أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

(أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (١).

(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (٢).

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٣).

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (٤).

ـ الصنف الخامس : الآيات الحاثّة والمشجعة على الاستعانة به تعالى :

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٥).

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٦).

ـ الصنف السادس : الآيات الدالة على استغفار الأنبياء من تركهم الأولى :

(رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (٧) إشارة إلى آدم وحواء عليهما‌السلام.

(سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨) إشارة إلى النبي يونس عليه‌السلام.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٩) إشارة إلى النبيّ موسى عليه‌السلام.

ـ الصنف السابع : الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم :

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٣١.

(٢) سورة الأنفال : ٢٤.

(٣) سورة الزمر : ٥٥.

(٤) سورة الزمر : ٥٤.

(٥) سورة النحل : ٩٨.

(٦) سورة العنكبوت : ٤٥.

(٧) سورة الأعراف : ٢٣.

(٨) سورة الأنبياء : ٨٧.

(٩) سورة القصص : ١٦.

١٦١

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (١).

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٢).

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) (٣).

ـ الصنف الثامن : الآيات الدالة على تحسّر الكافرين وندامتهم على المعصية :

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً) (٤).

(قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) (٥).

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (٦).

إلى غير ذلك من الآيات العديدة المعارضة لما ذكروه ، على أنّ ما قالوه دونه خرط القتاد لا يصلح أن يعتبر دليلا ، فالحق ما قاله الإمامية وتبعهم المعتزلة من أنّ التكليف يتمّ بإضافة الأفعال إلينا.

__________________

(١) سورة سبأ : ٣١.

(٢) سورة المدثر : ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) سورة الملك : ٨.

(٤) سورة فاطر : ٣٧.

(٥) سورة المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٦) سورة السجدة : ١٢.

١٦٢

قال العلوي :

ثم إنّ السنّة يقولون إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شاكّا في نبوته.

قال العبّاسي : هذا كذب صريح.

قال العلوي : ألستم تروون في كتبكم أن رسول الله قال : «ما أبطأ عليّ جبرائيل مرة إلّا ظننت أنه نزل على ابن الخطّاب» مع العلم أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الله أخذ الميثاق من النبيّ محمّد على نبوّته؟ (١).

____________________________________

(١) من الآيات التي دلت على أخذ الميثاق من الأنبياء على نبوة سيّد المرسلين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١).

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢).

وقد روى ابن أبي الحديد بابا خاصا في فضائل عمر ، فقال :

«أما الحديث الوارد في فضل عمر ، فمنه ما هو مذكور في الصحاح ، ومنه ما هو غير مذكور فيها. فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك ما روت عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال : «كان في الأمم محدّثون ، فإن يكن في أمّتي فعمر» أخرجاه في الصحيحين.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨١.

(٢) سورة الأحزاب : ٧.

١٦٣

وروى سعد بن أبي وقاص ، قال : استأذن عمر على رسول الله ، وعنده نساء من قريش يكلّمنه ، عالية أصواتهن ، فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب ، فدخل رسول الله يضحك ، قال : أضحك الله سنّك يا رسول الله! قال : عجبت من هؤلاء اللواتي كنّ عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. فقال عمر : أنت أحقّ أن يهبن ، ثم قال : أي عدوات أنفسهنّ ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ قلن : نعم ، أنت أغلظ وأفظّ ، فقال رسول الله : «والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان قطّ سالكا فجّا إلا سلك فجّا غير فجك». أخرجاه في الصحيحين.

وقد روى في فضله من غير الصحاح أحاديث :

منها : «إنّ السكينة لتنطق على لسان عمر».

ومنها : «إنّ الله تعالى ضرب بالحقّ على لسان عمر وقلبه».

ومنها : «إنّ بين عيني عمر ملكا يسدّده ويوفّقه».

ومنها : «لو لم أبعث فيكم لبعث عمر».

ومنها : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر».

ومنها : «لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر».

ومنها : «ما أبطأ عني جبرائيل إلا ظننت أنه بعث إلى عمر».

ومنها : «سراج أهل الجنّة عمر».

ومنها : أن شاعرا أنشد النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم شعرا ، فدخل عمر فأشار النبيّ إلى الشاعر أن اسكت ، فلما خرج عمر ، قال له : عد فعاد ، فدخل عمر فأشار النبيّ بالسّكون مرة ثانية ، فلمّا خرج عمر سأل الشاعر رسول الله عن الرجل ، فقال : «هذا عمر بن الخطاب ، وهو رجل لا يحبّ الباطل».

ومنها : أن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] قال : «وزنت بأمتي فرجحت ، ووزن أبو بكر بها فرجح ، ووزن عمر بها فرجح ، ثم رجح ، ثم رجح».

١٦٤

وقد رووا في فضله حديثا كثيرا غير هذا ، ولكنا ذكرنا الأشهر (١).

وروى مسلم أيضا بعض ما يسمى بفضائل عمر بن الخطّاب في كتاب فضائل الصحابة فقال :

إن أبا سعد قال : استأذن عمر على رسول الله وعند نساء من قريش يكلّمنه ويستكثرنه ، عالية أصواتهن ، فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب ، فأذن له رسول الله ، ورسول الله يضحك ، فقال عمر : أضحك الله سنّك يا رسول الله! فقال رسول الله : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر : فأنت يا رسول الله أحقّ أن يهبن ، ثم قال عمر : أي عدوّات أنفسهنّ ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ قلن : نعم ، أنت أغلظ وأفظّ من رسول الله ، قال رسول الله : «والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان قطّ سالكا فجّا إلا سلك فجّا غير فجك» (٢).

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم تعقيبا على الخبر المذكور :

«هذا الحديث محمول على ظاهره أن الشيطان متى رأى عمر سالكا فجّا هرب هيبة من عمر وفارق ذلك الفجّ ، وذهب في فج آخر لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل به شيئا ، قال القاضي : ويحتمل أن ضرب مثلا لبعد الشيطان وإغوائه منه وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد خلاف ما يأمر به الشيطان ، والصحيح الأول» (٣).

انظر أخي القارئ إلى هذه الترّهات ، فهل يعقل أن يهرب الشيطان من الإنسان؟ ولو كان صحيحا لم لم يهرب من أبينا آدم عليه‌السلام عند ما حاوره في الجنّة البرزخية؟! ولو كان عمر بهذه المنقبة لم لم يهرب منه عند ما اعترض على النبيّ لمّا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١٢ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٢) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٣٣ حديث رقم ٢٣٩٦ وصحيح البخاري ج ٤ / ٤٣٦ حديث رقم ٣٢٩٤.

(٣) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١٥ / ١٣٤.

١٦٥

أراد أن يصلّي على عبد الله بن أبي سلول (١) أو عند ما اعترض على النبيّ لمّا عقد الصلح مع المشركين؟!

ولما ذا خاف وهو على فراش الموت من العذاب ، روى البخاري عن المسور بن مخرمة قال : «لما طعن عمر جعل يألم ، فقال له ابن عبّاس ـ وكأنه يجزّعه ـ يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك ، لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون ، قال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك منّ من الله تعالى منّ به عليّ ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله جلّ ذكره منّ به عليّ ، وأمّا ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك ، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله عزوجل قبل أن أراه» (٢).

ليت شعري إذا كان عمر بهذا المستوى من رضا رسول الله عليه فلم الجزع حينئذ؟! وهل يجزع من كان النبيّ ناصره ومعينه والمسدّد له؟!

وهل يجزع عمر على صحابة النبيّ وعلى ابن عبّاس الذين أخبر عنهم الرسول أنهم سيرتدون على أدبارهم القهقرى ويضرب بعضهم رقاب بعض ويلعن بعضهم بعضا؟!

وهل أن الجزع على أمة رسول الله محمّد تستلزم ـ بنظر عمر ـ أن لو قدر

__________________

(١) تروي القصة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول جاء النبيّ يسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلّي عليه ، فقام رسول الله ليصلّي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ، وقال : يا رسول الله أتصلّي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي عليه؟ فقال النبيّ : إنما خيرني الله فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وسأزيد على السبعين ، قال : إنه منافق. صحيح مسلم ج ١٥ / ١٣٦ حديث رقم ٢٤٠٠.

(٢) صحيح البخاري ج ٤ / ٥٦٩ حديث رقم ٣٦٩٢.

١٦٦

على أن يفتدي طلاع الأرض ذهبا حرصا على أن لا يعذّبه الله تعالى؟! وهل الخوف على الصحابة جزاؤه عند الله تعالى أن يدخل عمر النار؟! أم أنه يخاف النار لأنه اعتدى على الحرمات وغيّر وبدّل بشريعة النبيّ وفعل ما فعل بوصي رسول الله ، وكسّر ما كسّر من أضلاع بضعته الطاهرة فاطمة البتول وقرة عينه ومهجة كبده وتفاحة الفردوس ، وأمّ المصطفى وحبيبة المرتضى؟!! هيهات أن ينجو بما فعل ، قال تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (١).

وكيف لا يزال الشيطان يسلك فجّا غير فجّه ، وقد فرّ فرارا من الزحف في أحد وحنين وخيبر ، والفرار من الزحف من عمل الشيطان وإحدى الكبائر الموبقة! وكيف يدّعى له أن السكينة تنطق على لسانه! أترى كانت السكينة تلاحي رسول الله يوم الحديبية حتى أغضبه؟!

ولو كان ينطق على لسانه ملك أو بين عينيه ملك يسدده ويوفّقه ، أو ضرب الله بالحق على لسانه وقلبه ، لكان نظيرا لرسول الله بل لكان أفضل منه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤدي الرسالة إلى الأمة عن ملك من الملائكة ، وعمر قد كان ينطق على لسانه ملك ، بل كان هناك ملك آخر بين عينيه يسدّده ويوفقه ، فالملك الثاني مما قد فضّل به على رسول الله ، وقد كان حكم في أشياء فأخطأ فيها حتى فهّمه إياها أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، حتى قال : لو لا عليّ لهلك عمر ، وكان يشكل عليه الحكم فيقول لابن عبّاس : غص يا غوّاص (٢) ، فيفرج عنه ، فأين كان الملك الثاني المسدّد له! وأين الحق الذي ضرب به على لسان عمر؟ ومعلوم أن رسول الله كان ينتظر في الوقائع نزول الوحي ، وعمر على مقتضى هذه الأخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه ، لأن الملكين معه في كل وقت وكل حال ، ملك ينطق على لسانه وملك آخر بين عينيه يسدّده ويوفقه ، وقد عزّزا بثالث وهي السكينة ، فهو إذا أفضل من رسول الله!!

__________________

(١) سورة ص : ٣.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٠٨.

١٦٧

ويلزم من الحديث الملفّق على رسول الله «لو لم أبعث فيكم لبعث عمر» أن يكون الرسول عذابا على عمر ، وأذى شديدا له ، لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبيّا ورسولا ، ولم تعلم رتبة أجلّ من رتبة الرسالة إلّا الإمامة المطلقة ، فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة ، ينبغي ألّا يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه!

ومقتضى كونه «سراجا لأهل الجنّة» أنه لو لم يكن تجلّى عمر لكانت الجنّة مظلمة لا سراج لها. وكيف يجوز أن يقال : لو نزل العذاب لم ينج منه إلّا عمر ، والله تعالى يقول : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١).

وكيف يجوز أن يقال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسمع الباطل ويحبّه ويشهده ، وعمر لا يسمع الباطل ولا يشهده ولا يحبه ، أليس هذا تنزيها لعمر عمّا لم ينزّه عنه رسول الله؟!

ولو كان محدّثا وملهما لما اختار معاوية الفاسق لولاية الشام ، ولكان الله تعالى قد ألهمه وحدّثه بما يواقع من القبائح والمنكرات والبغي والتغلب على الخلافة ، والاستئثار بمال الفيء ، وغير ذلك من المعاصي الظاهرة!

وقد ذبّ (٢) ابن أبي الحديد عمّا نسب إلى عمر من فضائل ، فقال :

«إنه ليس يجب فيما كان محدّثا ملهما أن يكون محدّثا ملهما في كل شيء بل الاعتبار بأكثر أفعاله وظنونه وآرائه ، ولقد كان عمر كثير التوفيق ، مصيب الرأي في جمهور أمره ، ومن تأمّل سيرته علم صحة ذلك ، ولا يقدح في ذلك أن يختلف ظنّه في القليل من الأمور».

يرد عليه :

١ ـ إذا كان الإلهام بأكثر أفعاله وظنونه فلم اعترض على رسول الله في كثير

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٣.

(٢) نفس المصدر ج ١٢ / ٣٠٩.

١٦٨

من الأحكام ثم نعته بالهجر على فراش الموت ثم ما صدر منه من تغيير الأحكام لأعظم شاهد على أن خذلانه أكثر من توفيقه حسبما يدّعي ابن أبي الحديد ، فدعواه مصادرة على المطلوب.

٢ ـ دعوى أنه كان كثير التوفيق تكذّبها سيرة عمر برجوعه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه إلى أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ـ حسبما نص ابن أبي الحديد نفسه في شرحه الجزء الأول ولكنه في الجزء الثاني عشر نسي ما ذكره في الأول وما أنساه إلا الشيطان أن يذكره ـ قال في الجزء الأول : «وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر ، وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطّاب وعبد الله بن عبّاس ، وكلاهما أخذ عن عليّ عليه‌السلام ، أمّا ابن عبّاس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة «لو لا عليّ لهلك عمر» وقوله «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن» وقوله «لا يفتين أحد في المسجد وعليّ حاضر ..» (١).

فمن كان كثير التوفيق لا يحتاج في أكثر مسائله إلى غيره ، فما ادّعاه ذاك المعتزلي الناصبيّ دونه خرط القتاد.

وقال أيضا :

«وأما الفرار من الزحف فإنه لم يفرّ إلا متحيّزا إلى فئة ، وقد استثنى الله تعالى ذلك فخرج به عن الإثم» (٢).

يرد عليه :

إن التحيّز إلى فئة إنما يكون مستثنى من الإثم إذا حصل مرة لا في كل مرة لا سيّما في المعارك العظمى كأحد وحنين وخيبر ، هذا مضافا أن التحيّز يكون جائزا إذا كان بأمر النبيّ لا أن يترك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معرّضا للقتل ليس معه أحد سوى أمير المؤمنين

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ٢٣ ، ط / الأعلمي.

(٢) نفس المصدر ج ١٢ / ٣٠٩.

١٦٩

وبعض المخلصين من الصحابة ، هذا مع التأكيد على أنه لم لم يحصل التحيّز إلى فئة لبقية من ثبت مع رسول الله في أغلب المعارك؟!

وقال :

«وأما باقي الأخبار فالمراد بالملك فيها الإخبار عن صحة ظنه ، وصدق فراسته وهو كلام يجري مجرى المثل ، فلا يقدح فيه ما ذكروه» (١).

يرد عليه :

١ ـ ما أوردنا عليه آنفا ، مضافا إلى أن ما ادّعاه خلاف المتبادر من كلمة «ملك» والتبادر علامة الحقيقة ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلّا بقرينة صارفة وهي غير موجودة.

٢ ـ ولو سلّمنا بما قاله المذكور ، فلم احتاج إلى غيره ما دام يملك صدق الفراسة وصحة الظن؟

وقال : «وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر» فهو كلام قاله عقيب أخذ الفدية من أسارى بدر ، فإن عمر لم يشر عليه ونهاه عنه ، فأنزل الله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢) وإذا كان القرآن قد نطق بذلك وشهد ، لم يلتفت إلى طعن من طعن في الخبر» (٣).

يرد عليه :

إن الحديث مناهض لما روي أن الحق يدور مع أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الذي قال عنه النبيّ أيضا «أقضاكم علي» وقد اعترف (٤) به ابن أبي الحديد فكيف

__________________

(١) نفس المصدر ج ١٢ / ٣٠٩.

(٢) سورة الأنفال : ٦٨.

(٣) شرح النهج ج ١٢ / ٣١٠.

(٤) قال ابن أبي الحديد : «وقد روت العامة والخاصة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقضاكم عليّ» لاحظ شرح النهج ج ١ / ٢٣.

١٧٠

غفل عنه أيضا؟!

فكيف يعمّ العذاب على المسلمين آنذاك وفيهم (عدا عن رسول الله) مولى الثّقلين وسفينة النجاة وباب حطة المرتضى عليّ عليه‌السلام؟!!

فأين الصدّيق أبو بكر ـ كما يزعمون ـ وذو النورين عثمان ، أليسوا ممن يؤمن بهم من العذاب؟

وقال أيضا :

«وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سراح أهل الجنّة عمر» فمعناه سراج القوم الذين يستحقون الجنّة من أهل الدنيا أيام كونهم في الدنيا مع عمر ، أي يستضيئون بعلمه ، كما يستضاء بالسراج»(١).

يرد عليه :

إن الأولى بهذا اللقب هو الإمام عليّ عليه‌السلام الذي كان يرجع إليه عمر بن الخطّاب نفسه ، فكيف يكون سراجا لغيره وفي نفس الوقت كان فقيرا إلى غيره (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٣١٠.

(٢) سورة يونس : ٣٥.

١٧١

قال الملك ـ موجّها الخطاب إلى الوزير ـ : هل صحيح ما يقوله العلوي من أن هذا الحديث موجود في كتب السنّة؟

قال الوزير : نعم يوجد في بعض الكتب (١).

قال الملك : هذا هو الكفر بعينه.

قال العلوي : ثم إن السنّة ينقلون في كتبهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحمل عائشة على كتفيه لتتفرّج على المطبّلين (٢) والمزمّرين ، فهل هذا يليق بمقام رسول الله ومكانته؟

قال العبّاسي : إنه لا يضر.

قال العلوي : وهل أنت تفعل هذا ، وأنت رجل عادي ، هل تحمل زوجتك على كتفك للتفرّج إلى الطبّالين؟!

قال الملك : إنّ من له أدنى حياء وغيرة لا يرضى بهذا فكيف برسول الله وهو مثال الحياء والغيرة والإيمان. فهل صحيح أن هذا موجود في كتب أهل السنّة؟

قال الوزير : نعم موجود في بعض الكتب! (٣).

____________________________________

(١) ذكر ذلك ابن أبي الحديد ـ كما قدمنا لك آنفا ـ وادّعى أن ذلك في الصحاح مشهور.

(٢) الطبل : آلة يشدّ عليها الجلد ونحوه ، ينقر عليه ، والطبّال : صاحب الطبل وفعله التطبيل.

(٣) أخرج البخاري عن عروة عن عائشة قالت : دخل عليّ رسول الله وعندي

١٧٢

جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبيّ! فأقبل عليه رسول الله فقال : «دعهما». فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب السودان بالدّرق والحراب ، فإمّا سألت النبيّ وإمّا قال : تشتهين تنظرين فقلت ؛ نعم ، فأقامني وراءه ، خدّي على خدّه وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة ، حتى إذا مللت قال : حسبك؟ قلت : نعم ، قال : فاذهبي (١).

وأخرج البخاري أيضا عن عائشة قالت :

رأيت النبيّ يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم ـ أي أبو بكر ـ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «دعهم. أمنا بني أرفدة» يعني من الأمن (٢).

وعن عروة عن عائشة قالت :

إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدفّفان وتضربان ـ والنبيّ متغش بثوبه ـ فانتهرهما أبو بكر ، فكسف النبيّ عن وجهه وقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد ، وتلك الأيام أيام منى» (٣).

وأخرج عن عروة عن عائشة أنها قالت :

رأيت النبيّ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأم فأقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ ، الحريصة على اللهو (٤).

وعن عائشة قالت :

سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم ، وهم يلعبون في يوم عاشوراء ، فقال لي رسول الله: أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ / ٢٨٧ حديث رقم ٩٤٨.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٢٩٩ حديث رقم ٩٨٨.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٢٩٩ حديث رقم ٩٨٧.

(٤) صحيح البخاري مشكول ج ٣ / ٣٦٦ ومسند أحمد ج ٦ / ٣٧٠.

١٧٣

قلت : نعم ، فأرسل إليهم فجاءوا وقام رسول الله فوضع كفّه على الباب ، ومدّ يده ، ووضعت ذقني على يده ، وجعلوا يلعبون ، وأنظر ، وجعل رسول الله يقول : حسبك ، وأقول : اسكت مرتين أو ثلاثا ثم قال :

يا عائشة حسبك ، فقلت : نعم ، فأشار إليهم فانصرفوا (١).

وأخرج عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت :

دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث ، قالت : وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله؟

وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله : يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا (٢).

وأخرج الغزالي عن عائشة أنها قالت :

قال النبيّ لي يوما : أتحبين أن تنظري إلى زفن (٣) الحبشة» (٤).

وأخرج أحمد عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها كانت تلعب بالبنات ، فكان النبيّ يأتي بصواحبي يلعبن معي (٥).

كما روى الغزالي أيضا أنه دفعت إحداهنّ في صدر رسول الله فزبرتها أمّها فقال عليه‌السلام : دعيها فإنهنّ يصنعن أكثر من ذلك».

وجرى بينه وبين عائشة كلام ، حتى أدخلا بينهما أبا بكر حكما واستشهده ،

__________________

(١) إحياء علوم الدين ج ٤ / ١٣٧ طبعة لجنة الثقافة الإسلامية بمصر عام ١٣٥٦ ه‍ ، ومحاسن التأويل ج ٣ / ٧٥ ط / مصر / محمد جمال الدين القاسمي.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٢٨٨ حديث رقم ٩٥٢ ، وصحيح مسلم ج ٦ / ١٥٩ حديث رقم ٨٩٢.

(٣) الزفن : هو الرقص والضرب بالأرجل.

(٤) إحياء علوم الدين ج ٦ / ١٩٧ ط / لجنة الثقافة الإسلامية بمصر.

(٥) مسند أحمد ج ٦ / ٢٣٣.

١٧٤

فقال لها رسول الله : «تكلّمين أو أتكلم» فقالت : بل تكلّم أنت ، ولا تقل إلا حقا ، فلطمها أبو بكر حتى دمى فوها وقال : يا عدّية نفسها أو يقول غير الحق؟! فاستجارت برسول الله وقعدت خلف ظهره ، فقال له النبيّ : «لم ندعك لهذا ، ولا أردنا منك هذا».

وقالت له مرة في كلام غضبت عنده :

أنت الذي تزعم أنك نبيّ الله ، فتبسم رسول الله واحتمل ذلك حلما وكرما (١).

وأخرج أحمد بن حنبل عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت :

خرجت مع النبيّ في بعض أسفاره ، وأنا جارية لم أحمل اللّحم ، ولم أبدن ، فقال للناس تقدّموا ، فتقدّموا ثم قال لي تعالي أسابقك ، فسابقته فسبقته فسكت عني ، وحتى إذا حملت اللحم وبدنت ، ونسيت ، خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس تقدّموا فتقدّموا ، ثم قال تعالي حتى أسابقك فسابقته ، فسبقني فجعل يضحك وهو يقول : هذه بتلك (٢).

وأخرج أحمد عن السائب بن يزيد : أن امرأة جاءت إلى رسول الله ، فقال : يا عائشة أتعرفين هذه؟

قالت : لا يا نبيّ الله ، فقال : هذه قينة بني فلان ، تحبين أن تغنيك؟

قالت : نعم ، قال : فأعطاها طبقا فغنّتها ، فقال النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) قد نفخ الشيطان في منخريها (٣).

وأخرج عن عائشة :

__________________

(١) إحياء علوم الدين ج ٤ / ١٣٦.

(٢) مسند أحمد ج ٦ / ٢٦٤ ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بسند صحيح.

(٣) مسند أحمد ج ٣ / ٤٤٩.

١٧٥

أن الحبشة لعبوا لرسول الله فدعاني ، فنظرت من فوق منكبه حتى شبعت (١).

وروى مسلم العديد من هذه الأحاديث في باب الرخصة في اللعب أيام العيد ، أذكرها بتمامها :

روى عن عروة ، عن عائشة : أن أبا بكر دخل عليها ، وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان وتضربان ، ورسول الله مسجّى بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف رسول الله عنه وقال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد ، وقالت : رأيت رسول الله يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ، وأنا جارية ، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السنّ (٢).

وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : والله! لقد رأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي ، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله ، يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ، ثم يقوم من أجلي ، حتى أكون أنا التي انصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ ، حريصة على اللهو (٣).

وعن عروة عن عائشة قالت : دخل رسول الله وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، فدخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمار الشيطان عند رسول الله! فأقبل عليه رسول الله فقال : «دعهما ...» (٤).

وعن هشام عن أبيه عن عائشة قالت :

جاء حبش يزفنون ـ أي يرقصون ـ في يوم عيد في المسجد ، فدعاني النبي فوضعت رأسي على منكبه ، فجعلت أنظر إلى لعبهم ، حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم (٥).

__________________

(١) مسند أحمد ج ٦ / ٢٣٣.

(٢) صحيح مسلم ج ٦ / ١٦٠ ح ١٧ هامش حديث ٨٩٢.

(٣) صحيح مسلم ج ٦ / ١٦١ ح ١٨.

(٤) صحيح مسلم ج ٦ / ١٦١ ح ١٩ وقد تقدم عن بعض المصادر أيضا.

(٥) نفس المصدر ح ٢٠.

١٧٦

وعن عطاء قال : أخبرني عبيد بن عمير قال : أخبرتني عائشة أنها قالت للعابين : وددت أني أراهم ، قالت : فقام رسول الله وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقه وهم يلعبون في المسجد (١).

وعن ابن المسيّب عن أبي هريرة قال :

بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله بحرابهم ، إذ دخل عمر بن الخطاب ، فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها ، فقال له رسول الله «دعهم يا عمر» (٢).

هكذا ينظر كبار علماء العامة إلى رسول الله ، أنه ـ عندهم ـ رجل هزيل يلعب مع الجواري لأن زوجته جارية آنذاك ليرضيها ، بل يحملها على عاتقه لتنظر إلى لعب السودان وخده على خدها ، حتى أنه كان يسابقها فتسبقه مرة ، ويسبقها أخرى ، ولم يكتفوا بذلك حتى نسبوا إليه الخطأ في الرأي لما استشار أصحابه بالأسرى يوم بدر ، فيبدي رأيا ثم تنزل الآيات مصوبة لرأي غيره ، فيقعد ليبكي وينوح على ما فرط منه (٣) ، إلى غير ذلك من المخازي والمآسي التي يتنزّه عنها المؤمن العادي ، فكيف بسيّد الخلق رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النموذج الفذ لإرادة الله تعالى على الأرض ، إنه أبو القاسم الذي قال عنه الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

فإعطاء تلك الصورة القاتمة عن نبيّ الإسلام المعظّم والقدوة والأسوة الحسنة لهو الخيانة العظمى للتاريخ وللأمة وللإنسانية جمعاء.

__________________

(١) نفس المصدر ح ٢١.

(٢) نفس المصدر ح ٢٢.

(٣) ذكرها عامة مفسري العامّة في سورة الأنفال آية ٦٨.

١٧٧

قال الملك : فكيف نؤمن بنبيّ يشك في نبوته؟

قال العبّاسي : لا بدّ من تأويل هذه الرواية!

قال العلوي : وهل تصلح هذه الرواية للتأويل؟

أعرفت أيّها الملك : إنّ أهل السنّة يعتقدون بهذه الخرافات والأباطيل والخزعبلات؟!

قال العبّاسي :

وأي أباطيل وخرافات تقصد؟

قال العلوي : لقد بيّنت لك أنكم تقولون :

(١) ـ إن الله كالإنسان له يد ورجل وحركة وسكون.

(٢) ـ إن القرآن محرّف فيه زيادة ونقصان.

(٣) ـ إن الرسول يفعل ما لا يفعله حتى الناس العاديون من حمل عائشة على كتفه.

(٤) ـ إن الرسول كان يشك في نبوته.

٥ ـ إن الذين جاءوا إلى الحكم قبل «الإمام» عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام استندوا إلى السيف والقوة في إثبات أنفسهم ولا شرعيّة لهم.

٦ ـ إن كتبهم ـ أي كتب العامة ـ تروي عن أبي هريرة وأمثاله من الوضّاعين والدجالين ، إلى غير ذلك من الأباطيل.

قال الملك : دعوا هذا الموضوع وانتقلوا إلى موضوع آخر.

١٧٨

قال العلوي : ثم إن السّنّة ينسبون إلى رسول الله ما لا يجوز حتى على الإنسان العادي.

قال العبّاسي : مثل ما ذا؟

قال العلوي : مثل أنهم يقولون : إن سورة «عبس وتولّى» نزلت (١) في شأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

____________________________________

(١) هل صحيح أن السورة نزلت في حق النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وهل تصدّق ـ أخي القارئ ـ أن النبيّ عليه وآله السلام عبس بوجه ذاك البائس الفقير الذي جاء إلى رسول الله يسأله عن معالم دينه؟

بل نترقى أكثر ، هل بإمكانك أن تفعل ذلك بوجه مؤمن فقير جاءك يطلب حاجة وعندك أناس أثرياء؟

أسئلة تطرح على كل ذي فكر نيّر وضمير حيّ وقلب سليم فلا يصدّق أن النبيّ صاحب الخلق العظم عبس في وجه رجل فقير من أجل أراذل من المشركين ، لكن هناك الكثير من علماء العامة اعتقدوا أن سورة «عبس» نزلت في الرسول.

قال فخر الدين الرازي ـ وهو من أكابر علماء العامة ـ :

«أجمع المفسرون (١) على أن الذي عبس وتولّى هو الرسول ، وأجمعوا على أن الأعمى هو ابن مكتوم عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي وعنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعبّاس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال للنبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) اقرئني وعلمني مما علمك الله ،

__________________

(١) يقصد مفسري العامة وإلا فالمسألة مورد اتفاق عند الإمامية من أن العابس هو رجل من بني أمية.

١٧٩

وكرّر ذلك ، فكره رسول الله قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله يكرمه ، ويقول إذا رآه «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول : هل لك من حاجة ، واستخلفه على المدينة مرتين» (١).

وفي لفظ آخر : «وجعل يناديه ويكرر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس رسول الله وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم ...» (٢).

ولنا ملاحظات هي ما يلي :

١ ـ إنّ تلكم المرويات ضعيفة الأسانيد ، وأخبار آحاد لا يعوّل عليها ، ولا توجب علما ولا عملا ، فقد رواها أنس بن مالك وعائشة وابن عبّاس ، وهؤلاء لم يدرك أحد منهم القضية أصلا ، لأنه إمّا كان حينها طفلا أو لم يكن ولد بعد ..

٢ ـ اضطراب نصوصها ، بحيث لم يتفق راو مع الآخر بشأن الحاضرين عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى ابن كثير عن عائشة في رواية أنه كان عنده رجل من عظماء المشركين ، وفي رواية أخرى عنها : عتبة وشيبة. كما روى ابن عبّاس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يناجي عتبة وعمّه العبّاس وأبا جهل ، وفي رواية ابن عباس في تفسيره أنهم : العباس ، وأمية بن خلف ، وصفوان بن أمية. وعن مجاهد : صنديد من صناديد قريش ، وفي رواية أخرى عنه : عتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف.

.. هذا بالغضّ عن تناقض دلالاتها مع بعضها البعض في ذلك ، وفي نقل ما جرى ، وفي نصّ كلام الرسول وكلام ابن أم مكتوم.

٣ ـ إن ظاهر الآيات المدّعى نزولها في النبيّ هو أن العابس كان من عادته

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٣١ / ٥٤.

(٢) أسباب النزول ص ٣٦٥ للواحدي ، وفي لفظ روح المعاني ج ١٦ / ٦٨ : «ولم يعلم تشاغله بالقوم».

١٨٠