أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

مكيدة لقتله ، فالذي ثبّت حكم الأمويين في الشام إنما هو الشيخان ، ثم بعدهما عثمان لكونه من بني أميّة.

كان عثمان يبذل كل جهده في تأسيس حكومة أمويّة قاهرة في الحواضر الإسلامية كلّها تقهر من عداهم ، أراد أن تكون كلمة الأمويين هي العليا ، وكلمة من عداهم هي السفلى ، غير أنّ القدر الحاتم راغمه على منوياته ، فجعل الذكر الجميل الخالد والبقية المتواصلة في الحقب والأجيال كلّها لآل عليّ أمير المؤمنين عليه وعليهم‌السلام ، وأما آل حرب فلا تجد من ينتمي إليهم غير متوار بانتسابه ، متخافت عند ذكر نسبه ، فكأنهم حديث أمس الدابر ، فلا ترى لهم ذكرا ، ولا تسمع لأحد منهم ركزا.

كان الخليفة عثمان يمضي وراء نيّته هاتيك قدما ، وراء أمل أبي سفيان فيما قال له يوم استخلف : فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية.

فولّى على الأمر في المراكز الحساسة والبلاد العظيمة أغلمة بني أمية ، وشبابهم المترف المتبختر في شرخ الشبيبة وغلوائها ، وأمر فتيانهم الناشطين للعمل ، الذين لم تحنّكهم الأيام ولم يأدبهم الزمان ، وسلّطهم على رقاب الناس ، ووطد لهم السبل ، وكسح عن مسيرهم العراقيل ، وفتح باب الفتن والجور بمصراعيه على الجامع الصالح في الأمصار الإسلامية ، وجرّ الويلات بيد اولئك الطغام على نفسه وعلى الأمة ، هؤلاء الذين لم يغنوا عنه شيئا يوم ضحّى نفسه وجاهه وملكه لأجلهم حتى قتل من جراء ذلك ، ولا أحسب أنهم مغنون عنه شيئا غدا عند الله يوم لا يغني عنه مال ولا بنون.

وهؤلاء الأغلمة لا يبالي أحدهم بما يفعل ، ولا يكترث لما يقول ، والخليفة لا يصيخ إلى شكاية المشتكي ، ولا يعي عذل أي عاذل ، ومن اولئك الأغلمة والي الكوفة سعيد بن العاص ذاك الشاب المترف كان يقول على صهوة المنبر : «إن السواد بستان لأغلمة من قريش» (١).

__________________

(١) الطبقات لابن سعد ج ٥ / ٢١ وتاريخ ابن عساكر ج ٦ / ١٣٥.

٢٨١

وهؤلاء الأغلمة هم ومن نصبهم هم المخصوصون بالحديث عن رسول الله بقوله : «إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش» (١).

لقد كان الخليفة وراء تسلط تلك العصابة من آل أمية ، وكان له أمل بأنه لو بيده مفاتيح الجنّة ليعطيها بني أمية حتى يدخلوها من عند آخرهم حسب ما عبّر عثمان نفسه عن هذا ، حيث أخرج أحمد من طريق سالم بن أبي الجعد قال : دعا عثمان ناسا من أصحاب رسول الله فيهم عمّار بن ياسر فقال : إني سائلكم وإني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني ، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله كان يؤثر قريشا على سائر الناس ، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم فقال عثمان : لو أن بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم (٢).

فكأن الخليفة يحسب أن الهرج الموجود في العطاء عنده سوف يتسرّب معه إلى باب الجنّة يحابي قومه بالنعيم كما حاباهم في الدنيا بالأموال ، فما حظى الخليفة بما أحبّ لهم في الدنيا يوم طحنهم بكلكله البلا ، وأجهزت عليهم المآثم والجرائم ، وأما الآخرة فإن بينهم وبين الجنّة لسدا بما اقترفوه من الآثام ، فلا أرى الخليفة يحظى بأمنيته هنالك.

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١٠ / ١٤٦ كتاب الفتن ، المستدرك للحاكم ج ٤ / ٤٧٠.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ٦٢.

٢٨٢

قال الملك للوزير :

وهل يصدّق العلويّ في كلامه هذا؟

قال الوزير : ذكر ذلك المؤرخون!

قال الملك : فكيف اتخذه المسلمون خليفة؟

قال الوزير ؛ بالشورى.

قال العلوي :

إن الوزير أخطأ في كلامه ، إنّ عثمان لم يأت إلى الحكم إلّا بوصيّة من عمر وانتخاب ثلاثة من المنافقين فقط وفقط. وهم : طلحة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ، فهل هؤلاء المنافقون الثلاثة يمثّلون المسلمين جميعا؟!

ثم إنّ التواريخ تذكر أنّ هؤلاء المنتخبين عدلوا عن عثمان عند ما رأوا طغيانه وهتكه لأصحاب رسول الله ومشورته في أمور المسلمين مع كعب الأحبار اليهودي وتوزيعه أموال المسلمين بين بني مروان ، فبدأ هؤلاء الثلاثة بتحريض الناس على قتل عثمان!

قال الملك ـ موجّها الخطاب إلى الوزير ـ : هل صحيح كلام العلوي؟!

قال الوزير : نعم ، كذا يذكر المؤرّخون!

قال الملك : فكيف قلت إنه جاء إلى الخلافة بالشورى؟!

قال الوزير : كنت أقصد شورى هؤلاء الثلاثة!

٢٨٣

قال الملك : وهل اختيار ثلاثة أشخاص يصحّح الشورى؟

قال الوزير : إنّ هؤلاء الثلاثة شهد لهم رسول الله بالجنّة!!

قال العلوي : مهلا أيها الوزير ، لا تقل ما ليس بصحيح ، إن حديث (العشرة المبشرة بالجنّة) (١) كذب وافتراء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

قال العبّاسي : وكيف تقول أنه كذب وقد رواه الرواة الموثّقون؟

قال العلوي : هناك أدلة كثيرة على كذب هذا الحديث وبطلانه ، أذكر لك منها ثلاثة :

(الأول) : كيف يشهد رسول الله بالجنّة لمن آذاه وهو طلحة؟

فقد ذكر بعض المفسرين (٢) والمؤرخين أن طلحة قال : «لئن مات محمّد لننكحنّ أزواجه من بعده ـ أو ـ لأتزوجنّ عائشة» فتأذّى رسول الله من كلام طلحة ، وأنزل الله تعالى قوله :

(كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (الأحزاب / ٥٣).

____________________________________

(١) حديث «العشرة المبشرة بالجنّة» من الأحاديث المختلقة والمكذوبة على رسول الله ، وقد تقدم في أول شرحنا هذا ، النقض عليه ، وقد أسقطناه عن الحجيّة سندا ودلالة.

(٢) قال ابن أبي حاتم ، حدّثنا عليّ بن الحسين ، حدثنا محمّد بن أبي حمّاد ، حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن هند عن عكرمة عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ...) قال : نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبيّ لله بعده ، قال رجل لسفيان أهي عائشة؟ ـ

٢٨٤

قال : قد ذكروا ذلك.

وكذا قال مقاتل ابن حيّان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك (١).

وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة ، أن طلحة بن عبيد الله قال: لو قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوجت عائشة ، فنزلت الآية (وما كان لكم ...) (٢).

وقال فخر الدين الرازي :

«قيل سبب نزوله هو طلحة بن عبيد الله قال : لئن عشت بعد محمّد لأنكحنّ عائشة»(٣).

وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عبّاس قال : قال رجل من أصحاب النبيّ : لو قد مات رسول الله تزوجت عائشة أو أم سلمة ، فأنزل الله (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (٤).

وقال الواحدي :

قال ابن عبّاس ، في رواية عطاء : قال رجل من سادة قريش : لو توفي رسول الله لتزوجت عائشة ، فأنزل الله تعالى ما أنزل (٥).

وفي مروياتنا وقع الاتفاق على أن القائل ذلك هو طلحة بن عبيد الله.

قال علي بن إبراهيم :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ / ٤٣١.

(٢) تفسير الآلوسي ج ١٢ / ١٠٦ وتفسير الدر المنثور ج ٥ / ٤٠٤.

(٣) تفسير الرازي ج ٢٥ / ٢٢٥.

(٤) الدر المنثور للسيوطي ج ٥ / ٤٠٤.

(٥) أسباب النزول ص ٣٠٠.

٢٨٥

[«إن سبب نزولها ـ أي الآية المباركة ـ أنه لما أنزل الله (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، وحرّم الله نساء النبي على المسلمين ، غضب طلحة فقال :

يحرّم محمّد علينا نساءه ويتزوج هو نساءنا لئن أمات الله عزوجل محمّدا لنركضنّ بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نساءنا ، فأنزل الله عزوجل (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ...)] (١).

لنا على كلام ابن كثير ملاحظة مفادها :

إذا كان القائل «إن مات محمّد لنتزوجنّ بعض نسائه من بعده» لله تعالى ، فلا يعدّ قوله أذية للنبيّ ما دام ـ بنظر الرواية التي عرضها ابن كثير ـ قوله ذاك لله تعالى ، فلما كان ذلك يؤذي النبيّ دل ذلك على أن قول طلحة لم يكن لله تعالى ، وإلا لما تأذّى منه النبيّ ، لأنه لا يتأذى من الحق وما يرجع إلى الحق ، ولما كان ذلك عند الله عظيما.

وما هذه التبرئة لساحة طلحة سوى لأنه مرضي عنه عند أم المؤمنين عائشة سيّدة الجمل ، وإلا لو كان بجانب أمير المؤمنين عليّ لما وجدنا هذا الحمل على الصحة بحقه ، وحسن الظن به ، وهل أن رضا عائشة عنه أو كونه صحابيا ـ كما قد يحسب ذلك البعض ـ يعصمه عن الخطأ وارتكاب الذنوب؟! وهل أن الصحبة ملازمة عقلا وشرعا للعصمة؟ لا أظن عاقلا يقول بالملازمة.

إشكال وحل :

مفاد الإشكال :

كيف حرّم الله تعالى على نساء رسول الله الزواج من بعده ، أليس هذا إجحافا بحقهنّ لا سيّما بالشابات منهنّ حيث يملكن الرغبة الجنسية التي لا يمكن إكباتها

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم المعروف بالقمي ج ٢ / ١٩٥ ونور الثقلين ج ٤ / ٢٨٨.

٢٨٦

أو إسكاتها إلّا بالتصبر وما شابه ذلك.

والجواب :

(أولا): علمنا فيما تقدّم من سبب النزول ، أن طلحة ورجلا آخر معه قد صمما على الزواج من نساء النبيّ من بعده كإجراء انتقامي أو لهوى في نفس بعضهم بإحدى نساء النبيّ ، وهذا بدوره يعدّ إهانة لقدسية النبيّ ، فكان هذا الفريق من الناس يريد أن ينزل بكيان النبيّ ضربة تشكّل إضعافا للمؤمنين.

هذا مضافا إلى أن زواج بعضهم من نساء النبيّ كان من الممكن أن يستغل لتحقيق بعض المآرب والوصول إلى مقامات اجتماعية مرموقة ، يبدأ من خلالها تحريف الإسلام على أساس أنهم يمتلكون معلومات خاصة صادرة من داخل بيت رسول الله ، أو أن يبث المنافقون بين الناس مطالب عن هذا الطريق تخالف مقام النبوة ، وقد صرّح بذلك طلحة عند ما قال : «لنركضنّ بين خلاخيل نسائه» لذا فإن الله تعالى جعلهنّ بمثابة الأمهات لا يجوز بحال من الأحوال الزواج منهنّ تأكيدا للقداسة ، وتنزيها عن الدناءة والخسة.

(ثانيا): أن الافتخارات العظيمة تصاحبها مسئوليات خطيرة ، ولا شك أن أزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اكتسبن فخرا لا يضاهى وعزا لا يسامى بزواجهن من رسول الله ، واكتساب هذا الفخر يحتاج إلى مثل هذه التضحية.

هذا مضافا إلى أن اقترانهن برسول الله يقتضي منهنّ الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ليكونن قدوة لغيرهن من النساء حال لم يجدن الأزواج بعد فقد رجالهن ، وقد يكون الحكم تأديبيا يتناول بعضهن ، وإن كان الجلّ لا يرغب في الزواج بعد وفاة النبيّ. وقد يكون امتحانا واختبارا لنواياهن وهل هن صادقات بادعائهن صحبة الله ورسوله ، «فإن المرأة في الجنّة لآخر أزواجها في الدنيا ، فأزواج النبيّ في الدنيا أزواجه في الجنّة» (١). والله العالم بأسرار أحكامه.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ / ٤٠٤.

٢٨٧

(الثاني) : إن طلحة والزبير قاتلا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليّ عليه‌السلام : «يا علي حربك حربي وسلمك سلمي» (١).

وقال : «من أطاع عليّا فقد أطاعني ومن عصى عليّا فقد عصاني» (٢).

وقال : «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٣).

وقال : «عليّ مع الحق والحق مع علي يدور الحق معه حيثما دار» (٤).

فهل : محارب الحق والقرآن يكون مؤمنا؟

__________________

(١) روى العلّامة أبو الحسن علي بن محمد الشافعي المعروف بابن المغازلي في مناقب أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بإسناده إلى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا علي سلمك سلمي وحربك حربي».

وقد رواه العلّامة التستري بعدة طرق من مصادر العامة ، فرواه عن ابن أبي الحديد بنفس اللفظ المتقدم ، وبلفظ آخر قال رسول الله للإمام عليّ في ألف مقام : أنا حرب لمن حاربت وسلّم لمن سالمت (إحقاق الحق ج ٦ / ٤٤٠ وج ٤ / ٢٥٨.). وفي لفظ آخر مثل الأول مع زيادة قوله : ومحبّك في الجنة وإن عدوك في النار.

(٢) المستدرك ج ٣ / ١٢٤ ط / حيدرآباد الدكن ، المناقب للخوارزمي ص ١٠٧ ط / تبريز ، وفرائد السمطين ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٦٤.

(٣) ينابيع المودة ص ٢٥٧ ط / اسلامبول ، ذخائر العقبى ص ٦٥ ط / مكتبة القدسي بمصر ، والمستدرك ج ٣ / ١٢١ ، وإحقاق الحق ج ٦ / ٤١٩.

(٤) تقدم مصادر هذه الأحاديث لاحظ : كنز العمال والصواعق المحرقة والمستدرك وينابيع المودة وإحقاق الحق ج ٥ / ٦٢٣.

٢٨٨

(الثالث) : أن طلحة والزبير سعيا في قتل عثمان ، فهل من الممكن أن يكون عثمان وطلحة والزبير كلهم في الجنة ، وقد قاتل بعضهم بعضا ، ويقول رسول الله ـ في حديث له ـ القاتل والمقتول كلاهما في النار؟ (١).

قال الملك متعجّبا :

هل كل ما يقوله العلويّ صحيح؟

هنا سكت الوزير ، ولم يقل شيئا.

وسكت العبّاسي وجماعته ولم ينطقوا شيئا.

ما ذا يقولون؟ أيقولون الحق؟ وهل يسمح الشيطان بالاعتراف بالحق؟ وهل ترضى النفس الأمّارة بالسوء أن تخضع للحق والواقع؟

أتظن أن الاعتراف بالحق أمر سهل وبسيط؟

كلا! إنه صعب جدا ، لأنه يستدعي سحق العصبيّة الجاهلية ومخالفة الهوى ، والناس أتباع الهوى والباطل إلّا المؤمنين ، وقليل ما هم!

... مزّق السيّد العلويّ ستار الصمت والسكوت فقال :

أيّها الملك :

إن الوزير والعبّاسي وكلّ هؤلاء العلماء يعلمون صدق كلامي

__________________

(١) الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل له : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه. صحيح البخاري ، كتاب الديات. ومسند أحمد ج ٤ / ٤٠١ وج ٥ / ٤٣ ـ ٤٧.

٢٨٩

وصحة مقالتي ، وحقيقة حديثي ، ولو أنكروا (١) ذلك ، فإن في بغداد من العلماء من يشهد على صدق كلامي وصحته وحقيقته ، وإنّ في خزانة هذه المدرسة كتب تشهد بصدق كلامي ، ومصادر معتبرة تصرّح بصحة مقالتي وحقيقته ، فإن اعترفوا بصدق كلامي فهو المطلوب ، وإلّا فأنا مستعد الآن أن آتي (٢) إليك بالكتب والمصادر والشهود!

قال الملك (متوجّها إلى الوزير):

هل كلام العلويّ صحيح من أن الكتب والمصادر تصرّح بصحة مقالته وصدق حديثه؟

قال الوزير : نعم.

قال الملك : فلما ذا سكتّ في أوّل الأمر؟

قال الوزير : لأني أكره أن أطعن في أصحاب رسول الله!

قال العلويّ :

عجيب! أنت تكره ذلك ، والله ورسوله لم يكرها ذلك ، حيث إن الله تعالى عرّف بعض الصحابة بالمنافقين (٣) ، وأمر رسوله بجهادهم كما يجاهد الكفار ، والرسول نفسه لعن بعض أصحابه (٤)!

__________________

(١) في نسخة أخرى : «ولم ينكروا» محاورة حول الإمامة ص ١٢٦ السيّد مرتضى الرضوي.

(٢) الأفصح أن يقال : «أن آتيك» ولعل ما في المتن تصحيف لما قلنا.

(٣) في نسخة الرضوي : «حيث إن الله رمى بعض أصحاب الرسول بالنفاق».

(٤) ثبت أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لعن من تخلّف عن جيش أسامة ، والذين تخلّفوا هم أبو بكر وعمر وعثمان وخالد ونظائرهما ، وقد أشار إلى ذلك جلّ المؤرخين. لاحظ الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٣ وغيره من المصادر قد ذكرناها سابقا فلا نعيد.

٢٩٠

قال الوزير :

ألم تسمع أيّها العلويّ قول العلماء : إنّ كل أصحاب الرسول عدول؟

قال العلوي :

سمعت ذلك ، ولكني أعرف أنه كذب وافتراء ، إذ كيف يمكن أن يكون كلّ أصحاب الرسول عدولا وقد لعن الله بعضهم ، ولعن الرسول بعضهم ، ولعن بعضهم (١) بعضا وقاتل بعضهم (٢) بعضا ، وشتم بعضهم بعضا ، وقتل بعضهم بعضا.

____________________________________

(١) قال النقيب أبو جعفر : «لقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم عائشة كان تقول : اقتلوا نعثلا ، لعن الله نعثلا ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، وقد لعن معاوية عليّ بن أبي طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء يرزقون بالعراق وهو يلعنهم بالشام على المنابر ، ويقنت عليهم في الصلوات ، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي ، وبرئا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ، ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة ، وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة ..» شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ٢٠ / ٢٧٢.

قد تقدم لعن الله والرسول على من تخلّف عن جيش أسامة ، كما أن الرسول كان يلعن أبا سفيان والحرث بن هشام وسهل بن عمرو وصفوان بن أمية ـ حسبما جاء في رواية السيوطي في الدر المنثور ج ٢ / ٧٧١ ط / مصر.

وأما قتل بعضهم ، فإن عمر قتل سعد بن عبادة ، وأشاعوا بين الناس أن الجن قتله ، وذلك لأنه رفض البيعة يوم السقيفة لأبي بكر وكادوا يطئونه ، فقال لهم : ـ

٢٩١

قتلتموني ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله (١).

وأيضا قتل عمر الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام عند ما كسّر أضلاعها وأسقط جنينها ، وهي ابنة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوحيدة لديه ، فلم تحفظ حرمتها مع أن المرء يحفظ بعياله وولده ، هذا مضافا إلى أنها أشرف خلق الله تعالى.

كما قتل أبو بكر مالك بن نويرة الخ .. قد ذكرنا ذلك سابقا.

وأما الزبير وطلحة وعائشة فقد حاربوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقتل طلحة في المعركة ـ أي صفين ـ.

وأما الشتم ، فقد سبّ عثمان بن عفان لمّا بلغه موت أبي ذر بالربذة ، فترحم عليه ، فقال عمّار : نعم فرحمه‌الله من كل أنفسنا.

فقال عثمان : يا عاض (وذكر عورة الرجل) أبيه ، ندمت على تسييره؟

وأمر فدفع في قفاه ، وقال : الحق بمكانه ، فلمّا تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى مولانا الإمام عليّ عليه‌السلام فسألوه أن يكلّم عثمان ، فكلّمه ، فهدده عثمان بالنفي ، فقال له الإمامعليه‌السلام : رم ذلك إن شئت ، واجتمع المهاجرون فقالوا لعثمان إلخ .. (٢).

وقال علي بن برهان الدين الحلبي :

«وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالد أميرا ، فلما جاءا إليه (صلي الله عليه وآله وسلم) استبا عنده فقال خالد : يا رسول الله أيسرّك أن هذا العبد الأجدع يشتمني فقال (صلي الله عليه وآله وسلم) : يا خالد لا تسبّ عمارا ، فإن من سبّ عمارا فقد سب الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله ، ومن لعن عمارا لعنه الله (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص ٢٧ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

(٢) قد ذكرنا التفاصيل سابقا.

(٣) السيرة الحلبيّة ج ٢ / ٧٣ ط مصر.

٢٩٢

وهنا وجد العبّاسي الباب مسدودا أمامه ، فجاء من باب آخر وقال :

أيّها الملك :

قل لهذا العلويّ إذا لم يكن الخلفاء مؤمنين ، فكيف اتخذهم المسلمون خلفاء ، واقتدوا بهم؟

قال العلويّ :

(أولا) : لم يتخذهم كلّ المسلمين خلفاء ، وإنما أهل السنّة فقط.

(ثانيا) : إن هؤلاء الذين يعتقدون بخلافتهم ينقسمون إلى قسمين : جاهل ومعاند ، أما الجاهل فلا يعرف فضائحهم وحقائقهم ، وإنما يتصورهم أناسا طيبين مؤمنين ، وأما المعاند فلا ينفعه الدليل والبرهان ما دام قد أصرّ على العناد واللجاج ، يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (يونس / ٩٦ ـ ٩٧).

ويقول : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة / ٦).

(ثالثا) : إن هؤلاء الذين اتخذوهم خلفاء أخطئوا في الاختيار ، كما أخطأ المسيحيون حيث قالوا : «المسيح ابن الله» وكما أخطأ اليهود حيث قالوا : «عزير ابن الله» فالإنسان يجب عليه أن يطيع الله والرسول وأن يتبع الحق لا أن يتبع الناس على الخطأ والباطل يقول تعالى:(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء / ٥٩).

قال الملك :

٢٩٣

دعوا هذا الكلام ، وتكلّموا حول موضوع آخر.

قال العلوي :

ومن اشتباهات أهل السنّة وأخطائهم أنهم تركوا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتبعوا كلام الأوّلين.

قال العبّاسي : ولما ذا؟

قال العلوي :

لأن عليّ بن أبي طالب عيّنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واولئك الثلاثة لم يعيّنهم الرسول ، ثم أردف قائلا :

أيّها الملك :

إنك لو عيّنت في مكانك ، ولخلافتك إنسانا فهل يجب أن يتبعك الوزراء وأعضاء الحكومة؟ أم يحق لهم أن يعزلوا خليفتك ، ويعيّنوا إنسانا آخر مكانك؟

قال الملك :

بل الواجب أن يتّبعوا خليفتي الذي عيّنته أنا ، وأن يقتدوا به ويطيعوا أمري فيه!

قال العلوي :

وهكذا فعل الشيعة ، فقد اتّبعوا خليفة رسول الله الذي عيّنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله تعالى وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وتركوا غيره.

قال العبّاسي :

٢٩٤

لكنّ عليّ بن أبي طالب لم يكن أهلا للخلافة ، حيث إنّه كان صغير (١) العمر ، بينما كان أبو بكر كبير العمر.

____________________________________

(١) ليس صغر السنّ عائقا لتسلّم القيادة العليا في المجتمع ، وبتعبير آخر : ليس شرطا لتسلّم الخلافة الربانيّة في الإسلام وذلك لأمور :

١ ـ لأن القيادة تحتاج إلى رشد عقلي ممتاز وكما نفسي وروحي يؤهل صاحبه لقيادة الناس إلى سبيل الرشاد ، ومن الواضح أن الرشد العقلي لم يكن متوفرا بأقصى حدوده عند أحد غير مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام باعتراف عمر بن الخطّاب حينما قال :

«لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن».

وليس ثمة استحالة عقلية في أن يتسنّم الصغير سدة الخلافة ما دام الأمر يدور مدار النبوغ العقلي ، وهذا كان متوفرا في مولانا عليّ المرتضى عليه‌السلام ، وقد برز في التاريخ نوابغ شهدت لهم البشرية ، منهم على سبيل المثال لا الحصر :

أ ـ أسامة بن زيد بن حارثة ، «أمه أم أيمن حاضنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هو وأيمن اخوان لأم ، استعمله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ، ذكر ابن مندة أن النبيّ أمر أسامة بن زيد على الجيش وأمره أن يسير إلى الشام وفيهم عمر بن الخطاب ، فلما اشتد المرض برسول الله أوصى أن يسير جيش أسامة ، فساروا بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

ب ـ هشام بن الحكم ، أحد أكابر أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ، فتق علم الكلام ، وكان مبرّزا عند مولانا الصادق عليه‌السلام ومن المقربين وهو لا يزال فتى صغيرا لم تخطّ لحيته ، وكان الإمام عليه‌السلام يحترمه ويقدّمه على أصحابه ، يروي

__________________

(١) أسد الغابة ج ١ / ١٩٥ والإصابة في تمييز الصحابة ج ١ / ٣١.

٢٩٥

يونس بن يعقوب بخبر طويل يقول فيه : [.. فلما استقر بنا المجلس وكنا في خيمة لأبي عبد اللهعليه‌السلام في طرف جبل في طريق الحرم ، وذلك قبل الحج بأيام فأخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب قال : هشام ورب الكعبة.

قال : وكنا ظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل ، وكان شديد المحبة لأبي عبد الله عليه‌السلام ، فإذا هشام بن الحكم ، وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنّا ، فوسّع له أبو عبد الله عليه‌السلام وقال : «ناصرنا بقلبه ولسانه ويده» ...] (١).

ج ـ الطفل النابغة السيّد محمد حسين الطباطبائي من مواليد قم المقدّسة حيث رزقه الله سبحانه حفظ القرآن المجيد ، وأفاض عليه فهم أسراره ومعانيه ولم يتجاوز بعد الرابعة من عمره ، ويجلس تحت منبره العلماء والمفكرون ، وقد نال درجة الدكتوراه الفخرية بامتياز من إحدى جامعات بريطانيا. وكذا الطفل (٢) الافريقي «شريفو» الذي رزق أيضا معارف القرآن وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره.

د ـ ما اشتهر عن العلّامة الحلي من أنه بلغ درجة الاجتهاد قبل البلوغ ، وان ابن سينا أفتى الناس في بخارى وهو ابن اثنتي عشر سنة ، وأنه أحاط بعلوم عصره كلها وهو يافع ، وكان اينشتاين ابن أربع سنوات حين رأى البوصلة وإبرتها الممغنطة وقال : إن ثمة أشياء في الطبيعة وراء هذه العودة المتحركة ، وكان في سن الاثني عشر حين أتى بأول نظرية جديدة ، وهي التي فرّق فيها بين ما هو هندسي وما هو طبيعي.

ومن نوابغ القادة الملك كارلوس الثاني السويدي ، الذي قاد وهو في الثامنة عشرة من عمره جيشا قوامه ثمانية آلاف جندي ، ضد جيش روسي مؤلف من

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ج ٢ / ١٢٣.

(٢) مجلة «المجلة» السعودية : العدد ١٠٠٧.

٢٩٦

ثمانين ألفا ، وهزمه بأقل من ساعة ، وكان ذلك عام ١٧٠٠ م في معركة نارفا (١).

إذن لا غرابة في تنصيب أسامة بن زيد قائدا على جيش كبير يريد صدّ جيش الروم في أطراف الجزيرة العربية آنذاك ، وتخلّف أبو بكر وعمر وجماعة معهما عن السير معه ، بحجة أنه صغير والقوم مشايخ كبار ، وأيضا لا غرابة في تنصيب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام خليفة على المسلمين بأمر منه سبحانه وتعالى.

٢ ـ لو كان الصغر عائقا فلم أرسل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام عليّا عليه‌السلام خلف أبي بكر وأخذ منه سورة براءة؟!! فمن لم يكن أهلا لأن يبلّغ سورة براءة فليس أهلا لأن يبلّغ الرسالة ويقود مجتمعا بكامله!! وليس لنا أن نردّ حكم رسول الله.

٣ ـ تعتبر الخلافة في الإسلام مركزا إلهيا وسفارة ربانية تنوب مناب النبوّة في التبليغ وإقامة الحدود الخ ... وليست كما يتصوّر العامة أنها مركز اجتماعي دنيوي تعيينه بيد أهل الحل والعقد ، بل الأمر أخطر مما نتصور ، فإن الإمامة عهد الله تعالى تعيينها بيده سبحانه كما عيّن ابراهيمعليه‌السلام إماما بعد أن كان نبيّا. فإذا اختار سبحانه شخصا لأن يكون خليفة وإماما فلا رادّ لحكمه ، قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٢). إضافة إلى أنه تعالى جعل بعض الناس أنبياء في صغرهم كعيسى بن مريم عليهما‌السلام حيث حكى عزوجل عنه بقوله : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣) ، فكان نبيا وهو صغير وأرسل إلى الناس بعد بلوغه، وظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب والنبوة لا أنّ ذلك إخبار بما سيقع (٤).

__________________

(١) غرائب وأسرار / بديع الزين ص ٣٠ ط / دار الفكر العربي.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٣) سورة مريم : ٢٩ ـ ٣٠.

(٤) تفسير الميزان ج ١٤ / ٤٧.

٢٩٧

والنبيّ يحيى عليه‌السلام أتاه الله تعالى الحكم ، وسواء فسّر (١) «الحكم» بالفهم والعقل والحكمة أو بالنبوّة فالمناط واحد وهو الحكم بين الناس وإصابة الواقع بواسطة ولد صغير إلا أنه عظيم بعقله وقلبه وروحه ، فلا غرابة أن يكون ذلك لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي حارت فيه عقول العظماء والمفكرين ويقف العظماء إجلالا لذكر اسمه.

٤ ـ لو كان المناط في تسلّم الخلافة التقدّم بالسنّ فثمة من هو أكبر من أبي بكر من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكان الأجدر لأبي بكر ألّا يتقدّم على واحد منهم كالعبّاس بن عبد المطلب عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد قبل النبيّ بسنتين أو ثلاث (٢) ، وكعدي بن حاتم الذي عاش مائة وثمانين عاما وكان أكثر عمره في الجاهلية (٣) .. ولو غضضنا النظر عن مسألة التقدم بالسنّ فهل لنا أن نسأل القوم عن وجه الفضيلة في كبر السنّ؟ أوليس في الأمم والأجيال من طعنوا في السنّ فبلغوا من العمر عتيا وفيهم صاحب الفضائل والعاطل عنها؟! وإذا مدح أحدهم فإنما يمدح بمآثره لا بطول عمره .. ومهما طال عمر أبي بكر فإن أكثره انقضى في الجاهلية ، فلقد بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأبي بكر ثمان وثلاثون سنة .. وصلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصلّ معه غير عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام!!

إذن فلأبي بكر عند إسلامه خمس وأربعون عاما ، ومات وهو ابن ثلاث وستين ، فقد أشغل في الإسلام ثمان عشرة سنة ، وهذه المدة الأخيرة هي التي يمكن أن تزدان بشيء من المناقب. ولو سلّمنا أنها ازدانت ببعض المناقب ولكنها بالقياس إلى مناقب مولى المؤمنين عليّ عليه‌السلام لا تعادل واحد بنسبة ألف أو قطرة في مقابل بحر!! وقد ردّد عمر بن الخطاب ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه : لو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ / ١٠٠ ، وتفسير الرازي ج ٣١ / ١٩٣ ، ومجمع البيان ج ٦ / ٣٣٣.

(٢) الإصابة ج ٢ / ٢٧١.

(٣) نفس المصدر.

٢٩٨

اجتمع الناس على حبّ عليّ بن أبي طالب لما خلق الله النار (١).

ولو لم يكن الإمام عليّ أهلا للخلافة لصغر سنّه ، فكيف قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلامه في بدء البعثة وكيف يجعله النبيّ وزيرا له ووصيّا وخليفة في بدء البعثة؟ وهل يصح أن يضع النبيّ يده في يد ابن عمّه ويعطيه صفقة بمينه بالأخوة والوصية والخلافة إلّا وهو أهل لذلك؟!

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٢٩٩ ط / قم.

٢٩٩

وكان عليّ بن أبي طالب قد قتل صناديد العرب ، وأباد شجعانهم فلم تكن العرب ترضى به ، ولم يكن أبو بكر كذلك!

قال العلوي :

أسمعت أيّها الملك أن العبّاسي يقول : إن الناس أعلم من الله ورسوله في تعيين الأصلح ، لأنه لا يأخذ بكلام الله ورسوله في تعيين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ويأخذ بكلام بعض الناس في أصلحية أبي بكر ، كأن الله العليم الحكيم لا يعرف الأصلح والأفضل حتى يأتي بعض الناس الجهّال فيختارون الأصلح؟ ألم يقل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب / ٣٦).

ألم يقل سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال / ٢٤).

قال العبّاسي :

كلا ، إني لم أقل إنّ الناس أعلم من الله ورسوله.

قال العلوي :

إذن ، لا معنى لكلامك ، فإن كان الله والرسول قد عيّنا إنسانا واحدا للخلافة والإمامة ، فاللازم أن تقتدي به ، سواء رضي به الناس أم لا!

قال العبّاسي :

لكن المؤهلات في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كانت قليلة.

٣٠٠