أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

وسجيّته وطبعه أن يتصدّى للغنيّ ولو كان كافرا دون المؤمن الفقير ، غير مبال به حتى لو أراد أن يتزكّى ، ونحن نعلم أنّ هذا لم يكن من صفات وسجايا النبيّ ولا من طبعه وخلقه! ..

هذا مضافا إلى أن العبوس في وجه الفقراء والإعراض عنهم لم يكن من صفاته حتى مع أعدائه ، فكيف بالمؤمنين من أصحابه وأودّائه وقد وصفه الله تعالى بأنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

فسياق الآيات المعاتبة لا يليق بمنصب النبوّة ، لا سيّما وأنّ لسان هذه الآيات هو الذمّ والتوبيخ لمن يترفّع على الفقراء ويتواضع لأصحاب الجاه والثراء ، وهذه صفات يتنزّه عنها المؤمن العادي فكيف بنبيّ الله محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي بعث رحمة للعالمين (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٢) ولم يعهد من أخلاقه الرفيعة أن ينزع يده من يد مصافحه حتى ينزعها الآخر ، وكان حياؤه أشدّ من حياء المرأة ، وكان من صفاته قبل النبوّة وبعدها معاهدته ومجالسته للفقراء والمساكين وكان أكثر الناس تبسّما في وجوه أصحابه إلى ما هنالك من صفات جميلة ساءت أهل الشرف والجاه حتى طالبه الملأ من قريش بأن يبعد هؤلاء عنه ليتبعوه ، وقد أشار عليه بعضهم بطردهم فنزل قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)(٣).

فمن كانت هذه صفاته ، فهل يتصوّر أن يقطّب ويعبس في وجه أعمى جاءه طالبا معرفة الحلال والحرام؟ ..

وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم ، والإقبال على جماعة مترفين سيّما أمثال هؤلاء الذين ذكروا في الرواية.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٨.

(٢) سورة الأنبياء : ١٠٧.

(٣) سورة الأنعام : ٥٢.

١٨١

هذا مضافا إلى أنّ العبوس في وجه ضرير لا يبصر ما حوله خلاف الحكمة ، لأن الضرير هذا ما رأى عبوس العابس وتقطيبه ، فلا يخلو الأمر حينئذ من شيئين :

ـ إمّا أن يكون عبوس النبيّ بوجه ذاك الضرير لحكمة راجعة إليه ، وهي منتفية هنا لانعدام الرؤيا عند الضرير ، فلا يترتب على عبوس النبيّ له أي فائدة تذكر.

ـ وإمّا أن يكون عبوسه بوجه الضرير ما هو إلا حالة طيش وخفّة عقل لا يمكن أن تصدر من النبيّ ، هذا بالإضافة إلى أنه يجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتروّى ويتصف بالحلم والأناة لكونه أسوة حسنة للأنام.

٤ ـ إنّ الله تعالى مدح نبيّه بأفضل الصفات فقال عزّ اسمه في سورة القلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) ؛ وقد نزلت هذه السورة قبل سورة عبس وتولّى ، فإذا كان كذلك ، فكيف يصدر عنه هذا الأمر المشين ، والموجب لعتاب رب العالمين ، فهل كان الله (حاشاه عزّ اسمه) جاهلا بحقيقة أخلاق نبيّه؟!! أم أنّ نبيّه لم يعمل بما أمره به سبحانه من قبل ، وقد أخذ عليه الميثاق بالعلم والعمل ، فصدور ما ينافي الخلق الكريم خلاف ميثاق ربّ العالمين ، هذا مضافا إلى أنه تعالى خاطبه وأراد غيره بقوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٢) ، والعبوس والتولّي عن المؤمن الفقير من أبرز مصاديق الفظاظة والغلظة وقد تنزّه عنها الأنبياء والأوصياء والدعاة إلى الله لأنهما من المنفّرات التي تخلّ بفائدة البعثة والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، هذا مع أنه لم يعهد من نبيّ مطلقا أن صدر منه مثل ما صدر من النبي بحسب زعمهم.

والآية ١٥٩ من آل عمران وإن كانت مدنية إلّا أنها تعكس عن الحالة التي كان عليها رسول الله مذ كان يافعا إلى آخر حياته ، لقد كان وجه الحق ، والمرآة

__________________

(١) سورة القلم : ٤ «مكيّة».

(٢) سورة آل عمران : ١٥٩ «مدنيّة».

١٨٢

التي تنعكس عليها أشعة الحق سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها ، لقد نفى عزوجل عن نبيّه الرحيم الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه لا سيّما عن المؤمنين الأتقياء المبصرين فكيف بابن أم مكتوم حيث حرم من نعمة البصر ، فإن الأولى أن يقف النبيّ منه موقف اللين والشفقة والرحمة بحيث لا يساويه بأحد من المبصرين رأفة به وتطييبا لخاطره.

قال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة :

«وفي هذه الآية دلالة على اختصاص نبيّنا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، ومن عجيب أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع ثم كان أدناهم إلى التواضع وذلك أنه كان أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم ، وهذه كلها من دواعي الترفع ، ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك ويجلس في الأرض ويأكل عليها ، وكان يدعو إلى الله من غير زئر ولا كهر ولا زجر ، ولقد أحسن من مدحه في قوله :

فما حملت من ناقة فوق ظهرها

أبرّ وأوفى ذمّة من محمّد

وفي الآية دلالة على ما نقوله في اللطف لأنه سبحانه نبّه على أنه لو لا رحمته لم يقع اللين والتواضع ، ولو لم يكن كذلك لما أجابوه ، فبيّن أن الأمور المنفرة منفية عنه وعن سائر الأنبياء ومن يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق ..» (١).

والتعبير ب «ولو كنت فظا» لدلالة قطعية على عدم اتصافه بما لصقه القوم به حيث تفيد الجملة المذكورة التعليق على الشرط المستحيل تحققه في شخصية من جعله الله رحمة للعالمين ، كما أن ضمير «كنت» لإشارة واضحة إلى ما ذكرنا فتأمّل.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ٢ / ٣٢٩ ط / دار الكتب العلمية.

١٨٣

٥ ـ إنّ ما صدر من التوبيخ بقوله تعالى : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) لا يناسب عمومية رسالته وكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوثا للتزكية والأخلاق الفاضلة ، وقد انحصرت مهمّته بتزكية الناس وتعليمهم مكارم الأخلاق ، قال صلوات الله تعالى عليه وآله : «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». وهل من المكارم أن يعبس في وجه مؤمن فقير؟! وهل العبوس من التزكية الإلهية لنبيّه الكريم؟! ألم يقل الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١).

٦ ـ إنّ المرويات الدالة على عبوسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبار آحاد لم ترو في مصادر الشيعة ، ومعلوم عند عامة فقهاء الشيعة أنهم لا يعوّلون على الخبر الواحد في باب الاعتقادات .. هذا مضافا إلى أنّ هذه الأخبار تصادم حكم العقل باستحالة صدور القبيح عن الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ولا سيّما في التبليغ. فصدور الخطأ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مورد القصّة يعدّ خطأ في التبليغ ، وقد أجمعت الأمة على خلافه سوى بعض الأشاعرة ، فالتمسّك بقصّة لم يثبت صحّتها مع مخالفتها لما ذكرنا لا يكون دليلا على المدّعى ، هذا مضافا لمخالفتها قوله تعالى في سورة الشعراء : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) التي نزلت في بدء الدعوة النبوية العام الثالث من البعثة ، ونزلت قبل سورة عبس بسنتين ؛ فعلى هذا كيف يتصوّر عاقل العبوس منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإعراض عن المؤمنين ومخالفة أوامر الله التي حثّته على احترام المؤمنين وخفض الجناح لهم ، فهل نسي النبيّ أوامر ربه وأنه مأمور بخفض الجناح لمن اتّبعه؟! وإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نسي ذلك فما الذي يؤمننا من أن لا يكون قد نسي غير ذلك أيضا؟! وإذا لم يكن قد نسي ، فلما ذا تعمّد أن يعصي هذا الأمر الصريح؟!.

٧ ـ إنّ أيّ خبر إذا صادم الظاهر القرآني (كموردنا هذا) يطرح في حال لم

__________________

(١) سورة الجمعة : ٢ «مدنيّة».

(٢) سورة الشعراء : ٢١٤ ـ ٢١٥ «مكيّة».

١٨٤

يتوافق مع ذاك الظاهر القرآني حيث لا يمكننا تأويل الظاهر. وهنا لا يمكننا تأويل عبوسه مع مخالفته لقانون الرحمة ، ودعوى أنه كان يرجو بإسلام صناديد قريش إسلام غيرهم مردودة لأنه بفعله ذاك لم يدخل أحد منهم ولا غيرهم في الإسلام نتيجة ما فعله بابن أم مكتوم ، هذا مع أنّ العبوس في وجه الضرير لا يترتب عليه فائدة تذكر عند الضرير ، فكان الحريّ أن يرحم ويخصّ بمزيد الإقبال والتعطّف لا أن ينقبض ويعرض عنه.

إذن ، فعبوسه لم يترتب عليه أي فائدة ، لأنه وقع في مورد لا يصحّ أن يقع فيه ، وذلك لأن الضرير لم ير تقطيب حاجبيّ النبيّ ، فيكون عبوسه «عبثا» وهو ما يتنزّه عنه الأنبياء.

٨ ـ إنّ صدور العبوس من النبيّ أيسر ما يقال عنه أنه ذنب صغير لا يجوز عقلا للأنبياء ارتكابه لا حال التبليغ ولا بعده ، وحيث إنّ العبوس وقع حال التبليغ دلّ ذلك على وقوع ذنب صغير أجمع الشيعة على امتناع صدوره عن الأنبياء والأولياء حال التبليغ وبعده. هذا مضافا إلى أنّ الاعتقاد بعبوسه بوجه ذاك المؤمن يعدّ خطأ في الرأي والتشخيص لأن النبيّ ـ بحسب هذه الدعوى ـ أراد أن يؤلّف بين قلوب المشركين ليستميلهم إلى الإسلام مع أنهم لم يدخلوا ، فيكون بهذا قد وقع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطأ ، والخطأ من الرجس ، وهو ما قد تنزّه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّ آية التطهير (١).

فالصحيح أن العابس هو رجل من بني أمية ـ أي عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف (٢) ـ كما دلت عليه الروايات الصحيحة عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام ، وقد أيّد ذلك جلّ علماء الإمامية ، والقائل منهم بعكس ذلك شاذ ، والشاذ لا يعوّل عليه.

__________________

(١) «هل العابس هو النبيّ» كتاب مخطوط للمؤلف.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٣ / ١٨٤ باب ذكر نسب عثمان وصفته.

١٨٥

قال المحدّث (١) القمي عليه الرحمة ، توفى عام ٣٠٧ ه‍ :

«نزلت السورة في عثمان وابن أم مكتوم ، وكان ابن أم مكتوم مؤذنا لرسول الله وكان أعمى ، وجاء إلى رسول الله وعنده أصحابه ، وعثمان عنده ، فقدّمه رسول الله على عثمان فعبس (أي عثمان) بوجهه وتولّى عنه ، فأنزل الله تعالى «عبس وتولّى» يعني عثمان بن عفان ..»(٢).

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي عليه الرحمة : (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍).

«قال كثير من المفسرين وأهل الحشو أن المراد بالعابس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وهذا فاسد لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أجلّ الله قدره عن هذه الصفات ، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب ، وقد وصفه بأنه «على خلق عظيم» ، وقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، وكيف يعرض عمّن تقدّم وصفه مع قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ومن عرف النبيّ وحسن أخلاقه وما خصه الله به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح أحدا قط فينزع يده من يده ، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده ، فمن هذه صفته كيف يقطّب في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام ، على أن الأنبياء منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والإصغاء إلى دعائهم ، ولا يجوّز مثل هذا على الأنبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم.

وهذه الآيات نزلت في رجل من بني أميّة كان واقفا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا أقبل ابن أم مكتوم تنفر منه ، وجمع نفسه وعبس في وجهه وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله تعالى ذلك وأنكره معاتبة على ذلك» (٣).

__________________

(١) ثقة جليل ، أكثر ثقة الإسلام الكليني الرواية عنه في الكافي ، وقال عنه في أعلام الورى : إنه من أجلّ رواة أصحابنا ، كان في عصر مولانا الإمام العسكري عليه‌السلام.

(٢) تفسير القمي : علي بن إبراهيم ج ٢ / ٤٣٠.

(٣) تفسير التبيان للطوسي ج ١٠ / ٢٦٩.

١٨٦

وقال السيّد علي بن الحسين الموسوي المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍):

«فإن قيل أليس قد عاتب الله تعالى نبيّه في إعراضه عن ابن أم مكتوم لمّا جاءه وأقبل على غيره بقوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) وهذا أيسر ما فيه أن يكون صغيرا.

والجواب : قلنا أمّا ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبيّ ولا فيها ما يدل على أنه خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هي خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه وفيها ما يدل عند التأويل على أن المعنيّ بها غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبيّ في قرآن ولا خبر مع الأعداء المنابذين فضلا عن المؤمنين المسترشدين ثم وصفه بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء وهذا مما لا يصف به نبينا عليه‌السلام من يعرفه فليس هذا مشبها لأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسعة وتحننه على قومه وتعطفه وكيف يقول له وما عليك ألّا يزكّى وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث للدعاء والتنبيه وكيف لا يكون ذلك عليه ، وكان هذا القول إغراء بترك الحرص على إيمان قومه ، وقد قيل إن هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول الله كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن إن شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي أن نشك في أنها لم يعن بها النبيّ ، وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والإقبال على الأغنياء الكافرين والتصدي لهم ، وقد نزّه الله تعالى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما دون هذا في التنفير بكثير» (١).

وقال الشيخ الطبرسي (٤٦٢ ـ ٥٢٣ ه‍):

«قال المرتضى علم الهدى : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي ـ ... ـ بعد أن استعرض كلام المرتضى قال : وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي فجاء ابن أم مكتوم

__________________

(١) تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى ص ١١٩.

١٨٧

فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه»(١).

وقال المولى محسن الملقّب ب «الفيض الكاشاني» (١٠٠٧ ـ ١٠٩١ ه‍) :

«نزلت في عثمان وابن أم مكتوم .. وأما ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه وكذا ما ذكر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ويشبه أن يكون من مختلقات أهل النفاق خذلهم الله تعالى» (٢).

وقال السيّد محمّد حسين الطباطبائي (١٣٢١ ـ ١٤٠٢ ه‍):

«وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه بل فيها ما يدل على أن المعني بها غيره ... إلى أن قال :

وقد عظّم الله خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : وهو قبل نزول هذه السورة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والآية واقعة في سورة «ن» التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك ، فكيف يعقل أن يعظّم الله خلقه في أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفروا ، والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا. وقال تعالى أيضا : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) فأمره بخفض الجناح للمؤمنين ، والسورة من السور المكية ، والآية في سياق قوله «وانذر عشيرتك الأقربين» النازل في أوائل الدعوة.

وكذا قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤) وفي سياق الآية قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ١٠ / ٢١٠.

(٢) تفسير الصافي ج ٥ / ٢٨٥.

(٣) سورة الشعراء : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٤) سورة الحجر : ٨٨.

١٨٨

الْمُشْرِكِينَ) (١) النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصوّر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العبوس والإعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.

على أن قبح ترجيح غنى الغني ـ وليس ملاكا لشيء من الفضل ـ على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والإعراض عن الفقير والإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الإنساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي.

وبهذا وما تقدمه يظهر الجواب عما قيل : إن الله سبحانه لم ينهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلّا بعده ، وأما قبل النهي فلا.

وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلّا في هذا الوقت تحكّم ممنوع ، ولو سلّم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافي صدوره كريم الخلق ، وقد عظّم الله خلقه (ص وآله) قبل ذلك إذ قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وأطلق القول ، والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها ...»(٢).

* * * * *

__________________

(١) سورة الحجر : ٩٤.

(٢) تفسير الميزان ج ٢٠ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

١٨٩

قال العبّاسي : وما المانع من ذلك؟

قال العلوي : المانع قول الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / ٤). وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء / ١٠٧).

فهل يعقل أن الرسول الذي يصفه الله تعالى بالخلق العظيم ورحمة للعالمين أن يفعل بذلك الأعمى المؤمن هذا العمل اللاإنساني؟؟.

قال الملك : غير معقول أن يصدر هذا العمل من رسول الإنسانية ونبيّ الرحمة ، إذن : أيّها العلوي فيمن نزلت هذه السورة؟

قال العلوي :

الأحاديث الصحيحة الواردة عن أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين نزل القرآن في بيوتهم تقول : إنها نزلت في عثمان بن عفّان ، وذلك لمّا دخل عليه ابن أم مكتوم فأعرض عنه عثمان وأدار ظهره إليه.

وهنا انبرى السيّد جمال الدين (وهو من علماء الشيعة وكان حاضرا في المجلس) وقال : وقد وقعت لي قصة مع هذه السورة وذلك :

أن أحد علماء النصارى قال لي :

إن نبيّنا عيسى أفضل من نبيكم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت له : ولما ذا؟

قال : لأن نبيّكم كان سيئ الأخلاق ، يعبس للعميان ويدير إليهم ظهره ، بينما عيسى كان حسن الأخلاق يبرئ الأكمه والأبرص.

قلت : أيّها المسيحي ، اعلم أننا نحن الشيعة نقول إن السورة نزلت

١٩٠

في عثمان بن عفان لا في رسول الله ، وإن نبيّنا محمّد كان حسن الأخلاق ، جميل الصفات ، حميد الخصال ، وقد قال فيه تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / ٤) وقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء / ١٧).

قال المسيحي : لقد سمعت هذا الكلام الذي قلته لك من أحد خطباء المسجد في بغداد!

قال العلوي : المشهور عندنا أنّ بعض رواة السوء وبائعي الضمائر نسبوا هذه القصة إلى رسول الله ليبرّءوا ساحة عثمان بن عفّان فإنهم نسبوا الكذب إلى الله والرسول حتى ينزّهوا خلفاءهم وحكّامهم!

قال الملك : دعوا هذا الكلام وتكلّموا في غيره.

قال العبّاسي : إنّ الشيعة تنكر إيمان الخلفاء الثلاثة ، وهذا غير صحيح إذ لو كانوا غير مؤمنين فلما ذا صاهرهم رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم؟

قال العلوي : الشيعة يعتقدون أنهم ـ أي الثلاثة ـ كانوا غير مؤمنين قلبا وباطنا وإن أظهروا الإسلام لسانا وظاهرا ، والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل إسلام كلّ من تشهّد بالشهادتين ولو كان منافقا واقعا وكان يعاملهم معاملة المسلمين ، فمصاهرة النبيّ لهم ومصاهرتهم للنبيّ من هذا الباب!

قال العبّاسي : وما هو الدليل على عدم إيمان أبي بكر؟ (١).

__________________

(١) أخرج الخطيب البغدادي عن محبوب بن موسى الأنطاكي قال : سمعت أبا إسحاق يقول : سمعت أبا حنيفة يقول : إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد ، قال إبليس يا رب ، وقال أبو بكر : يا رب. تاريخ بغداد ج ١٣ / ٣٧٣ ، ط / القاهرة.

١٩١

قال العلوي : الأدلة القطعية على ذلك كثيرة جدا ، ومن جملتها أنه خان الرسول في مواطن كثيرة ، منها : تخلّفه عن جيش أسامة ، ومعصية أمر الرسول في ذلك ؛ والقرآن الكريم نفى الإيمان عن كلّ من يخالف الرسول ، بقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / ٦٥).

فأبو بكر عصى أمر الرسول وخالفه فهو داخل في الآية التي تنفي إيمان مخالف الرسول.

وأضف إلى ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن المتخلّف عن جيش أسامة وقد ذكرنا سابقا أنّ أبا بكر تخلّف عن جيش أسامة ، فهل يلعن رسول الله المؤمن؟ طبعا لا!

قال الملك : إذن يصحّ كلام العلويّ أنه لم يكن مؤمنا!

قال الوزير : لأهل السنّة في تخلّفه تأويلات.

قال الملك : وهل التأويل يدفع المحذور! ولو فتحنا هذا الباب لكان لكلّ مجرم أن يأتي لأجرامه بتأويلات!! فالسارق يقول : سرقت لأني فقير ، وشارب الخمر يقول : شربت لأنني كثير الهموم ، والزاني يقول : كذا وهكذا ... يختل النظام ويتجرّأ الناس على العصيان ، لا .. لا .. التأويلات لا تنفعنا.

فاحمرّ وجه العبّاسيّ وتحيّر ما ذا يقول ، وأخيرا تلعثم وقال : وما هو الدليل على عدم إيمان عمر؟

١٩٢

قال العلويّ : الأدلة كثيرة جدا منها : أنه صرّح بنفسه بعدم إيمانه!

قال العبّاسيّ : في أي موضع؟

قال العلويّ : حيث قال : «ما شككت في نبوّة محمّد مثل شكي يوم الحديبية» وكلامه هذا يدل : على أنه كان شاكا دائما في نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان شكه يوم الحديبية أكثر وأعمق وأعظم من تلك الشكوك ، فهل ـ أيّها العبّاسي ـ قل لي بربك :

الشاك في نبوّة محمّد يعتبر مؤمنا؟

سكت العبّاسي وأطرق برأسه خجلا.

فقال الملك موجّها الخطاب إلى الوزير :

هل صحيح قول العلوي أن عمر قال هكذا؟

قال الوزير : هكذا ذكر الرواة (١)!

[تشكيك عمر بن الخطاب في فعل النبيّ يوم الحديبية]

____________________________________

(١) قال ابن إسحاق ، قال الزهري :

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله وقالوا له : ائت محمّدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنّا عامه هذا ، فو الله لا تحدّث العرب عنّا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو ؛ فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم مقبلا ، قال : قد أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم تكلّم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

فلمّا التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله؟ قال : بلى ؛ قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال :

١٩٣

بلى ؛ قال : أوليسوا بالمشركين ، قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطي الدّنيّة (١) في ديننا؟ قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه (٢) ، فإني أشهد أنه رسول الله ؛ قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله ، ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فقال : يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال ؛ بلى ؛ قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى ؛ قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيّعني! قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدّق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ! مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيرا.

قال : ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال : اكتب :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : اكتب : (باسمك اللهم) ، فكتبها ؛ ثم قال : اكتب : (هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو) ؛ قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ؛ قال : فقال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : اكتب :

(هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه ، وإن بيننا عيبة مكفوفة (٣) وأنه لا إسلال ولا إغلال (٤) ، وأنه من

__________________

(١) الدّنية : الذلّ والأمر الخسيس.

(٢) الزم غرزه : أي الزم أمره. والغرز للرجل بمنزلة الركاب للسّرج.

(٣) أي صدور منطوية على ما فيها ، لا تبدي عداوة ، وضرب العيبة مثلا.

(٤) الإسلال : السرقة الخفية ، والإغلال : الخيانة.

١٩٤

أحبّ أن يدخل في عقد محمّد ومهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (١)).

وقال السيوطي :

أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : خرج رسول الله زمن الحديبية في بضع عشر مائة من أصحابه .. (إلى أن اجتمعوا مع سهيل بن عمرو وعقدوا الصلح) فقال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبيّ فقلت : ألست نبيّ الله؟ قال : بلى ، فقلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال : إنّي رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أوليس كنت تحدثنا إنّا سنأتي البيت ونطوف به؟

قال : بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ، فأتيت أبا بكر ، فقلت يا أبا بكر : أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟

قال : أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصر فاستمسك بغرزه تفز حتى تموت ، فو الله إنه لعلى الحق ، قلت : أوليس كان يحدثنا إنّا سنأتي البيت ، ونطوف به؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا ...» (٢).

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والبخاري ، ومسلم والنسائي ، وابن جرير

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٣ / ٣٣١.

(٢) الدر المنثور ج ٦ / ٧٤ ، وتفسير ابن كثير ج ٤ / ١٧٦ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٢٠٤ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨٠.

١٩٥

والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين :

اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية نرجئ الصلح الذي كان بين النبيّ وبين المشركين ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع لما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال : يا ابن الخطّاب إني رسول الله ولن يضيّعني الله أبدا ، فرجع متغيظا لم يصبر حتى جاء أبو بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ ...» (١).

وقال علي بن إبراهيم القمي :

حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «... ورجع حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو إلى رسول الله وقالا : يا محمّد قد أجابت قريش إلى ما اشترطت عليهم من إظهار الإسلام وأن لا يكره أحد على دينه فدعا رسول الله بالمكتب ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : اكتب ، فكتب أمير المؤمنين عليه‌السلام :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فقال سهيل بن عمرو : لا نعرف الرحمن ، اكتب كما كان يكتب آباؤك : باسمك اللهم ؛ فقال رسول الله : اكتب : باسمك اللهمّ فإنه اسم من أسماء الله ، ثم كتب : (هذا ما تقاضى عليه محمّد رسول الله والملأ من قريش ؛ فقال سهيل بن عمرو : لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك ، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمّد بن عبد الله ، أتأنف من نسبك يا محمّد! فقال رسول الله : أنا رسول الله وإن لم تقروا ، ثم قال : امح يا عليّ! واكتب محمّد بن عبد الله ، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما أمحو اسمك من النبوة أبدا ، فمحاه رسول الله بيده ثم كتب :

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ / ٧٧.

١٩٦

«هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل بن عمرو ، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين على أن يكف بعض عن بعض ، وعلى أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا وبينهم غيبة مكفوفة وأنه من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد وعقده فعل ، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ...» (١).

ثم قال رسول الله : يا عليّ! إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة فو الذي بعثني بالحق نبيا لنجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد ، فلمّا كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن اكتب : هذا ما اصطلح عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله أخبرني رسول الله بذلك ...» (٢).

وبعد عقد الصلح أمر رسول الله أصحابه لينحروا ويحلقوا فامتنعوا وقالوا كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة ، فاغتمّ رسول الله من ذلك وشكا ذلك إلى أم سلمة ، فقالت : يا رسول الله انحر أنت واحلق ، فنحر رسول الله وحلق ..» (٣) ولما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما (٤).

هذا حال عمر بن الخطّاب وأكثر الأصحاب ، فعمر شك في فعل النبيّ ، لذا لم يقتنع بما قاله له الرسول ، فأعاد سؤاله وتشكيكه على أبي بكر ، وهكذا فعل أكثر الأصحاب حيث كاد يقتل بعضهم بعضا غما مما فعل النبيّ.

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ / ٣١٩ سورة الفتح.

(٢) تفسير القمي ج ٢ / ٣٢٠ وبحار الأنوار ج ٢٠ / ٣٣٣.

(٣) تفسير القمي ج ٢ / ٣٢٠.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٤ / ١٧٦ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٢٠٥.

١٩٧

لقد عاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حالة الاضطهاد من أصحابه ، إلا القليل ممن وفى الحق معه ، من هنا لم يمتثلوا أمره لا في الحديبية ولا على فراش الموت عند ما أمرهم بإحضار الكتف والدواة.

لقد نفث عمر عن لسان الشيطان عند ما شكّك بالنبيّ ، وما ذاك بغريب عنه حيث عرف بطيشه وغلظته ، فها هم بعض علماء العامة يتحدّثون عن شخصية عمر بن الخطاب.

١ ـ أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، قال :

«أخرج الخطيب البغدادي عن عبد الله بن أبي الحجاج قال : حدّثنا عبد الوارث أنه قال : كنت بمكة وبها أبو حنيفة فأتيته وعنده نفر فسأله رجل عن مسألة فأجاب فيها ، فقال له الرجل : فما رواية عن عمر بن الخطاب؟ قال : ذلك قول شيطان» (١).

وما شيطان عمر إلّا ما عبّر عنه أبو بكر حينما قال : «إن لي شيطانا يعتريني أحيانا فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ..» (٢).

٢ ـ ابن قتيبة الدينوري ، قال :

«وكان عمر رجلا شديدا قد ضيّق على قريش أنفاسها ...» (٣).

وقال في موضع آخر : «لمّا توفي أبو بكر وولي عمر وقعد في المسجد مقعد الخلافة ، أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، أدنو منك فإنّ لي حاجة؟ قال عمر : لا ، قال الرجل : إذا أذهب فيغنيني الله عنك ، فولّى ذاهبا ، فاتبعه عمر ببصره ثم قام فأخذه بثوبه ، فقال له : ما حاجتك؟ فقال الرجل : بغضك الناس وكرهك الناس ، قال عمر : ولم ويحك؟ قال الرجل : للسانك وعصاك ؛ قال : فرفع عمر يديه فقال :

__________________

(١) تاريخ بغداد ج ١٣ / ٣٨٨.

(٢) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ / ٣٤ ، ط / إيران وص ١٦ ط / مصر.

(٣) نفس المصدر ج ١ / ٢٧ ط / مصر.

١٩٨

اللهم حبّبهم إلي وحبّبني إليهم ؛ قال الرجل : فما وضع يديه حتى ما على الأرض أحب إليّ منه ..» (١).

٣ ـ أحمد بن تيمية ، قال :

ذكر الشيخ محمد بخيت المصري الحنفي عن ابن تيمية أنه قال : «إنّ عمر له غلطات وبليّات ، وأي بليّات!» (٢).

٤ ـ الشيخ محمود أبو رية ، قال :

«ولم يمت عمر حتى ملّته قريش ...» (٣).

٥ ـ عبد الفتاح عبد المقصود ، قال :

«.. أم من ذا الذي يسعه أن يغتفر لابن الخطاب تصدّيه لمعارضة رسول الله معارضة أدّت إلى منعه عليه الصلاة والسلام ـ قبيل احتضاره ببضعة أيام ـ أن يمارس حقّه الشرعي في الإيصاء بما يشاء لمن يشاء!! ..» (٤).

٦ ـ عبد الكريم الخطيب ، قال :

«وأوضح ما في عمر صفتان :

ـ أولاهما : الصرامة ، والشدة التي تبلغ مبلغ العنف في معالجة الأمور. ولم يتخلّ عمر أبدا عن هذا الأسلوب العمري .. وطبيعي أن يبدو عمر في الناس فظّا غليظا ، وأن تنطوي كثير من القلوب على الخوف منه ، والرهبة له فلا يلقاه الناس إلّا على هذا الإحساس الممتزج بالقطيعة والجفوة! وطبيعي أيضا ألّا يوادّ الناس عمر إلّا على ترقّب وحذر ... وبدا عمر للناس أنه فظّ غليظ تنخلع لمرآة القلوب ،

__________________

(١) نفس المصدر ج ١ / ٣٨ ط / أمير ـ قم.

(٢) تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد ص ١١.

(٣) شيخ المضيرة ص ٨٥ ، ط / دار المعارف بمصر.

(٤) السقيفة والخلافة ص ٢٤٣ ط / مصر.

١٩٩

وتنقبض له الصدور ، وتزوّر عنه العيون ..» (١).

... فهذا هو عمر بن الخطاب في مفهوم من والاه! وللبيب الحكم على هذه الشخصية بناء على ذلك!!

إشكال :

جاء في خبر الحديبية أن أمير المؤمنين لم يمح لقب رسول الله من بنود الصلح ، أليس هذا تخلّفا عن امتثال أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وإذا جاز عدم الامتثال هنا ، جاز التخلّف حينئذ عن الاتيان بالدواة والكتف ليكتب للمسلمين الكتاب فلا يضلون أبدا!

والجواب :

فرق واضح بين الأمرين ، إذ إنّ تخلّفهم عن الإتيان بالدواة والكتف تعقّبه التنازع فيما بينهم وسخط رسول الله على المتخلّفين ، وهكذا سخطه عليهم لمّا تخلّفوا عن جيش أسامة ، ولعنه على المتخلّفين ، أما ما ورد في صلح الحديبيّة فيختلف تماما عمّا ذكرنا آنفا ، إذ لم يتعقّبه سخط منه ، ولا أن المسلمين تنازعوا في الأمر ، كما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بإمكانه أن يأمر أحدا غير الإمام علي عليه‌السلام ليمحى لقبه الشريف ، ويظهر أن أمره كان على نحو الإباحة لا على الوجوب وإلّا لكان أمير المؤمنين عليّ أوّل الممتثلين لأدائه كغيره من الوظائف التي لم يتخلّف في امتثالها عن رسول الله.

ولعلّ وجه عدم الامتثال فيه أمران :

الأول : ليشير أمير المؤمنين ـ فديته بنفسي ـ أن إزالة جبل من مكانه أهون عنده عليه‌السلام من إزالة لقب أطلقه الله على رسوله الأمين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : ليدفع ـ وبإيحاء من رسول الله ـ عمّا علق في نفوس الناس من أنه لا

__________________

(١) عمر بن الخطاب لعبد الكريم الخطيب ص ٥٥ ـ ٥٦ بتصرف ، ط / دار الفكر العربي.

٢٠٠