أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

ولقد كانت عائشة تشبّهه باليهود وتأمر بقتله وتقول : اقتلوا نعثلا (١) ـ اسم رجل يهودي ـ فقد كفر ، اقتلوا نعثلا قتله الله ، بعدا لنعثل وسحقا.

____________________________________

(١) «النّعثل» : الشيخ الأحمق ، والنّعثلة : أن يمشي الرجل مفاجّا ويقلب قدميه كأنه يغرف بهما وهو من التبختر. ونعثل : رجل من أهل مصر كان طويل اللحية ، قيل : إنه كان يشبه عثمان ، وشاتمو عثمان يسمونه نعثلا تشبيها بالرجل المصري ، وفي حديث عائشة : اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا! تعني عثمان ، وكان هذا منها لمّا غاضبته وذهبت إلى مكة (١).

يروي الطبري عن عثمان بن الشريد ، قال : مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره ومعه جامعة ، فقال : يا نعثل والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنّك إلى حرة النار ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه (٢).

وروى أيضا عن عبد الرحمن بن محمّد : أن محمّد بن أبي بكر تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف فتقدمهم محمّد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال قد أخزاك الله يا نعثل ، فقال عثمان : لست بنعثل ولكني عبد الله وأمير المؤمنين ، قال محمّد ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان ، فقال عثمان : يا ابن أخي دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه ، فقال محمّد : لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك ..» (٣).

إذن ، لقب «نعثل» كان السمة البارزة في شخصية عثمان ، ويظهر أن سبب تلقيبه به هو تبختره في مشيه ، وإلا فإن طول اللحية ليست علة تامة للتسمية بذاك

__________________

(١) لسان العرب ج ١١ / ٦٦٩ مادة نعثل.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ / ٣٩٩.

(٣) نفس المصدر ص ٤٢٣.

٢٤١

اللقب لعدم اقتصارها على عثمان ، ويشهد لما قلنا من أن التبختر هو المناط ما ورد من أن سورة عبس وتولّى نزلت به ، حيث جمع ثيابه وتأفف عند ما جلس بقربه ابن أم مكتوم ، وجمع الثياب عادة من علائم الكبر والتبختر.

وعائشة كانت من ألد الخصوم لعثمان ثم لمّا قتل طالبت بدمه لأن الناس بايعوا الإمام عليّاعليه‌السلام!!

قال ابن الأثير :

(وخرجت عائشة من مكة تريد المدينة بعد ما خرجت منها لحاجة ، فلما كانت بسرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة ، وهو ابن أمّ كلاب ، فقالت له : مهيم؟

قال : قتل عثمان وبقوا ثمانيا. قالت : ثم صنعوا ما ذا؟ قال : اجتمعوا على بيعة عليّ. فقالت : ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوما ، والله لأطلبن بدمه! فقال لها : ولم؟ والله إن أوّل من أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأول ، فقال لها ابن أمّ كلاب :

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرّياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا إنّه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم ينكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرؤ

يزيل الشّبا ويقيم الصّعر

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من قد غدر

فانصرفت إلى مكّة فقصدت الحجر فسترت فيه ، فاجتمع الناس حولها ، فقالت : أيّها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة

٢٤٢

اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنّه ، وقد استعمل أمثالهم قبله ، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها ، فلمّا لم يجدوا حجّة ولا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام ، والله لإصبع من عثمان خير من طاق الأرض أمثالهم! وو الله لو أن الذي اعتدّوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلّص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء ، أي يغسل) (١).

وذكر ابن قتيبة الدينوري :

(إن عائشة لمّا أتاها أنه بويع لعليّ عليه‌السلام ، وكانت خارجة عن المدينة ، فقيل لها : قتل عثمان ، وبايع الناس عليّا ، فقالت : ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض ، قتل والله مظلوما ، وأنا طالبة بدمه ، فقال لها عبيد : إن أول من طعن عليه وأطمع الناس فيه لأنت ، ولقد قلت : اقتلوا نعثلا فقد فجر (٢) ، فقالت عائشة : قد والله قلت وقال الناس ، وآخر قولي خير من أوله ، فقال عبيد : عذر والله ضعيف يا أمّ المؤمنين) (٣) ثم أنشد الشعر المتقدم.

قال ابن أبي الحديد :

(قال كلّ من صنّف في السير والأخبار : إن عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان حتى إنّها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته ، قالوا : أوّل من سمّى عثمان نعثلا عائشة ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا) (٤).

وفي لفظ الطبري :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٢٠٦ وتاريخ الطبري ج ٣ / ٤٧٦.

(٢) في فتوح ابن الأعثم ج ٢ / ٢٤٩ : «فقد كفر».

(٣) الإمامة والسياسة ص ٧١ باب خلاف عائشة على عليّ عليه‌السلام.

(٤) الغدير ج ٩ / ٨١ نقلا عن ابن أبي الحديد في شرح النهج.

٢٤٣

«فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر فسترت واجتمع إليها الناس ، فقالت : يا أيّها الناس إن عثمان قتل مظلوما وو الله لأطلبن بدمه» (١).

وقال البلاذري :

(كانت عائشة وأمّ سلمة حجّتا ذلك العام «عام قتل عثمان» وكانت عائشة تؤلّب على عثمان ، فلمّا بلغها أمره وهي بمكة أمرت بقبتها فضربت في المسجد الحرام وقالت : إني أرى عثمان سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر).

وأخرج الطبري عن عمر بن شبة من طريق عبيد بن عمرو القرشي قال : خرجت عائشة وعثمان محصور ، فقدم عليها مكة رجل يقال له : اخضر ، فقالت : ما صنع الناس؟ فقال : قتل عثمان المصريين ، قالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أيقتل قوما جاءوا يطلبون الحقّ وينكرون الظلم؟ والله لا نرضى بهذا ، ثم قدم آخر فقالت : ما صنع الناس؟ قال : قتل المصريّون عثمان)(٢).

وقال أبو مخنف : جاءت عائشة إلى أمّ سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان فقالت لها : يا بنت أبي أميّة أنت أقل مهاجرة من أزواج رسول الله ، وأنت كبيرة أمّهات المؤمنين ، وكان رسول الله يقسم لنا من بيتك ، وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك. فقالت أمّ سلمة : لأمر ما قلت هذه المقالة؟ فقالت عائشة : إنّ عبد الله أخبرني أنّ القوم استتابوا عثمان فلمّا تاب قتلوه صائما في شهر حرام ، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ومعي الزبير وطلحة فاخرجي معنا لعلّ الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا وبنا. فقالت : أنا أمّ سلمة ، إنّك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول ، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا ، وإنك لتعرفين منزلة عليّ بن أبي طالب عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. الحديث (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٤٧٧.

(٢) الغدير ج ٩ / ٧٩.

(٣) الغدير ج ٩ / ٨٣.

٢٤٤

وقال أبو الفداء :

(كانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه ، وكانت تخرج قميص رسول الله وشعره وتقول : هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه).

قال العلّامة الأميني (قدس‌سره):

(هذه الروايات تعطينا درسا ضافيا بنظرية عائشة في عثمان وأنّها لم تكن ترى له جدارة تسنّم ذلك العرش ، وبالغت في ذلك حتى ودّت إزالته عن مستوى الوجود. فأحبّت له أن يلقى في البحر وبرجله رحى تجرّه إلى أعماقه ، أو أنّه يجعل في غرارة من غرائرها وتشدّ عليه الحبال فيقذف في عباب اليمّ فيرسب فيه من غير خروج ، أو أن يؤدي به حراب المتجمهرين عليه فتكسح عن الملأ معرّة أحدوثاته ، ولذلك كانت تثير الناس عليه بإخراج شعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثوبه ونعله ، ولم تبرح تؤلّب الملأ الدينيّ عليه وتحثّهم على مقته وتخذّلهم عن نصرته في حضرها وسفرها ، وإنّها لم تعدل عن تلكم النظريّة حتّى بعد ما أجهز على عثمان إلا لمّا علمت من انفلات الأمر عن طلحة الذي كانت عائشة تتهالك دون تأميره وتضمر تقديمه منذ كانت ترهج النقع على عثمان ، وتهيّج الأمة على قتله ، فكانت تروم أن تعيد الإمرة تيميّة مرّة أخرى ، ولعلّها حجّت لبثّ هاتيك الدعاية في طريقها وعند مجتمع الحجيج بمكّة ، فكان يسمع منها قولها في طلحة : «إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل! إيه يا ابن عمّ! لكأنّي أنظر إلى إصبعه وهو يبايع له» ، وقولها : «إيه ذا الإصبع! لله أبوك ، أما أنّهم وجدوا طلحة لها كفوا».

وقولها في عثمان : «اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر» ، وقولها لابن عبّاس : «إيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية» ، وقولها بمكّة : «بعدا لنعثل وسحقا» ، وقولها لمّا بلغها قتله : «أبعده الله ، ذلك بما قدّمت يداه وما الله بظلّام للعبيد».

لكنّها لمّا علمت أنّ خلافة الله الكبرى عادت علويّة واستقرّت في مقرّها الجدير بها ـ ولم يكن لها مع أمير المؤمنين عليه‌السلام هوى ـ قلبت عليها ظهر المجنّ ، فطفقت تقول : لوددت أنّ السماء انطبقت على الأرض إن تمّ هذا! وأظهرت

٢٤٥

الأسف على قتل عثمان ورجعت إلى مكّة بعد ما خرجت منها ، ونهضت ثائرة تطلب بدم عثمان لعلّها تجلب الإمرة إلى طلحة من هذا الطريق ، وإلا فما هي من أولياء ذلك الدم ، وقد وضع عنها قود العساكر ومباشرة الحروب لأنّها امرأة خلقها الله لخدرها ، وقد نهيت كبقيّة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة عن التبرّج ، وقد أنذرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحذّرها عن خصوص واقعة الجمل ، غير أنّها أعرضت عن ذلك كلّه لما ترجّح في نظرها من لزوم تأييد أمر طلحة ، وتصاممت عن نبح كلاب الحوأب ، وقد ذكره لها الصّادق الأمين عند الإنذار والتحذير ، ولم تزل يقودها الأمل حتى قتل طلحة فألمّت بها الخيبة ، وغلب أمر الله وهي كارهة) (١).

قال البلاذري في الأنساب :

(خرجت عائشة باكية تقول : قتل عثمان رحمه‌الله ، فقال لها عمّار بن ياسر : أنت بالأمس تحرضين عليه ثم أنت اليوم تبكينه) (٢).

ما صدر من عائشة صاحبة الجمل لا يغدو مستغربا لدى الباحث في شخصيتها التي طالما ألّبت الناس على إمام زمانها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وذلك لضغن في صدرها كما عبّر عن ذلك الإمام عليه‌السلام بقوله :

(فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل ، وإن أطعتموني فإني حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنّة وإن كان ذا مشقة شديدة ، ومذاقة مريرة ، وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل ، ولها بعد حرمتها الأولى ، والحساب على الله!) (٣).

وللضغن أسباب منها :

حنو النبيّ على ابنته فاطمة عليها‌السلام وحبه الشديد لها ، فأكرمها إكراما عظيما

__________________

(١) الغدير ج ٩ / ٨٥.

(٢) الأنساب ج ٥ / ٧٠. طبقات ابن سعد ج ٥ / ٢٥ ، ط / ليدن ، الإمامة والسياسة ج ١ / ٤٣.

(٣) خطبة ١٥٦ من نهج البلاغة. وشرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٩ / ١٢٨.

٢٤٦

أكثر مما كان الناس يظنونه ، حتى خرج بها عن حدّ الآباء للأولاد ، فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد : إنها سيّدة نساء العالمين ، وإنها أفضل من مريم بنت عمران ، وأنها إذا مرّت في الموقف نادى مناد من جهة العرش : يا أهل الموقف : غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمّد ، وأن تزويجها للإمام عليّ عليه‌السلام ما كان إلّا بعد أن زوّجه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة ، كم قال : يؤذيني ما يؤذيها ، ويغضبني ما يغضبها ، وأنها بضعة مني ، يريبني ما رابها. فكان هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل ، والنفوس البشرية تغيّظ على ما هو دون هذا ، فكيف هذا!

ومنها : أن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ولدت أولادا كثيرة بنين وبنات ولم تلد هي ولدا ، وأن رسول الله كان يقيم ابني فاطمة مقام بنيه ، ويسمى الواحد منهما «ابني» ويقول : «دعوا لي ابني» «وما فعل ابني» فما ظنك بالزوجة إذا حرمت الولد من البعل ، ثم رأت البعل يتبنّى بني ابنته من غيرها ، ويحنو عليهم حنوّ الوالد المشفق! هل تكون محبّة لأولئك البنين ولأمهم ولأبيهم ، أم مبغضة! وهل تودّ دوام ذلك واستمراره ، أم زواله وانقضاءه!

ومنها : أنّه اتفق أن رسول الله سدّ باب أبيها إلى المسجد ، وفتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة ، ثم عزله عنها بصهره ، فقدح ذلك أيضا في نفسها ، وولد لرسول الله إبراهيم من مارية ، فأظهر الإمام عليّ عليه‌السلام بذلك سرورا كثيرا ، وكان يتعصّب لمارية ، ويقوم بأمرها عند رسول الله ميلا على غيرها ، وجرت لمارية نكبة ـ كالتي ينسبها العامة إلى عائشة ـ فبرأها الإمام عليّ منها ، وكشف الله بطلانها على يده ، كل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه ، ويؤكد ما في نفسها منه ، ثم مات ابراهيم فأبطنت شماتة وإن أظهرت كآبة.

هذه الأسباب وغيرها أدت إلى وقوع الشحناء من طرف عائشة على أمير المؤمنين وزوجه الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، ويؤكد ما قلنا إن عائشة لم تحضر عزاء بني

٢٤٧

هاشم لما استشهدت سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام بل «نقل إلى مولانا عليّ عليه‌السلام عنها كلام يدل على السرور» (١).

والحسد أعظم سبب أدّى إلى إظهار ضغينتها على آل البيت ، فاستلزم إنكار خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام لذا قال عليه‌السلام بما ذكرناه سابقا : «ولو دعيت لتنال من غيري مثل ما أتت إليّ لم تفعل» أي : لو أن عمر ولي الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذي قتل عليه ، والوجه الذي أنا وليت الخلافة عليه ، ونسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله ، أو يحرّض عليه ـ ودعيت عائشة إلى أن تخرج عليه من عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الإسلام ، تثير فتنة وتنقض البيعة ـ لم تفعل ، وهذا حق ، لأنها لم تكن تجد على عمر ما تجده على الإمام عليّ عليه‌السلام ، وحال الإمام ليس كحال عمر.

لكنها جمعت الجيوش على مولى الثّقلين الذي حربه حرب الله ، مع أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفرّس بها يوما بمحضر من نسائه ، فقال : «ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب (٢) ، تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة ، كلّهم في النار وتنجو بعد ما كادت» (٣).

لذا لمّا وصلت إلى الحوأب وهي منطقة قبل البصرة وهو ماء لبني عامر بن صعصعة ، نبحتها الكلاب ، فنفرت صعاب إبلها ومعها طلحة والزبير ، فقال قائل منهم : لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها! بكت وقالت : أهذا ماء الحوأب؟ قالوا : نعم ، قالت : ردّوني ردّوني ، فسألوها ما شأنها؟ ما بدا لها؟ فقالت : إني سمعت رسول الله يقول : كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب ، قد نبحت بعض نسائي ، ثم قال لي : «إياك يا حميراء أن تكونيها» فقال لها الزبير : مهلا يرحمك الله فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة ، فقالت : أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٩ / ١٣٤.

(٢) الجمل الأدبب : الكثير شعر الوجه.

(٣) شرح النهج ج ٩ / ٢٠٤ ، والإمامة والسياسة ج ١ / ٨٢ والبداية والنهاية / ابن كثير ج ٧ / ١٨٥.

٢٤٨

على ماء الحوأب؟ فلفّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا ، فحلفوا لها ، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، فكانت أول شهادة زور في الإسلام ، ثم سارت عائشة لوجهها(١).

تراكمت كل هذه الأسباب لتشنّ عائشة حربا لا هوادة فيها على الإمام عليّ حبيب الله ورسوله ، بحجة المطالبة بدم عثمان ، وكأنّ الإمام عليه‌السلام ـ بنظر عائشة ـ هو القاتل لعثمان ، ولكنّه عذر يخفي ضغائن تغلي في الصدور ، وهل قتل عثمان بالبصرة ليطلب دمه فيها؟ فقتلة عثمان كانوا في المدينة مع عائشة فلم لم تقتص منهم عائشة هناك؟! مع أنّ عائشة وجماعتها كانوا من أشدّ الناس على عثمان ، وأعظمهم إغراء بدمه. ولكنها الخلافة التي نغّصت العيش عليها كيف وصلت إلى ابن أبي طالب عليه‌السلام بل يجب أن يبقى بعيدا عنها لأنها محرّمة على الهاشميين حيث لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد ـ حسبما صرّح عمر بن الخطاب لابن عبّاس ـ.

والعجب ثم العجب من الزبير الذي ذهب للبصرة للطلب بدم عثمان ، مع أنه بايع أمير المؤمنين يوم مات رسول الله وهو آخذ قائم سيفه يقول : ما أحد أحقّ بالخلافة من عليّ عليه‌السلام ولا أولى بها منه ، وامتنع من بيعة أبي بكر!

لقد نفثت عائشة عمّا يجول في صدرها يوم أقبلت على جملها ، فنادت بصوت مرتفع : «أيّها الناس ، أقلّوا الكلام واسكتوا ، فأسكت الناس لها ، فقالت : إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر وبدّل ، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا ، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط ، وتأميره الشبّان ، وحمايته موضع الغمامة ، فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل ، ألا وإنّ قريشا رمت غرضها بنبالها ، وأدمت أفواهها بأيديها ، وما نالت بقتلها إياه شيئا ، ولا سلكت به سبيلا قاصدا ، أما والله ليرونّها بلايا عقيمة تنبّه النائم ، وتقيم

__________________

(١) نفس المصدر.

٢٤٩

الجالس ، وليسلّطنّ عليهم قوم لا يرحمونهم ويسومونهم سوء العذاب.

أيّها الناس ، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحلّ به دمه! مصتموه كما يماص الثوب الرخيص ، ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه ، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ، ابتزازا وغصبا ، تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم!

ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته ، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان»(١).

إن مبايعة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ـ بنظر عائشة صاحبة الجمل ـ تعتبر ابتزازا وغصبا من غير مشورة ، وهو صاحب الحق ، لكنها تغافلت عن خلافة أبيها كيف تمت غصبا وقهرا ، بل لم تنظر إلى خلافة عمر التي تمت بمرسوم من أبيها؟! إنها الضغينة كما قال مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام!

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ٩ / ٢٠٧.

٢٥٠

وقد ضرب عثمان عبد الله بن مسعود الصحابي (١) الجليل حتى أصيب بالفتق ، وصار طريح الفراش ومات.

____________________________________

قال البلاذري (١) :

حدّثني عباس بن هشام عن أبيه عن أبي مخنف وعوانة في إسنادهما : أنّ عبد الله بن مسعود حين ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة قال : من غيّر غيّر الله ما به ، ومن بدّل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل ، أيعزل مثل سعد بن أبي وقاص ويولّى الوليد؟ وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو :

«إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدث بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار».

فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنه يعيبك ويطعن عليك ، فكتب إليه عثمان يأمر بإشخاصه ؛ فاجتمع الناس فقالوا : أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه ، فقال : «إنّ له عليّ حق الطاعة ولا أحبّ أن أكون أوّل من فتح باب الفتن». وفي لفظ أبي عمر : «إنها ستكون أمور وفتن لا أحبّ أن أكون أوّل من فتحها». فردّ الناس وخرج إليه (٢).

وقال البلاذري أيضا :

وشيّعه أهل الكوفة فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن فقالوا له : جزيت خيرا فلقد علّمت جاهلنا ، وثبّت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، فنعم أخو الإسلام أنت ونعم الخليل ؛ ثم ودّعوه وانصرفوا. وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فلما رآه قال : ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوى من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ، فقال ابن مسعود :

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ٥ / ٣٦.

(٢) الاستيعاب ج ١ / ٣٧٣.

٢٥١

لست كذلك ولكني صاحب رسول الله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان ، ونادت عائشة : أي عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجا عنيفا ، وضرب به عبد الله بن زمعة الأرض ، ويقال : بل احتمله يحموم غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه ، فقال عليّ عليه‌السلام : يا عثمان! أتفعل هذا بصاحب رسول الله بقول الوليد بن عقبة؟ فقال : ما بقول الوليد فعلت هذا ولكن وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال ، فقال عليّ عليه‌السلام : أحلت عن زبيد على غير ثقة.

وفي لفظ الواقدي : أنّ ابن مسعود لمّا استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال : أيّها الناس أنه قد طرقكم الليلة دويبة ، من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ، فقال ابن مسعود : لست كذلك ولكني صاحب رسول الله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان وصاحبه يوم حنين ، قال : وصاحت عائشة : يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ فقال عثمان : اسكتي! ثم قال لعبد الله بن زمعة : أخرجه إخراجا عنيفا ، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد ، فضرب به الأرض ، فكسر ضلعا من أضلاعه ، فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان!

قال البلاذري : وقام عليّ بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله ، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي ، وأراد حين برئ الغزو فمنعه من ذلك وقال له مروان : إنّ ابن مسعود أفسد عليك العراق ، افتريد أن يفسد عليك الشام؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين ، وكان مقيما بالمدينة ثلاث سنين.

وقال قوم إنه كان نازلا على سعد بن أبي وقاص ، ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا أدعوا لك طبيبا؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال :

٢٥٢

أفلا آمر لك بعطائك؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا مستغن عنه!! قال : يكون لولدك ، قال : رزقهم على الله ، قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن ، قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي. وأوصى أن لا يصلّي عليه عثمان فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم فلمّا علم غضب ، وقال : سبقتموني به؟ فقال له عمّار بن ياسر : إنه أوصى أن لا تصلّي عليه ، فقال ابن الزبير :

لأعرفنّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي

وفي لفظ ابن كثير (١) قال : جاءه عثمان في مرضه عائدا فقال له : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي ، قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا آمر لك بطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني ، قال : ألا آمر لك بعطائك؟ ـ وكان قد تركه سنتين ـ فقال : لا حاجة لي ، فقال : يكون لبناتك من بعدك ، فقال : أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة وإني سمعت رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] يقول : من قرأ الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا.

وقال البلاذري : كان الزبير وصيّ ابن مسعود في ماله وولده ، وهو كلّم عثمان في عطائه بعد وفاته حتى أخرجه لولده ، وأوصى ابن مسعود أن يصلّي عليه عمّار بن ياسر ؛ وقوم يزعمون أنّ عمارا كان وصيّه ووصيّة الزبير أثبت.

وأخرج البلاذري أيضا من طريق أبي موسى القروي بإسناده أنه دخل عثمان على ابن مسعود في مرضه فاستغفر كل واحد منهما لصاحبه ، فلما انصرف عثمان قال بعض من حضر : إنّ دمه لحلال. فقال ابن مسعود : ما يسرّني أنني سددت إليه سهما يخطئه وأنّ لي مثل أحد ذهبا.

وقال الحاكم وأبو عمرو وابن كثير : أوصى ابن مسعود إلى الزبير بن العوام فيقال : إنه هو الذي صلّى عليه ودفنه بالبقيع ليلا بإيصائه بذلك إليه ولم يعلم

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٧ / ١٦٣.

٢٥٣

عثمان بدفنه ، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك ، وقيل : بل صلّى عليه عثمان ، وقيل : عمّار(١).

وفي رواية ابن أبي الحديد المعتزلي (٢) أنه لمّا حضر ابن مسعود الموت قال : من يتقبّل مني وصيّة أوصيه بها على ما فيها؟ فسكت القوم وعرفوا الذي يريد فأعادها ، فقال عمّار : أنا أقبلها ، فقال ابن مسعود : أن لا يصلّي عليّ عثمان ، قال : ذلك لك. فيقال أنه لمّا دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل : إنّ عمارا وليّ الأمر ، فقال لعمّار : ما حملك على أن لم تؤذنّي؟ فقال: عهد إليّ أن لا أوذنك ....

وفي لفظ اليعقوبي (٣) : اعتلّ ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده فقال له : ما كلام بلغني عنك؟ قال : ذكرت الذي فعلته بي أنك أمرت بي فوطئ جوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر ومنعتني عطائي ، قال : فإني أقيدك من نفسي فافعل بي مثل الذي فعل بك ، قال : ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء ، قال : فهذا عطاؤك فخذه ؛ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا غنيّ عنه ، لا حاجة لي به! فانصرف ، فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي.

وأخرج محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه لأبي ذر (٤).

وفي تاريخ الخميس (٥) : حبس (عثمان) عبد الله بن مسعود وأبي ذر عطاءهما وأخرج أبا ذرّ إلى الربذة وكان بها إلى أن مات. وأوصى (عبد الله) إلى الزبير وأوصاه أن يصلّي عليه ولا يستأذن عثمان لئلّا يصلّي عليه ، فلما دفن وصل عثمان

__________________

(١) المستدرك ج ٣ / ٣١٣ والاستيعاب ج ١ / ٣٧٣ وتاريخ ابن كثير ج ٧ / ١٦٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ج ١ / ٢٣٦ ط / مصر.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٤٧.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ج ١ / ٢٣٧.

(٥) نفس المصدر ج ٢ / ٢٦٨.

٢٥٤

ورثته بعطاء أبيهم خمس سنين. وأجاب بأن عثمان كان مجتهدا ولم يكن من قصده حرمانه وإنّما التأخير إلى غادية أدبا ، أما مع حصول تلك الغاية أو دونها وصل به ورثته ولعله كان أنفع له.

وفي السيرة الحلبية (١) من جملة ما انتقم به على عثمان أنه حبس عبد الله بن مسعود وهجره ، وحبس عطاء أبيّ بن كعب ، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية ، وضرب عمّار بن ياسر وكعب بن عبده ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال ، وقال لعبد الرحمن بن عوف : إنك منافق ...».

وابن مسعود الذي فعل به عثمان حوبا كبيرا ليس له مبرر هو من نزل بحقهم قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) وهو من ضمن الثمانية عشر رجلا ممن نزل فيهم قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣).

وورد عن الإمام عليّ عليه‌السلام مرفوعا قال :

«عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من أحد».

وفي لفظ آخر : «والذي نفسي بيده لهما ـ يعني ساقي ابن مسعود ـ أثقل في الميزان من أحد» (٤).

وعن علقمة وعمر في حديث عن رسول الله قال : من سرّه أن يقرأ القرآن

__________________

(١) نفس المصدر ج ٢ / ٨٧.

(٢) سورة الأنعام : ٥٢ وراجع تفسير الطبري ، وتفسير القرطبي وابن كثير والدر المنثور والخازن والشربيني والشوكاني.

(٣) سورة آل عمران : ١٧٢ ولاحظ تفسير ابن كثير والخازن.

(٤) مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣١٧ ، حلية الأولياء ج ١ / ١٢٧ ، الاستيعاب ج ١ / ٣٧١ ، تاريخ ابن كثير ج ٧ / ١٦٣ ، الإصابة ج ٢ / ٣٧٠.

٢٥٥

غضّا أو رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد (١) ـ أي ابن مسعود ـ.

وأخرج أحمد في مسنده من طريق عمرو بن العاص قال :

مات رسول الله وهو يحب عبد الله بن مسعود وعمّار بن ياسر (٢).

وأخرج الشيخان والترمذي عن أبي موسى قال : قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى ابن مسعود إلّا أنه رجل من أهل بيت النبيّ لما نرى من دخوله ودخول أمّه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وفي لفظ البخاري عن حذيفة بن اليمان قال :

«ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا برسول الله من ابن أمّ عبد» (٤).

هذا هو ابن مسعود ، ذو العلم والهدى والسمت والصلاح ، كانت سيرته الدءوب على نشر علم القرآن وسنّة الرسول وتعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل وتثبيت القلوب ، وشدّ أزر الدين ، في كل ذلك هو شبيه رسول الله في هديه وسمته ودلّه ، فلا تجد فيه مغمزا لغامز ، ولا محلا للمز وهمز ، وقد بعثه عمر إلى الكوفة ليعلّمهم أمور دينهم ، وبعث عمّارا أميرا وكتب إليهم : إنهما من النجباء من أصحاب محمّد من أهل بدر ، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما ، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (٥).

وقد يسأل سائل : لما ذا يحرم هذا البدريّ العظيم عطاؤه سنين؟ ثم يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهرا بالصلة فلا يقبلها ابن

__________________

(١) حلية الأولياء ج ١ / ١٢٤. مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣١٨.

(٢) مسند أحمد ج ٤ / ٢٠٣.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣١٤ ، مصابيح السنّة ج ٢ / ٢٨٤ ، تيسير الوصول ج ٣ / ٢٧٩ نقلا عن الشيخين والترمذي ، تاريخ ابن كثير ج ٧ / ١٦٢ ، الإصابة ج ٢ / ٣٦٩.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المناقب.

(٥) الاستيعاب ج ١ / ٣٧٣ والإصابة ج ٢ / ٣٦٩.

٢٥٦

مسعود وهو في منصرم عمره ، ويسأل ربه أن يأخذ له منه بحقه ، ثم يتوجه إلى النعيم الخالد معرضا عن الحطام الزائل ، موصيا بأن لا يصلّي عليه من نال منه ذلك النيل الفجيع. لما ذا فعل به هذا؟ ولما ذا شتم على رءوس الأشهاد؟ ولما ذا أخرج من مسجد رسول الله مهانا عنفا ، ولما ذا ضرب به الأرض فدقّت أضالعه؟ ولما بطشوا به بطش الجبارين؟!

كل ذلك لأنه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال الكوفة يوم كان عليه ما أمر به ، فألقى مفاتيح بيت المال لمّا لم يجد من الكتاب والسنّة ـ وهو العليم بهما ـ مساغا لهاتيك الإباحة ولا لأثرة الآمر بها ، وعلم أنها سوف تتبعها من الأعطيات التي لا يقرّها كتاب ولا سنّة ، فتسلل عن عمله وتنصّل ، وما راقه أن يبوء بذلك الإثم ، فلهج بما علم ، وأبدى معاذيره في إلقاء المفاتيح ، فغاظ تلكم الأحوال داعية الشهوات وشاخص الهدى الوليد بن عقبة ، فكتب في حقه ونمّ وسعى ، فكان من ولائد ذلك أن ارتكب من ابن مسعود ما عرفت ، ولم تمنع عن ذلك سوابقه في الإسلام وفضائله وفواضله وعلمه وهديه وورعه ومعاذيره وحججه ، فضلا على أن يشكر على ذلك كله ، فأوجب نقمة الصحابة على من نال ذلك منه ، وإنكار مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وصيحة عائشة في خدرها ، ولم تزل البغضاء محتدمة على هذه وأمثالها حتى كان في مغبّة الأمر ما لم يحمده خليفة الوقت وزبانيته الذين جرّوا إليه الويلات.

ولو ضرب المسيطر على الأمر صفحا عن الفظاظة في الانتقام ، أو أعار لنصح صلحاء الأمة أذنا واعية ، أو لم يستبدل بجراثيم الفتن عن محنكي الرجال ، أولم ينبذ كتاب الله وسنة نبيه وراء ظهره ، لما استقبله ما جرى عليه وعلى من اكتنفه من الوأد والهوان لكنّه لم يفعل ففعلوا ، ولمحكمة العدل الإلهي غدا حكمها البات.

ولابن مسعود عند القوم مظلمة أخرى وهي جلده أربعين سوطا في موقف آخر ، لما ذا كان ذلك؟ لأنه دفن أبا ذر لمّا حضر موته في حجته ، وجد بالربذة في

٢٥٧

ذلك الوادي القفر الوعر ميتا كان في الغارب والسنام من العلم والإيمان.

وجد صحابيا عظيما كان رسول الله يقرّبه ويدنيه قد فارق الدنيا .. وجد مثالا للقداسة والتقوى ، فتمثّل أمام عينيه تلك الصورة المكبّرة التي كان يشاهدها على العهد النبوي.

وجد شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة هديا وسمتا ونسكا وزهدا وخلقا ، طرده خليفة الوقت عن عاصمة الإسلام.

وجد عزيزا من أعزاء الصحابة على الله ورسوله وعلى المؤمنين قد أودى على مستوى الهوان في قاعة المنفى مظلوما مضطهدا .. وجد في قارعة الطريق جثمان طيّب طاهر غريب وحيد نازح عن الأوطان تصهره الشمس ، وتسفي عليه الرياح ، وذكر قول رسول الله : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويحشر وحده. فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كل مسلم فضلا عن أبي ذر الذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله ، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الأخير والعيون عبرى ، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الإنسان المبجّل ، فلما هبطوا يثرب ، نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر ، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا كبيرا ، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطا ، وذلك أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطمّ جيفته ، فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة ، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم وموئل التقوى ومنبثق الإيمان ، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا.

٢٥٨

وقد سفّر أبا ذر الغفاري (١) ، ذلك الصحابي الجليل الذي قال فيه الرسول : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ونفاه وأبعده من المدينة إلى الشام مرة أو مرتين ثم إلى الربذة ـ وهي أرض جرداء بين مكة والمدينة ـ حتى مات أبو ذر في الربذة جوعا وعطشا ، في الوقت الذي كان عثمان يتقلّب في بيت مال المسلمين ويوزّع الأموال على أقاربه من الأمويين والمروانيين!

____________________________________

(١) قال ابن الأثير :

[جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، وقيل غير ذلك ، كنيته أبو ذر الغفاري ، وأسلم والنبيّ بمكّة أول الإسلام ، فكان رابع أربعة ، وهو أول من حيّا رسول الله بتحية الإسلام ، ولمّا أسلم رجع إلى بلاد قومه ، فأقام بها حتى هاجر النبيّ فأتاه بالمدينة وصحبه إلى أن مات ، وكان يعبد الله قبل مبعث النبيّ بثلاث سنين ، وبايع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وعلى أن يقول الحق وإن كان مرّا.

أخبرنا إبراهيم بن محمّد ... عن عبد الله بن عمرو قال : «سمعت رسول الله يقول : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذر».

وروي أن النبيّ قال : «أبو ذر يمشي على الأرض في زهد عيسى بن مريم»] (١).

استقدمه عثمان من الشام لشكوى معاوية منه ، فأسكنه الربذة حتى مات بها.

وروى إبراهيم بن الأشتر ، عن أبيه ، عن زوجة أبي ذر ، أن أبا ذر حضره

__________________

(١) أسد الغابة ج ١ / ٥٦٢.

٢٥٩

الموت وهو بالربذة ، فبكت امرأته ، فقال : ما يبكيك؟ فقالت : أبكي أنه لا بدّ لي من تكفينك وليس عندي ثوب يسع لك كفنا ، فقال : لا تبكي ، فإني سمعت رسول الله ذات يوم ، وأنا عنده في نفر يقول : «ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، تشهده عصابة من المؤمنين» فكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، ولم يبق غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت ، فراقبي الطريق ، فإنك سوف ترين ما أقول لك ، وإني والله ما كذبت ولا كذّبت ، قالت : وأنى ذلك وقد انقطع الحاج! قال : راقبي الطريق ، فبينما هي كذلك إذ هي بقوم تخب بهم رواحلهم كأنهم الرّخم ...» (١).

أخرج ابن سعد من طريق عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر : صليت قبل الإسلام قبل أن ألقى رسول الله ثلاث سنين ، فقلت : لمن؟ قال : لله ، فقلت : أين توجّه؟ قال : أتوجّه حيث يوجهني الله.

وأخرج من طريق أبي معشر نجيح قال : كان أبو ذر يتألّه في الجاهلية ويقول : لا إله إلا الله ، ولا يعبد الأصنام ، فمرّ عليه رجل من أهل مكة بعد ما أوحي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا ذر: إن رجلا بمكة يقول مثل ما تقول : لا إله إلا الله ، ويزعم أنه نبي (٢).

مدحه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا وفي مواضع متعددة ، وتكفي مقالته المشهورة فيه : «ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيين أصدق من أبي ذرّ» (٣).

وأخرج الطبراني مرفوعا إلى النبيّ قال :

«من سرّه أن ينظر إلى شبه عيسى خلقا وخلقا فلينظر إلى أبي ذر» (٤).

__________________

(١) أسد الغابة ج ١ / ٥٦٤.

(٢) الطبقات ج ٤ / ١٦١.

(٣) لفظ ابن ماجة في السنن ج ١ / ٦٨.

(٤) مجمع الزوائد ج ٩ / ٣٣٠ وكنز العمال ج ٦ / ١٦٩.

٢٦٠