أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

سبحانه وتعالى لها تأويل وجيه يناسب القواعد والأصول العقلية والشرعية مع التأكيد على وجود آيات صريحة تفيد حرية الاختيار للإنسان ، وكونه قادرا على الهداية ونقيضها.

ولكي نفهم الآيات التي ظاهرها نسبة الضلال إليه تعالى علينا أن نوضح أقسام الهداية والضلال ، فنقول :

إن الاستقراء اللغوي والاصطلاحي يشير إلى معان عدة للضلالة هي ما يلي :

ـ المعنى الأول للضلالة :

هو التخلية على وجه العقوبة ، وترك المنع والقهر ومنع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم ، وسبب المنع ليس من الله سبحانه وتعالى ، وإنما سببه الإنسان حيث منع اللطف من الوصول إليه ، فيكون بذلك قد أضلّ نفسه عن الطريق الصحيح ، وهذا كمن يقال بحق من لا يصلح سيفه أنه «أفسده» ، بمعنى أنه لم يحدث فيه الإصلاح في كل وقت بالصقل والتّسنين.

أمّا المعنى الثاني للضلال :

فهو الإهلاك والعذاب والتدمير ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)(١).

وقوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٣) أي لم ولن يبطل أعمالهم.

وأمّا المعنى الثالث للضلال :

__________________

(١) سورة القمر : ٤٧.

(٢) سورة السجدة : ١٠.

(٣) سورة محمد : ٤.

١٤١

فهو التحيّر والتشكيك.

... هذه المعاني الثلاثة للضلال ذكرها القرآن الكريم ، والمعنى الأخير من هذه المعاني لا يجوز إضافته إلى الله سبحانه وتعالى لنسبة الجبر إليه تعالى وهو عين الظلم الذي يتنزّه عنه الحكيم المتعال.

ويأتي الضلال لغة بمعنى : «عدم الاهتداء إلى السبيل» ، كما لو قيل : «فلان ضلّ عن قومه» إذا لم يعرفوا مكانه ؛ ويقال : «ضلّ البعير» إذا لم يعرف مكانه. ويأتي بمعنى إخفاء الذكر ، ف «ضل : الشيء» إذا خفي ذكره. والمعنى الأخير ينطبق على الآيات التي حرّمت نسبة الضلال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) (١) لمخالفة الضلال لأدلّة العصمة.

وفي مقابل الضلال هناك الهداية وتطلق على معان متعددة في القرآن الكريم :

أولا :

أن تكون الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد. يقال : «هداه الطريق» أي دلّه عليه ؛ وهذا الوجه عام لجميع المكلّفين ، فإنه سبحانه وتعالى هدى كل مكلّف إلى الحق بأن دلّه عليه وأرشده إليه ، فلو لم يدلّه عليه لكان قد كلّفه بما لا يطيق ، ويدلّ على ما قلنا قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣) (٢) وقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) (٣).

ثانيا :

أن تكون الهداية بمعنى زيادة الألطاف الإلهية التي بها يثبت المؤمن على

__________________

(١) سورة الضحى : ٧.

(٢) سورة الإنسان : ٣.

(٣) سورة البقرة : ١٨٥.

١٤٢

الهدى نتيجة عمله الصالح ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (١).

ثالثا :

أن تكون الهداية بمعنى الإثابة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٢).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٣).

فهنا ربط الله سبحانه وتعالى دخول الجنّة وإصلاح البال بالإيمان والعمل الصالح والهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة ، وفي مقابل هذا حرّم الله سبحانه وتعالى دخول الجنّة على الكفار لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) ـ (أي تولّى إبليس) ـ (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤).

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥).

رابعا :

أن تكون الهداية بمعنى إيجادها في القلوب بإلقاء العلوم الضرورية فيها ، وهذا يشترك فيه جميع العقلاء.

خامسا :

أن تكون الهداية بمعنى الإمضاء والتنفيذ لقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٦) أي لا يمضيه ولا ينفّذه أو لا يصلحه.

__________________

(١) سورة محمد : ١٧.

(٢) سورة يونس : ٩.

(٣) سورة محمد : ٤ ـ ٥.

(٤) سورة الحج : ٤.

(٥) سورة النحل : ١٠٤.

(٦) سورة يوسف : ٥٢.

١٤٣

... هذه أهم معاني الهداية ؛ وأما أقسامها فهي على نحوين :

الأول : الهداية العامّة.

الثاني : الهداية الخاصة.

* أمّا الهداية العامة : فهي الهداية الإلهية الشاملة لكلّ الموجودات ، وهذه تنقسم إلى قسمين :

الأول :

الهداية العامة التكوينية ، وهي التي أعدّها الله سبحانه وتعالى في طبيعة كلّ موجود حيث تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها ، فالفأرة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة ، والنّمل يهتدي إلى تشكيل جمعية وحكومة ، والطفل يهتدي إلى ثدي أمه. فكلّ شيء في الوجود مجهّز بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها ؛ قال تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) ، وقال أيضا : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) ، وقال عزّ اسمه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٣).

فالهداية التكوينية ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع فيه من الأجهزة والإلهام حيث يوصلاه إلى الغاية التي خلقه الله سبحانه لأجلها.

الثاني :

الهداية العامة التشريعية ، وهي الهداية الشاملة تشريعا وتقنينا لكلّ موجود عاقل ، مفاضة عليه بتوسط عوامل خارجة عن ذاته كالأنبياء والأولياء والكتب ،

__________________

(١) سورة طه : ٥٠.

(٢) سورة الأعلى : ١ ـ ٣.

(٣) سورة الشمس : ٧ ـ ١٠.

١٤٤

وكل ما يدعو إلى الله عزوجل كالعلماء الربّانيين ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) وهذا القسم من الهداية يشمل كافة المكلّفين من الجن والإنس ، ولا يختصّ بطائفة دون أخرى ، ولا بجيل دون آخر ، والهداية العامة بكلا قسميها قد منحهما الله سبحانه للمكلّفين تكوينا وتشريعا على نحو الجبر والاختيار ، فالهداية التكوينية جبرية وليس للإنسان فيها صنع ، كحركات الأعضاء الداخلية (القلب ، الرئتين ..) وبقية الأعضاء التي تعمل دون اختيارنا وإرادتنا.

والهداية التشريعية اختيارية بمعنى أنّ بمقدور الإنسان أن يعمل بأوامر الشريعة ، أو لا يعمل ، فهو مختار لأن يسلك طريق الشريعة أو لا يسلكها.

* وأمّا الهداية الخاصة فلا قسيم لها ، بل هي عبارة عن عناية ربّانية يهبها الله سبحانه لخاصّة عبيده ، حسبما تقتضيه حكمته ، فيهيئ لهم ما به يهتدون إلى كمالهم ، ويصلون بواسطته إلى مقصودهم. والهداية الخاصة مشروطة ومعلّقة على الهداية العامة ، ومنها قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢).

فيكون معنى الإضلال الوارد في بعض الآيات القرآنية هو منعهم من هذه المواهب والألطاف الخاصة ، وخذلانهم في الحياة الدنيا منها ، لأنهم هم الذين منعوا من وصولها إليهم نتيجة تركهم العمل بالهداية العامة ، ولو عملوا بها لأفاض عليهم من ألطافه وإكرامه ، لأنّ الارتياض الروحي المعبّر عنه بالجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس الأمّارة بالسوء لازمه أن يمدّه الله سبحانه بهداية السبيل والوصول إلى شاطئ الأمان ، قال تعالى واعدا العاملين بإخلاص أن يفيض عليهم من التوفيقات الخاصة بقوله عزّ اسمه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٣).

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٣) سورة محمد : ١٧.

١٤٥

وفي مقابل آيات الهداية الخاصة ، هناك آيات تشعر باستحقاق الفرد المنحرف الضلال والحرمان من الهداية الخاصة ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (١) ، وقال أيضا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) (٢) ، وقال عزّ اسمه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٣) ، وقوله: (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٤) ، وقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥) ، وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (٦) ، وقوله أيضا : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧) ، وقوله عزّ اسمه : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٨) ، وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٩).

.. فالكافر والظالم والفاسق والخائن والمسرف .. كل هؤلاء يستحقون الحرمان من الهداية الخاصة ، والسبب كما قلنا هو تركهم العمل بالهداية العامة ؛ فهذه الآيات وأمثالها تثبت استحقاق الحرمان والضلال لمن تخلّى عن الهداية العامة ، فحرم من الهداية الخاصة.

وأما الضلال الذي ينسب إليه تعالى كما في بعض الآيات فيمكن صرفه بقرينتين :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦.

(٢) سورة النساء : ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٣) سورة الجمعة : ٥.

(٤) سورة ابراهيم : ٢٧.

(٥) سورة الصف : ٥.

(٦) سورة الأعراف : ١٤٨.

(٧) سورة النحل : ١٠٤.

(٨) سورة غافر : ٢٨.

(٩) سورة يوسف : ٥٢.

١٤٦

الأولى : إنّ الضلال المذكور يراد منه الضلال من الهداية الخاصة لا العامة ، وهذا الضلال أو الحرمان من الهداية الخاصة مسبوق دائما بظلم من العبد أو فسق صدر منه أو كفر أو تكذيب أو خيانة كما مرّ معك آنفا.

الثانية : الدليل العقلي المحكم الذي ينزّه الله سبحانه عن الظلم ، مضافا إلى ذلك وجود آيات كثيرة تبعد عن ساحته المقدّسة الظلم للعباد ، وتذمّ الظالمين ، كقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (١) ، وقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (٢) ، وقوله عزّ اسمه : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (٣) ، وقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٤).

فعدم هداية الله تعالى لبعض العباد المستحقين للهداية الخاصة يعدّ ظلما يتنزّه عنه سبحانه ، إذ كيف يعاقب الظالمين ويتوعدهم بالعذاب كما في الآيات المتقدّمة وهو في نفس الوقت يفعل الظلم وقد نهى عنه عزوجل.

* إذا عرفت ما ذكرنا تقف على حقيقة وهي :

إنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر والاختيار شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع ومقدور كل إنسان أن يهتدي بهداها ، ومن هنا لا يمكن لأحد أن يتشدّق ويقول : «إنّ الله ما هداني لكي التزم بأوامره ، فعند ما يهديني فسوف أفعل ما يطلبه مني» وهذا هو الشائع عند أغلب السّذج من الناس فإذا قلنا : «اتّق الله!» يجيبك على الفور «إن الله ما هداني بعد!».

إذن فالهداية الخاصة والعناية الزائدة التي يوليها الله سبحانه وتعالى لبعض العباد المخلصين الذين أفنوا أعمارهم في طاعته عزّ اسمه إنما هي نوع تسديد لهم

__________________

(١) سورة غافر : ٣١.

(٢) سورة الكهف : ٢٩.

(٣) سورة ابراهيم : ١٣.

(٤) سورة مريم : ٧٢.

١٤٧

ونافذة فيض عليهم ، إذ إنّ جوده وفيضه ينزل على من اتّسعت قابليته بالعلم والعمل (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١).

فالمشيئة الإلهية العامة تعلّقت بكل مكلّف ، والمشيئة الخاصة تعلّقت بصنف دون صنف ، ولم تك مشيئته جزافية ، بل الملاك في شمولها لصنف خاص من البشر هو قابليته وسعة صدره كما قلنا آنفا ، لأنه قد استفاد من الهدايتين التكوينية والتشريعية ، فاستحق بذلك اللطف الزائد منه عزوجل ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٢).

* * * * *

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) سورة فصلت : ٣٠ ـ ٣٢.

١٤٨

قال الملك : لا ، لا يمكن أن يجبر الله الإنسان على المعصية ثم يعاقبه ، إنّ هذا هو الظلم بعينه والله منزّه عن الظلم والفساد (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (آل عمران / ١٨٢) ولكن لا أظن أنّ أهل السنّة يلتزمون بمقالة العباسي؟

ثم وجّه خطابه إلى الوزير وقال :

هل أهل السنّة يلتزمون بذلك؟

قال الوزير : نعم ، المشهور(١) بين أهل السنّة ذلك!

قال الملك : كيف يقولون بما يخالف العقل؟

قال الوزير : لهم في ذلك تأويلات واستدلالات.

قال الملك : ومهما يكن من تأويل واستدلال ، فلن يعقل ولا أرى إلّا رأي السيّد العلوي : بأن الله لا يجبر أحدا على الكفر والعصيان ، ثم يعاقبه على ذلك؟

____________________________________

(١) القول بالجبر هو عقيدة جمهور العامة ، أخذوها من عمر بن الخطّاب ، حيث روي عنه أنه أول من قال بالجبر الافعالي ، يروون أن عمر خرج إلى الشام غازيا عام ١٧ للهجرة حتى إذا كان بسرغ لقيه الأمراء ، فأخبروه أن الأرض سقيمة ، فارجع بالناس فإنه بلاء وفناء.

فقال : أيها الناس إني راجع فارجعوا.

فقال له أبو عبيدة الجرّاح : أفرارا من قدر الله؟

قال : نعم ، فرارا من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له ـ

١٤٩

عدوتان ، إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله ، ثم قال : لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة ، فبينا الناس على ذلك إذ أتى عبد الرحمن بن عوف ، وقال : سمعت رسول الله يقول إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه ولا يخرجنّكم إلا ذلك ثم انصرف عمر وانصرفوا (١).

وروى الواقدي أيضا عن أم الحارث الأنصارية أنها رأت عمر بن الخطّاب في وقعة حنين عند ما انهزم المسلمون ، فقالت له : ما هذا؟

قال عمر : أمر الله (٢).

ولم يقتصر القول بالجبر على عمر ، بل تعدّاه إلى جماعة كمعاوية وبعض من أزواج النبي كعائشة ، فيروى أن عائشة قالت عند ما تعرّض الخوارج للإمام عليّ عليه‌السلام في النهروان : «ما يمنعني ما بيني وبين عليّ أن أقول الحق ، سمعت النبيّ يقول : تفترق أمتي على فرقتين ، تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم يحفون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبّهم إليّ وأحبّهم إلى الله ، فقال لها قتادة : يا أمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا ، فلم كان الذي منك؟

قالت : يا قتادة (وكان أمر الله قدرا مقدورا) وللقدر أسباب ...» (٣).

ولمّا اعترض عبد الله بن عمر على معاوية عند ما نصّب ولده يزيد خليفة من بعده قال له : «إني أحذّرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم ، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم» (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ١٥٩ باختصار.

(٢) المغازي للواقدي ج ٣ / ٦٠٤.

(٣) الأوائل ج ٢ / ١٢٥.

(٤) الإمامة والسياسة ج ١ / ٢١٠.

١٥٠

فالقول بالجبر عند بعض الصحابة يعبّر عن المصلحة السلوكية والازدواجية الشخصية التي كان يسلكها بعض الصحابة لتبرير أفعالهم الشريرة ، فابتدعوا نصوصا حلّلوا من خلالها الحرام ، وحرّموا الحلال تحقيقا لأغراضهم وإشباعا لرغباتهم ، ويكفي في ذلك ما فعله ابن الخطّاب عمر وصاحبه من اجتهادات واستحسانات قلبت موازين الشرع المبين ، وأسوأ شاهد على ما ذكرنا ما فعلاه يوم السقيفة وغصبهما للخلافة ولنحلة سيّدة نساء العالمين واتهامهما إياها بالكذب ، وقد طهّرها الله سبحانه في محكم آية التطهير ، والدخول عليها عنوة وجهرة أمام المسلمين ، وتوهينهم لها بضربها وكسر ضلعها ، وتسويد متنها إلى ما هنالك من مخازي يخجل القلم عن سردها.

وكان الحافز لاعتقاد هؤلاء بالجبر ـ كما اعتقده مشركو الجزيرة العربية (١) ـ هو تدعيم شرورهم بمنطق الدين والأمر الإلهي لهم ، وليصبغوا الشرعية على سلطنتهم وملكهم ، ولإخماد كل ثورة تطلّ عليهم بين الحين والآخر.

ويرجع الفضل في تثبيت دعائم فكرة الجبر إلى معاوية بن أبي سفيان لتدعيم حكمهم ـ كما أسلفنا ـ فبالغوا في ترويجها حتى ألجأهم الأمر إلى قتل من يرفضها ، فيروى أن معبد الجهني وغيلان الدمشقي اللذان رفضا فكرة الجبر قتلا على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي وهشام بن عبد الملك.

ثم تسلسلت فكرة الجبر إلى أن تسلّمها أبو الحسن الأشعري وقلّده فيها جمهور العامة ، لذا ينسبون إليه بالعقائد فيقال : إنهم أشعريون أصولا وأحناف أو مالكون أو حنبليون أو شافعيون فروعا.

أمّا المنكرون منهم لمسألة الجبر قليلون أمثال :

__________________

(١) كما قصّ القرآن الكريم حالهم بقوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف / ٢٨) وليراجع الفوائد البهية ج ١ / ١٩٦.

١٥١

أبو المعالي الجويني الشافعي المتوفى عام ٤٧٨ ه‍ ، والشيخ الشعراني المتوفى عام ٩٧٣ ه‍ ، والشيخ محمد عبده المتوفى عام ١٣٢٣ ه‍.

والجبر : هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى.

الفرق الجبرية :

الجبرية على أقسام :

الأولى : خالصة في الجبرية.

الثانية : متوسطة فيها.

الثالثة : كسبية.

ـ الخالصة : هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا.

ـ والمتوسطة : هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا.

ـ والكسبية : هي التي أثبتت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل (أي أن أعمال العباد مخلوقة له تعالى وهم فاعلون لها).

وأهم فرق الجبر ثلاث :

الفرقة الأولى : «الجهمية» ـ أصحاب جهم بن صفوان ـ ظهرت بدعته بترمذ ، وقتله مسلم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية ، وكان المذكور يخرج بأصحابه فيوقفهم على المجذومين ويقول : انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا منه لرحمة الله تعالى كما أنكر حكمته ، وقد وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أشياء ، من جملتها أنه لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيها ، فنفى كونه تعالى حيا عالما ، وأثبت كونه قادرا فاعلا خالقا لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق.

ومن جملة ما زاد : قوله في القدرة الحادثة ، حيث رأى أن الإنسان لا يقدر

١٥٢

على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنّما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار ، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات .. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر ، وإذا ثبت الجبر فالتكليف كان أيضا جبرا (١).

الفرقة الثانية : «النّجارية» ـ أصحاب حسين بن محمّد النّجّار ـ قال بخلق الأعمال خيرها وشرّها ، حسنها وقبحها ، والعبد مكتسب لها ، وأثبت تأثيرا للقدرة الحادثة ، ويسمى ذلك كسبا ، حسبما يثبته الأشعري (٢).

الفرقة الثالثة : «الضّرارية» ـ أصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد ـ قالا : «إن أفعال العباد مخلوقة للباري حقيقة ، والعبد مكتسبها حقيقة» (٣).

فالفرقتان الأخيرتان تقرّان بالكسب ، وحقيقة الكسب ترجع إليهما ، وتبعهما على ذلك أبو الحسن الأشعري ، لتقدّمهما على الأخير المتوفى سنة ٣٢٤ ه‍ ، ثم تبعه من أتى بعده.

وفي الواقع لا يختلف الكسب عن الجبر بشيء سوى بالاسم ، لأن حقيقة الجبر والكسب واحدة ، وهي أن العبد أداة وظرف للفعل الإلهي ولا علاقة لفعل العبد بصدور الفعل منه ، بل المصدر هو الله ، والمحل هو العبد. لذا عرّف القوشجي وهو أحد أعلام المذهب الأشعري :

«المراد بكسبه إياه ، مقارنته لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له» (٤).

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٨٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر ص ٩١.

(٤) شرح كشف المراد للقوشجي ص ٤٤٥ ط / قم.

١٥٣

يرد عليه :

أولا : إن ما ادّعاه أصحاب الكسب من أن قدرة العبد مقارنة لقدرة الرب يستدعي أن يكون وجود القدرة عند العبد وعدم وجودها سيّان ما دامت غير صالحة للتأثير ومغلوبة بقدرة الرب ، لذا قال ابن رشد :

لا فرق بين القول بالكسب وقول الجبرية إلّا باللفظ ، والاختلاف باللفظ لا يوجب الاختلاف في المعنى (١).

ثانيا : إن تحقق الفعل منه سبحانه وتعالى مقارنا لقدرة العبد لا يصحّح نسبة الفعل إلى العبد ، ومعه كيف يتحمّل مسئوليته إن لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه ، وعليه ، تكون الحركات الاختيارية تماما كالحركات الجبرية.

ثالثا : دعوى الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله تعالى وهو ظلم عظيم ، لأن الاعتقاد بالمقارنة عين الشرك وخلاف التوحيد الأفعالي لله سبحانه وتعالى.

استدلال الأشاعرة على صحة الجبر :

استدلوا على ذلك بأدلة عقلية وأخرى نقلية ، ومن العجيب استدلالهم بالعقل على صحة الجبر مع اعتقادهم بالحسن والقبح العقليين بل هما شرعيان عندهم ، فما أمر به الشرع هو حسن ، وما نهى عنه فهو قبيح ولا مدخل للعقل بذلك.

ونحن هنا سنتطرق إلى أدلتهم النقلية ، لعدم الاعتداد بأدلتهم العقلية لأن من لا يؤمن بأدلة العقل على قبح الجبر كيف يستدل ـ بنفس الوقت ـ على صحته؟ أليس هذا عين التهافت والتناقض؟ ومع هذا فقد تعرّضنا لأدلتهم العقلية في غير هذا الكتاب وأبطلناها من أساسها ببركة مواليّ الكرام عليهم‌السلام فراجع (٢).

__________________

(١) الفوائد البهيّة ج ١ / ٣٢٠.

(٢) الفوائد البهيّة ج ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢٦.

١٥٤

الأدلة النقلية :

استدل الأشاعرة على الجبر بظواهر الآيات والروايات مع معارضتها لأدلة العقل القاضي بنفي الجبر عن ساحة المولى ، لاستلزامه الظلم الذي يجب أن ينزّه عنه عزوجل ، إذ كيف يجبرنا على الأفعال ثم يعذّبنا عليها؟

وفي باب العقائد لا بدّ للمرء من حجة يستند إليها لتفيده القطع والاطمئنان ، ولا اعتداد بظواهر الأدلة السمعية إمّا لكونها من المتشابهات التي لا بدّ فيها من الرجوع إلى المحكم العقلي والنقلي ، وإمّا لعدم إفادتها القطع المذكور ، أو معارضتها للدليل القطعي ، فلا تخلو عن كونها ظنّا وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، فإذا كان كذلك فلا يمكن بل لا يجوز طرح الآيات المتشابهة التي اعتمدها القوم من أجل المصادقة المذكورة ، بل لا بدّ حينئذ من تأويلها بما يوافق العقل السليم والآيات الأخر في القرآن المجيد ، بحيث تخرج تلك الطائفة من الآيات عمّا أراده الجبريون.

من الآيات المعتمدة عندهم :

١ ـ الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١).

ومفاد الآية ـ بنظرهم ـ أنّ «ما» مصدريّة وليست اسما موصولا فيكون المعنى : الله خلقكم وأعمالكم أي «وخلق أعمالكم معكم» ومنها عبادة الأصنام وما شابهها.

لكنّ الظاهر والصحيح أنّ «ما» تعدّ اسما موصولا بلا إشكال ، وبقرينة ما قبلها كقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ف «ما» في هذه الآية موصولة ، فالمعنى : أن الله سبحانه استنكر على المشركين ووبّخهم لعبادتهم أصناما هي من

__________________

(١) سورة الصافات : ٩٦.

١٥٥

صنع أيديهم ، وكذا في الآية المستشهد بها فالمعنى أنه سبحانه خلقكم أيّها المشركون وخلق الأصنام التي صنعتموها بأيديكم ثم اتخذتموها أربابا من دونه تعالى.

وما استدل به الأشاعرة مخدوش لأمور :

أولا : إن قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) مرتبط بقوله تعالى : (ما تَنْحِتُونَ) فحيث إنّ «ما» في تنحتون موصولة فكذلك «ما» في الآية المذكورة أيضا موصولة ، ف «ما» في الآيتين منتظمتان ولا يصار إلى تفكيك النظم إلا بدليل قاطع وهو مفقود في البين (١).

ثانيا : الآية في صدد بيان تقريع صدر من النبيّ إبراهيم عليه‌السلام لعبدة الأوثان لما صنعوه ، فلو كان ذلك من فعله تعالى لما توجّه عليهم العيب والعتاب والتقريع ، بل كان عليهم أن يقولوا : (لم توبّخنا على عبادتنا الأصنام والله الفاعل لذلك) فتكون الحجة لهم لا عليهم!.

ثالثا : إنّ «الخلق» في أصل اللغة هو التقدير للشيء وترتيبه ، فعلى هذا لا يمتنع أن نقول : إنّ الله خالق أفعالنا بمعنى أنه قدّرها للثواب والعقاب فلا تعلق للقوم على حال (٢).

٢ ـ الآية الثانية :

قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٣).

استدل أبو الحسن الأشعري (حفيد أبي موسى الأشعري) بهذه الآية على حصر خلق الأفعال به تعالى ، ونفيه عن غيره حتى على نحو الطولية أي أن الأشعري حصر الخلق والإيجاد على وجه الإطلاق به سبحانه ونفاه عن غيره بتاتا

__________________

(١) تفسير الكشاف للزمخشري ج ٤ / ٤٩.

(٢) تفسير التبيان للشيخ الطوسي ج ٨ / ٥١٤.

(٣) سورة فاطر : ٣.

١٥٦

بدعوى إنكار تأثير الظواهر الطبيعية بعضها ببعض ورفض مبدأ السببية والمسببيّة كما مرّ معنا سابقا.

ولكن ما ادّعاه الأشعري مردود :

أولا : بما ورد من الآيات الأخرى التي تنسب الخلق إلى غيره بإذنه تعالى كما في قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (١) ، (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (٢) ، (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٣).

فدلالات الآيات واضحة على نوعين من الخلق :

الأول : خلق الأجساد.

الثاني : خلق الأعمال.

فالإنسان قد يخلق الأجساد من العدم بإذنه تعالى وقدرته ، وكذا يمكنه أن يخلق أفعالا حسنة وشريرة بما أعطاه سبحانه من القدرة التي بها فعل القبيح ولكن ليس معنى ذلك أنه أمره بالقبيح ، وإنما أساء استعمالها في موردها الصحيح.

كما ويمكن للإنسان أن تصدر منه أفعال هي من مختصات الباري إلّا أنه أجازها لغيره تبعا لقدرته عزوجل أمثال الرزق والزرع الغلبة والنصر ، فإنه وإن وردت آيات في حصر هذه الأمور به تعالى لكن في مقابلها آيات تفيد إمكان الإنسان أن يزرق غيره بإذنه تعالى وأن يزرع وأن ينصر ، كل ذلك بتوسط القدرة التي حباها الله لعباده.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٤).

__________________

(١) سورة المائدة : ١١٠.

(٢) سورة آل عمران : ٤٩.

(٣) سورة العنكبوت : ١٧.

(٤) سورة الذاريات : ٥٨.

١٥٧

هنا حصر الرازقية به تعالى دون غيره. ولكنه في آية أخرى فوّضها إلى بعض العباد بإذنه وبطول إرادته كما في قوله عزّ اسمه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (١) ، (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٢).

وكذا حصر الزراعة به تعالى بقوله : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣) ، وفي نفس الوقت يعدّ الإنسان زارعا كما في قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (٤).

ثانيا : إنّ ما استدل به الأشعري وأتباعه على صحة الجبر ونسبة إيجاد الأفعال إليه تعالى معارضة بغيرها من الآيات ، فتصرف التي ظاهرها الجبر عن ظاهرها.

وهناك أصناف من الآيات المعارضة لتلك الظاهرة في الجبر وهي :

ـ الصنف الأول : الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (٥).

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) (٦).

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٧).

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٨).

__________________

(١) سورة النساء : ٥.

(٢) سورة المؤمنون : ٧٢.

(٣) سورة الواقعة : ٦٤.

(٤) سورة الفتح : ٢٩.

(٥) سورة البقرة : ٧٩.

(٦) سورة الأنعام : ١١٦.

(٧) سورة الرعد : ١١.

(٨) سورة يوسف : ١٨.

١٥٨

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) (١).

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٢).

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣).

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٤).

(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) (٥).

ـ الصنف الثاني : الآيات الدالة على مدح المؤمنين على إيمانهم وذمّ الكفّار على كفرهم :

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٦).

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧).

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٨).

(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٩).

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠).

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١١).

__________________

(١) سورة المائدة : ٣٠.

(٢) سورة النساء : ١٢٣.

(٣) سورة المدثر : ٣٨.

(٤) سورة الطور : ٢١.

(٥) سورة ابراهيم : ٢٢.

(٦) سورة غافر : ١٧.

(٧) سورة الجاثية : ٢٨.

(٨) سورة الأنعام : ١٦٤.

(٩) سورة طه : ١٥.

(١٠) سورة النمل : ٩٠.

(١١) سورة الأنعام : ١٦٠.

١٥٩

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) (١).

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) (٣).

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤).

ـ الصنف الثالث : الآيات الدالة على التهديد والتغيير :

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٥).

(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٦).

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٧).

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٨).

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٩).

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (١٠).

ـ الصنف الرابع : الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال :

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١١).

__________________

(١) سورة طه : ١٢٤.

(٢) سورة البقرة : ٨٦.

(٣) سورة آل عمران : ٩٠.

(٤) سورة فصلت : ٤٦.

(٥) سورة فصلت : ٤٠.

(٦) سورة الكهف : ٢٩.

(٧) سورة المدثر : ٣٧.

(٨) سورة المدثر : ٥٥.

(٩) سورة الإنسان : ٢٩.

(١٠) سورة النبأ : ٣٩.

(١١) سورة آل عمران : ١٣٣.

١٦٠