أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

يعرف القراءة والكتابة ، فأراد إزالة هذا التوهم ليعطي صورة جلية عن شخصية كريمة عند الله عزوجل وأن من كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى لا تخفى عليه الحروف والكلمات ، لذا جاء في الخبر (١) أنه لمّا [قال له الأمير عليه‌السلام : «لا أمحوك أبدا» فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب فكتب ..].

مضافا إلى أنه قد يكون عدم الامتثال تكليفا خاصا بالإمام عليه‌السلام من قبل رسول الله حتى يتسنّى له أن يظهر للناس من أن ابن عمه ووصيّه سيبتلى بمثلها لأنه أحق بهذا الأمر حسبما جاء في الأخبار ، والله أعلم.

كلّ هذا في حال سلّمنا بصحة صدور هذا المقطع عن رسول الله وإلّا فما يدريك لعلّه من فعل الدساسين ليبرّروا مخالفات كبرائهم وخلفائهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٢٠٤ ، والمراد ب «ليس يحسن» أي لا يعرف ـ بنظر الناس ـ القراءة والكتابة لكونه لا يتعاطاهما ، فتأمل.

٢٠١

قال الملك : عجيب .. عجيب جدا ، إني كنت أعتبر عمر من السابقين إلى الإسلام ، وأعتبر إيمانه إيمانا مثاليا ، والآن ظهر لي في أصل إيمانه شك وشبهة.

قال العبّاسي :

مهلا أيّها الملك ، ابق على عقيدتك ، ولا يخدعك هذا العلويّ الكذّاب.

فأعرض الملك بوجهه عن العبّاسي وقال مغضبا :

إنّ الوزير نظام الملك يقول :

إنّ العلوي صادق في كلامه ، وإن قول عمر وارد في الكتب ، وهذا الأبله ـ يعني العبّاسي ـ يقول إنه كاذب ، أليس هذا العناد بعينه؟

ساد المجلس سكون رهيب ، فقد غضب الملك وانزعج من كلام العبّاسي وأطرق العبّاسي وسائر علماء السنّة.

وصمت الوزير .. وبقي العلوي رافعا رأسه ينظر في وجه الملك ليرى النتيجة!

مرت لحظات صعبة على العبّاسي ، تمنّى فيها أن تنشق الأرض تحته فيغيب فيها ، أو يأتيه ملك الموت فيقبض روحه فورا من شدة الخجل وحرج الموقف ، فلقد ظهر بطلان مذهبه ، وظهرت خرافة عقيدته أمام الملك ووزيره وسائر العلماء والأركان ..

ولكن ما ذا يصنع؟

٢٠٢

لقد أحضره الملك للسؤال والجواب ، ولتمييز الحق من الباطل ، ولهذا استجمع قواه ورفع رأسه وقال :

وكيف تقول أيّها العلوي أنّ عثمان لم يكن مؤمنا في قلبه ، وقد زوّجه الرسول ابنتيه رقيّة وأم كلثوم؟ (١).

____________________________________

(١) زواج رقيّة وأم كلثوم من عثمان بن عفّان من المشهورات في التاريخ الإسلامي عند الخاصة والعامة ، وربّ مشهور لا أساس له ، سيّما وأن الذين قالوا بصحة هذا الزواج أناس انتشر صيتهم ، وعرفوا بالتحقيق في فترة زمنية قل فيها العلماء المتخصصون ، والناس عادة مع ما شاع واشتهر وإن كان خطأ ، فيرسلونه إرسال المسلمات.

ومنشأ الاعتقاد بهذا الزواج هو وجود روايتين تدلان على ذلك رواهما صاحب البحار (١) نقلا عن قرب الإسناد والخصال ، وهما ـ وبالغض عن سنديهما ـ موافقان للعامة القائلين بزواج تينك المرأتين من عثمان بن عفان الذي أصبغوا عليه لقب «ذو النورين» في حين لم يصبغوه على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي اقترن بأفضل امرأة عرفتها البشرية منذ آدم إلى ولادتها بل إلى يوم البعث ، مع اعتراف العامة أن الصدّيقة سيّدة نساء العالمين ، وأصبغ عليها ألقابا لم يصبغها على أية امرأة في العالم ، كالزهراء والطاهرة وتفاحة الفردوس ومهجة فؤاد المصطفى وأم أبيها الخ ..

والشيخ المفيد ممن اعتقدوا بصحة هذا الزواج ، معتمدا ـ بحسب دعواه ـ على أن الزواج كان على ظاهر الإسلام ، فقال :

«وليس ذلك بأعجب من قول لوط عليه‌السلام ـ كما حكى الله تعالى عنه ـ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥١.

٢٠٣

(هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (١) فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفّار ضلّال قد أذن الله تعالى في هلاكهم.

وقد زوّج رسول الله ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام ، أحدهما : عتبة بن أبي لهب ، والآخر : أبو العاص بن الربيع.

فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرّق بينهما وبين ابنتيه ، فمات عتبة على الكفر ، وأسلم أبو العاص بعد إبانة الإسلام ، فردّها عليه بالنكاح الأول.

ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال من الأحوال مواليا لأهل الكفر وقد زوّج من تبرّأ من دينه ، وهو معاد له في الله عزوجل.

وهاتان البنتان هما اللتان تزوجهما عثمان بن عفّان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص ، وإنما زوّجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ظاهر الإسلام ، ثم إنه تغيّر بعد ذلك ، ولم يكن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبعة فيما يحدث في العاقبة ، هذا على قول بعض أصحابنا.

وعلى قول فريق آخر : أنه زوّجه على الظاهر ، وكان باطنه مستورا عنه ، وليس بمنكر أن يستر الله عن نبيه نفاق كثير من المنافقين وقد قال سبحانه (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ) (٢) فلا ينكر أن يكون في أهل مكة كذلك ، والنكاح على الظاهر دون الباطن على ما بيّناه» (٣).

يرد عليه :

إن عرض لوط عليه‌السلام لبناته على قومه يعتبر حكما اضطراريا وعنوانا ثانويا دفعا لفاحشة اللواط التي كانت سائدة يوم ذاك في قومه ، فقياسها على تزويج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبناته من كافرين مع الفارق ، هو أنه لا يوجد عنوان اضطراري حتى يلجأ النبيّ ليزوّج ابنتيه منهما.

__________________

(١) سورة هود : ٧٨.

(٢) سورة التوبة : ١٠١.

(٣) المسائل السروية / المسألة العاشرة.

٢٠٤

هنا أمران وأمّا دعواه ـ كغيره ممن تبعه عليها ـ من أن رقية وزينب تزوّجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص ، فلا تكون صحيحة إلّا بعد التسليم بأمرين :

١ ـ أن تينك الفتاتين قد تزوجتا بذينك الكافرين.

٢ ـ التسليم بكونهنّ ابنتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما الأمر الأول :

فالشيخ المفيد عليه الرحمة ، أشار إلى أن الفتاتين هما رقية وزينب ـ حسبما أفاد في «المسألة الخمسون» من المسائل الحاجبية ؛ وهما اللّتان تزوّجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة ، وموت أبي العاص ـ حسبما أفاد في المسائل السروية. وما اعتمده الشيخ المفيد هو بعينه ما ذكره الشيخ أبو القاسم (١) الكوفي المتوفى عام ٣٥٢ ه‍ في كتاب الاستغاثة.

ولكنّ ما وجدناه في قرب الإسناد (لمؤلفه الثقة أبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري من أصحاب الإمام العسكري عليه‌السلام ، وقد تشرف بمكاتبات من الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف) أن عثمان تزوّج أولا بأم كلثوم ، وثانيا برقية ، قال : حدّثني مسعدة بن صدقة ، قال : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال :

«ولد لرسول الله من خديجة : القاسم والطاهر ، وأم كلثوم ورقية وفاطمة وزينب ، فتزوج عليّ عليه‌السلام فاطمة عليها‌السلام ، وتزوّج أبو العاص بن ربيعة ـ وهو من بني أمية ـ زينب ، وتزوّج عثمان بن عفان أم كلثوم ولم يدخل بها حتى هلكت ، وزوّجه رسول الله مكانها رقية ...» (٢).

كما روى الصدوق الخبر المتقدم نفسه بسند آخر (٣) :

__________________

(١) صاحب الاستغاثة متقدم زمنا على الشيخ المفيد.

(٢) قرب الإسناد ص ٩ ح ٢٩.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥١ ح ٣ نقلا عن الخصال للصدوق.

٢٠٥

فواحدة متفق عليها ـ وهي رقية ـ وأخرى مختلف فيها ـ وهي بنظر المفيد زينب وبنظر الحميري والصدوق ، أم كلثوم ـ ولا نعلم المستند الذي اعتمده الشيخ أبو القاسم الكوفي في الاستغاثة ، لذا لا يمكن لروايته أن تعارض رواية الحميري.

وعلى فرض المعارضة ـ لوجود رواية اعتمدها صاحب الاستغاثة ـ لا يمكن تقديم روايته على رواية الحميري والصدوق إلّا إذا كانت بنحو مستفيض ، وشيء من هذا ليس حاصلا. ومهما يكن ، فالإشكال يبقى على حاله ـ سواء قدّمنا رواية الحميري أم رواية أبي القاسم الكوفي ـ وهو : هل أن الفتاتين المنسوبتين إلى رسول الله قد تزوّجتا بعتبة وأبي العاص أم لا؟.

ويشهد أنهنّ لم يتزوجن بعتبة وأبي العاص ما يلي :

١ ـ أن أغلب المصادر التاريخية تذكر أن جميع أولاد النبيّ ولدوا في الإسلام إلا عبد مناف ولد في الجاهلية حسبما ورد في رواية عامية ضعيفة.

قال المقدسي : «عن سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، قال :

ولدت خديجة لرسول الله : عبد مناف في الجاهلية ، وولدت له في الإسلام غلامين وأربع بنات : القاسم ، وبه كان يكنى أبا القاسم ، فعاش حتى مشى ثم مات وعبد الله مات صغيرا ، وأم كلثوم وزينب ورقية ، وفاطمة» (١).

وقال القسطلاني والديار بكري : «وقيل ولد له قبل المبعث ولد يقال : عبد مناف فيكونون على هذا اثني عشر ، وكلهم سوى هذا ولدوا في الإسلام بعد المبعث» (٢).

وقال الزبير بن بكار وغيره : بأن عبد الله ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية ، قد ولدوا كلهم بعد الإسلام.

__________________

(١) البدء والتاريخ ج ٥ / ١٦.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ / ٢٧٢.

٢٠٦

وقال السهيلي : «كلهم ولدوا بعد النبوة» (١).

فإذا كانتا ـ أي رقية وأم كلثوم ـ قد ولدتا بعد الإسلام ، فكيف يصح أن يقال أنهما تزوجتا في الجاهلية بكافرين؟!

٢ ـ تشير بعض المصادر : أن رقية كانت أصغر بنات النبي ، حتى من الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام (٢) ، بل إن بعضهم يعتقد أن أم كلثوم كانت هي الأصغر من الكل (٣).

فإذا صح ذلك فكيف يقال إنهما تزوجتا قبل الإسلام ، لا سيّما أن أشهر الروايات نصت أن الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ولدت في السنة الخامسة بعد البعثة ، وعليه «فكيف تكون رقية قد تزوجت في الجاهلية بابن أبي لهب ، ثم لمّا بعث رسول الله أسلمت ، فطلقها زوجها ليتزوجها عثمان ، فتحمل وتسقط في السفينة حين الهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة بعد البعثة»؟ (٤).

٣ ـ يوجد اضطراب في الأخبار بشأن أم كلثوم ورقية ، فبعض منها ينصّ على أن عثمان تزوج أم كلثوم فماتت ولم يدخل بها ، ثم زوّجه النبيّ اختها رقية بعد معركة بدر ، وبعض ينصّ على أنه تزوج رقية في مكة وهاجر بها إلى الحبشة ، وهذا الاضطراب يوجب الاختلال في تقديم طائفة على طائفة ، لكون الطائفتين من الروايات أخبار آحاد لا يعوّل عليها.

هذا مضافا إلى اضطراب ما ذكروا : من أن أبا لهب قد أمر ولديه بطلاق بنتي النبي بعد نزول سورة «تبت يد أبي لهب» بحجة أن هاتين البنتين قد صبتا إلى دين أبيهما ، ثم إن عثمان تزوّج رقية وهاجر بها إلى الحبشة ، وهذا بدوره يتنافى مع قولهم أن السورة قد نزلت حينما كان المسلمون محصورين في شعب أبي طالب ،

__________________

(١) بنات النبي أم ربائبه ص ٣٣ نقلا عن المصادر العامية.

(٢) الإصابة ج ٤ / ٣٠٤ ودلائل النبوة ج ٢ / ٧٠.

(٣) زاد المعاد لابن القيم ج ١ / ٢٥ والطبقات الكبرى ج ١ / ١٣٣.

(٤) بنات النبي للسيّد المحقّق أخي العلّامة جعفر مرتضى ص ٦٢.

٢٠٧

لأن بداية الحصار في الشعب كان في السنة السادسة من البعثة أي بعد الهجرة إلى الحبشة بسنة!

وعليه ، إذا كانت رقية وأم كلثوم قد ولدتا بعد البعثة ، وإذا كان أبو لهب قد أمر ولديه بطلاق البنتين بعد نزول سورة «المسد» في العام السادس للبعثة أي يوم حصار شعب أبي طالب ، فكيف يمكن الجمع بين ولادة البنتين بعد البعثة وبين نزول السورة في العام السادس للبعثة؟!!

بل الأعجب من ذلك كيف يمكن أن يجمع العامة بين ولادة البنتين بعد البعثة وبين الزواج من ابني أبي لهب ، ثم الطلاق منهما ، ثم زواج رقية من عثمان ومهاجرتها إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة؟!!

هذا مضافا إلى وجود روايات (١) تشير إلى أن نزول سورة «تبت» في السنة الثالثة للبعثة بعد نزول آية إنذار العشيرة (وانذر عشيرتك الأقربين) ، فعلى هذا القول أيضا ، يتأكد استحالة الجمع المذكور.

٤ ـ إن القول بزواج رقية وأم كلثوم بابني أبي لهب يتوقف على أن تكون خديجة قد تزوّجت برسول الله وفي وقت مبكر قبل البعثة ، والآراء في ذلك ستة :

١ ـ قبل البعثة : بعشرين سنة.

٢ ـ قبل البعثة : بستة عشر سنة.

٣ ـ قبل البعثة : بخمسة عشر سنة.

٤ ـ قبل البعثة : بعشر سنين.

٥ ـ قبل البعثة : بخمس سنين.

__________________

(١) أسباب النزول ص ٣٧٨ قال الواحدي : لما أنزل الله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أتى رسول الله الصفا فصعد عليه ثم نادى «يا صباحاه» فاجتمع إليه الناس. فقال : يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني لؤي ، لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، ما دعوتنا إلا لهذا ، فأنزل الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ).

٢٠٨

٦ ـ قبل البعثة : بثلاث سنين.

أرجح الأقوال هو السادس وذلك لأن عمر خديجة عليها‌السلام يوم وفاتها خمسون سنة على الأصح (١). وبقية الأقوال لا تساعد عليها القرائن وذلك : أما على الرأي الأول فيكون عمرهاعليها‌السلام يوم ماتت ٧٢ عاما لأن عمرها يوم تزوجت ـ حسبما عليه جمهور العامة ـ أربعون عاما ، يضاف إليها عشرون قبل البعثة ، ثم اثنا عشر ما بعد البعثة ، فيكون المجموع ما ذكرنا ، وهو خلاف المشهور من أن عمرها يوم ماتت خمسون عاما.

وعلى الرأي الثاني يكون مجموع عمرها يوم ماتت ٦٨ عاما ، وعلى الرأي الثالث ، عمرها ٦٧ عاما ، وعلى الرابع ٦٢ عاما. وعلى الخامس ٥٧ عاما ، فيكون عمر رقية وأم كلثوم حدود الأربعة أو خمسة سنين.

ويرجح ما قلنا أنهم قالوا : إنها عليها‌السلام لم تلد في الجاهلية سوى عبد مناف. هذا مضافا إلى «تأكيد الدولابي والدياربكري : أن عثمان قد تزوّج رقية في الجاهلية. ومعنى ذلك أن ما يذكرونه من زواج بنتي رسول الله بابني أبي لهب لا يصح ، إذا لوحظ ما يذكرونه من سبب طلاقهما إياهما.

فالقول بأن رقية وأم كلثوم قد ولدتا في الجاهلية ، ثم كبرتا ، وتزوجتا بابني أبي لهب ، ثم بعثمان ، يصبح موضع شك وريب» (٢). بل هو باطل قطعا لأن زواج عثمان متأخر عن زواج ابني أبي لهب وذلك بملاحظة ما ورد من أن رقيّة وأم كلثوم كانتا أصغر من الصدّيقة الطاهرة التي ولدت في السنة الخامسة من البعثة على أرجح الأقوال. هذا مضافا إلى أنّ جماعة من المؤرخين ـ أمثال القسطلاني والمقدسي والسهيلي ـ نصوا على أن أولاد النبيّ كلّهم قد ولدوا بعد النبوة باستثناء عبد مناف بحسب بعض الأقوال.

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ج ١ / ٧١.

(٢) بنات النبي ص ٧٥.

٢٠٩

٥ ـ لم يرو التاريخ أن أم كلثوم أو زينب اللتان يدّعى أنهما ابنتا النبيّ وأنهما طلّقتا وأن عثمان قد تزوّج بإحداهنّ بعد الهجرة بسنوات ، إن لهاتين ذكرا حين الهجرة إلى المدينة ، وحينما حمل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام معه الفواطم وأم أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين.

وليس ثمة أية إشارة إلى أم كلثوم أو زينب ، فهل هاجرتا قبل ذلك أو بعده؟ ومع من؟ ولما ذا؟ أم أنها قد جعلت في جملة الضعفاء؟ فلما ذا إذن أفردت عن أختها الصدّيقة الزهراءعليها‌السلام ، وعن أم أيمن ، وجعلت في جملة ضعفاء المؤمنين؟ وهل أن أم أيمن أفضل من بنات النبي حتى أفردت عنهنّ؟!

٦ ـ دلت الأخبار المستفيضة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفى مصاهرة غير أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، حيث ورد انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

يا عليّ أوتيت ثلاثا لم يؤتهنّ أحد ولا أنا ، أوتيت صهرا مثلي ولم أوت أنا مثلي ، وأوتيت صدّيقة مثل ابنتي ولم أوت مثلها ، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما ولكنّكم مني وأنا منكم (١).

فلو كان عثمان أو أبو العاص قد تزوجا بنات رسول الله لم يصح منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك القول ، لا سيّما وأن هذا الكلام قد صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ولادة الحسنين عليه‌السلام فلا مجال لدعوى : أن عثمان قد يكون تزوّج بإحدى بناته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد صدور هذا القول منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

قد يقال : إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أوتيت صهرا مثلي ولم أوت أنا ..» يراد منه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرزق بصهر يحمل صفات روحية لا يحملها أحد من الناس حتى أصهرته الآخرين كعثمان.

قلنا : هذا التوجيه مردود وإلا لكان قال : أوتيت صهرين لم أوت مثلهما ـ لا

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٥ / ٧٤ نقلا عن مناقب الشافعي.

(٢) بنات النبي ص ١٠٠.

٢١٠

سيّما وأن القوم أصبغوا عليه لقب ذي النورين. هذا مضافا إلى أن عبد الله بن عمر احتجّ على من قال له في فتنة ابن الزبير : «... فما قولك في عليّ وعثمان؟!

قال : أمّا عثمان ، فكان الله عفا عنه ، وأمّا أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه ، وأمّا عليّ ، فابن عم رسول الله وختنه ، وأشار بيده ، فقال : هذا بيته حيث ترون» (١).

فلو كان عثمان صهرا لرسول الله لكان المناسب لابن عمر أن يستدل به على السائل ، بل كان أنسب من غيره ، وذلك للحاجة الماسة إلى كل ما من شأنه أن يظهر قربه من النبي ومقامه منه ـ لو كان ـ بغية دفع الشبهة عن عثمان حين فرّ في أحد. فلو كان عثمان صهرا للنبيّ كأمير المؤمنين عليّ لما أجلّ ابن عمر ذكر هذه المنقبة لعثمان؟!

وأما الأمر الثاني :

فلا نقطع بصحة ما قيل من أن لرسول الله بنات غير الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، وما ورد في خبر واحد في مصادرنا لا يعوّل عليه بعد ما عرفت من القرائن في الأمر الأول ، هذا مضافا إلى موافقته لأخبار العامة القائلين بصحة ذلك لينسبوا فضيلة لعثمان بن عفّان ، وما كان موافقا لأخبارهم لا حجية فيه عندنا ، بل على فرض التسليم بصحة الخبر الذي دل على وجود بنات لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحمل على كونهنّ ربائب قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتربيتهنّ ، وقد كان العرب يطلقون على ربيبة الرجل : إنها ابنته ، كما هو معروف ، ولو قلنا بأنهنّ بنات له حقيقة لا ادعاء «فلعلهنّ متن وهن صغار» (٢) ، مما حمل القصاصون الأمويون على أن ينسبوا أمر تزويجهنّ لعثمان.

لكنّ الأخير غير سديد لعدم وجود دليل عليه ، فالأرجح أنهنّ ربائبه وذلك لأمور :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ / ٦٨.

(٢) بنات النبي أم ربائبه ص ١١٤.

٢١١

الأول : ما أفاده المحدّث الثقة الجليل أبو القاسم الكوفي المتوفى عام ٣٥٢ ه‍ : «روى مشايخنا من أهل العلم عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، والرواية صحيحة عندنا عنهم ، أنه كانت لخديجة بنت خويلد من أمها أخت يقال لها «هالة» قد تزوجها رجل من بني مخزوم ، فولدت بنتا اسمها هالة ، ثم خلف عليها بعد أبي هالة رجل من تميم يقال له أبو هند ، فأولدها ابنا كان يسمى هندا ابن أبي هند ، وابنين ، فكانتا هاتان الابنتان منسوبتين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زينب ورقية من امرأة أخرى قد ماتت ، ومات أبو هند ، وقد بلغ ابنه مبالغ الرجال ، والابنتان طفلتان ، وكان في حدثان تزويج رسول الله بخديجة بنت خويلد ، وكانت هالة أخت خديجة فقيرة ، وكانت خديجة من الأغنياء الموصوفين بكثرة المال ، فأما هند ابن أبي هند فإنه لحق بقومه وعشيرته بالبادية وبقيت الطفلتان عند أمهما هالة أخت خديجة ، فضمت خديجة أختها هالة مع الطفلتين إليها ، وكفلتهم.

وكانت هالة أخت خديجة هي الرسول بين خديجة وبين رسول الله في حال التزويج ، فلما تزوّج رسول الله بخديجة ، ماتت هالة بعد ذلك بمدة يسيرة ، وخلفت الطفلتين زينب ورقية في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحجر خديجة فربياهما ، وكان من سنّة العرب في الجاهلية من يربّي يتيما ينسب ذلك اليتيم إليه ، وإذا كانت كذلك فلم يستحل لمن يربيها تزويجها لأنها كانت عندهم بزعمهم بنت المربي لها ، فلما ربّى رسول الله وخديجة هاتين الطفلتين الابنتين ، ابنتي أبي هند زوج أخت خديجة ، نسبتا إلى رسول الله وخديجة ولم تزل العرب على هذه الحال ..» (١).

وقال ابن شهرآشوب :

«تزوّج ـ أي النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بمكة أولا خديجة بنت خويلد .. وروى أحمد البلاذري ، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والمرتضى في الشافي ، وأبو جعفر في التلخيص : أن النبيّ تزوّجبها وكانت عذراء ، ويؤكد ذلك ما ذكر في

__________________

(١) الاستغاثة ص ٨٠ ـ ٨١ ، ط / قم.

٢١٢

كتابي الأنوار والبدع ، أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة» (١).

ونقل صاحب البحار عن المناقب قال : «وفي الأنوار والكشف واللمع وكتاب البلاذري أن زينب ورقيّة كانتا ربيبتيه من جحش ..» (٢).

فما ذكره أبو القاسم الكوفي وغيره يكفي في إثبات كون البنتين ربيبتين وأمهما هالة أخت خديجة ، وأن خديجة لم تتزوج بأحد قبل البعثة سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ادّعاه القوم من زواجها برجل غير النبي مخدوش به لا يصلح أن يكون دليلا لاضطراب المعلومات التي يقدّمها مدّعو تزويجها بغير النبيّ ، فقد جاءت هذه المعلومات متناقضة ومتضاربة ، هل اسم أبي هالة الذي تزوجته خديجة هو «النباش بن زرارة» أو «زرارة بن النباش» أو اسمه «هند» أو «عتيق» (٣) أو مالك بن النباش بن زرارة التميمي الأسدي ، إلى ما هنالك من اختلافات (٤) واضطرابات كثيرة لا يمكن الجمع بينها ، مما يستلزم سقوطها عن الحجية.

الثاني : قال أبو القاسم الكوفي أيضا :

«إن خديجة لم تتزوج بغير رسول الله ، وذلك أن الإجماع من الخاص والعام من أهل الآنال (الآثار ظ) ونقلة الأخبار على أنه لم يبق من إشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم إلّا من خطب خديجة ورام تزويجها فامتنعت على جميعهم من ذلك ، فلما تزوجها رسول الله غضب عليها نساء قريش وهجرنها وقلن لها خطبك إشراف قريش وأمراؤهم ، فلم تتزوجي أحدا منهم؟ وتزوجت محمّدا يتيم أبي طالب ، فقيرا ، لا مال له؟

فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوجها أعرابي من تميم ، وتمتنع من سادات قريش وإشرافها على ما وصفناه؟! ألا يعلم ذو التمييز والنظر أنه

__________________

(١) المناقب ج ١ / ١٥٩.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٥٢ نقلا عن المناقب.

(٣) لاحظ : المناقب ج ١ / ١٥٩ ، وأسد الغابة ج ٧ / ٨٠ ترجمة خديجة بنت خويلد.

(٤) لاحظ : الأقوال المختلفة التي ذكرها ابن الأثير الجزري في أسد الغابة ج ٧ / ٨١.

٢١٣

من أبين المحال ، وأفظع المقال؟! ولما وجب هذا عند ذوي التحصيل ثبت أن خديجة لم تتزوج غير رسول الله ..» (١).

وعليه فكيف تقبل خديجة الزواج من أعرابي مجهول الحسب ، وتترك ذوي الشرف والمكانة من قبيلة قريش المعروفة بغطرستها وجبروتها ، ألم تكن الفرصة سانحة يوم ذاك لكي تنتقم قريش من امرأة لم تكترث بهم ولا بزعامتهم ، ورفضت عروضهم ، وتقربهم منها؟!

الثالث : دعوى أن خديجة قد تزوجت برجلين قبل النبيّ خطة صنعتها السياسة الأموية لتكريس فضيلة لعائشة أم المؤمنين التي لم يتزوج رسول الله بكرا عليها ، لذا نلاحظ الإطراء والمديح من أصحاب التراجم على عائشة عند ما يصنفها بالبكر الوحيدة التي تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى تسجيلهم منقبة لعثمان حيث حرص محبوه على إبقاء هاتين البنتين باكرتين فلا يدخل بهما ابنا أبي لهب ـ حسبما تفيد بعض مروياتهم ـ رغم أهلية البنتين وأهلية زوجيهما لذلك ، وعدم وجود أي مانع أو رادع.

نعم ، لا بدّ من إبقائهما كذلك لينال عثمان الشرف الأوفى في هذا المجال (٢)!! لذا يروون أنه لما ماتت أم كلثوم قال رسول الله : «لو كنّ عشرا لزوجتهنّ عثمان» (٣) أو قوله فيما أخرجه ابن عساكر : لو أن لي أربعين بنتا لزوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا تبقى منهن واحدة (٤).

أو قوله فيما جاء به ابن عساكر من طريق أبي هريرة قال : إن رسول الله لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال :

__________________

(١) الاستغاثة ص ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) بنات النبي أم ربائبه ص ١٢١.

(٣) الطبقات الكبرى ج ٨ / ٣٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ / ٢٥٣ والغدير ج ٨ / ٢٣٤.

(٤) الغدير ج ٨ / ٢٣٤ نقلا عن تاريخ ابن كثير ج ٧ / ٢١٢.

٢١٤

يا عثمان! هذا جبريل يخبرني أن الله قد زوّجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل مصاحبتها (١).

وكما في رواية عن أبي هريرة قال : «دخلت على عقبة ، فأخبرته : أن رسول الله كان عندها آنفا ، وسألها كيف تجد عثمان؟ فقالت : بخير ، قال : أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا» (٢).

ليت شعري! كيف يصف النبيّ عثمان بهذه الأوصاف التي قل نظيرها في البشر ، ثم في نفس الوقت يحرّم عليه الدخول في قبر رقية ، لأنه رفث جارية في نفس ليلة وفاتها (٣)؟ أو ليس عثمان هو الذي قتل رقية (٤)؟ وهل من الأخلاق النبوية أن يختلي عثمان بجارية ليلة وفاة حليلته ومعقد شرفه بصهر رسول الله ، حتى ولو كانت مقارفة النساء على الوجه المحلّل فهي من منافيات المروءة ومن لوازم الفظاظة والغلظة ، فأي إنسان تحبّذ له نفسه التمتع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرّم مجده ، وانقطاع فخره وانفصام عرى شرفه ، فكيف هان ذلك على الخليفة عثمان؟! وحيث إن رسول الله منع عثمان من النزول في قبر رقيّة وكان أحقّ الناس بذلك لأنه كان بعلها ، وسكت عثمان ولم يقل أنا عند ما قال النبيّ : «أيكم لم يقارف الليلة أهله» لأن عثمان كان قد قارف ليلة ماتت رقية بعض نساءه ولم يشغله الهمّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المقارفة ، فحرم بذلك ما كان حقا له وكان أولى من أبي طلحة وغيره ممن نزل في قبرها ليدفنها ، حسبما ادّعى العامة (٥) ، وإن كنّا نشك بصحة ذلك ، إذ كيف يسمح النبيّ لرجل أجنبي أن يلامس جسد امرأة مسلمة حتى ولو كان من وراء الثوب ، فلم لم ينزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبرها ما دامت رقية هي ابنته؟!

__________________

(١) الغدير ج ٨ / ٢٣٤ نقلا عن تاريخ ابن كثير.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٤ / ٤٨ ، ومجمع الزوائد ج ٩ / ٨١.

(٣) الغدير ج ٨ / ٢٣١ نقلا عن صحيح البخاري باب : يعذّب الميت ببكاء أهله.

(٤) بحار الأنوار ج ٢٢ / ١٦٠ ، ح ٢٢ نقلا عن فروع الكافي.

(٥) الغدير ج ٨ / ٢٣٢ نقلا عن البخاري وابن سعد في الطبقات والبيهقي في السنن إلخ ..

٢١٥

وزبدة المقال : أن رقية وأم كلثوم هما ربيبتا رسول الله من غير خديجة ، وقد كان العرب يطلقون على ربيبة الرجل : إنها ابنته ، وعليه يصح أن يقال لمن يتزوج تلك الربيبة : أنه صهر لذلك الرجل.

من هنا يتضح لنا وجه القول الذي نسب إلى أمير المؤمنين ـ على فرض صحته ـ حينما قرّر لعثمان أن نسبته إلى رسول الله أكثر من نسبة سلفيه أبي بكر وعمر إليه ، فقال له : «وقد نلت من صهره ما لم ينالا» (١).

ومع هذا لم يقم ذاك الصهر على تينك الربيبتين بواجبه تجاه الرجل الذي أكرمه بتزويج ربيبتيه له.

فإن قيل : كيف يجوز أن ينكح النبيّ ربيبتيه من يعرف من باطنه خلاف الإيمان؟

قلنا : أن تزويجه ربيبتيه لعثمان مع ما علم من حاله على فرض حصول ذلك الزواج لا يخلو من أمرين :

١ ـ إما أن يكون زوّجه على ظاهر الإسلام ، بمعنى أن الله تعالى قد أباح له مناكحة من ظاهره الإسلام وأن علم من باطنه النفاق ، وخصّه بذلك ورخّص له فيه كما خصّه في أن يجمع بين أكثر من أربع حرائر في النكاح ، وأباحه أن ينكح بغير مهر ، ولم يحظر عليه المواصلة في الصيام ولا في الصلاة بعد قيامه من النوم بغير وضوء ، وأشباه ذلك مما خصّ به وحظر على غيره من عامة الناس.

٢ ـ وإما أن يكون زوّجه إياها تألفا له على الإسلام ، كما تزوّج هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفصة وعائشة وبنت أبي سفيان ، فكان زواجه منهنّ تأليفا للقلوب إلى الإسلام فما الضير أن يزوّج من عرف من باطنه خلاف الإيمان لما ذكرنا ، ولمصلحة لم ندرك كنهها؟

__________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ / ٨٥ والبداية والنهاية ج ٧ / ١٦٨.

٢١٦

إذن ، ربما يكون إصرار الآخرين على بنوة رقية وأم كلثوم وزينب لرسول الله وإرسال ذلك إرسال المسلمات من دون أي تحقيق أو تمحيص ، رغم وجود ما يقتضي التأمل والاحتياط ، ربما يكون ذلك راجعا إلى الحرص على إيجاد منافسين لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في فضائله الخارجية ، لذا نجد العامة قد أطلقوا على عثمان لقب «ذي النورين» ولم يطلقوه على سيّدة النساء فاطمة مع اعترافهم بأنها أفضل من رقية وأم كلثوم وزينب بل وخديجة أمها عليها‌السلام. فلم لم يطلقوا على الإمام عليّ عليه‌السلام لقب «ذي النور» كما فعلوا بعثمان؟! إنّا لا نشك أن وراء تلك النسبة أصابع سياسية اختلقت تلك المنقبة كما اختلقوا منقبة أخرى لعمر بن الخطاب حيث أضافوا على سجل مناقبه زواجه من أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

شبهة زواج عمر من أم كلثوم :

من المسائل التي انتشر صيتها كسابقتها ، زواج عمر بن الخطّاب من ابنة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وربّ مشهور لا أصل له ، ونحن نشك بصدور هذا الزواج ، لا سيّما أن الأخبار تشير إلى أن زواجه منها كان قهرا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من هنا نستنكر كما استنكر من قبلنا أمثال المفيد وغيره ما نسب إلى أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بشأن هذا الزواج المفتعل ، ونحن لا نطمئن إلى خصوص خبر الثقة لوحده من دون الرجوع إلى القرائن والشواهد التي تثبت فحواه ، وذلك لكثرة الدّس الموجود بين رواياتهم الصحيحة الصادرة عنهم عليهم‌السلام ، لا سيّما وأن بني أمية ركّبوا الأسانيد على المتون ، من هنا ورد عنهم عليهم‌السلام : «أعرضوا أخبارنا على كتاب الله ، فإن لم تجدوا شاهدا من كتاب الله فأعرضوه على أخبار العامة ، فما وافقها فاضربوا به عرض الجدار».

لذا ، فإن خبر الثقة لوحده غير كاف للأخذ به ، بل لا بدّ من عرضه على الكتاب وأخبار العامة ، وما نميل إليه هو الأخذ بالخبر الموثوق صدوره عن المعصوم عليه‌السلام لا خصوص خبر الثقة للنكتة التي ذكرتها ، ولأنه لا ملازمة بين

٢١٧

وثاقة الراوي وكون الخبر موثوقا بالصدور ، بل ربما يكون الراوي ثقة ، ولكنّ القرائن والإمارات تشهد على عدم صدور الخبر من الإمام عليه‌السلام وأن الثقة قد التبس عليه الأمر ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بأن المناط هو كون الخبر موثوق الصدور ، إذ عندئذ تكون وثاقة الراوي من إحدى الإمارات على كون الخبر موثوق الصدور ، ولا تنحصر الحجية بخبر الثقة ، بل لو لم يحرز وثاقة الراوي ودلت القرائن على صدق الخبر وصحته يجوز الأخذ به ، وهذا غير بعيد بالنظر إلى سيرة العقلاء على الأخذ بالخبر الموثوق الصدور وإن لم تحرز وثاقة المخبر ، لأن وثاقة المخبر طريق إلى إحراز صدق الخبر.

وعليه ، لا نعوّل على صحة السند ما دامت هناك قرائن تثبت عكس فحواه ، ومن هذا القبيل ما ورد من أن أمير المؤمنين زوّج ابنته أم كلثوم لعمر فقد ورد في مصادرنا خبران حسنان سندا ، قد أوردهما ثقة الإسلام الكليني في الكافي باب تزويج أم كلثوم هما :

١ ـ روى حمّاد عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في تزويج أم كلثوم فقال : إن ذلك فرج غصبناه (١).

٢ ـ روى محمد بن أبي عمير ، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا خطب إليه ، قال له أمير المؤمنين إنها صبيّة ، قال : نلقي العبّاس فقال له : ما لي أبي بأس؟

قال : وما ذاك؟ قال : خطبت إلى ابن أخيك فردّني أما والله لأعوّرنّ زمزم ، ولا أدع لكم مكرمة إلّا هدمتها ولأقيمن عليه شاهدين بأنه سرق ولأقطعنّ يمينه ، فأتاه العبّاس فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعله إليه (٢).

__________________

(١) فروع الكافي ج ٥ / ٣٤٦ ح ١.

(٢) فروع الكافي ج ٥ / ٣٤٦ ح ٢ ، رواهما زرارة عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، والطريق إليه هشام بن سالم.

٢١٨

والجواب :

١ ـ ورد في بعض الأخبار ما ينافي الخبرين المتقدمين ، مثل ما رواه القطب الراوندي (١) عن الصفّار بإسناده إلى عمر بن أذينة ، قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس يحتجون علينا ويقولون : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام زوّج فلانا ـ أي عمر ـ ابنته أم كلثوم وكان متّكئا فجلس ، وقال: أيقولون ذلك؟

إن قوما يزعمون ذلك لا يهتدون إلى سواء السبيل ، سبحان الله ما كان يقدر أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يحول بينه وبينها فينقذها ، كذبوا ولم يكن ما قالوا ، إنّ فلانا خطب إلى عليّعليه‌السلام بنته أمّ كلثوم فأبى عليّ عليه‌السلام ، فقال للعبّاس : والله لئن لم تزوّجني لأنتزعنّ منك السقاية وزمزم ، فأتى العبّاس عليّا فكلّمه فأبى عليه فألحّ العبّاس فلمّا رأى أمير المؤمنين مشقّة كلام الرجل على العبّاس ، وأنه سيفعل بالسقاية ما قال ، أرسل أمير المؤمنين إلى جنّية من أهل نجران يهوديّة يقال لها سحيقة بنت جريريّة فأمرها فتمثّلت في مثال أم كلثوم ، وحجبت الأبصار عن أمّ كلثوم وبعث بها إلى الرجل ، فلم تزل عنده حتّى أنه استراب بها يوما ، فقال : ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم ، ثم أراد أن يظهر ذلك للناس فقتل ، وحوت الميراث وانصرفت إلى نجران ، وأظهر أمير المؤمنين عليه‌السلام أم كلثوم (٢).

قال الشيخ المجلسي :

«هذان الخبران لا يدلّان على وقوع تزويج أم كلثوم رضي الله عنها من عمر ضرورة وتقية وورد في بعض الأخبار ما ينافيه ـ ثم استشهد بما رواه عن القطب الراوندي ـ إلى أن قال : ولا تنافي بينها وبين سائر الأخبار لأنها قصة مخفيّة اطلعوا عليها خواصهم ، ولم يكن يهتمّ به ، لا لاحتجاج على المخالفين ، بل ربّما كانوا يحترزون عن إظهار أمثال تلك الأمور لأكثر الشيعة أيضا لئلا تقبله عقولهم ، ولئلا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٢ / ٨٨ ح ١٦ نقلا عن الخرائج للراوندي.

(٢) مرآة العقول ج ٢٠ / ٤٢ كتاب النكاح.

٢١٩

يغلوا فيهم ، فالمعنى : غصبناه ظاهرا وبزعم الناس أن صحّت تلك القصة (١).

استنكار وردّ :

استنكر السيّد علي الميلاني في كرّاسة له على مفاد هذا الخبر بحجة أن الناس لا يصدّقون بها فقال : «يشتمل ـ أي الحديث المذكور ـ على ما لا نصدّق به ، أو لا يصدّق به كثير من الناس ، وذلك أن المرأة التي تزوّج بها عمر كانت من الجنّ ، ولمّا خطب عمر أمّ كلثوم ، أرسل الله سبحانه جنيّة وسلّمت إلى عمر ، وهذه الأشياء لا يصدّق بها كثير من الناس على الأقل» (٢).

يرد عليه :

أولا : لم يأتنا صاحب الاستنكار بحجة على نفيه حتى نسلّم به مذعنين ، وعدم تصديقه له ، وكذا عدم تصديق الكثير من الناس بمفاده ، واستبعادهم له ، لا يصلح دليلا على النفي ، ومتى كان الاستبعاد الاعتباري الناتج عن ضعف الإيمان دليلا عند المتشرعة حتّى يتمسّك به صاحب الدعوى؟! ولو كان الاستبعاد دليلا على المدّعى لاستلزم ذلك طرح الكثير من الكرامات والمعاجز التي جرت على أياديهم الطاهرة ، ومتى كان استبعاد الأكثرية ميزانا ومناطا لقبول الأخبار والتسليم بالكرامات؟ وهل يستبعد المستنكر المذكور ولايتهم التكوينية التي دلت عليها الآيات والأخبار؟ وإذا كان الجنّ مسخّرا لسليمان عليه‌السلام فلم لا يسخّر لمولى الثقلين عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيّد الخلق أجمعين؟!

ثانيا : وهل خرج العلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسي والصفّار والراوندي ومن حذا حذوهم عن طور العقل لمّا رووا هذا الخبر وأذعنوا بفحواه؟ بل إن المجلسي أعلى الله مقامه جعل خبر الجنيّة معارضا للخبرين المتقدمين ، ولو لا صحة اعتقاده به لما جعله معارضا لهما.

__________________

(١) مرآة العقول ج ٢٠ / ٤٢ وفي البحار ج ٤٢ / ١٠٧ جاء فيه : «ولم يكن يتمّ به الاحتجاج على المخالفين».

(٢) تزويج أم كلثوم من عمر ص ٢٧ ط / مركز الأبحاث العقائدية ـ قم.

٢٢٠