أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

«إن الله بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال ... ثم إنّا كنا نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو : إنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ..» (١).

وذكر السيوطي : أخرج ابن اشته في المصاحف عن الليث بن سعد ، قال : «أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ... وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده» (٢).

فآية الرجم ـ بنظر الصحابي عمر بن الخطّاب ـ قد سقطت من القرآن لا محالة.

١٩ ـ أخرج الطبراني بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعا :

«القرآن الف الف وسبعة وعشرون الف حرف» (٣).

بينما القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار ، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه.

٢٠ ـ وروى زرّ ، قال : قال أبي بن كعب يا زرّ :

«كأيّن تقرأ سورة الأحزاب ، قلت : ثلاث وسبعين آية ، قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة ، أو هي أطول من سورة البقرة ..» (٤).

٢١ ـ وروى ابن أبي داود وابن الأنباري عن ابن شهاب ، قال :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٨ / ٣٤١ وصحيح مسلم ج ١٠ / ٢٦ ومسند أحمد ج ١ / ٤٧.

(٢) الاتقان ج ١ / ١٢٩.

(٣) الاتقان ج ١ / ١٥٢.

(٤) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ / ٤٣.

٢١

«بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب ...» (١).

٢٢ ـ وروى عمرة عن عائشة أنها قالت :

«كان فيما أنزل من القرآن : «عشر رضعات معلومات يحرّمن» ثم نسخن ب : «خمس معلومات» ، فتوفى رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن (٢).

٢٣ ـ وروى المسور بن مخرمة ، قال :

قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة. فإنّا لا نجدها ، قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن (٣).

٢٤ ـ وروى أبو سفيان الكلاعي : أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم : «أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف ، فلم يخبروه ، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك ، فقال ابن مسلمة :

«إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم اولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون» (٤).

وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخلع والحفد في مصحف ابن عباس وأبي بن كعب: «اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق» (٥).

__________________

(١) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ / ٥٠.

(٢) صحيح مسلم ج ٤ / ١٦٧.

(٣) الاتقان ج ٢ / ٤٢.

(٤) الاتقان ج ٢ / ٤٢.

(٥) الاتقان ج ١ / ١٤٣.

٢٢

وهناك آيات أخر زعم ابن الخطّاب أنها من القرآن ثم أسقطت منه ، هي آية الجهاد ، قال عمر لابن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا «أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنّا لا نجدها؟ قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن (١).

وآية الفراش «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فقد ورد أنه خاطب أبي بن كعب : أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله «أن انتفاءكم من آباءكم كفر بكم»؟ فقال : بلى .. ثم قال : أوليس كنّا نقرأ «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيما فقدنا من كتاب الله؟ فقال أبي : بلى (٢).

«الولد للفراش» حديث مروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظنه ابن الخطّاب آية قرآنية.

وهناك العديد من هذه الروايات ، ذكرها السيوطي في الإتقان وغيره عن مفسري العامة ، حيث ادّعوا أن القرآن الكريم ذهب منه كثير بذهاب حملته يوم اليمامة.

وغير خفي أن القسم الأخير من أقسام التحريف هو نفسه ما يسميه جمهور العامة «بنسخ التلاوة» وهو بعينه القول بالتحريف والإسقاط ، فتسميته بنسخ التلاوة تمويها على السذج حتى لا يقدح بعمر بن الخطاب وعائشة وأمثالهما ممن يحسن العامة بهم الظن ، وهذه التسمية لا تخرجه عن أقسام التحريف ، وعليه يمكن أن يدّعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء العامة ، لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة.

ومن العجيب أن جماعة من علماء العامة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم حتى أن الألوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية ، وقال : «إن أحدا من علماء السنّة لم يذهب إلى ذلك» وأعجب من ذلك أنه ذكر أن قول الطبرسي بعدم التحريف نشأ من ظهور فساد أصحابه بالتحريف ،

__________________

(١) الدر المنثور ج ١ / ١٠٦ ، الاتقان ج ٢ / ٥٤.

(٢) الدر المنثور ج ١ / ١٠٦.

٢٣

فالتجأ هو إلى إنكاره» (١) مع أنك قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور ، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة.

وبالجملة : إنّ نسخ التلاوة باطل وذلك :

لأنه إما أن يكون قد وقع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإما أن يكون ممن تصدّى للزعامة من بعده ، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول الله فهو أمر يحتاج إلى إثبات ، وقد اتفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، منهم أبو إسحاق الشاطبي (٢) ، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه ، والمشهور عند الظاهريين بامتناع نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، بل إن جماعة ممن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنة المتواترة منع وقوعه (٣) ، وعلى ذلك فكيف تصح نسبة النسخ إلى النبيّ بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أن نسبة النسخ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنافي جملة من الروايات التي تضمنت أن الإسقاط قد وقع بعده ، وإن أرادوا أن النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبي فهو عين القول بالتحريف الذي يقول به أكثر علماء أهل السنّة (٤).

انتهينا هنا من بيان معنى التحريف وأقسامه ، والآن نشرع في النقطة التي وعدنا البحث فيها وهي :

صنوف النسخ في القرآن

تمهيد :

طبيعة كل تشريع يهدف الخير لأتباعه أن يكون مرنا وسهلا ليتكيّف أفراده بأحكامه ودساتيره بحيث لا يجعل منهم آلة صمّاء لا شعور لها ولا اختيار ، ولأن الصعوبة في التشريعات تستلزم النفور والإعراض ، لذا ما من طبيعة أية حركة

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ١ / ٢٤.

(٢) الموافقات للشاطبي ج ٣ / ١٠٦.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ج ٣ / ٢١٧.

(٤) البيان ص ٢٠٦ بتصرف بسيط.

٢٤

إصلاحية آخذة إلى التقدم وتريد الخير لأتباعها إلّا ويتوارد على تشريعاتها نسخ متتابع ، حسب تدرجها التصاعدي نحو قمة الكمال ، تلك طبيعة محتمة لكل حركة إصلاحية أو نظام يبتغي الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والسياسي وغير ذلك ، فكيف إذا كانت تلك الحركة أو ذاك النظام هو خاتم الحركات الإصلاحية في العالم ، ودساتيره أشمل الدساتير المتقدمة عليه ، أعني الإسلام حيث استوعب بقوانينه ودساتيره وأحكامه كل الأزمنة ، وراعى كل الظروف والأمكنة ، وغيّر كثيرا من المفاهيم المعوجّة التي تأصلت في واقع المجتمع الجاهلي آنذاك ، وكانت عملية التغيير لتلك الأمة المتوغلة في الضلال ، والبعيدة عن معالم الحضارة إلى حدّ كبير ، تستلزم التدرج في إصدار الأحكام ليتم انتشالها من واقعها السحيق والانسجام مع سجيتها المتوحشة ، إلى واقع جديد سهل سمح ، يتعامل بمرونة مع الآخرين ويتأقلم مع مجتمعات ليست من سنخه وعلى منواله.

وطبيعة التدرّج بالأحكام تستلزم أيضا طي عقبات ومراحل متلاحقة ، بحيث يشمل هذا الطي إلغاء بعض العادات والأحكام التي كانت سائدة في عصر ما قبل الإسلام ، أسوة بمن تقدم من الشرائع السابقة على الإسلام ، حيث جرت الطريقة الإلهية أن تلغي الشريعة اللاحقة بعض أحكام كانت سائدة في الشريعة السابقة لمصالح اقتضت الظروف إيجادها.

وهكذا استدعت التشريعات الإسلامية نسخا متتاليا منذ أن ظهرت الدعوة في مكة ، وحتى إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة ، وقد انتهت شريعة النسخ بوفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث انقطاع الوحي.

وكانت ظاهرة النسخ أمرا لا بد منه في كل تشريع يحاول تركيز معالمه في الأعماق ، والأخذ بيد أمة جاهلة إلى مستوى عال من الحضارة الراقية ، الأمر الذي لا يتناسب مع الطفرة المستحيلة ، لو لا الأناة والسير التدريجي المستمر خطوة بعد خطوة.

٢٥

وعليه فإن النسخ ضرورة واقعية تتطلبها مصلحة الأمة ذاتها ، ولم يكد ينكر ما لهذه الظاهرة الدينية من فائدة وعوائد تعود على الأمّة ، وأعظم بها من حكمة إلهية بالغة.

التعريف بالنسخ :

أمّا لغة : هو تبديل الشيء من الشيء وهو غيره ، وبمعنى النقل والتحويل من مكان إلى مكان ، ونسخ الشيء بالشيء ينسخه وانتسخه : أزاله به وأداله ، والشيء ينسخ الشيء نسخا أي يزيله ويكون مكانه ، ويقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته ، ونسخت الكتاب أي نقلته ، ونسخ الآية بالآية : إزالة حكمها بها ، وفي التنزيل : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١) والآية الثانية ناسخة والأولى منسوخة.

وأمّا اصطلاحا : هو رفع ثابت في الشريعة بارتفاع أمره وزمانه ، سواء أكان الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية وغير ذلك ، والسر في تقييد الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجا كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته ، فإن هذا النوع من ارتفاع الحكم لا يسمى نسخا ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه.

أو بعبارة : إن النسخ هو رفع الحكم الثابت السابق الظاهر في الدوام بتشريع لاحق بحيث لولاه لكان ثابتا ويظن أبديته مطلقا سواء أكان الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة واحدة أم في شرائع عدة ، كما أن كل شريعة لا حقة تنسخ الشريعة السابقة عليها (٢).

فرفع التشريع السابق الذي كان بحسب منظور المكلفين يقتضي الدوام

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٦.

(٢) الفوائد البهية ج ١ / ٣٦٠ الطبعة الثانية.

٢٦

والاستمرار بتشريع حكم لاحق كان معلوما عند الله عزوجل من أول الأمر ، فمثلا حينما رفع تشريع الاتجاه من بيت المقدس إلى اتجاه الكعبة المشرفة ، هذا التحويل كان معلوما من أول الأمر عنده سبحانه ، وإنما شرّع الصلاة إلى بيت المقدس لفترة زمنية معينة امتحانا للعباد واختبارا لهم حسبما تقتضيه المصلحة ، وهذا تماما كما لو رأى الطبيب أن من مصلحة المريض الامتناع عن شرب الدخان لمدة أسبوع واحد ، وأيضا رأى أن من المصلحة أن لا يعلم المريض بتحديد الوقت ، فنهاه عن شرب الدخان على هذا الأساس من غير قيد ، وبعد مضي اسبوع أذن له في شرب الدخان ، فالمصلحة حينئذ تقتضي أن يرفع المنع من شرب الدخان.

وعلى هذا الأساس ينحصر معنى النسخ في إمحاء ما ظهر من إرادة الدوام ، لا إمحاء الإرادة الواقعية مما يستلزم البداء المستحيل عليه تعالى ، لأن النسخ بمعناه الباطل أي «الإزالة» الناتجة عن حالة التبدل في الرأي ، ونشوء رأي جديد مستحيل عليه تعالى ، لأنه على هذا القول يعني أن المشرّع عند ما بدّل رأيه السابق إلى رأي جديد ينتج عنه ظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق عثر عليه متأخرا فأبدل رأيه إلى تشريع آخر ناسخ للأول.

هذا المعنى للنسخ إنما يختص ويقتصر على المشرعين القانونيين الآدميين ولا يشمل ربّ العالمين الذي كله علم وقدرة ولطف وحكمة ، فطبيعة الآدمي الناقص أن يتبدل رأيه لعدم إحاطته بالمصالح والفاسد الكامنة وراء الأمور ، كل ذلك يستدعي أن تتبدل معلوماته بين الحين والآخر ، وهذا بخلاف الباري العليم الحكيم المحيط بالسرائر والضمائر والظواهر والبواطن ، فلديه عزوجل الإحاطة الحضورية التامة بالواقعيات في طول الزمن وعرضه على حدّ سواء ، فمثل هذا يمتنع عليه الخطأ ، لأن وقوعه في حقه تعالى دليل نقص وعجز يتنزّه عنهما الباري عزوجل.

فالنسخ المنسوب إليه تعالى نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ فيه أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، وأنه تعالى لم يشرّعه حين

٢٧

شرّعه إلّا وهو يعلم أن له أمدا ينتهي إليه ، وإنما المصلحة الواقعية اقتضت هذا التشريع المؤقت ، وقد شرّعه عزوجل وفقا لتلك المصلحة المحدودة من أول الأمر.

من هنا نعرف سرّ علاقة النسخ بالبداء ، فإنه لا فرق بينهما سوى أن الأول خاص بالتشريع ، والثاني خاص بالتكوين ، فالنسخ والبداء بمعناهما الباطل أعني تبدل الرأي أو نشأة رأي جديد ممتنع بالقياس إلى علمه الأزلي ، وأما بمعناهما الثاني الصحيح وهو إخفاء الأمر على المكلفين اختبارا وامتحانا ومصلحة لهم ولطفا بهم ورحمة ، هذا المفهوم لا غبار عليه في الشريعة الإسلامية المقدّسة وضرورة العقل ، إذ إنه ظهور شيء بعد خفائه على الناس ، حيث يتميّز النسخ عن البداء ، أن النسخ عبارة عن ظهور أمد الحكم كان معلوما عنده تعالى ، خافيا على الناس ، والبداء ظهور أمر أو أجل من حياة كائن أو موته وما إلى ذلك كان محتّما عنده تعالى بعلمه الذاتي ، ولكنه كان خافيا على الناس ، ثم بدا لهم أي ظهرت لهم الحقيقة بعد خفائها عليهم.

ويفترق النسخ عن البداء ، أن النسخ شامل للأحكام التشريعية التقنينية من دون استثناء إذا اقتضت المصلحة ذلك ، أما البداء فلا يشمل المحتوم وما في اللوح المحفوظ.

وبعبارة : إنّ البداء يقتصر على ما في لوح المحو والإثبات «القدر» دون القضاء المبرم المحتوم أو ما يسمّى ب «اللوح المحفوظ».

والخلاصة : إن للبداء في التكوين ـ كالنسخ في التشريع ـ معنيين ، يكون بأحدهما مستحيلا بشأنه تعالى ، وجائزا بالمعنى الآخر ، وبذلك يفسر قوله تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) وغيرها من الآيات. والبداء الذي تقول به الشيعة ـ مستندا إلى الآية الكريمة ـ هو بذلك المعنى الجائز ، نظير النسخ من غير فرق.

__________________

(١) سورة الرعد : ٣٩.

٢٨

وما نسبه علماء العامة إلى الشيعة الإمامية من إضافة البداء بمعنى تبدل الرأي ونشوء رأي جديد إنما هو من افتراءاتهم على الشيعة ، وليتهم إذ لم يعرفوا مراد الشيعة من البداء تثبّتوا أو توقّفوا كما تفرضه الأمانة في النقل ، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم ، والورع في الدين ، وهذه كتب الإمامية الكلامية وغيرها من كتب التفسير والحديث ، كلها متفقة على تفسير البداء ـ المسند إلى الله ـ بمعناه الجائز ، وهو الظهور للناس بعد خفاء.

ونحن إذ لا نستغرب افتراءات السلف الموجّهة إلى الشيعة ، حيث البيئة الغاشمة هي التي وجّهتهم ذاك التوجيه الخاطئ ، لكنّا نستغرب جدا من متابعة الخلف ونسجهم على نفس ذلك المنوال المعوّج كالأستاذ الزرقاني والعريضي والرازي ومن لف لفّهم ، مشوا على نفس المنهاج الخاطئ من غير تحقيق عن جلي الأمر ، وهذه كتب الشيعة مبثوثة بين أيديهم يغفلونها ، ويقتصرون على نقل تلكم الافتراءات الظالمة التي سجلها أسلافهم على أثر ضغط من حكومات غاشمة لا نفسه المجال لجلاء الحقيقة التي كانت تعاكس أهدافهم في سياسة الاغتصاب (١).

إذن نحن الإمامية نبرأ إلى الله تعالى ممن نسب إلينا البداء المستحيل على الله تعالى ، لذا ورد عن أئمتنا عليهم‌السلام العديد من النصوص تشير إلى ما ذكرنا ، منها ما رواه الصدوق في «إكمال الدين» بإسناده عن أبي بصير وسماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

من زعم أن الله عزوجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرءوا منه» (٢).

وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب ، وقال :

__________________

(١) نحيل القارئ على كتابنا الفوائد البهية ج ١ / ٣٥٤ وما بعدها حيث عرضنا فيه «مسألة البداء» بتفاصيلها الفلسفية الدقيقة فليراجع.

(٢) نقلا عن البحار ، باب البداء والنسخ.

٢٩

فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه ، أن الله لا يبدو له من جهل (١).

وروى الطوسي في كتاب «الغيبة» بإسناده عن البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال علي بن الحسين ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب قبله ، ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد.

«كيف لنا بالحديث مع هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلّا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد» (٢).

والروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام أن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق ، هي فوق حدّ الإحصاء ، وقد اتفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقا لكتاب الله وسنة رسوله ، جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.

الفرق بين النسخ والتخصيص :

إطلاق النسخ على التخصيص كان شائعا على ألسنة الصحابة والتابعين ، فكانوا يطلقون على المخصّص والمقيّد لفظ الناسخ ، لذا أكثروا القول في عدد الآي المنسوخة ، لذا فمن الضروري التفرقة بين النسخ والتخصيص بالقول : إن الأول قطع لاستمرار التشريع السابق بالمرة ، بعد أن عمل به المسلمون في فترة من الزمن طويلة أم قصيرة ، أما التخصيص فهو قصر الحكم العام على بعض أفراد الموضوع وإخراج البقية عن الشمول ، قبل أن يعمل المكلفون بعموم التكليف. فالنسخ اختصاص للحكم ببضع الأزمان ، والتخصيص اختصاصه ببعض الأفراد ، ذاك تخصيص أزماني ، وهذا تخصيص أفرادي ولا يشتبه أحدهما بالآخر. نعم هما يشتركان في جامع هو : ارتكاب خلاف ظاهر كل منهما ، حيث كان التشريع الأول ظاهرا بطبعه في الاستمرار ، فجاء الناسخ ليزيل هذا التوهم ، ويبيّن أن الحكم كان محدودا من الأول ، وإن كان لا يعلم به الناس ، وهكذا التخصيص بيان للمراد

__________________

(١) نقلا عن نفس المصدر.

(٢) نقلا عن البحار ، باب البداء والنسخ.

٣٠

الحقيقي من اللفظة الظاهرة بطبعها في العموم ، فجاء المخصص كاشفا عن الواقع المقصود ، فكان كل من النسخ والتخصيص أداة كشف عن المراد الحقيقي للمشرّع الأول الحكيم.

شروط النسخ :

حتى نميّز النسخ عن غيره لا بدّ له من شروط هي :

أولا : كما لو تحقق التنافي بين تشريعين وقعا في القرآن ، بحيث لا يمكن اجتماعهما في تشريع مستمر ، تنافيا ذاتيا ، كما في آيات وجوب الصفح مع آيات القتال ، كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) (١).

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢).

أمرت الآية الأولى بالصفح عن المشركين في مكة ، حيث كان فيها المؤمنون ضعافا ، بينما أمرت الآية الثانية بالصفح عن أهل الكتاب في بدء الهجرة النبوية حيث لم تلتئم بعد عرى شوكة المسلمين.

فنسخت الأولى بالأذن في القتال أولا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣) تم التحريض عليه ثانيا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) (٤) وأخيرا باستئصال المشركين عامة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٥) وكذا نسخت الآية الثانية بمنابذة أهل الكتاب (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٦).

__________________

(١) سورة الجاثية : ١٤.

(٢) سورة البقرة : ١٠٩.

(٣) سورة الحج : ٣٩.

(٤) سورة الأنفال : ٦٥.

(٥) سورة التوبة : ٥.

(٦) سورة التوبة : ٢٩.

٣١

لكنّ بعضهم قال : «إن هاتين الآيتين محكمتان ، غير منسوختين : أما الأولى فإن مفادها حكم تهذيبي أخلاقي وهو غير مقتصر على المشركين بل يعم المسلمين الذين لا يبالون بدينهم ، فالجزاء منهم موكول إلى الله الذي لا يفوته ظلم الظالمين وتفريط المفرطين» (١).

وأما الثانية : «فلا علاقة لها ـ بنظره ـ بالنسخ المصطلح ، حيث فيها تلميح بالتوقيت ، ولأن أهل الكتاب لا يجوز مقاتلتهم لمجرد أنهم أهل الكتاب إلا مع ضمّ موجب آخر من إقدامهم على حرب المسلمين أو إلقاء الفتنة بينهم أو امتناعهم عن دفع الجزية» (٢).

أورد عليه :

«متى كان الإغضاء عن اعتداء معتد غشوم أدبا رفيعا وخلقا كريما؟! وهل كان سكوت المؤمن أمام تجاوز الكافر الملحد صفحا مجيدا؟

هذا وذاك ضعف ووهن وجبن ، الأمر الذي يتنافى وعزة الإيمان ، ولا سيّما وكان المصفوح عنهم في الآية «من لا يرجون أيام الله» فكيف يكون الصفح عن مثل هؤلاء الظالمين أدبا وخلقا إسلاميا نبيلا! نعم كان سكوت الضعيف أمام القوي والغض عن تعدياته الغاشمة ـ اضطرارا ـ حفظا على نفسه وعلى إخوانه المؤمنين عن الإبادة والهلاك ، الأمر الذي يتناسب مع الأيام التي كان المسلمون في مكة ضعفاء لا يستطيعون المقاومة تجاه المشركين ، وكذلك في بدء هجرتهم إلى المدينة ، أما بعد قوتهم وازدياد شوكتهم فقد جاء الأمر بمعاملة المعتدين مثلا بمثل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٣) وفي ذلك تتمثل شوكة المسلمين وعزة جانبهم.

__________________

(١) الخوئي في البيان ص ٣٦٤.

(٢) البيان للخوئي ص ٢٨٩.

(٣) سورة البقرة : ١٩٤.

٣٢

وأما قضية الإشارة إلى التوقيت فلا تنافي النسخ ، بعد أن كان الحكم بطبعه صالحا للبقاء والاستمرار ما لم يأت بيان جديد ، وهذا هو النسخ بعينه» (١).

وعليه فالفرق بين المنسوخ والمحدود ، أن الثاني ما كان ينتهي بنفس التحديد الذي كان فيه ، من غير حاجة إلى بيان جديد ، أما إذا كان محتاجا إلى ذلك ، بحيث يبقى مع الأبد ما لم يأت البيان فهو من المنسوخ لا محالة (٢).

وأما الأمر بشأن أهل الكتاب فواضح ، إذ أمر المسلمون في بادي الأمر بالصفح عنهم رأسا كما ورد في سورة البقرة / ١٠٩ ، وهذا الحكم ارتفع بعد ذلك نهائيا بفرض مقاتلتهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما في التوبة / ٢٩.

ومن الآيات الناسخة والمنسوخة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣).

روى المفسّرون لهذه الآية :

إن عدة المتوفى عنها زوجها في الجاهلية كانت سنة كاملة ، وكان إذا مات الرجل ألقت المرأة خلف ظهرها شيئا ـ بعرة أو ما شاكلها ـ فتقول : البعل (تريد المتجدّد) أهون عليّ من هذه ، فلا تكتحل ولا تتمشط ولا تتطيب ولا تتزوج إلى سنة ، وكان ورثة الميّت لا يخرجونها من بيتها ، وكانوا يجرون عليها من تركة زوجها طول تلك السنة ، فكان ذلك هو إرثها من مال زوجها المتوفى(٤).

وهذه الآية نزلت تقرّر جانبا من هذه العادة إلى أن نسخت بآية العدد بقوله

__________________

(١) التمهيد في علوم القرآن ج ٢ / ٣١٣ بتصرف بسيط.

(٢) نفس المصدر السابق نقلا عن مجمع البيان ج ٣ / ٢١.

(٣) سورة البقرة : ٢٤٠ وتسمى بآية الإمتاع.

(٤) بحار الأنوار ج ٩٣ / ٧٦ نقلا عن رسالة أصناف القرآن للنعماني.

٣٣

تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١) وآية المواريث (٢) في قوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

قال السيّد عبد الله شبر رحمه‌الله : هذه الآية ـ أي الامتاع ـ منسوخة بالإجماع (٣). وأقوى دليل على تحقق هذا الإجماع : إن أحدا من فقهاء الأمة سلفا وخلفا لم يأخذ بمفاد آية الإمتاع ولم يفت بمضمونها لا فرضا ولا ندبا ، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على اتفاقهم أن الآية منسوخة بلا ريب. وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) وعن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام في روايات متضافرة : إنّها منسوخة ، نسختها آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا.

كل ما تقدم مبنيّ على ما لو تحقق التنافي بين تشريعين ، وأما في صورة عدم التنافي فلا نسخ حينئذ كما في آية الإنفاق (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٥) وآية الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) (٦) فلا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٢) سورة النساء : ١٢.

(٣) تفسيره المختصر ، ص ٧٦.

(٤) تفسير الصافي ج ١ / ٢٠٤.

(٥) سورة البقرة : ٢١٥.

(٦) سورة التوبة : ٦٠.

٣٤

منافاة بين الآيتين ، حيث كانت الأولى ندبا في مطلق الصدقات المستحبة ، وكانت الثانية فرضا في الزكاة الواجبة خاصة.

ثانيا : من شروط النسخ أن يكون التنافي كليا على الإطلاق ، لا جزئيا وفي بعض الجوانب ، فإن هذا الثاني تخصيص في الحكم العام ، وليس من النسخ في شيء ، فآية القواعد من النساء (١) ، لا تصلح ناسخة لآية (٢) الغض ، بعد أن كانت الأولى أخص من الثانية ، والخاص لا ينسخ العام ، بل يخصصه بما عداه من أفراد الموضوع ، وكما في تحليل السمك والجراد لا يكون نسخا لآية تحريم الميتة (٣) حتى ولو فرضنا صدق الميتة على السمك الذي أخرج من الماء حيا فمات ، والجراد المأخوذ حيا ثم يموت ، فإن هذا تخصيص في الآية على الفرض لا نسخ ، أو أنه من باب الحكومة بمعنى أن حلية أكل الجراد والسمك شرعا من باب حكومة دليليهما على أصل الحرمة.

ثالثا : أن لا يكون الحكم السابق محددا بأمد صريح ، حيث الحكم بنفسه يرتفع عند انتهاء أمده ، من غير حاجة إلى نسخ. فمثل قوله تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٤) لا يصدق عليه النسخ عند ما تفيء الباغية وترجع إلى رشدها ، والتسليم لحكم الله.

نعم في مثل قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (٥) يصدق النسخ عند ما يأتي البيان ، لأن التلميح إلى تحديد الحكم معلّقا على بيان جديد ، لا يوجب ارتفاع الحكم إلا بعد أن يأتي حكم جديد ، وما لم يأت البيان فالحكم الأول ثابت ومستمر على أحكامه.

__________________

(١) سورة النور : ٦٠.

(٢) سورة النور : ٣١.

(٣) سورة البقرة : ١٧٣.

(٤) سورة الحجرات : ٩.

(٥) سورة النساء : ١٥.

٣٥

فالتحديد الذي يتنافى مع النسخ هو ما إذا كان الحكم بنفسه يرتفع بانقضاء الأمد المضروب له من الأول.

رابعا : أن يتعلق النسخ بالتشريعات أي الفروع والأحكام الشرعية ولا يتناول الأصول والعقيدة كما لا يتعلق بآيات الإخبار فقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١) لا يصلح ناسخا لقوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٢) لأن الآية إخبار عن واقعية لا تتغير بالوجوه والاعتبار. فما توهمه (٣) مقاتل بن سليمان يعتبر باطلا حيث جعل الآية الثانية منسوخة بالأولى.

يرد عليه :

مضافا إلى ما قلنا آنفا من أنّه لا نسخ في الأخبار ، وإنما هو في الأحكام فإن موضوع الآية الأولى رقم ١٣ هم السابقون المقربون ، وموضوع الآية الثانية رقم ٣٩ هو المؤمنون إطلاقا الذين هم أصحاب اليمين بإزاء أصحاب الشمال.

فإذا ما قيس مؤمنو هذه الأمة عبر العصور أبديا حتى قيام الساعة مع مؤمني الأمم السالفة ، فقد تكون الفئتان متساويتين من حيث الكم والمقدار أو متقاربتين ، ويصح إطلاق «كمية كبيرة» على كلتا الفئتين ، وأما إذا قيس حواريو الأنبياء والأوصياء الماضين ـ وهم السابقون المقربون إلى حواريي نبينا وأوصيائه ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فأولئك عدد جم وهؤلاء عدد ضئيل.

وهكذا الإباحة الأصلية ترتفع بحدوث التشريع من غير أن يكون ذلك نسخا ، حيث تلك الإباحة لم تكن بتشريع ، وإنما كانت بحكم العقل الفطري (البراءة العقلية) والتي موضوعها : عدم التشريع ، فترتفع بالتشريع.

__________________

(١) سورة الواقعة : ١٣.

(٢) سورة الواقعة : ٣٩.

(٣) بهامش الجلالين ج ٢ / ١٩٧.

٣٦

فقوله تعالى : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١) لا يصلح ناسخا لقوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢) لأن جواز القعود مع المشركين قبل نزول آية النساء لم يكن مستفادا من آية الأنعام ، بل كان وفق الإباحة الأصلية ، ونزلت آية الأنعام دفعا لتوهم المسلمين الحظر عليهم ، حيث إنّ الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الإثم لا يحمل إلّا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله ولكن نذكّرهم ذكرى لعلهم يتقون ، فإن الإنسان إذا حضر مجلسهم وإن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون ولا يرضى بقلبه بعملهم وأمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهوّن أمر المعصية عند النفس وتصغّر الخطيئة في عين المشاهد المعاين ، وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها ، فإن للنفس في كل معصية هوى ، ومن الواجب على المتقي بما عنده من التقوى والورع عن محارم الله أن يجتنب مخالفة أهل الهتك والاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياته ، فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة ، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيها.

ومن هذا البيان يظهر :

أولا : إن نفي الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله إنما هو للإيحاء إلى أن من شاركهم في مجلسهم وقعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم والمؤاخذة بما يؤاخذون به ، فالكلام في تقدير قولنا : وما على غير الخائضين في حسابهم من شيء إذا كانوا يتّقون الخوض معهم ولكن إنما ننهاهم على القعود

__________________

(١) سورة النساء : ١٤٠.

(٢) سورة الأنعام : ٦٩.

٣٧

معهم ليستمرّوا على تقواهم من الخوض أو ليتمّ لهم التقوى والورع عن محارم الله سبحانه.

وثانيا : إنّ المراد بالتقوى في قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) التقوى العام وهو الاجتناب والتوقّي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى ، وفي قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) التقوى من خصوص معصية الخوض في آيات الله ، أو المراد بالتقوى الأول أصل التقوى ، وبالثاني تمامه ، أو الأول إجمال التقوى والثاني تفصيله بفعلية الانطباق على كل مورد ومنها مورد الخوض في آيات الله ، أو أن يكون المراد بالأول تقوى المؤمنين وبالتقوى الثاني تقوى الخائضين ، وتقدير الكلام : ولكن ذكّروا الخائضين ذكرى لعلهم يتقون الخوض (١).

وعليه فإن قوله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٢) هو ما يريده في سورة الأنعام (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣) فإن سورة الأنعام مكية ، وسورة النساء مدنية فيستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات وجّه إلى النبيّ خاصة ، والمراد بها ما يعم الأمة (٤) ، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.

خامسا : التحفظ على نفس الموضوع ، إذ عند ما يتبدل موضوع حكم إلى غيره ، فإن الحكم يتغير لا محالة حيث الحكم قيد موضوعه ، وليس هذا نسخا ، فكل استثناء أو تخصيص ورد على حكم عام لا يسمى نسخا.

ومن هذا الباب أيضا إذا ما طرأ عنوان ثانوي (كالاضطرار والحرج والتقيّة ...) يختلف حكمه عن العنوان الذاتي الأولى بحيث يعرّض ـ أي العنوان

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٧ / ١٤١.

(٢) سورة النساء : ١٤٠.

(٣) سورة الأنعام : ٦٨.

(٤) تفسير الميزان ج ٥ / ١١٥ وج ٧ / ١٤٠ ـ ١٤١.

٣٨

الثانوي ـ العنوان الأوّلي كحرمة شرب الخمر مثلا فيجعله جائزا بعد أن كان بعنوانه الذاتي محرّما وذلك للاضطرار إلى شربه ، وهذا لا يسمّى نسخا في الاصطلاح نظرا لأن الحكم الأول ثابت للخمر بعنوانها الذاتي ولا يزال ، وأما الحكم الثاني العارض فهو طارئ بعنوان الاضطرار ، ويرتفع برفع الاضطرار ، وهذا من قبيل تبدل الموضوع بالنسبة إلى حالاته الطارئة التي يختلف الحكم الشرعي بحسبها ، وعليه فقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١) ليس ناسخا لقوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (٢).

صنوف النسخ في القرآن :

لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ ، سواء أكان في أحكام الشرائع السابقة حيث نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية ، أم في جملة من أحكام هذه الشريعة حيث نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها. بل من المعلوم والمتسالم عليه عند الشرائع السابقة على الإسلام ، إن كل شريعة لا حقة كانت تنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة عليها ، وها هي صحاح اليهود والنصارى تثبت وقوع النسخ في شريعة موسى وعيسى عليهما‌السلام ، ومن الغريب جدا إصرار اليهود على استحالة النسخ في شريعة موسى ، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين :

١ ـ فقد جاء في الإصحاح الرابع من سفر العدد «عدد ٢ ، ٣» :

«خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم ، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة ، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع».

وقد نسخ هذا الحكم ، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٣.

(٢) نفس السورة والآية.

٣٩

سنة بما في الإصحاح الثامن من هذا السفر «عدد ٢٣ ، ٢٤» : «وكلّم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا ، يأتون ليتجندوا جنادا في خدمة خيمة الاجتماع».

ثم نسخ ثانيا : فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيام الأول «عدد ٢٤ ، ٣٢» : «هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رءوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء ، حسب رءوسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق .. وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع ، وحراسة القدس».

٢ ـ وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد «عدد ٣ ـ ٧» : «وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقرّبون للرّب ، خروفان حوليّان صحيحان لكلّ يوم محرقة دائمة ، الخروف الواحد تعمله صباحا والخروف الثاني تعمله بين العشاءين ، وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرّضّ تقدمة ، محرقة دائمة هي المعمولة في جبل سيناء لرائحة سرور وقودا للرب ، وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد ، في القدس اسكب سكيب مسكر للرب».

وقد نسخ هذا الحكم : وجعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح ، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق ، وثلث الهين من الزيت ، بما جاء في الإصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال «عدد ١٣ ـ ١٥» : «وتعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا صباحا تعمله ، وتعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة ، وزيتا ثلث الهين لرشّ الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة ، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحا صباحا محرقة دائمة».

٣ ـ وجاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضا : «عدد ٩ ، ١٠» : «وفي يوم السبت خروفان حوليّان صحيحان ، وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه ، محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة وسكيبها».

٤٠