من أجل بسط نفوذهم وتقوية أمورهم ، فصاروا يجمعون الأنصار بالمال وبالإغراء بالمناصب وبغير ذلك من سياسات ليس الترهيب والقمع في كثير من الأحيان إلّا واحدا منها ..

إذن ، فالحرب من أجل الغنائم والأموال كانت هي الصفة المميّزة لأكثر تلك الفتوحات ، ويشهد لهذا ما فعلوه بأمير المؤمنين عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجّى على الفراش ، ثم انتهاكهم لحرمة ابنته الزهراء البتول ومنعها من الخمس واغتصابهم لفدك وغير ذلك لأكبر شاهد على ما قلنا. هذا مضافا إلى أنّ ظاهرة الطمع في الأموال والنفائس كانت سائدة بين بعض المسلمين على عهد رسول الله ممّا سبّب انكسار المسلمين في معركة أحد ، وبقيت هذه الظاهرة إلى ما بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لا نبالغ إذا ما قلنا أنها ازدادت عمّا كانت عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : إنّ ضعف الإيمان في نفوس المسلمين وعدم معرفتهم بأكثر أحكام دينهم استدعى عدم مشاركته عليه‌السلام في تلك الفتوحات ، هذا علاوة على أنّه لم يأمر أحدا من أصحابه بالمشاركة فيها ، لأنّ مهمّته عليه‌السلام وأصحابه معه هي تثقيف الناس بعقائدهم وتثبيت الإيمان في نفوسهم ونشر فكر الإسلام الصحيح للأمّة ، وللمتصدّين لإدارة شئونها على حدّ سواء وقد نوّه بذلكعليه‌السلام في خطبة له فقال : «أيّها الناس ، خذوها عن خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يموت من مات منّا وليس بميّت ... ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ، قد ركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي ، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي ، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي ، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا تتغلغل إليه الفكر ...» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ج ١ / ١٥٣ (الخطبة ٨٣) بشرح محمد عبده ، و (الخطبة ٨٧) بشرح صبحي الصالح.

٣٢٢

وبالجملة : فإن أئمة الهدى عليهم‌السلام كانوا لا يرون في الاشتراك في هذه الفتوحات أو الحروب مصلحة ، بل لا يرون نفس تلك الحروب خيرا ، فقد روي عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال لعبد الملك بن عمرو : «يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال : قلت : وأين؟ قال عليه‌السلام : جدّة وعبادان والمصيصة وقزوين ، فقلت : انتظارا لأمركم والاقتداء بكم ، فقال عليه‌السلام : أي والله لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، قال : قلت له : فإن الزيدية يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلّا أنه لا يرى الجهاد ، فقال عليه‌السلام : أنا لا أراه! بلى والله إني لأراه ولكنني أكره أن أدع علمي إلى جهلهم» (١).

وعن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قال :

لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ، ولا ينفذ في الفيء أمر الله عزوجل ، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقنا والإشاطة بدمائنا وميتته ميتة جاهلية(٢).

وثمة روايات أخرى تدل على أنّهم عليهم‌السلام كانوا لا يشجّعون شيعتهم بل ويمنعونهم من الاشتراك في تلك الحروب ، ولا يوافقون حتى على المرابطة في الثغور أيضا ، ولا يقبلون منهم حتى ببذل المال في هذا السبيل ولو كان نذرا (٣) ، وشرّعوا لشيعتهم أنهم إذا دخلوا في حكومات الجائرين اضطرارا لدفع هجوم العدو عليهم أن يدخلوا دفاعا عن بيضة الإسلام لا عن أولئك الحكّام (٤).

فالأئمة عليهم‌السلام يرون حرمة الجهاد مع غير الإمام العاقل كما هو مفاد الخبر المتقدّم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهم روحي وأرواح العالمين لهم الفداء أحرص

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١١ / ٣٢ ح ٢ باب ١٢ (اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام وإذنه).

(٢) نفس المصدر ج ١١ / ٣٤ ح ٨.

(٣) نفس المصدر ج ١١ / ٢١ ح ١ باب ٧ (حكم من نذر مالا للمرابطة).

(٤) نفس المصدر ج ١١ / ٢١ باب ٧ ح ٢.

٣٢٣

الناس على توسعة رقعة الإسلام ونشره ليشمل الدنيا بأسرها ، ولكنّ الطريقة والأسلوب الذي كان يتم ذلك بواسطته كان حراما ومضرا بنظرهم المقدّس.

وما ادّعاه بعضهم (١) (من أن الإمامين الحسن والحسين شاركا في كثير من الفتوحات الإسلامية وكان لهما دور بارز في سير تلك المعارك التي كانت تدور رحاها بين المسلمين وغيرهم) غير مقبول وذلك :

١ ـ لم يرد ذلك في أخبارنا ، بل ما ذكره الحسني إنما هو من مصادر العامة ، ولا حجية لأخبارهم عندنا نحن الإمامية لا سيّما التي تخالف أخبارنا الصحيحة ، وليت شعري كيف أخذ بأخبار عليها علائم الدّس والتحريف وقامت القرائن القطعية على بطلانها؟ هذا مضافا إلى إرسالها وضعفها مع معارضتها لأخبارنا الصحيحة ـ والتي عرضنا قسما منها ـ.

٢ ـ إنّ عمله بهذه الأخبار ـ على ضعفها وشواذها ـ لا يعبّر عن رأي الشيعة الإمامية ، للأسباب التي ذكرناها سابقا ، مضافا إلى أنه لو كان ـ ما ذكره الحسني ـ صحيحا فلم جلس أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام خمسا وعشرين سنة في بيته؟! وولداه لم يفارقاه أصلا ، مع التأكيد على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام وولديه عليهما‌السلام لو كانوا ـ والحالة هذه ـ مكان سعد بن أبي وقاص ـ هل يكونون مأمونين من أن يرجعوا بذاك الجيش فيما لو كانوا قادة فيه ، وما ذا لو كانوا تحت إمرة الفسّاق ، فما هو موقفهم من أولئك القادة ، وهل يرضى الحسني أن ينضوي أئمتهعليهم‌السلام الحسن والحسين تحت إمرة خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وغيرهما؟! بل ما ادعاه المذكور مخالف لما ورد من أن القوم عرضوا عليه المشاركة فرفض (٢).

__________________

(١) هو السيد هاشم معروف الحسني في سيرة الأئمة عليهم‌السلام ج ١ / ٤٨٣.

(٢) مروج الذهب ج ٢ / ٣٠٩ وفتوح البلدان ص ٣١٣.

٣٢٤

ولو لم يغصب أبو بكر وعمر وعثمان الخلافة من صاحبها الشرعي الإمام عليّ عليه‌السلام ، وكان الإمام يتسلم مهام الخلافة بعد الرسول مباشرة لكان يسير بسيرة الرسول ويقتفي أثره ، ويطبّق منهاجه الصحيح ، وكان ذلك موجبا لدخول الناس في دين الإسلام أفواجا ، ولكانت رقعة الإسلام تتسع حتى تشمل وجه الكرة الأرضية!

ولكن ، لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.

وهنا تنفّس السيّد العلوي تنفسا عميقا ، وتأوّه من صميم قلبه ، وضرب بيد على الأخرى أسفا وحزنا على ما حلّ بالإسلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبب غصب الخلافة من صاحبها الشرعي الإمام عليّ عليه‌السلام.

قال الملك ـ موجّها الكلام إلى العبّاسي ـ :

ما هو جوابك على كلام العلوي؟

قال العبّاسي : إني لم أسمع بمثل هذا الكلام من ذي قبل!

قال العلوي :

الآن وحيث سمعت هذا الكلام ، وتجلّى لك الحق فأترك خلفاءك ، واتّبع خليفة رسول الله الشرعي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثم أردف العلوي قائلا :

عجيب أمركم معاشر السنّة تنسون وتتركون الأصل وتأخذون بالفرع.

٣٢٥

قال العبّاسي : وكيف ذلك؟

قال العلوي : لأنكم تذكرون فتوحات عمر ، وتنسون فتوحات عليّ بن أبي طالب!

قال العبّاسي :

ـ وما هي فتوحات عليّ بن أبي طالب؟

قال العلوي :

أغلب (١) فتوحات الرسول حصلت وتحققت على يد الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مثل : بدر وفتح خيبر وحنين وأحد والخندق وغيرها .. ولو لا هذه الفتوحات التي هي أساس الإسلام لم يكن عمر ، ولم يكن هنالك إسلام ولا إيمان ، والدليل على ذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمّا برز الإمام عليّ لقتل عمرو بن ودّ في يوم الأحزاب «الخندق» : (برز الإيمان كلّه إلى الشرك (٢) كلّه) (إلهي إن شئت أن لا تعبد فلا تعبد) (٣).

أي إن قتل عليّ تجرّأ المشركون على قتلي وقتل المسلمين جميعا فلا يبقى بعده إسلام ولا إيمان.

__________________

(١) بل نؤكد أكثر : أن كل الفتوحات شارك فيها أمير المؤمنين وكان فيها المنتصر ، إلّا في وقعة تبوك فلم يحضر فيها ، لأن الرسول تركه يحمي المدينة من المنافقين ، ومن غير الإمام عليه‌السلام بقادر على التصدي لهم غيره عليه‌السلام؟!

(٢) شرح النهج ، ابن أبي الحديد ، ج ٤ / ٣٤٤ وبحار الأنوار : ج ٣ / ٣٩.

(٣) قاله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر الكبرى راجع تفسير القمي علي بن إبراهيم ج ١ / ٢٩٣ الآية : ٩ من سورة الأنفال. وقد جاءت بلفظ آخر هكذا : «اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» راجع تفسير مجمع البيان ج ٤ / ٣٣٨ والبرهان في تفسير القرآن ج ٢ / ٦٩ ، وتفسير الكشاف للزمخشري ج ٢ / ١٩٤ ، وبحار الأنوار ج ١٩ / ٣٢٤.

٣٢٦

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين) (١) فصحّ أن نقول : إن الإسلام محمّدي الوجود ، علوي البقاء ، وإن الفضل

__________________

(١) مصادره كثيرة : انظر المواقف / الإيجي ، ص ٦١٧ ، نهاية العقول في دراية الأصول / فخر الدين الرازي ، ص ١١٤. شرح المقاصد / التفتازاني : ج ٢ / ٢٣٠ ط الآستانة. نفحات اللاهوت / الكركي ص ٩١ ط. الينابيع / القندوزي ، ص ٩٥ وص ١٣٧ ط اسلامبول ، تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي : ج ١٣ / ١٩. مقتل الحسين / الخوارزمي ، ص ٤٥. فرائد السمطين / الحمويني : ج ١ / ٢٥٥ ح ١٩٧ ، شواهد التنزيل / الحسكاني : ج ٢ / ٥ ، مستدرك الحاكم : ج ٣ / ٣٢ السيرة الحلبية بهامشه السيرة النبوية : ج ٢ / ٣٢٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ / ٢١٦.

عن علي بن الحكيم الأودي قال : سمعت أبا بكر بن عيّاش يقول : لقد ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام أعزّ منها ، (أي يوم الخندق) ولقد ضرب ضربة ما ضرب في الإسلام أشأم منها أي ضربة ابن ملجم للإمام عليه‌السلام. بحار الأنوار : ج ٢٠ / ٢٥٨. والمراد من الثقلين :

إما الجن والإنس ، وإما العالم العلوي والسفلي ، فالعلوي : يشمل جميع الملائكة حتى الكروبيين وروح القدس ، والسفلي : ويشمل الجن والإنس. فالعلوي ثقل ، والسفلي ثقل. ولا يبعد الأمرين معا ، وإن كان الأظهر الثاني لسعة إحاطتهم للمعارف والكمالات ، ولكونهم أفضل ما خلق الله تعالى على الإطلاق.

سؤال :

لما ذا صارت ضربة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب روحي فداه وعليه‌السلام أفضل من عبادة الثقلين؟

والجواب :

صارت كذلك لأمرين :

(١) لأن ضربته كانت خالصة لله تعالى ، فهي مصداق قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

(٢) لأنها أدخلت العزّ للإسلام والمسلمين ، فلو لا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يوم الخندق لانطفأت شعلة الدين ، فعليّ المرتضى قائد الغر المحجلين أبقاها متوقدة ، فله عليه‌السلام فضل على عبادة المؤمنين إلى قيام يوم الدين ، فضربته سببا لعبادتهم لله رب العالمين.

والتخصيص بالضربة بقوله «ضربته» إشارة إلى جنبة العمل الصادر منه عليه‌السلام ، حيث يتفاضل بتفاضل المعرفة وكمالها ، فكلما كان العمل مخلصا لله تعالى دل ذلك على عظمة العلم لدى صاحبه ، فضربته أثر من آثار معرفته بالله تعالى التي لا يرقى إليها مخلوق على الإطلاق إلّا سيّد الرسل محمّد وفاطمة الصدّيقة الشهيدة وأولادها الأنوار المقدّسين الطاهرين ، فلمّا كانت معرفته بالله أرقى من معارف الثقلين ، كانت ضربته أعظم وأفضل من عبادة الثقلين. تأمل وتدبر.

٣٢٧

لله تعالى ولعليّ عليه‌السلام في بقاء الإسلام.

قال العبّاسي :

هب إنّ قولكم في أخطاء عمر ، وأنه غير صحيح ، وأنّه غيّر وبدّل ، لكن لما ذا تكرهون أبا بكر؟

قال العلوي : نكرهه لعدة أمور ، أذكر لك منها أمرين :

الأول : ما فعله بفاطمة الزهراء بنت رسول الله ، وسيّدة نساء العالمين عليها‌السلام.

الثاني : رفعه الحدّ عن المجرم الزاني : خالد بن الوليد.

قال الملك ـ متعجبا ـ وهل خالد بن الوليد مجرم؟

قال العلوي : نعم.

قال الملك : وما هي جريمته؟

قال العلوي :

جريمته أنه : أرسله أبو بكر إلى الصحابي الجليل «مالك بن نويرة» الذي بشّره رسول الله أنه من أهل الجنّة ، وأمره أي : أمر أبو بكر خالدا ، أن يقتل مالك وقومه ، وكان مالك خارج المدينة المنوّرة ، فلمّا رأى خالدا مقبلا إليه في سريّة من الجيش ، أمر مالك قومه بحمل السلاح ، فحملوا السلاح ، فلمّا وصل خالد إليهم احتال وكذب عليهم ، وحلف لهم بالله أنه لا يقصد بهم سوءا ، وقال : إننا لم نأت لمحاربتكم بل نحن ضيوف عليكم الليلة ، فاطمأن مالك ـ لمّا حلف خالد بالله ـ بكلام خالد ، ووضع هو وقومه السلاح ، وصار وقت الصلاة ، فوقف مالك وقومه

٣٢٨

للصلاة ، فهجم عليهم خالد وجماعته وكتّفوا مالكا وقومه ثم قتلهم المجرم خالد عن آخرهم ، ثم طمع خالد في زوجة مالك (لما رآها جميلة) وزنى بها في نفس الليلة التي قتل فيها زوجها ، ووضع رأس مالك وقومه أثافي (١) للقدر ، وطبخ طعام الزنا وأكل هو وجماعته!! ولمّا رجع خالد إلى المدينة أراد عمر أن يقتص منه لقتله المسلمين ويجري عليه الحدّ لزناه بزوجة مالك ، ولكنّ أبا بكر (المؤمن؟!) منع عن ذلك منعا شديدا ، وبعمله هذا أهدر دماء المسلمين وأسقط حدّا من حدود الله!

قال الملك (متوجها إلى الوزير):

هل صحيح ما ذكره العلوي في حقّ خالد وأبي بكر؟

قال الوزير :

نعم ، هكذا ذكر المؤرخون (٢).

____________________________________

(١) الأثافي : هو الحجر الذي يوضع عليه القدر.

(٢) قال عز الدين ابن الأثير الجزري (المتوفي سنة ٦٣٠ ه‍) :

مالك بن نويرة بن حمزة بن شدّاد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع التميمي اليربوعي ، أخو متمم بن نويرة.

قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسلم واستعمله رسول الله على بعض صدقات بني تميم ، فلمّا توفى النبيّ وارتدت العرب ، وظهرت سجاح وادّعت النبوة ، صالحها إلّا أنه لم تظهر عنده ردة ، وأقام بالبطاح ، فلمّا فرغ خالد من بني أسد وغطفان ، سار إلى مالك وقدم البطاح ، فلم يجد به أحدا ، كان مالك قد فرّقهم ونهاهم عن الاجتماع ، فلمّا قدم خالد البطاح بث سراياه ، فأتي بمالك بن نويرة ونفر من قومه ،

٣٢٩

فاختلفت السرية فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة ، وكان فيمن شهد أنهم أذّنوا وأقاموا وصلّوا ، فحبسهم في ليلة باردة ، وأمر خالد فنادى : ادفئوا أسراكم ، وهي في لغة كنانة القتل ، فقتلوهم ، فسمع خالد الواعية فخرج وقد قتلوا ، فتزوج خالد امرأته ، فقال عمر لأبي بكر : سيف خالد فيه رهق (١)! وأكثر عليه ، فقال أبو بكر : تأوّل فأخطأ ، ولا أشيم (٢) سيفا سلّه الله على المشركين ، وودى مالكا ، وقدم خالد على أبي بكر ، فقال له عمر : يا عدوّ الله ، قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته لأرجمنّك ...

ثم قال الجزري :

فهذا جميعه ذكره الطبري وغيره من الأئمة ، ويدل على أنه لم يرتد ، .. وقد اختلف في ردته ، وعمر يقول لخالد : «قتلت امرأ مسلما ، وأبو قتادة يشهد أنهم أذّنوا وصلوا ، وأبو بكر يردّ السبي ويعطي دية مالك من بيت المال ، فهذا جميعه يدل على أنه مسلم» (٣).

وقال الطبري : «.. وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله وقال أن في سيفه رهقا فقال : لا يا عمر لم أكن لأشيم سيفا سله الله على الكافرين.

وعن عثمان بن سويد قال : كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعرا وأن أهل العسكر أثفوا برءوسهم القدور ، فما منهم رأس إلّا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكا فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره .. فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطّاب تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال : عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته وأقبل خالد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما ، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه

__________________

(١) الرّهق : جهل في الإنسان ، وخفّة في عقله ، ويقال به رهق : سريع الشر ، سريع الحدة. وذلة وسفها وطغيانا وظلما ، لسان العرب ج ١٠ / ١٣٠ مادة رهق.

(٢) شام السيف شيما : سلّمه وأغمده. لسان العرب مادة شيم.

(٣) أسد الغابة ج ٥ / ٤٨ ترجمة مالك بن نويرة.

٣٣٠

عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال : أرئاء قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك ..» (١).

لنا إيرادات على ما تقدّم :

١ ـ ما رواه الطبري من أن القدر نضج وما نضح رأس مالك من كثرة شعره ، أظنه مزحة لا يصدّقها عاقل ، إذ كيف تعمل النار بالقدر ولا تعمل برأسه من كثرة شعره ، وهل كان شعره من خشب الساج أو الأرز حيث لا تعمل به النار سريعا؟ إن عدم نضج رأسه بالنار إنما هو لإيمانه بالله تعالى ورسوله ووليّه ، حيث حرّم الله تعالى جسده ورأسه على النار ، ومن كان مع الله ، كان الله تعالى معه ، فأكرم مثواه ، وهذه شهادة من الله العزيز الحكيم لمالك بن نويرة بأنه كان مؤمنا تقيّا وليس مشركا كما ادّعى مبغضوه.

٢ ـ إذ لو كان ما قاله أبو بكر صحيحا من أن خالدا تأوّل فأخطأ بقتله مالك ، فلما ذا نزا على زوجة الشهيد مالك ، وهل أن خالدا تأوّل بها أيضا فأخطأ؟

ولو كان خطؤه مغفورا لما أكدّ عمر على الاقتصاص منه ، إذ لا يخفى أن من أخطأ في تشخيص حكم لا يقام عليه الحدّ ، لأن الخطأ شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ، وعليه فإن ما فعله خالد بمالك وأصحابه وزناه بزوجته جريمة مع سابق الإصرار عليها ، وهو يستحق عليها القتل بلا إشكال في شريعة الإسلام ، ولكنّ السياسة ـ وما أدراك ما السياسة ـ لا تبقى ولا تذر شيئا من أحكام الدين.

٣ ـ هل من الإسلام في شيء من يجعل رأس مالك وأصحابه (الذين أذّنوا وأقاموا وصلّوا) أثافي للقدور؟ ما هذه القسوة والفظاظة والعنف والتزحزح عن طقوس الإسلام ، وإحراق رءوس أمّة مسلمة ، وجعلها أثفية للقدر؟ فويل للقاسية قلوبهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٣ حوادث سنة ١١ ه‍ ، وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٥٧.

٣٣١

ما خالد وما خطره بعد ما اتخذ إلهه هواه ، وسوّلته نفسه ، وأضلّته شهوته ، وأسكره شبقه؟ فهتك حرمات الله ، وشوّه سمعة الإسلام المقدّس ، ونزى على زوجه مالك قتيل غيّه في ليلته ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ، ولم يكن قتل الرجل إلّا لذلك السفاح ، وكان أمرا مشهودا وسرّا غير مستسر ، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله لها : أقتلتني ، فقتل الرجل مظلوما غيرة ومحاماة على ناموسه ، وفي المتواتر من قتل دون أهله فهو شهيد.

والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرّئ خالدا من تلكم الجنايات ، أيصدّق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدّق بما جاء به نبيه الأقدس ، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها ، وينادي بأعلى صوته : نحن المسلمون ، وقد استعمله النبيّ الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن؟ لاها الله. أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الإسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حقّ على النبيّ الطاهر شنّ الغارة عليهم؟ أيجوز أن يحكم على أولئك الأطهار بالسبي والقتل الذريع والإغارة على ما يملكون ، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟

إن تسليط الخليفة المزعوم أبو بكر أمثال خالد وضرار بن الأزور شارب الخمور وصاحب الفجور على الأنفس والدماء ، وعلى الأعراض ، وعهده إلى جيوشه في حرق أهل الردّة وقد نهت السنّة الشريفة عنه.

هل يرتاب أحد في أن سيفا سلّه المولى سبحانه لا يكون فيه قطّ رهق ولا شغب ، ولا تسفك به دماء محرّمة ، ولا تهتك به حرمات الله ، ولا يرهف لنيل الشهوات ، ولا ينضى للشبق ، ولا يفتك به ناموس الإسلام؟ فما خالد وما خطره حتى يهبه الخليفة تلك الفضيلة الرابية ويراه سيفا سلّه الله على أعدائه ، وهو عدو الله بنص من الخليفة الثاني ، أليست هذه كلها تحكّما وسرفا في الكلام ، وزورا في القول ، واتخاذ الفضائل في دين الله مهزئة ومجهلة؟

٣٣٢

وليست هذه بأوّل قارورة كسرت في الإسلام بيد خالد ، وقد صدرت منه لدة هذه الفحشاء المنكرة على عهد رسول الله ، وتبرّأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صنيعه ، قال ابن إسحاق : بعث رسول الله فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عزوجل ، ولم يأمرهم بقتال ، وكان ممّن بعث خالد بن الوليد ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ، ولم يبعثه مقاتلا ، ومعه قبائل من العرب فوطئوا بني جذيمة ابن عامر ، فلمّا رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.

قال : حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال : لمّا أمرنا خالد أن نضع السلاح ، قال رجل منّا يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد ، والله ما بعد وضع السلاح إلّا الإسار ، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبدا ، قال : فأخذه رجال من قومه فقالوا : يا جحدم! أتريد أن تسفك دمائنا إن الناس قد أسلموا ووضعوا السلاح ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس؟ فلم يزالوا به حتّى نزعوا سلاحه ، ووضع القوم السلاح لقول خالد ، فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكتّفوا ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ، فلمّا انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد (١).

وقد كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن ابن عوف : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام (٢).

فهذا الرّهق والسرف في سيف خالد على عهد أبي بكر من بقايا تلك النزعات الجاهلية ، وهذه سيرته من أوّل يومه ، فأنّى لنا أن نعدّه سيفا من سيوف الله ، وقد تبرّأ منه نبي الإسلام غير مرة ، مستقبل القبلة شاهرا يديه ، وأبو بكر ينظر إليه من كثب.

__________________

(١) الاستيعاب ج ١ / ١٥٣ وفيه قال : هذا من صحيح الأثر.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٤ / ٥٣ ، طبقات ابن سعد ، ط / مصر ، رقم التسلسل ٦٥٩.

٣٣٣

قال الملك : فلما ذا يسمي بعض الناس خالدا ب «سيف الله المسلول»؟

قال العلوي :

إنّه سيف الشيطان المسلول ولكن حيث إنّه كان عدوا للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وكان مع عمر لمّا حرق باب دار «الصدّيقة» فاطمة الزهراء عليها‌السلام سمّاه بعض السنّة بسيف الله!

قال الملك :

وهل أهل السنّة أعداء عليّ بن أبي طالب؟

قال العلوي :

إذا لم يكونوا أعداءه فلما ذا مدحوا من غصب حقه والتفوا حول أعدائه وأنكروا فضائله ومناقبه حتى بلغ بهم الحقد والعداء إلى أن يقولوا : (إن أبا طالب مات كافرا) والحال أن أبا طالب كان مؤمنا وهو الذي نصر الإسلام في أشد ظروفه ودافع عن النبيّ في رسالته!

قال الملك : وهل أن أبا طالب أسلم؟

قال العلوي : لم يكن أبو طالب كافرا حتى يسلم ، بل كان مؤمنا يخفي إيمانه ، فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر أبو طالب الإسلام على يده ، فهو ثالث المسلمين : أولهم : الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والثاني : السيّدة خديجة الكبرى زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثالث : هو أبو طالب عليه‌السلام.

٣٣٤

قال الملك للوزير :

هل صحيح كلام العلوي في حق أبي طالب؟

قال الوزير : نعم ذكر ذلك بعض المؤرخين (١).

____________________________________

(١) لقد شنّ المخالفون حملة عظيمة على سيّد البطحاء «أبي طالب» وزوجه الطاهرة فاطمة بنت أسد عليهما‌السلام، فنسبوا إليهما أنهما كانا مشركين ، بل إن أبا طالب مات على الكفر بعد المبعث ، كل ذلك لأنهما والدا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

ونحن سنتطرق إلى إيمانهما قبل البعثة وبعدها من خلال نقطتين :

الأولى : فيما يتعلق بإيمان السيّدة المطهّرة فاطمة بنت أسد عليها‌السلام.

الثانية : فيما يتعلق بإيمان الصدّيق الوصي أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب عليهم‌السلام.

أما بيان النقطة الأولى :

إن السيّدة الصدّيقة المباركة مولاتنا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية والدة أمير المؤمنين عليّ وطالب وعقيل وجعفر.

قال الزهري : هي أول هاشمية ولدت لهاشمي ، وهي أيضا أول هاشمية ولدت خليفة ، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله ولدت الحسن عليه‌السلام (١).

ولها بنتان : الأولى : أم هانئ واسمها جعدة ، وقيل : فاختة (٢) وقيل : هند ، وهي التي صلّى رسول الله في بيتها يوم الفتح.

والثانية : قيل اسمها ريطة (٣) ، وقيل أسماء أخرى.

__________________

(١) أسد الغابة ج ٧ / ٢١٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٢ / ١٢١ وتذكرة الخواص ص ٢٢.

(٣) تذكرة الخواص ص ٢٢.

٣٣٥

وكانت فاطمة عليها‌السلام قبل الإسلام تدين بدين الحنيفية الإبراهيمية ، كما كانت من أوائل المؤمنات برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي أول امرأة آمنت برسول الله قبل خديجة عليها‌السلام وذلك : لمّا جاءت إلى أبي طالب لتبشّره بمولد النبيّ فقال لها أبو طالب : اصبري سبتا أبشرك بمثله إلّا النبوّة (١). فيدل على إيمانها بالنبيّ قبل ولادته ، نعم جددت إسلامها أو أكّدته بعد مبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كما كانت أول امرأة هاجرت إلى النبيّ من مكة إلى المدينة (٢) على قدميها ، وكانت من أبرّ الناس برسول الله (٣).

* قال ابن الجوزي الحنفي : وهي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، أسلمت وهاجرت إلى المدينة ، وتوفيت بها سنة أربع من الهجرة ، وشهد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم جنازتها ، وصلّى عليها ودعا لها ، ودفع لها قميصه فألبسها إياه عند تكفينها.

ثم قال : وقال الزهري : وكان رسول الله يزورها ويقيل عندها في بيتها وكانت صالحة.

ثم قال : عن ابن عباس : وفيها نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤).

قال : وهي أول امرأة هاجرت من مكة إلى المدينة ماشية حافية ، وهي أول امرأة بايعت محمّدا رسول الله بمكة بعد خديجة (٥).

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢ ح ١.

(٢) تذكرة الخواص ص ١٠ وأصول الكافي ج ١ / ٤٥٢.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٢.

(٤) سورة الممتحنة : ١٢.

(٥) تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنفي ص ٢٠.

٣٣٦

* قال الزهري : سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول : يحشر الناس يوم القيامة عراة ، فقالت : وا سوأتاه! ، فقال لها رسول الله : فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية.

قال : وسمعته يقول ـ أو يذكر ـ عذاب القبر ، فقالت : وا ضعفاه! فقال : إني أسأل الله أنّ يكفيك ذلك (١).

قال ابن الصباغ المالكي : أمّه (أي أم الإمام عليّ عليه‌السلام) ؛ فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف تجتمع هي وأبو طالب في هاشم ، أسلمت وهاجرت مع النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وكانت من السابقات إلى الإيمان بمنزلة الأمّ من النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فلما ماتت كفّنها النبيّ بقميصه وأمر أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود فحفروا قبرها ، فلما بلغوا لحدها حفره رسول الله بيديه وأخرج ترابه ، فلما فرغ اضطجع فيه وقال : «الحمد لله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، اللهم اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد ، ولقّنها حجّتها ، ووسع عليها مدخلها بحق نبيّك محمّد والأنبياء الذين من قبلي ، فإنك أرحم الراحمين». فقيل : يا رسول الله ، رأيناك وضعت شيئا (الأصح : صنعت) لم تكن وضعته (صنعته) بأحد قبلها؟

فقال صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليخفف عنها من ضغطة القبر ، إنها كانت من أحسن خلق الله صنعا إليّ بعد أبي أبي طالب عليه‌السلام (٢).

قال الشيخ المفيد : وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وكانت كالأم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرها ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكرا لبرّها ، وآمنت به في الأوّلين وهاجرت معه في جملة المهاجرين ، ولمّا قبضها الله تعالى إليه ، كفّنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الفصول المهمة ص ٣١ ، وروى نحوه الحمويني في فرائد السمطين ج ١ / ٣٢٨ ح ٣٠٨.

٣٣٧

بقميصه ليدرأ عنها هوام الأرض وتوسّد في قبرها لتأمن بذلك ضغطة القبر ، ولقّنها الإقرار بولاية ابنها أمير المؤمنين عليه‌السلام لتجيب به عند المسألة بعد الدفن ، فخصّها بهذا الفضل العظيم لمنزلتها من الله عزوجل ومنه عليه‌السلام ، والخبر بذلك مشهور (١).

* قال العلامة الأربلي : وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وكانت من رسول الله بمنزلة الأمّ ، ربّته في حجرها ، وكانت من السابقات إلى الإيمان وهاجرت معه إلى المدينة ، وكفنها النبيّ بقميصه ... (٢).

وقال ابن الأثير الجزري :

«إن رسول الله كفّن فاطمة بنت أسد في قميصه واضطجع في قبرها ، وجزّاها خيرا ، وروي عن ابن عبّاس نحو هذا ، وزاد ، فقالوا : ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه؟ قال : «إنه لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر» (٣).

وقال الكليني رضي الله عنه :

«سمعت ـ أي فاطمة ـ رسول الله يقول : إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا ، فقالت : وا سوأتاه ، فقال لها رسول الله ؛ فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية.

وسمعته يذكر ضغطة القبر ، فقالت ؛ وا ضعفاه ، فقال لها رسول الله : فإني أسأل الله أن يكفيك ذلك ، وقالت لرسول الله يوما : إني أريد أن أعتق جاريتي هذه ، فقال لها : إن فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار ... فبينما هو ذات يوم قاعد إذ أتاه أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو يبكي فقال له رسول الله ما يبكيك؟

__________________

(١) إرشاد المفيد ص ٨ الباب ١ من الفصل ١.

(٢) كشف الغمة ج ١ / ٨٢ باب المناقب.

(٣) أسد الغابة ج ٧ / ٢١٣.

٣٣٨

فقال : ماتت أمي فاطمة ، فقال رسول الله : وأمي والله وقام مسرعا حتى دخل فنظر إليها وبكى ، ثم أمر النساء أن يغسّلنها وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا فرغتنّ فلا تحدثن شيئا حتى تعلمنني ، فلمّا فرغن أعلمنه بذلك ، فأعطاهن أحد قميصيه الذي يلي جسده وأمرهنّ أن يكفنها فيه وقال للمسلمين : إذا رأيتموني قد فعلت شيئا لم أفعله قبل ذلك فسلوني لم فعلته ، فلما فرغن من غسلها وكفنها ، دخل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمل جنازتها على عاتقه ، فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها ، ثم وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه ، ثم قام فأخذها على يديه حتى وضعها في القبر ثم انكب عليها طويلا يناجيها ويقول لها :

ابنك ابنك ابنك ثم خرج ، وسوّى عليها ، ثم انكب على قبرها فسمعوه يقول : لا إله إلا الله ، اللهم إني أستودعها إياك ، ثم انصرف ، فقال له المسلمون إنّا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم ، فقال : اليوم فقدت برّ أبي طالب ، إذ كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها وإني ذكرت القيامة وإن الناس يحشرون عراة ، فقالت : وا سوأتاه ، فضمنت لها أن يبعثها الله كاسية ، وذكرت ضغطة القبر فقالت : وا ضعفاه ، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك ، فكفنتها بقميصي واضطجعت في قبرها لذلك ، وانكببت عليها فلقنتها ما تسأل عنه .. وسئلت عن وليها وإمامها ، فارتج عليها ، فقلت : ابنك ..» (١).

ملاحظة :

«قوله في الخبر (ارتج عليها) غير صحيح بل هو من صنع الدساسين في الأخبار ، لأن هذا مخالف لمروياتنا الصحيحة أنها كانت على علم بوصيّها وإمامها وهو ابنها عليّ بن أبي طالب ، لا سيّما ما ورد من أن أبا طالب بشّرها بأنّها ستلد صبيا هو بمثابة رسول الله» (٢).

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٥٣.

(٢) نفس المصدر ج ١ / ٤٥٢ ح ١.

٣٣٩

وفي خبر آخر قال لها : وتتعجبين من هذا أنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره (١).

وحديث الدار فيه دلالة قطعية على إمامة أمير المؤمنين في السنة الثالثة للبعثة حينما رفع النبيّ يد الإمام عليه‌السلام وقال : هذا أخي وحبيبي ووصيي عليكم فاسمعوا له وأطيعوا. إنها أمّ النبيّ حسبما عبّر عنها ذلك هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال لما ماتت : «جزاك الله من أمّ خيرا ، لقد كانت خير أم ، وكانت ربت النبيّ» (٢) كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبّر عليها أربعين تكبيرة (٣).

وروى صاحب مرآة العقول بإسناده عن أنس بن مالك قال : لمّا ماتت فاطمة بنت أسد دخل إليها رسول الله فجلس عند رأسها وقال :

رحمك الله يا أمي ، كنت أمي بعد أمي ، تجوعين وتشبعينني ، وتعرين وتكسينني ، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني ، تريدين بذلك وجه الله والآخرة (٤).

والسؤال المطروح :

هل صحيح ما يقوله أعداء آل البيت عليهم‌السلام أنها كانت كافرة قبل الإسلام «معاذ الله»؟

والجواب :

لم يثبت عندنا ـ نحن الإمامية ـ ذلك ، بل الثابت هو العكس لقرائن وشواهد كثيرة أهمها :

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ٤٥٤ ح ٣.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٨ ، الإصابة ج ٤ / ٣٨٠ ؛ الدر المنثور في طبقات ربات الخدور ص ٣٥٨ ؛ تذكرة الخواص ص ١٠ ؛ الفصول المهمة للمالكي ص ١٣ ، تاريخ الخميس ج ١ / ٤٦٨ ، وبحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٠ ، وأصول الكافي ج ١ / ٤٥٣.

(٣) بحار الأنوار ج ٣٥ / ٧٠.

(٤) مرآة العقول في شرح أخبار الرسول ج ٥ / ٢٧٨ ط / دار الكتب الإسلامية ، تهران.

٣٤٠