أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

روى البلاذري فقال :

«لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١).

فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ناتلا مولاه : أن انته عمّا بلغني عنك ، فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله؟ فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه ، فأغضب عثمان ذلك فصيّره إلى الشام ، ولكن معاوية بالشام لم يعجبه وجود أبي ذر ، فبعث إلى عثمان مكاتبا يقول له : إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك.

فكتب إليه عثمان : يحمله. فحمله على بعير قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف ، فقيل له : إنك تموت من ذلك ، فقال : هيهات لن أموت حتى أنفى.

فلما دخل إلى عثمان وعنده جماعة قال :

بلغني أنك تقول ؛ سمعت رسول الله يقول : إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا؟ فقال : نعم سمعت رسول الله يقول ذلك ، فقال لهم : أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟

فبعث إلى الإمام عليّ عليه‌السلام فأتاه فقال : يا أبا الحسن! أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقصّ عليه الخبر ، فقال الإمام عليّ : نعم ، قال : فكيف تشهد؟ قال لقول رسول الله: ما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٤.

٢٦١

من أبي ذر ، فلم يقم بالمدينة إلّا أياما حتى أرسل إليه عثمان فقال له : والله لتخرجنّ عنها ، قال : أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال : نعم وأنفك راغم ، قال : فإلى مكّة؟ قال : لا ، قال : فإلى البصرة؟ قال : لا ، قال : فإلى الكوفة؟ قال : لا ، ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت فيها ، يا مروان! اخرجه ولا تدع أحدا يكلّمه حتى يخرج فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته ، فخرج الإمام عليّ والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر ينظرون ، فلمّا رأى أبو ذر الإمام عليّا قام إليه فقبّل يده ثم بكى وقال : إني إذ رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي ، فذهب الإمام عليّ يكلّمه ، فقال مروان : إن أمير المؤمنين عثمان قد نهى أن يكلّمه أحد ، فرفع الإمام عليه‌السلام السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال : تنحّ نحاك الله إلى النار ، ثم شيّعه وكلّمه بكلام يطول شرحه .. ثم ودّع الإمام عليه‌السلام أبا ذر وقال له : «يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك ، وستعلم من الرابح غدا ، والأكثر حسدا ، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا ، لا يؤنسنّك إلا الحق ، ولا يوحشنّك إلّا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لأمّنوك» (١).

وواقعة أبي ذر وإخراجه إلى الربذة ، أحد الأحداث التي نقمت على عثمان. ولقد جاء الخليفة عثمان ببدعة عند ما استأثر بمال المسلمين ووزعه على أقربائه وبني عمومته وأخواله ، وهذه سيرة لم يسبقه إليها أحد ممن تقدّمه وإن كانوا كرماء مع من يسايرهم ويسير في ركبهم ، لكنّ عثمان كان أكرمهم مع أقربائه الأمويين ، فقد خالف كتاب الله وسنّة رسوله في العطاء ، حيث إن الله يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ / ١٧ خطبة ١٢٧ محمّد عبده.

٢٦٢

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١).

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢).

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٣).

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلهم ، ولكل فرد من المسلمين منه حق معلوم للسائل والمحروم ، لا يسوغ في شرعه الحق وناموس الإسلام المقدس حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقه لغيره من دون مرضاته.

جاء عن رسول الله في الغنائم : لله خمسه ، وأربعة أخماس للجيش ، وما أحد أولى به من أحد ، ولا السهم تستخرجه من جنبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم (٤).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا جاءه فيء قسّمه من يومه فأعطى ذا الأهل حظين ، وأعطى العزب حظا (٥).

والسنّة الثابتة في الصدقات أن أهل كل بيئة أحقّ بصدقتهم ما دام منهم ذو حاجة ، وليست الولاية على الصدقات للجباية إلى عاصمة الخلافة ، وإنما هي للأخذ من الأغنياء والصرف في فقراء محالّها.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

(٢) سورة التوبة : ٦٠.

(٣) سورة الحشر : ٦ ـ ٧.

(٤) سنن البيهقي ج ٦ / ٣٢٤.

(٥) سنن أبي داود ج ٢ / ٢٥ ، مسند أحمد ج ٦ / ٢٩ ، سنن البيهقي ج ٦ / ٣٤٦.

٢٦٣

ومن كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى قثم بن العبّاس يوم كان عامله على مكّة : «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيبا به مواضع الفاقة والخلّات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسّمه فيمن قبلنا» (١).

وقال عليه‌السلام لعبد الله بن زمعة لمّا قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا : «إن هذا المال ليس لي ولا لك ، وإنما هو فيء للمسلمين وحلب أسيافهم ، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم وإلّا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم» (٢).

وأتى عليّا أمير المؤمنين مال من أصبهان فقسمه بسبعة أسباع ، ففضل رغيف فكسره بسبع فوضع على كل جزء كسرة ثم أقرع بين الناس أيّهم يأخذ أوّل (٣).

وأتته عليه‌السلام امرأتان تسألانه : عربيّة ومولاة لها ، فأمر لكل واحد منها بكرّ من طعام وأربعين درهما أربعين درهما ، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت ، وقالت العربية : يا أمير المؤمنين! تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ قال لها «الإمام» عليّ رضي الله عنه : إني نظرت في كتاب الله عزوجل فلم أر فيه فضلا لولد إسماعيل على ولد إسحاق (٤).

ولذلك كلّه كانت الصحابة لا ترتضي من عمر بن الخطّاب تقديمه بعضا من الناس على بعض في الأموال بمزيّة معتبرة كان يعتبرها فيمن فضّله على غيره كتقديم زوجات النبيّ أمهات المؤمنين على غيرهنّ ، والبدري على من سواه ، والمهاجرين على الأنصار ، والمجاهدين على القاعدين من دون حرمان أي أحد

__________________

(١) نهج البلاغة / صبحي الصالح ص ٤٥٧ خ ٦٧.

(٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح ص ٣٥٣ خ ٢٣٢.

(٣) سنن البيهقي ج ٦ / ٣٤٨.

(٤) سنن البيهقي ج ٦ / ٣٤٩.

٢٦٤

منهم ، وكان يقول على صهوات المنابر : من أراد المال فليأتني فإن الله جعلني له خازنا (١).

وسنّة الله وسنة رسوله تأمران بالعدل في توزيع الثروة ، فيعطى المستحق ، لكن الخليفة عثمان نسي ما في الكتاب ، وشذّ عمّا جاء به النبيّ الأقدس في الأموال ، وتزحزح عن العدل والنصفة ، وقدّم أبناء بيته الساقط ، أثمار الشجرة الملعونة في كتاب الله ، رجال العيث والعبث ، والخمور والفجور ، من فاسق إلى لعين ، إلى حلّاف مهين همّاز مشاء بنميم ، وفضّلهم على أعضاء الصحابة وعظماء الأمة الصالحين ، وكان يهب من مال المسلمين لأحد قرابته قناطير مقنطرة من الذهب والفضة من دون كيل ووزن ، ويؤثرهم على من سواهم كائنا من كان من ذي قربى رسول الله وغيرهم ، ولم يكن يجرأ أحد عليه بالأمر المعروف والنهي عن المنكر لما كان يرى من سيرته الخشنة مع اولئك القائمين بذلك الواجب ، ويشاهد فيهم من الهتك والتغريب والضرب بدرّة كانت أشدّ من الدرّة العمريّة مشفوعة بالسوط والعصا.

لقد تمخّض عن سياسة عثمان أمران :

(الأول) : ابتداعه للأحكام اجتهادا منه في مقابل النص ، وقد سبقه إليه من تقدّمه ، ومن لهما الفضل عليه لاستلامه السلطة ، منها :

(اتخاذ الخليفة الحمى له ولذويه): والحمى هي منابت العشب من مساقط الغيث والمروج ، وهي شرع سواء بين المسلمين إذا لم يكن لها مالك مخصوص ، كما هو الأصل في المباحات الأصلية من أجواز الفلوات وأطراف البراري ، فترتع فيها مواشيهم وترعى إبلهم وخيلهم من دون أي مزاحمة بينهم ، وليس لأيّ أحد أن يحمي لنفسه حمى فيمنع الناس عنه ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«المسلمون شركاء في ثلاث : في الكلأ والماء والنار» ،

__________________

(١) الأموال لأبي عبيد ص ٢٢٤.

٢٦٥

وقال : ثلاث لا يمنعن : الماء والكلأ والنار.

وقال : لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ. وفي لفظ : لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلا.

وقد كان في الجاهلية يحمي الشريف منهم ما يروقه من قطع الأرض لمواشيه وإبله خاصة فلا يشاركه فيه أحد وإن شاركهم هو في مراتعهم ، وكان هذا من مظاهر التجبر السائد عندئذ ، فاكتسح رسول الله ذلك فيما اكتسحه من عادات الطواغيت وتقاليد الجبابرة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا حمى إلّا لله ولرسوله (١).

وقال الشافعي في تفسر الحديث : كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته ، استعوى كلبا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره فلم يرعه معه أحد ، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله ، قال : فنهى النبيّ أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون. قال : وقوله : إلا لله ولرسوله : أي إلّا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدّة في سبيل الله» (٢).

كان هذا الناموس متسالما عليه بين المسلمين حتى تقلّد عثمان الخلافة فحمى لنفسه دون إبل الصدقة ، ولبني أمية. قال ابن أبي الحديد : حمى عثمان الرعى حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلهم إلّا عن بني أمية (٣).

وقال الواقدي : كان عثمان يحمي الربذة والشرف والنقيع ، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أميّة حتى كان آخر الزمان ، فكان يحمي الشرف لإبله ، وكانت ألف بعير ، ولإبل الحكم بن أبي العاص ، ويحمي الربذة لإبل

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ / ١١٣ والأموال لأبي عبيد ص ٢٩٤.

(٢) كتاب الأم للشافعي ج ٣ / ٢٠٨ ، معجم البلدان ج ٣ / ٣٤٧ ، نهاية ابن الأثير ج ١ / ٢٩٧.

(٣) شرح النهج ج ١ / ٦٧.

٢٦٦

الصدقة ، ويحمي النقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أميّة.

نقم ذلك المسلمون على عثمان فيما نقموه عليه ، وعدّته عائشة مما أنكروه عليه ، فقالت: «وإنّا عتبنا عليه كذا وموضع الغمامة المحماة وضربه بالسوط والعصا ، فعمدوا إليه حتى إذا ما صوه كما يماص الثوب».

قال ابن منظور في لسان العرب في ذيل الحديث :

الناس شركاء فيما سقته السماء من الكلا إذا لم يكن مملوكا فلذلك عتبوا عليه.

كانت في اتخاذ الخليفة الحمى جدّة وإعادة لعادات الجاهلية الأولى التي أزاحها نبيّ الإسلام وجعل المسلمين في الكلا مشتركين ، وقال : ثلاثة يبغضهم الله ، وعدّ فيهم! من استنّ في الإسلام سنّة الجاهلية (١).

وكان حقا على الرجل أن يحمي حمى الإسلام قبل حمى الكلا ، ويتخذ ما جاء به الرسول سنّة متبعة ولا يحيي سنّة الجاهلية ، ولن تجد لسنّة الله تحويلا ، ولن تجد لسنّة الله تبديلا.

ومنها : (اقتطاع عثمان منطقة فدك لمروان بن الحكم).

قال أبو الفداء :

مما نقم الناس على عثمان قطعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله التي طلبتها فاطمة ميراثا ، فروى أبو بكر ـ كذبا ـ عن رسول الله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة ، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه إلى أن تولّى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردّها صدقة (٢).

__________________

(١) بهجة النفوس / الحافظ ابن أبي حمزة ج ٤ / ١٩٧.

(٢) تاريخ أبي الفداء ج ١ / ١٦٨ وزاد في العقد الفريد ج ٢ / ٢٦١ بقوله : وافتتح افريقيا وأخذ خمسه فوهبه لمروان بن الحكم.

٢٦٧

قال ابن أبي الحديد :

وأقطع عثمان مروان فدك ، وقد كانت فاطمة عليه‌السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث ، وتارة بالنحلة فدفعت عنها.

ونحن لا نعرف كنه هذا الإقطاع وحقيقته ، حيث لا مبرر له سوى غضب أموال الناس باسم الإسلام والحكومة الإسلامية ، فإن فدكا إن كانت فيئا للمسلمين كما ادّعاه أبو بكر ، فما وجه تخصيصه بمروان؟ وإن كانت ميراثا لآل رسول الله كما احتجت له الصديقة الطاهرة في خطبتها الشريفة ، واحتج له أئمة الهدى عليهم‌السلام وفي مقدمتهم سيّد الخلق أمير المؤمنين عليه وعليهم‌السلام ، فليس مروان منهم ، ولا كان للخليفة فيه رفع ووضع ، وإن كان نحلة من رسول الله لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة صلوات الله عليها كما ادّعته ـ ودعواها عين الحقيقة وشرفها ـ وشهد لها أمير المؤمنين وابناها الإمامان السبطان وأم أيمن المشهود لها بالجنة فردّت شهادتهم بما لا يرضي الله ولا رسوله ، وإذا ردّت شهادة أهل آية التطهير فبأي شيء يعتمد؟ وعلى أي حجة يعوّل؟ فإن كانت فدك نحلة فأي مساس بها لمروان؟ وأيّ سلطة عليها لعثمان حتى يقطعها لمروان؟.

(الثاني) : ومما تمخّض عن سياسة عثمان هو قضمه للأموال والصدقات وتوزيعها كما يحلو له فكره ، حيث كان يحسب نفسه وليّ المسلمين على مال الله ، يضعه حيث يشاء ويفعل فيه ما يريد ، فقام كما قال مولانا أمير المؤمنين : «نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع» (١).

وكان يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلهم ، ولكلّ فرد من أفراد الأمة حق معلوم للسائل والمحروم ، لا يسوغ شرعا وعقلا حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقه لغيره من دون مرضاته.

__________________

(١) نهج البلاغة / صبحي الصالح ص ٤٩ خطبة ٣.

٢٦٨

لقد أسبغ عثمان على الحكم بن أبي العاص ـ وهو طريد رسول الله ـ الكثير من العطاء ، مع تقرّبه منه ، «فقد أعطى صدقات قضاعة الحكم بن أبي العاص عمه طريد النبيّ بعد ما قرّبه وأدناه وألبسه يوم قدم المدينة ، وعليه فزر (١) خلق وهو يسوق تيسا والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه حتى دخل دار الخليفة ثم خرج وعليه جبّة خز وطيلسان» (٢).

وقال البلاذري :

إن ابن عبّاس قال : كان مما أنكروا على عثمان أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثة مائة ألف درهم فوهبها له حين أتاه بها (٣).

وقال ابن قتيبة وابن عبد ربّه والذهبي :

ومما نقم الناس على عثمان أنه آوى طريد النبيّ الحكم ولم يأوه أبو بكر وعمر وأعطاه مائة ألف.

والحكم بن أبي العاص كان خصّاء يخصي الغنم ، وأحد جيران رسول الله بمكة ، من اولئك الأشداء عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبالغين في إيذاءه ، شاكلة أبي لهب كما قاله ابن هشام في سيرته ج ٢ / ٢٥ ، وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال : كان الحكم يجلس عند النبيّ فإذا تكلم اختلج ، فبصر به النبيّ فقال : كن كذلك ، فما زال يختلج حتى مات.

وفي لفظ مالك بن دينار : مر النبيّ بالحكم فجعل الحكم يغمز بالنبيّ باصبعه ، فالتفت فرآه فقال : اللهم اجعل به وزغا (٤) ، فرجف مكانه وارتعش. وزاد الحلبي : بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه (٥).

__________________

(١) الفزر : الثوب البالي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ٤١.

(٣) الأنساب ج ٥ / ٢٨.

(٤) الوزغ : الارتعاش والرعدة.

(٥) الإصابة ج ١ / ٣٤٥ ، السيرة الحلبية ج ١ / ٣٣٧.

٢٦٩

وروى البلاذري :

إن الحكم بن أبي العاص كان جارا لرسول الله في الجاهلية وكان أشد جيرانه أذى له في الإسلام ، وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة ، وكان مغموصا عليه في دينه ، فكان يمرّ خلف رسول الله فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه ، وإذا صلّى قام خلفه فأشار بأصابعه ، فبقي على تخليجه وأصابته خبلة ، واطّلع على رسول الله ذات يوم وهو في بعض حجر نسائه فعرفه وخرج إليه بعنزة وقال : من عذيري من هذا الوزغة اللعين؟ ثم قال : لا يساكنني ولا ولده فغرّبهم جميعا إلى الطائف ، فلما قبض رسول الله كلّم عثمان أبا بكر فيهم وسأله ردّهم فأبى ذلك ، وقال : ما كنت لآوي طرداء رسول الله ، ثم لمّا استخلف عمر كلّمه فيهم فقال مثل قول أبي بكر ، فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة وقال : قد كنت كلّمت رسول الله فيهم وسألته ردّهم فوعدني أن يأذن لهم فقبض قبل ذلك ، فأنكر المسلمون عليه إدخاله إياهم المدينة (١).

وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان :

سمعت رسول الله يقول لأبيك وجدّك «أبي العاص بن أمية» إنكم الشجرة الملعونة في القرآن (٢).

وقالت عائشة لمروان : لعن الله أباك وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنه الله ، ثم قالت : والشجرة الملعونة في القرآن.

وهلمّ نسائل عثمان في إيواء لعين رسول الله وطريده (الحكم) وبمسمع منه ومرأى نزول القرآن فيه واللعن المتواصل من مصدر النبوة عليه وعلى من تناصل منه عدا المؤمنين ، وقليل ما هم ، ما هو المبرّر لعمله هذا وردّه إلى مدينة الرسول؟ وقد طرده رسول الله وأبناءه منها تنزيها لها من تلكم الأرجاس والأدناس الأمويّة ،

__________________

(١) الأنساب ج ٥ / ٢٧.

(٢) الدر المنثور ج ٤ / ١٩١ وسيرة الحلبي ج ١ / ٣٣٧.

٢٧٠

وقد سأل أبا بكر وبعده عمر أن يردّاه فقال كل منهما : لا أحلّ عقدة عقدها رسول الله (١).

ألم تكن للخليفة أسوة في رسول الله؟ والله يقول : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢).

أو كان قومه وحامّته أحبّ إليه من الله ورسوله؟ ثم ما هو المبرّر لتخصيص الرجل بتلك المنحة الجزيلة من حقوق المسلمين وأعطياتهم؟ بعد تأمينه على أخذ الصدقات المشترط فيه الثقة والأمانة ، واللعين لا يكون ثقة ولا أمينا.

ثم نسائل الخليفة عثمان على تقريره لما ارتكبه من حمل صدقات قضاعة إلى دار الخلافة وقد ثبت في السنّة أنها تقسّط على فقراء المحلّ وعليها أتت الأقوال ، قال أبو عبيد : والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلها : إن أهل كل بلد من البلدان ، أو ماء من المياه أحقّ بصدقتهم ما دام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك ، بذلك جاءت الأحاديث مفسرة» (٣).

ألم يكن في قضاعة ذو حاجة فيعطى؟ أو لم يكن في المدينة الطيبة من فقراء المسلمين أحد فيقسّم ذلك المال الطائل بينهم بالسوية؟ وإنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ، فتخصيصها للحكم لما ذا؟

وهلمّ معي إلى المسكين صاحب المال تؤخذ منه الصدقات شاء أو أبى وهو يعلم مصبّ تلكم الأموال ومدرّها من أيدي اولئك الجبابرة أو الجباة أصحاب الجباه السود نظراء الحكم ومروان والوليد وسعيد وما يرتكبونه من فجور ومجون ، وبعد لم ينقطع من أذنه صدى ما ارتكبه خالد بن الوليد سيف الشيطان المسلول مع مالك بن نويرة وحليلته وذويه وما يملكه ، وكان يسمع من وحي الكتاب قوله

__________________

(١) الأنساب للبلاذري ج ٢ / ٢٧ والرياض النضرة ج ٢ / ١٤٣ وأسد الغابة ج ٢ / ٣٥.

(٢) سورة الأحزاب : ٢١.

(٣) الأموال : ص ٥٩٦.

٢٧١

تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (١).

فهل يرى المسلمون أن هذا الأخذ يطهّره ويزكّيه؟ لا حكم إلا لله.

فإعطاء الصدقات لاولئك الأمراء من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان. ثم إن الصدقات كضرائب مالية في أموال الأغنياء لإعاشة الضعفاء من الأمة ، قال مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام :

إن الله عزوجل فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي الفقراء ، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء ، وحق على الله تبارك وتعالى أن يحاسبهم ويعذّبهم (٢).

وفي لفظ آخر قال عليه‌السلام :

إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بما متّع به غني ، والله سائلهم عن ذلك (٣).

ثم إن عثمان يدّعي أن رسول الله وعده ردّ الحكم بعد أن فاوضه في ذلك ، إن كان هذا الوعد صحيحا فلم لم يعلم به أحد غيره؟ ولا عرفه الشيخان قبله ، وهلّا رواه لهما حين كلّمهما في رده فجبهاه بما عرفت؟ أو أنهما لم يثقا بتلك الرواية؟ فهذه مشكلة أخرى.

كما أن عثمان أعطى مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عمه وصهره من ابنته أمّ أبان خمس غنائم افريقية وهو خمسمائة ألف دينار (٤).

وروى البلاذري :

عن عبد الله بن الزبير قال : أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين افريقية ، فأصاب

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٣.

(٢) الأموال لأبي عبيد ص ٥٩٥ ، المحلّى لابن حزم ج ٦ / ١٥٨.

(٣) نهج البلاغة شرح صبحي الصالح ص ٥٣٣ رقم الكلمة ٣٢٨.

(٤) تاريخ أبي الفداء ج ١ / ١٦٨.

٢٧٢

عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم.

وفي رواية الطبري عن الواقدي عن أسامة بن زيد عن ابن كعب قال :

لمّا وجّه عثمان عبد الله بن سعد إلى افريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق افريقية (جرجير) الفي ألف دينار وخمسمائة الف دينار وعشرين الف دينار ، فبعث ملك الروم رسولا وأمره أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار كما أخذ منهم عبد الله بن سعد ، إلى أن قال : كان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم (١).

وروى البلاذري وابن سعد : أن عثمان كتب لمروان بخمس مصر وأعطى أقرباءه المال وتأوّل في ذلك الصلة التي أمر الله بها ، واتخذ الأموال واستسلف من بيت المال وقال : إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما ، وإني أخذته فقسّمته في أقربائي ، فأنكر الناس عليه ذلك (٢).

وقال ابن أبي الحديد :

«فإنه ـ أي عثمان ـ أوطأ بني أميّة رقاب الناس ، وولّاهم الولايات وأقطعهم القطائع ، وافتتحت افريقية في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان ، وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة ، فأعطاه أربعمائة الف درهم وأعاد الحكم ابن أبي العاص ، بعد أن كان رسول الله قد سرّه ثم لم يردّه أبو بكر ولا عمر ، وأعطاه مائة ألف درهم.

وتصدّق رسول الله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين ، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٥ / ٥٠.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٤٤ ط / ليدن ، الأنساب للبلاذري ج ٥ / ٢٥.

٢٧٣

وأقطع مروان فدك ، وقد كانت فاطمة عليها‌السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث ، وتارة بالنحلة فدفعت عنها.

وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلّا عن بني أميّة.

وأعطى عبد الله بن سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقية بالمغرب ـ وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ـ من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي الف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ، وقد كان زوّجه ابنته أم أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح ، فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وصلت رحمي! قال: لا ، ولكن أبكي لأني أظنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ، والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا ، فقال : ألق المفاتيح يا ابن أرقم ، فإنّا سنجد غيرك.

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسّمها كلها في بني أمية ، وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة ، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه.

وانضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون ، كتسيير أبي ذر رحمه‌الله تعالى إلى الربذة ، وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه ، وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود ورد المظالم ، وكف الأيدي العادية ، والانتصاب لسياسة الرعية ، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين ، واجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه» (١).

من هنا قال مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام :

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ١٥٣.

٢٧٤

«ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته وقد تزوّج به النساء ، وفرّق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق» (١).

وقد بلغت أعطيات عثمان (من المال ما يعدّ بمئات الملايين ، عدا عن الكنوز المكتنزة التي اقتناها من رجال سياسة الوقت وأصحاب الفتن والثورات من جراء الفوضى في الأموال) ضياعا عامرة ، ودورا فخمة وقصورا شاهقة ، وثروة طائلة ، ببركة تلك السيرة الأموية في الأموال الشاذة عن الكتاب والسنّة الشريفة ، من هؤلاء :

(١) الزبير بن العوّام : خلّف كما في صحيح البخاري (٢) إحدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة فأصاب كل امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا الف. قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وقال ابن الهائم: بل الصواب أن جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون الف الف وثمانمائة الف (٣). وصرّح ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما بأن الصواب ما قاله ابن الهائم وأنّ البخاري غلط في الحساب.

كذا نجدها في صحيح البخاري وغيره من المصادر غير مقيّدة بالدرهم أو الدينار غير أنّ في تاريخ ابن كثير (٤) قيّدها بالدرهم.

وقال ابن سعد (٥) : كان للزبير بمصر خطط ، وبالاسكندرية خطط ، وبالكوفة

__________________

(١) نفس المصدر ص ٢٠١.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ٢١ ، كتاب الجهاد ، باب بركة الغازي في ماله.

(٣) ذكره شرّاح البخاري فراجع : فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري ، وشذرات الذهب ج ١ / ٤٣.

(٤) البداية والنهاية ج ٧ / ٢٤٩.

(٥) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٧٧ ط / ليدن.

٢٧٥

خطط ، وبالبصرة دور ، وكانت له غلّات تقدم عليه من أعراض المدينة.

وقال المسعودي (١) : خلّف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططا.

(٢) طلحة بن عبيد الله التيمي : ابتنى دارا بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كل يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك وله بناحية سراة (٢) أكثر مما ذكر ، وشيّد دارا بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج.

وعن محمّد بن إبراهيم ، قال : كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة الف ، ويغلّ بالسّراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ.

وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته في كل يوم ألف وافيا (الوافي وزنه وزن الدينار).

وعن موسى بن طلحة أنه ترك ألفي ألف درهم ومائتي الف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل.

وعن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، قال : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من الناضّ (٣) ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.

وعن سعدى أمّ يحيى بن طلحة : قتل طلحة وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ومائتا الف درهم ، وقوّمت أصوله وعقاره ثلاثين الف الف درهم.

وعن عمرو بن العاص أنّ طلحة ترك مائة بهار (٤) في كل بهار ثلاث قناطر ذهب.

__________________

(١) المروج ج ١ / ٤٣٤.

(٢) تقع «سراة» بين تهامة ونجد أدناها الطائف وأقصاها قرب صنعاء.

(٣) الناضّ : الدرهم والدينار.

(٤) «البهار» : الحمل ، قيل إنّه : ثلاثمائة رطل ، وقيل أربعمائة ، وقيل : ستمائة رطل ، وقيل : ألف. لسان العرب ج ٤ / ٨٤.

٢٧٦

وفي لفظ ابن عبد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة.

وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهبا.

وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي الف دينار (١).

(٣) عبد الرحمن بن عوف الزهري :

قال ابن سعد : ترك عبد الرحمن الف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا.

وقال : وكان فيما خلّفه ذهب قطّع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا. وعن صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن قال : صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلّقها في مرضه من ربع الثمن بثلاثة وثمانين ألفا.

وقال اليعقوبي : ورّثها عثمان فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار ، وقيل : ثمانين الف.

وقال المسعودي : ابتنى داره ووسّعها وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا (٢).

(٤) سعد بن أبي وقاص :

__________________

(١) من أراد المزيد فليراجع : طبقات ابن سعد ج ٣ / ١٥٨ ط / ليدن ؛ الأنساب للبلاذري ج ٥ / ٧ ؛ مروج الذهب ج ١ / ٤٣٤ ؛ العقد الفريد ج ٢ / ٢٧٩ ؛ الرياض النضرة ج ٢ / ٢٥٨ ؛ دول الإسلام للذهبي ج ١ / ١٨ ؛ الخلاصة للخزرجي ص ١٥٢.

(٢) راجع : طبقات ابن سعد ج ٣ / ٩٦ ؛ مروج الذهب ج ١ / ٤٣٤ ؛ تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٤٦ ، صفوة الصفوة لابن الجوزي ج ١ / ١٣٨ ؛ الرياض النضرة لمحب الطبري ج ٢ / ٢٩١.

٢٧٧

قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين الف درهم ، ومات في قصره بالعقيق.

وقال المسعودي : بنى داره بالعقيق فرفع سمكها ووسّع فضاءها وجعل أعلاها شرفات (١).

(٥) يعلى بن أمية : خلّف خمسمائة ألف دينار ، وديونا على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته ألف دينار (٢).

(٦) زيد بن ثابت «المدافع الوحيد عن عثمان» : قال المسعودي : خلّف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار (٣).

هذه نبذ مما وقع فيه التفريط المالي على عهد عثمان ، ومن المعلوم أن التاريخ لم يحص كلّما كان هناك من عظائم شأنه في أكثر الحوادث والفتن.

وأما ما اقتناه الخليفة لنفسه فحدّث عنه ولا حرج ، كان ينضّد (٤) أسنانه بالذهب ويتلبّس بأثواب الملوك.

قال محمد بن ربيعة : رأيت عثمان ، مطرف خزّ ثمنه مائة دينار ، فقال : هذا لنائلة كسوتها إياه ، فأنا ألبسه أسرّها به. وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان بردا ثمنه مائة دينار (٥).

وقال البلاذري :

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٣ / ١٠٥ ومروج الذهب ج ١ / ٤٣٤.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ج ١ / ٤٣٤.

(٣) نفس المصدر والجزء والصفحة.

(٤) نضد الشيء : جعل بعضه على بعض متّسقا أو بعضه.

(٥) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٤٠ ط / ليدن ؛ أنساب البلاذري ج ٣ / ٤ ، الاستيعاب ج ٢ / ٤٧٦ ترجمة عثمان.

٢٧٨

كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليّ وجوهر ، فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه فقال : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم.

وفي لفظ : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام. فقال له علي : إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه.

وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسّمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (١).

وقال ابن سعد : كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون الف الف درهم وخمسمائة الف درهم ، وخمسون ومائة الف دينار ، فانتهبت وذهبت.

وترك الف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمته مائتي الف دينار (٢).

وقال المسعودي : بنى في المدينة وشيّدها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة ، وذكر عبد الله بن عتبة : إن عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة الف دينار والف الف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة الف دينار ، وخلّف خيلا كثيرا وإبلا (٣).

وقال الذهبي :

كان قد صار له أموال عظيمة وله الف مملوك (٤).

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ٩٨ ، السيرة الحلبية ج ٢ / ٨٧.

(٢) الطبقات ج ٣ / ٥٣.

(٣) المروج ج ١ / ٤٣٣.

(٤) دول الإسلام ج ١ / ١٢.

٢٧٩

وبقي هنا أن نسأل الخليفة عن علّة قصر هذه الأثرة على نفسه وأقربائه ومن جرى مجراهم من زبانيته ، أهل خلقت الدنيا لأجلهم؟ أو أن الشريعة منعت عن الصلات وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ونظرائهم؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدّة ، ويعانوا البلاء ويشملهم المنع بين منفيّ ومضروب ومهان ، وهذا سيّدهم أمير المؤمنين يقول : [إن بني أميّة ليفوّقونني تراث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفويقا ـ أي يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة ـ والله لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة](١).

هل الجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده؟ أو جدحه (٢) من سويق غيره كما كان يفعل الخليفة؟ ليتنا وجدنا من يحيرنا جوابا عن مسئلتنا هذه؟ أمّا الخليفة فلم ندركه حتى نستحفي منه الخبر ، ولعلّه لو كنا مستحفين منه لسبقت الدرّة الجواب.

كان مزيج نفس الخليفة حب بني أبيه آل أميّة الشجرة الملعونة في القرآن وتفضيلهم على الناس ، وقد تنتسب ذلك في قلبه وكان معروفا منه من أوّل يومه ، وعرفه بذلك من عرفه ، قال عمر بن الخطّاب لابن عبّاس : لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه (٣).

ولو صدق صدوره من عمر فلم جعل الانتخاب شورى بين أربعة ، ثلاثة يميلون إلى عثمان ، وواحد ـ وهو الزبير ـ إلى أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام؟ اللهم إلّا إذا كان عمر يريد قتله ولكن بطريقة خفية ، وشيء من هذا ليس عندنا أي مستند عليه ، بل الأخبار عكس ذلك ، حيث لا نزاع بين عمر وعثمان حتى يدبّر عمر له

__________________

(١) نهج البلاغة شرح صبحي الصالح ص ١٠٤ خطبة ٧٧.

(٢) يقال : جدح جوين من سويق غيره ، مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس.

(٣) أنساب البلاذري ج ٥ / ١٦.

٢٨٠