أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

هذا مضافا إلى أنه لو دار الأمر بين الأخذ بالخبر المذكور وبين الظنون والاستحسانات الشخصية ، وجب حينئذ تقديم الخبر على المظنونات ما دام لا يخالف ـ أي الخبر المذكور ـ أحكام العقل والكتاب المجيد ، فعدم التصديق بالخبر يستلزم إنكار المعجزة أو الكرامة ولو بنسبة ضئيلة تجره إلى أعلى منها ، وهذا بدوره مؤشر خطير يترتب عليه طرح الكثير من المفاهيم الغيبيّة التي جاء بها الأولياء والأنبياء عليهم‌السلام مما يعني إلغاء المئات من النصوص المبثوثة في أسفارنا ومصادرنا التاريخية ، ولا يوافق على هذا إلّا مغرض أو ضعيف الإيمان بكرامات أولياء الله تعالى.

وصدق صاحب البحار حينما قال : «إنّها قصة مخفيّة اطّلعوا عليها خواصهم لئلا تقبله عقولهم ولئلا يغلوا فيهم».

وفي موثقة أبي عبيدة الحذّاء قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالا وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنّا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفّر من دان به وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا» (١).

وفي معتبرة عمّار بن مروان عن جابر قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : قال رسول الله إن حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يؤمن به إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، فما ورد عليكم من حديث آل محمّد فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه ، وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمّد وإنّما الهالك أن يحدّث أحدكم بشيء منه لا يحتمله فيقول : والله ما كان هذا ، والله ما كان هذا ، والإنكار هو الكفر (٢).

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٢٢٣.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ٤٠١ ح ١.

٢٢١

وصدق الرسول إذ يقول : «من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك ..» (١) وقال تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (٢).

٢ ـ قد دلت القرائن والشواهد على بطلان ما ذكر :

أ ـ كان بمقدور الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يرفض طلب عمر للزواج من أم كلثوم رضي الله عنها بحجة أن ابنته كارهة له ، والإكراه على الزواج مبطل له ، ولا يجوز في شريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يمكن لعمر أن يصرّ حينئذ على الزواج منها ، لأنه لو فعل لكان ذلك حجة للإمام عليه‌السلام على عمر بن الخطّاب أمام جموع المسلمين ، ولا يمكن لعمر ـ لو فعل الإمام عليه‌السلام ما قلنا ـ أن يخالف إرادة الله ورسوله ـ ظاهرا ـ أمام المسلمين.

ب ـ كما أن أمّ كلثوم بنت أبي بكر رفضت الزواج من عمر ، وكذا غيرها ، كان يمكن لأمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين أن ترفض ويحتج حينئذ والدها على عمر بذلك ، ولمّا ذلك لم يحصل علمنا أن القضية لفّقها بنو أمية ، لينسبوا فضيلة مصاهرة عمر للإمام عليّ عليه‌السلام ، فيحرفوا وجهة الخلاف بينه وبينه عليه‌السلام ، حتى لا يقال أن عمر غصب الخلافة ، ولو كان الإمام غاضبا عليه كيف يزوّجه ابنته؟

قال ابن الأثير :

«وخطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصدّيق إلى عائشة ، فقالت أمّ كلثوم : لا حاجة لي فيه ، إنه خشن العيش شديد على النساء ، فأرسلت عائشة إلى عمرو ابن العاص ، فقال : أنا أكفيك ، فأتى عمر فقال : بلغني خبر أعيذك بالله منه ، قال : ما هو؟

قال : خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر؟ قال : نعم ، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟ قال : ولا واحدة ، ولكنّها حدثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق ، وفيك غلظة ، ونحن نهابك وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك ، فكيف

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٤٣ ح ٩.

(٢) سورة يونس : ٣٩.

٢٢٢

بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك (١).

وأخرج ابن الأثير الجزري عن معتمر بن سليمان عن أبيه ، عن الحسن : أن عمر بن الخطّاب خطب إلى قوم من قريش بالمدينة فردوه ، وخطب إليهم المغيرة بن شعبة ، فزوجوه (٢).

وقال ابن عبد ربّه :

«إن عمر خطب امرأة من ثقيف ، وخطبها المغيرة ، فزوّجوها المغيرة» (٣).

قال ابن الأثير :

«وخطب أمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته ، وقالت : يغلق بابه ، ويمنع خيره ، ويدخل عابسا ويخرج عابسا» (٤).

وقال ابن قتيبة :

قال أبو اليقظان : خطب عمر بن الخطاب أم أبان بنت عتيبة بن ربيعة بعد أن مات عنها يزيد بن أبي سفيان ، فقالت : لا يدخل إلا عابسا يغلق بابه ، ويقل خيره (٥).

وأخرج المتقي الهندي عن علي بن يزيد أن عاتكة بنت زيد كانت تحت عبد الله بن أبي بكر ، فمات عنها واشترط عليها ألّا تزوّج بعده فتبتلت وجعلت لا تزوّج ، وجعل الرجال يخطبونها ، وجعلت تأبى فقال عمر لوليّها : اذكرني لها فذكره لها ، فأبت على عمر أيضا ، فقال عمر :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٥٤ والطبري في تاريخ الأمم والملوك ج ٥ / ١٧.

(٢) أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٤ / ١٥٢ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٣) العقد الفريد ج ٢ / ٢٠٩.

(٤) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٥٥ وتاريخ الطبري ج ٥ / ١٧.

(٥) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ٤ / ١٧.

٢٢٣

زوجنيها ، فزوّجه إياها ، فأتاها عمر فدخل عليها فعاركها حتى غلبها على نفسها .. فلما فرغ قال :

اف اف اف ثم خرج من عندها وتركها لا يأتيها فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال فإني سأتهيأ لك (١).

* فإذا جاز لهؤلاء النسوة أن يرفضن عمر لخشونته ورعونته ، ويبدين رأيهن فيه ، فتعبر عنه بنت أبي بكر أم كلثوم بأنه خشن العيش ، شديد على النساء ، جاز أيضا لابنة أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تستشار وتبدي رأيها ، لا سيّما وأن الأمير عليه‌السلام لم يكن موافقا على مثل هذا الزواج ، فكان إبداء رأيها فرصة سانحة له عليه‌السلام للتملّص من طلب عمر. فرفضها رضي الله عنها كاللاواتي رفضنه ، فما بال الخليفة يفرض سلطته على الإمام عليه‌السلام ليزوّجه ابنته قهرا ، ولا يفرضه على غيره ، مع أن مدينة علم رسول الله لا تخفى عليه خافية ، كيف وهو المحنّك المدرّب؟ لا أظن أن تنطلي هكذا أمور على مولى الثّقلين وباب حطة وقاضي الأمة والعروة الوثقى؟

فإذا لم يكن الإمام عليه‌السلام راضيا ـ حسبما جاء في الأخبار ـ ولا ابنته كذلك ، فما هو وجه الصحة في إيكاله الأمر إلى العبّاس بن عبد المطلب؟ وهل يصحّح الوكيل عدم الرضا عند الموكّل؟ وهل عدم الرضا بالزواج يحتاج إلى توكيل لإمضاء الزواج؟! لا أظن عاقلا يصدّق ذلك.

ت ـ الاضطراب والاختلاف في الأحاديث ، وهذا الاختلاف مما يبطل الحديث ، من أجل هذا أنكر الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى أصل هذا الزواج ، فقال : (إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه‌السلام ابنته من عمر غير ثابت ، وطريقه من الزبير بن بكار ، ولم يكن موثوقا به في النقل ، وكان متّهما فيما يذكره ، وكان يبغض أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وغير مأمون فيما يدّعيه على بني هاشم. وإنما نشر الحديث إثبات أبي محمّد الحسن بن يحيى صاحب النسب ذلك في كتابه ،

__________________

(١) كنز العمال للمتقي الهندي ج ١٣ / ٦٣٣.

٢٢٤

فظن كثير من الناس أنه حقّ لرواية رجل علويّ له ، وهو إنما رواه عن الزبير بن بكار.

والحديث بنفسه مختلف ، فتارة يروى : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام تولّى العقد له على ابنته.

وتارة يروى أن العبّاس تولّى ذلك عنه.

وتارة يروى : أنه لم يقع العقد إلّا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم.

وتارة يروى : أنه كان عن اختيار وإيثار.

ثم إن بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولدا أسماه زيدا.

وبعضهم يقول : إنه قتل قبل دخوله بها.

وبعضهم يقول : إن لزيد بن عمر عقبا.

ومنهم من يقول : إنه قتل ولا عقب له.

ومنهم من يقول : إنه وأمّه قتلا.

ومنهم من يقول : إنّ أمّه بقيت بعده.

ومنهم من يقول : إن عمر أمهر أمّ كلثوم أربعين ألف درهم.

ومنهم من يقول : مهرها أربعة آلاف درهم.

ومنهم من يقول : كان مهرها خمسمائة درهم.

وبدوّ هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث ، فلا يكون له تأثير على حال ثم أنه لو صحّ لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

أحدهما : أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو : الشهادتان ، والصلاة إلى الكعبة ، والإقرار بجملة الشريعة.

٢٢٥

وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان ، وترك مناكحة من ضمّ إلى ظاهر الإسلام ضلالا لا يخرجه عن الإسلام ، إلّا أن الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضالّ مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك ، وساغ ما لم يكن بمستحب مع الاختيار. وأمير المؤمنين عليه‌السلام كان محتاجا إلى التأليف وحقن الدماء ، ورأى أنه إن بلغ مبلغ عمر عمّا رغب فيه من مناكحته ابنته أثّر ذلك الفساد في الدين والدنيا ، وأنه إن أجاب إليه أعقب صلاحا في الأمرين ، فأجابه إلى ملتمسه لما ذكرناه.

والوجه الآخر : أن مناكحة الضال (كجحد الإمامة ، وادّعائها لمن لا يستحقها) حرام إلّا أن يخاف الإنسان على دينه ودمه ، فيجوز له ذلك ، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر المضادة لكلمة الإيمان ، وكما يحل له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات ، وإن كان ذلك محرّما مع الاختيار.

وأمير المؤمنين عليه‌السلام كان مضطرا إلى مناكحة الرجل لأنه يهدّده ويواعده ، فلم يأمنه أمير المؤمنين عليه‌السلام على نفسه وشيعته ، فأجابه إلى ذلك ضرورة كما قلنا إن الضرورة تشرّع إظهار كلمة الكفر قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١).

وبالغض عن ذلك ، فقد روى اليعقوبي (٢) : أن عمر أمهرها عشرة آلاف دينار. وقال العسقلاني : «إن عمر أمهرها أربعين ألفا ، وأنها ولدت لعمر ابنيه : زيد ورقيّة ، وبعد وفاة عمر تزوجها عوف (عون ظ) بن جعفر بن أبي طالب ، وذكر الدارقطني في كتاب الأخوة أن عوفا مات عنها فتزوّجها أخوه محمّد ثم مات عنها فتزوّجها أخوه عبد الله بن جعفر فماتت عنده ، وذكر ابن سعد نحوه وقال في آخره ، فكانت تقول إني لأستحي من أسماء بنت عميس مات ولداها عندي فأتخوف على

__________________

(١) المسائل السروية للشيخ المفيد / المسألة العاشرة.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٥٠.

٢٢٦

الثالث قال : فهلكت عنده ولم تلد لأحد منهم» (١). ومما يزيد في القضية اضطرابا ما يروى أن الإمام عليه‌السلام بعث ابنته أمّ كلثوم ليراها ولم يأت عمر إليها بل هي زحفت إليه لتريه جمالها فإن وافق قبلت به وإلّا فالخيار له وليس لها ، قال ابن الأثير الجزري : «خطبها عمر بن الخطّاب إلى أبيها عليّ ، قال : إنها صغيرة ، فقال عمر : زوّجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد ، فقال له عليّ : إني أبعثها إليك ، فإن رضيتها فقد زوجتكها ، فبعثها إليه ببرد ، وقال لها : قولي له : هذا البرد الذي قلت لك ، فقالت ذلك لعمر ، فقال : قولي له : قد رضيت رضي الله عنك ، ووضع يده عليها ، فقالت : أتفعل هذا؟ لو لا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك ، ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر ، وقالت له : بعثتني إلى شيخ سوء ، قال : يا بنية إنه زوجك ، فجاء عمر فجلس إلى المهاجرين في الروضة ـ وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون ـ فقال : رفئوني ، فقالوا : بما ذا يا أمير المؤمنين؟ قال : تزوجت أمّ كلثوم بنت علي سمعت رسول الله يقول : «كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي وصهري» وكان لي به عليه الصلاة والسلام النسب والسبب ، فأردت أن أجمع إليه الصهر فرفئوه ، فتزوّجها على مهر أربعين ألفا ، فولدت له زيد بن عمر الأكبر ورقية» (٢).

وقال العسقلاني :

«قال ابن أبي عمر المقدسي ، حدّثني سفيان عن عمرو عن محمد بن علي : على أن عمر خطب إلى عليّ ابنته أمّ كلثوم ، فذكر له صغرها ، فقيل له : إنه ردّك فعاوده ، فقال له عليّ : أبعث بها إليك ، فإن رضيت فهي امرأتك ، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها ، فقالت : مه! لو لا أنك أمير المؤمنين للطمت عينيك» (٣).

__________________

(١) الإصابة ج ٤ / ٤٩٢.

(٢) أسد الغابة ج ٧ / ٣٧٧.

(٣) الإصابة في تمييز الصحابة ج ٤ / ٤٩٢ ، هذه الأخبار معارضة لأخبار أخر مفادها : أن عمر خطب أم كلثوم إلى الإمام علي فاعتلّ بصغرها ، فقال له : لم أكن أريد الباه ولكن سمعت رسول الله يقول : كل حسب ونسب ينقطع يوم القيامة ما خلا حسبي ونسبي. البحار ج ٤٢ / ٩٧ ح ٢٩.

٢٢٧

وا عجباه!

لا أصدّق ما أقرأ ، أن عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام يصل به الحال والاضطرار ـ كما يدّعي الحشوية ـ إلى أن يرخص عنده الشرف والغيرة ، فيعرض ابنته ـ التي طالما حرص على أن لا يراها رجل ـ على عمر ، فيكشف ساقها ليرى هل هو أبيض أم أسمر ضعيف أو سمين؟ ولا أصدّق أن أم كلثوم التي لم يبرد غليلها مما فعله ابن الخطّاب بأمها الصدّيقة الطاهرة ـ حينما دخل دارها وهتك سترها ولطم خدها حتى تناثر قرطها وهشّم أضلاعها ـ أن تقبل به زوجا ، وتشاطره البسمات! وهل أن أمّ كلثوم نسيت كل هذا؟!

والله إن شيئا من هذا لم يحصل ، حاشا أمير المؤمنين عليّ الذي ما عرف إلّا الحق والشهامة والغيرة والحمية على العرض والدين ، وحاشا أم كلثوم ابنة الطهر وسيّدة العفاف كأمها الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام.

والأنكى من ذلك أنها لم تستأمر لزواجها من عمر ، ثم بعد ذلك يستأمرها أبوها لزواجها من عون بن جعفر فلا تقبل به حتى يقهرها أبوها على القبول حيث قال لها : «أي بنية ، أن الله عزوجل قد جعل أمرك بيدك ، فأنا أحب أن تجعليه بيدي ، فقالت : أي أبة ، إني لامرأة أرغب فيما يرغب فيه النساء ، وأحب أن أصيب مما تصيب النساء من الدنيا ، وأنا أريد أن أنظر في أمر نفسي ، فقال : لا والله يا بنيّة ما هذا من رأيك ، ما هو إلا رأي هذين ـ أي الحسن والحسين ـ ثم قام فقال : والله لا أكلم رجلا منهما أو تفعلين ، فأخذا بثيابه ، فقالا : اجلس يا أبه ، فو الله على هجرتك من صبر ، اجعلي أمرك بيده ، فقالت : قد فعلت ، قال : فإني قد زوجتك من عون بن جعفر وأنه لغلام» (١).

وفي أخبار أخرى يوجد خلط واضطراب ، فخبر (٢) يقول أنها تزوجت بعد

__________________

(١) أسد الغابة ج ٧ / ٢٧٨ والإصابة ج ٤ / ٤٩٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٢ / ٩١ نقلا عن المناقب.

٢٢٨

عمر بثلاثة رجال هم : عون بن جعفر ثم محمّد بن جعفر ثم عبد الله بن جعفر.

وخبر (١) يقول : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام زوّجها من كثير بن عبّاس بن عبد المطلب ، لكنّ المشهور والمتسالم عليه أنها لم تتزوج بعد عون أحدا ، وذلك لأن محمدا وعونا قتلا في كربلاء مع الإمام الحسين عليه‌السلام ، وكان عون آنذاك زوجا لها ، زوّجه إياها أمير المؤمنين لمّا بلغ مبلغ الرجال (٢) فكيف ينسب الخبران المتقدمان أنها تزوّجت بمحمّد وبكثير؟

بل إن الشهيد الثاني يعتقد أن محمّد بن جعفر قتل في صفين (٣).

وعليه ، لمّا علمنا أن الإمام عليه‌السلام زوّجه ابنته لابن أخيه عون بن جعفر وهو يافع وبقي معها إلى زمن شهادته مع الإمام الحسين هو وأخوه محمّد ، فنقطع حينئذ أن ما جاء خلاف ذلك باطل.

إذن هذا الاضطراب يستلزم نسف القضية من أساسها ، ولو سلّمنا جدلا وقوعها ، فإن تهديد عمر بن الخطّاب ـ بأنه سيعور زمزم ولا يدع لآل البيت مكرمة إلا هدمها ، وليقطعن يد الإمام عليّ لتهمة السرقة ـ كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ، حيث اجتثته قدرة الإمام عليه‌السلام بتضرعه إلى الله تعالى ليصرف عنه كيد من أراد به وبأهله سوءا ، وكان الذي كان من ضربة أبي لؤلؤة الموفّقة فلم يبق إلّا ليال.

إشكال :

لقد جاء بواسطة خبرين ـ صحيحين سندا ـ إن أم كلثوم رضي الله عنها تزوّجها عمر ، فكيف لم يطّلع عليهما الشيخ المفيد ومن حذا حذوه حيث أنكر أصل الواقعة؟

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٩٢.

(٢) تنقيح المقال في معرفة الرجال ج ٢ / ٣٥٥ ترجمة عون بن جعفر.

(٣) تنقيح المقال ج ٣ / ٩١.

٢٢٩

والجواب :

هنا احتمالات :

(١) إمّا أن الشيخ ومن وافقه لم يطّلعوا على هذين الخبرين ، وهذا بعيد جدا في حق مشايخ الطائفة ، لا سيّما وأن لهم مصنفات في جمع الأخبار.

(٢) وإمّا أن يكونوا قد اطّلعوا ولكنّهم لم يأخذوا بمفادهما.

(٣) وإمّا أن الخبرين لم يكونا.

أوجه هذه الاحتمالات هو الثاني ، أما الأول فقد عرفت وجهه ، وأما الثالث فمدفوع بالأصل حيث لو لم يكونا قبل عصر المفيد ثم وجدا في بعض الكتب بعده لبان وظهر من خلال المقارنة بالنسخ القديمة السابقة على عصره ، مع أن الخبرين رواهما الشيخ الكليني في الكافي وهو متقدّم زمنا على الشيخ المفيد ، فالاحتمال ساقط من أساسه.

فلا يبقى مجال إلّا أن نقول : إن الشيخ وأمثاله لم يأخذوا بنظر الاعتبار صحة هذين الخبرين لأحد أمرين :

إمّا لاعتقادهم بأنّ هذين الخبرين مصدرهما العامة ، وأن الراوي لهما بالأصل هو أبو محمّد الحسن بن يحيى صاحب النسب ـ حسبما عبّر الشيخ المفيد نفسه عن ذلك ـ وإمّا لكثرة الاختلاف والاضطراب في أصل القضية المروية بالأخبار المختلفة ، مما أوجب اختلالها وعدم الوثوق بشيء منها ، وذلك يستلزم سقوطها عن الحجية.

ث ـ إنّ الخبرين المتقدّمين يتعارضان أيضا مع ما أورده صاحب البحار (١) نقلا عن النوبختي في كتابه «الإمامة» من أن أمّ كلثوم كانت صغيرة ومات عمر قبل

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٢ / ٩١.

٢٣٠

أن يدخل بها ؛ وكذا ما رواه الزرقاني المالكي ـ وهو من علماء العامة ـ من أن عمر مات عنها قبل بلوغها (١). هذا بالإضافة إلى معارضة ما رواه الزرقاني وغيره لما ورد في مصادرهم (٢) من أن عمر تزوّجها وبنى بها وأنجب منها ولدا. والحاكم النيسابوري قال إنه تزوّج بها (٣). فمع هذا التعارض الموجود في مصادرهم ، بل وفي مصادرنا حيث يتعارض خبر سليمان بن خالد وصحيحة (٤) عمار مع صحيحة هشام بن سالم حيث ورد فيها أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام تعلّل بالمنع من تزويجها بأنها صبيّة وحرمة نكاح الصغيرة من أبده البديهيات في شريعتنا والشرائع السماوية برمتها بل حرمته مقطوع بها عند عامة العقلاء ، فما بال أمير المؤمنين ـ وحاشاه ـ يزوّج ابنته الصغيرة لشيخ هدّده بتهمة السرقة ضاربا كل القيم عرض الجدار!! لا أظن عاقلا ينسب لأمير المؤمنين (الذي لا تأخذه في الله لومة لائم) ما نسبت إليه هذه المرويات ، اللهم إلّا أن يقال : أنّ تزوّجه منها كان لأجل حصول البركة ومصاهرة النبيّ ـ حسبما جاء في الرواية المتقدمة عن ابن الأثير الجزري والقسطلاني ـ لكنّه مردود لأن البركة لا تطلب عن طريق الحرام ، ومن يدّعي محبة رسول الله محمّد فيحبّ مصاهرته لا يقهر حفيدته على القبول به رغما عنها وعن أبيها ويتوعده بأليم العذاب وسوء العقاب. هذا مضافا إلى أن هذا القول يصطدم مع النقولات المضطربة والمشوشة والتي ألصقت بها ما لم يلصق بجارية أو أمّة من الاماء ، كما ألصقوا بأبيها ما لم يلصقوه بأرذل الناس حيث عرض ابنته وزيّنها ببردة وهي صبيّة صغيرة لكي يهواها عمر بن الخطّاب وتنال إعجابه ويكشف عن ساقها ويضع يده عليها!!

__________________

(١) شرح المواهب اللدنيّة ج ٧ / ٩.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٠ ، الطبقات الكبرى ج ٨ / ٤٦٣ ، الاستيعاب ج ٤ / ٤٩١ ، أسد الغابة ج ٥ / ٦١٥.

(٣) المستدرك ج ٣ / ١٤٢.

(٤) وكلا الروايتين في فروع الكافي ج ٦ / ١١٥ باب المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتد وما يجب عليها.

٢٣١

تنبيه :

قد يقال إن المراد من كونها صغيرة هو عدم نضجها بحيث لا يؤهلها للزواج وإن كانت بالغة آنذاك لكونها ولدت بعد العام الخامس الهجري وقبل الثامن ، فهي بالقياس إلى عمره آنذاك الذي كان بحدود ابن ثلاث وستين عاما وأشهرا ـ حسب رواية المشهور عند العامة ـ لا تصلح حينئذ للزواج منه ، ولكنّ هذا التعليل الوارد في الرواية من أنها صغيرة غير ناجع ، ولا أظن أن أمير المؤمنين عليّا قصده لعلمه الرباني بأنّ ابن الخطاب سيردّه ، بل لا أعتقد أن الإمام عليه‌السلام يخفى عليه التعليل بكونها كارهة له وغير راضية بأن يكون لها زوجا بعد أن رأت ما ذا فعل بأبيها وأمهاعليهم‌السلام.

وزبدة المقال :

أن قصة التزويج هذه من المفتعلات ولا أساس لها من الصحة لقيام القرائن على كذبها ، ووجود خبرين أو ثلاث في مصادرنا وإن كانت أسانيدها صحيحة إلّا أن ذلك لا يصحّح نسبة دلالتها إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لكثرة الدّس في أخبارهم ، لذا ورد عنهم وجوب عرض (١) الأخبار المنسوبة إليهم على كتاب الله وأخبار العامة «فما وافق أخبارهم وكان أميل إلى حكّامهم وقضاتهم فيترك لأن الرشد في خلافهم» فكيف يمكن حينئذ الاعتماد على هكذا أخبار لها خلفيات أموية ، ألم يركّب بنو أميّة الأسانيد على المتون؟! ألم يقلبوا كلّ فضيلة كانت لأمير المؤمنين عليّ إلى ضدها إلّا ما حفظته الصدور الأمينة؟ ألم يغلوا في أبي بكر حتى جعلوه الصدّيق وجعلوا عمر الفاروق وعثمان ذي النورين ، بل «جعلوا أبا بكر وعمر سيدي كهول أهل الجنّة ووزيري رسول الله في الأرض كما أن جبرائيل وميكائيل وزيراه في السماء ، ولو كان بعده نبي لكان عمر بن الخطاب وأن الشيطان ليخاف من عمر» (٢) إلى ما هنالك من فضائل ومكرمات لم تكن لأحد من الأولين

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٧٥ ح ١ باب وجوه الجمع بين الأحاديث.

(٢) أسد الغابة ج ٤ / ١٥٠ ـ ١٥٢.

٢٣٢

والآخرين ... بعد كلّ هذا كيف يمكن الاطمئنان إلى قصة التزويج (١) تلك؟!! لا ندري كيف انطلت اللعبة على البعض فصدّق بما نفثه بنو أميّة في أخبارنا ، اللهم أنت الحكم والفصل يوم تشخص فيه القلوب والأبصار.

__________________

(١) لعلّ أم كلثوم التي زعموا أنّها زوجة عمر بن الخطاب هي أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي والدة عبيد الله وزيد ، لا سيّما وأنهم نسبوا إلى ابنة أمير المؤمنين بأن لها من عمر ولدين هما : رقية وزيد ، فأحبّ بنو أميّة إلصاق هذه المنقبة بعمر بن الخطّاب.

٢٣٣

قال العلويّ : الأدلة في عدم إيمانه كثيرة ، ويكفي في ذلك.

إن المسلمين ـ وفيهم الصحابة ـ اجتمعوا عليه فقتلوه ، وأنتم تروون أن النبيّ قال : (لا تجتمع أمتي على خطأ) فهل يجتمع المسلمون ـ وفيهم الصحابة ـ على قتل (١) مؤمن؟

____________________________________

(١) استدلال العلويّ بالقول المنسوب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تجتمع أمتي على خطأ» على صحة قتل الناس عثمان بن عفان ، وكون ذلك دليلا على عدم إيمانه ، غير تام وذلك : لعدم وجود ملازمة بين استحقاق القتل وبين سلب صفة الإيمان عن مستحق القتل ، وإلّا لحكمنا بعدم إيمان كل من وجب عليه الحد أو القصاص ، ولا أحد قائل بهذا ، نعم إن ارتكاب المعصية ـ حسبما جاء في النصوص (١) ـ يسلب الإيمان ، وكلّما ازداد المرء معصية كلّما تناقص منه روح الإيمان إلى أن يضمحل ، وقد يكون مراد العلويّ بعدم الإيمان ، هو عدم الاعتقاد بما جاء به النبيّ بشأن خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ولكثرة ما ارتكبه عثمان من جرائر بحق المسلمين الآمنين ، فخانه التعبير ، فجعل ملازمة بين القتل وبين سلب الإيمان عنه ، وكان الأولى الاستدلال بأخبار ارتداد أصحابه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا لأعرفنّكم ترتدون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».

وفي خبر آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بينا أنا على الحوض ، إذ مرّ بكم زمرا فتفرق بكم الطرق ، فأناديكم : ألا هلمّوا إلى الطريق ، فيناديني مناد من ورائي ، إنهم بدّلوا بعدك فأقول ألا سحقا ، ألا سحقا» وقد رواهما العامة في مصادرهم.

__________________

(١) ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : إن الكذب هو خراب الإيمان. ميزان الحكمة ج ٦ / ٣٦٧٤ ، وورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : كان أبي يقول : ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة ، إن القلب ليواقع الخطيئة ، فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله. ميزان الحكمة ج ٣ / ٩٩٤.

٢٣٤

وقد استدل البعض ـ بهذا المقطع من المحاورة وبعض المقاطع الأخرى ـ على أن المحاورة فرضية ، وليس لها وجود خارجي ، فقال :

(إنه ـ أي العلوي ـ استدل بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمتي على خطأ» على صحة قتل الناس عثمان بن عفان ، وجعل ذلك دليلا على عدم إيمانه.

وغني عن البيان : أن الإجماع على قتل من ارتكب جريمة يستحق لأجلها القتل ، لا يعني الإجماع على سلب صفة الإيمان عنه ، لأن الإيمان شيء ، وارتكاب الجرائم الموجبة للقتل شيء آخر ، قد يجتمعان ، وقد يختلفان.

والحديث الشريف إنما يدل على استحقاقه للعقوبة ، ولا يدل على إجماعهم على عدم إيمانه. وعدم إيمانه إنما يثبت بدلائل أخرى ، لا بد من تلمّسها ، والتأمل فيها ، هذا كله بالإضافة إلى أن عليّا ، وكثيرا ممن كانوا معه لم يشاركوا في قتله ، وذلك معروف ومشهور ، وإن كان قتله لم يسر عليا ولم يسؤه كما روي عنه عليه‌السلام) (١).

ما قاله جيد إلّا أن فيه ملاحظتين :

الأولى : عدم مشاركة الأكثرية في قتل عثمان ، لا تلغي استحقاقه للقتل ، وما رواه عن الإمام عليّ عليه‌السلام (٢) بأن قتل عثمان لم يسره ولم يسؤه ـ فهو بالغض عن سنده ـ ضعيف دلالة ، فلا يصلح أن يكون دليلا على عدم استحقاق عثمان للقتل ، أو لا يكشف على عدم الرضا الواقعي عند الإمام عليه‌السلام ، كيف لا ، وقد ارتكب عثمان الكثير من الجرائر التي تستلزم إقامة الحد عليه ، وهذا قطعا مما يسر الإمام عليه‌السلام لكونه مرغوبا به عند المولى عزوجل ، وليس قتله برزخا بين السرور

__________________

(١) مأساة الزهراء عليها‌السلام : ج ١ / ٣٧٣.

(٢) وهي ما رواه الواقدي من العامة عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمّار بن ياسر عن أبيه قال : رأيت عليّا عليه‌السلام على منبر رسول الله حين قتل عثمان وهو يقول : «ما أحببت قتله ولا كرهته ولا أمرت به ولا نهيت عنه» وفي رواية قال : «ولا مالأت على قتله ، ولا ساءني ولا سرني».

٢٣٥

والحزن ـ حسبما ادّعي ـ بل هو إما سرور لكونه أقيم عليه الحد ، وإما حزن باعتباره ـ أي عثمان ـ غير مستحق للقتل.

هذا مضافا إلى معارضة الخبر لأخبار أخر كقول الإمام عليه‌السلام : «ألا من كان سائلا عن دم عثمان فإن الله قتله وأنا معه» وكيفية الجمع بين قوله عليه‌السلام : ما أمرت بذلك ولا نهيت عنه» وبين ما تقدم ، أن قاتلي عثمان لم يرجعوا في قتله إلى الإمام عليه‌السلام ولم يكن منه قول في ذلك بأمر ولا نهي ، ومعنى أن الله قتله» إن الله حكم بقتله وأوجب وأنا كذلك ، وقد جمع الشيخ الطوسي بين هذه الوجوه المتعارضة في تلخيص الشافي.

الثانية : من أين أثبت سماحة السيّد «أن الحديث شريف»؟ مع أن الحديث المذكور ضعيف من الناحية السندية والدلالتية ، أما من حيث السند فلكونه من المراسيل (١) الضعاف ، وأما من حيث الدلالة فلكونه من مبتدعات أبي بكر عند ما احتج أمير المؤمنين عليه‌السلام بثلاث وأربعين خصلة ، فقد ورد عن مولانا الإمام السجّاد عليه‌السلام قال : لمّا كان من أمر أبي بكر وبيعة الناس له وفعلهم بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ما كان لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه انقباضا فكبر ذلك على أبي بكر فأحبّ لقاءه واستخراج ما عنده والمعذرة إليه لمّا اجتمع الناس إليه وتقليدهم إياه أمر الأمّة وقلّة رغبته في ذلك وزهده فيه ، أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة وقال له : والله يا أبا الحسن ما كان هذا الأمر مواطاة منّي ، ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولا حرصا عليه ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمّة ولا قوّة لي لمال ولا كثرة العشيرة ولا ابتزاز له دون غيري فمالك تضمر عليّ ما لم أستحقّه منك وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه وتنظر إليّ بعين السأمة مني؟ قال : فقال له عليه‌السلام : فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ولا حرصت عليه ولا وثقت بنفسك في القيام به ، وبما يحتاج منك فيه ، فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول الله :

__________________

(١) لاحظ ما قاله المحقق الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ / ١٣٩.

٢٣٦

«إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال» ولما رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبيّ وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى وأعطيتهم قود الإجابة ولو علمت أنّ أحدا يتخلّف لامتنعت. قال: فقال عليّ عليه‌السلام : أمّا ما ذكرت من حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال» أفكنت من الأمة أو لم أكن؟ قال : بلى ، قال عليه‌السلام : وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمّار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟ قال : كلّ من الأمّة ، فقال علي عليه‌السلام : فكيف تحتجّ بحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك وليس للأمّة فيهم طعن ولا في صحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصيحته منهم تقصير ، قال : ما علمت بتخلّفهم إلّا من بعد إبرام الأمر وخفت إن دفعت عني الأمر أن يتفاقم إلى أن يرجع الناس مرتدّين عن الدّين وكان ممارستكم إليّ أن أجبتم أهون مئونة على الدّين وأبقى له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعوا كفّارا ، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم ..» (١).

وهل شرافة الحديث مقتبسة من رواية أبي بكر له أم هناك شيء لم يطلعنا عليه صاحب الدعوى؟!

إن الحديث المذكور يوجب عصمة الأمة من الخطأ ، وقد قام الدليل على بطلان ذلك لعدم اختصاص الأمة بالإمامية كما هو ظاهر في نفسه ، ويظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة» ، ولو سلّمنا اختصاصه بالإمامية فلا نعتقد أحدا يدّعي اجتماع كلّ أفرادها حول الحق ، بل فيها الشرير والسكّير والصالح والطالح ، وهل يجتمع كل هؤلاء على الهدى وقد انقسموا إلى صنفين وجبهتين؟!.

وللشيخ المفيد كلام في هذا المجال نعرضه لأهميته قال :

[فإن قال : أفليس قد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما كان الله ليجمع أمتي

__________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق ص ٥٤٨.

٢٣٧

على ضلال» فكيف يصحّ اجتماع الأمة على دفع المستحق عن حقه والرضا بخلاف الصواب ، وذلك ضلال بلا اختلاف؟

قيل له : أول ما في هذا الباب أن الرواية لما ذكرت غير معلومة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما جاءت بها الأخبار على اختلاف من المعاني والألفاظ ، وقد دفع صحّتها جماعة من رؤساء أهل النظر والاعتبار ، وأنكرها إمام المعتزلة وشيخها إبراهيم بن سيّار النظّام.

وبعد : فلو ثبت ما ضرّنا فيما وصفناه ، لأنّا لا نحكم بإجماع أمة الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدّمون على أمير المؤمنين عليه‌السلام فكيف نحكم بذلك ونحن نعلم يقينا ـ كالاضطرار ـ خلاف الأنصار في عقد الإمامة على المهاجرين ، وإنكار بني هاشم واتباعهم على الجميع في تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد جاءت الأخبار مستفيضة بأقاويل جماعة من وجوه الصحابة في إنكار ما جرى ، وتظلّم أمير المؤمنين عليه‌السلام من ذلك برفع الصوت والإجهار؟!

وكان من قول العبّاس بن عبد المطلب عمّ رسول الله ما قد عرفه الناس ، ومن أبي سفيان بن حرب والزبير بن العوّام أيضا ما لا يخفى على من سمع الأخبار ، وكذلك من عمّار بن ياسر وسلمان وأبي ذر والمقداد وبريدة الأسلمي وخالد بن سعيد بن العاص في جماعات يطول بذكرها الكلام.

وهذا يبطل ما ظنّه الخصم من اعتقاد الإجماع على إمامة المتقدّم على أمير المؤمنين عليه‌السلام على أنه لا شبهة تعرض في إجماع الأمة على أبي بكر وعمر وعثمان إلّا وهي عارضة في قتل عثمان بن عفان ، وإمامة معاوية من بعد صلح الحسن عليه‌السلام ، وطاعة يزيد بعد الحرّة ، وإمامة بني أميّة وبني مروان.

فإن وجب لذلك القطع بالإجماع على الثلاثة المذكورين حتّى تثبت إمامتهم ويقضى لهم بالصواب ليكون جميع من ذكرناه شركاءهم في الإمامة ، وثبوت الرئاسة الدينية والسلطان ، إذ العلة واحدة فيما أوجب لهم ذلك ، فهو ظاهر التسليم

٢٣٨

والانقياد على الاجتماع ، وترك النكير والخلاف ، وهذا ما يأباه أهل العلم كافّة ، ولا يذهب إليه أحد من أهل التمييز لتناقضه في الاعتقاد.

فإن قال قائل : أليس قد روى أصحاب الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «خير القرون القرن الذي أنا فيه ، ثم الذين يلونه».

وقال عليه‌السلام : «إن الله تعالى اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

وقال عليه‌السلام : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فكيف يصحّ مع هذه الأحاديث أن يقترف أصحابه السيئات ، أو يقيموا على الذنوب والكبائر الموبقات؟

قيل له : هذه أحاديث آحاد ، وهي مضطربة الطرق والإسناد ، والخلل ظاهر في معانيها والفساد ، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الإجماع ولا يقابل حجج الله تعالى وبيناته الواضحات ، مع أنه قد عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الإسناد ، ورواها الثقات عند أصحاب الآثار ، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتفاق ، ما ضمن خلاف ما انطوت عليه فأبطلها على البيان :

فمنها : ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لا تبعتموهم ، فقالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : فمن إذن.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفّي فيه : «أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الأولى».

وقال عليه‌السلام في حجة الوداع لأصحابه : «ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ألا لأعرفنّكم ترتدون بعدي كفارا ، يضرب بعضكم

٢٣٩

رقاب بعض ، ألا إني قد شهدت وغبتم» (١).

وبالجملة فإن الأمة أجمعت على استحقاق عثمان القتل ، وقد شارك في قتله ثلة من الصحابة والتابعين ، قال ابن أبي الحديد :

«.. وكثر الناس على عثمان ، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون ، ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب إلا نفير : زيد ابن ثابت ، وأبو أسيد الساعدي ، وكعب بن مالك ، وحسان بن ثابت» (٢).

وقد ذكر المؤرخون مسير من سار إلى حصر عثمان فلاحظ (٣).

__________________

(١) الإفصاح في الإمامة للشيخ المفيد ص ٤٧ ـ ٥٠.

(٢) شرح النهج ج ٢ / ١٤٠ ط / دار المعارف بمصر ، وتاريخ الطبري ج ٣ / ٣٩٩ حوادث عام ٣٥ ه‍.

(٣) الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٥٤ ـ ١٧٩ حوادث عام ٣٥ ، وكذا تاريخ الطبري.

٢٤٠