أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١) ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢).

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٣).

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٤).

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب العمل بما في القرآن ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره.

وظواهر الكتاب حجة إلا المتشابه فلا يجوز العمل به من دون الرجوع إلى المحكم ، وهذا نظير ظواهر اللغة ، حيث إن ظاهر اللفظ يحمل على عدة معان ، فلا بدّ من تعيين المراد من قرينة تصرفه عن غيره.

واستدل على حجية ظواهر الكتاب ـ إلّا المتشابه ـ بأمور :

١ ـ أن القرآن نزل حجة من ربّ العالمين على قلب رسول الله محمّد

الذي تحدّى الجن والإنس على أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، ومعنى هذا : أنّ العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره ، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته ، ولم يثبت لهم إعجازه ، لأنهم ـ على هذه الحال ـ ليسوا ممن يستطيعون فهمه ، وهذا ينافي الغرض من إنزاله ودعوة البشر إلى الإيمان به والأخذ بمضامينه بتدبر آياته.

__________________

(١) سورة محمد : ٢٤.

(٢) سورة الزمر : ٢٧.

(٣) سورة الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥.

(٤) سورة آل عمران : ١٣٨.

(٥) سورة الدخان : ٥٨.

١٢١

٢ ـ الروايات المتضافرة الآمرة بالتمسّك بالثقلين اللذين تركهما النبيّ في المسلمين ، ومن الواضح أن معنى التمسك بالكتاب هو الأخذ به ، والعمل بما يشتمل عليه ، ولا معنى له سوى ذلك.

٣ ـ الروايات المتواترة التي أمرت بعرض الأخبار على الكتاب ، وأن ما خالف الكتاب منها يضرب على الجدار ، أو أنه باطل أو زخرف إلى ما هنالك من تعبيرات صدرت منهم عليهم‌السلام ، وهذه الروايات صريحة في حجية ظواهر الكتاب ، وأنه مما يفهمه عامة أهل اللسان العارفين بالفصيح من لغة العرب.

٤ ـ استدلالات الأئمة عليهم‌السلام على جملة من الأحكام الشرعية وغيرها بالآيات القرآنية ، معلّمين شيعتهم كيف يستنبطون الأحكام من الكتاب في غيبة قائمهم عليه‌السلام وعجّل الله تعالى فرجه الشريف منها :

قول الإمام الصادق عليه‌السلام ، حينما سأله زرارة من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟ قالعليه‌السلام : لمكان الباء.

ومنها : قوله عليه‌السلام في نهي الدوانيقي عن قبول خبر النّمام : أنه فاسق ، وقد قال الله تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١).

ومنها قوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله ، أما سمعت قول الله عزوجل :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢).

ومنها : قوله عليه‌السلام لابنه إسماعيل : «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» مستدلا بقول الله عزوجل :

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.

١٢٢

(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١).

ومنها : قوله عليه‌السلام في تعليل نكاح العبد للمطلّقة ثلاثا «أنّه زوج» ، قال الله عزوجل :

(حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢).

ومنها : قوله عليه‌السلام في أن المطلقة ثلاثا لا تحلّ بالعقد المنقطع : إن الله تعالى قال :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) (٣).

ولا طلاق في المتعة.

ومنها : قوله عليه‌السلام فيمن عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة : إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب الله تعالى :

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤).

ثم قال : امسح عليه.

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حليّة بعض النساء بقوله تعالى :

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٥).

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على عدم جواز نكاح العبد بقوله تعالى :

(عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) (٦).

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٠.

(٣) سورة البقرة : ٢٣٠.

(٤) سورة الحج : ٧٨.

(٥) سورة النساء : ٢٤.

(٦) سورة النحل : ٧٥.

١٢٣

ومنها : استدلاله عليه‌السلام على حليّة بعض الحيوانات بقوله تعالى :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) (١).

وغير ذلك من استدلالاتهم عليهم‌السلام بالقرآن في موارد كثيرة ، وهي متفرقة في أبواب الفقه وغيرها.

وهناك من أسقط حجية ظواهر الكتاب مستدلين على ذلك بوجوه :

الوجه الأول : اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به.

فقد روى أصحاب هذه الدعوى أخبارا في ذلك ، منها :

رواية زيد الشحام ، قال :

«دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟

فقال : هكذا يزعمون ، فقال عليه‌السلام : بلغني أنك تفسّر القرآن؟ قال : نعم ، إلى أن قال : يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ـ ويحك ـ إنما يعرف القرآن من خوطب به.

والجواب :

١ ـ تضمنت الرواية على لفظ التفسير ، وهو بمعنى كشف القناع ، فلا يشمل ـ كشف القناع ـ الأخذ بظاهر اللفظ ، لأنه غير مستور ليكشف عنه القناع ، ويدل عليه ما ورد من وجوب عرض الأخبار على كتاب الله تعالى ، فلو لم يكن بوسع غير المعصوم عليه‌السلام فهم القرآن كيف يأمرون حينئذ بعرض أخبارهم على الكتاب؟!

٢ ـ يراد من هذه الرواية وأمثالها أن فهم القرآن حق فهمه ، ومعرفة ظاهره

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٥.

١٢٤

وباطنه ، وناسخه ومنسوخه مختص بمن خوطب به وهم أهل البيت عليهم‌السلام ، ويؤيد هذا ما ورد في مرسلة شعيب بن أنس عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لأبي حنيفة :

«أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : فبأي شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيّه ، قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ـ ويلك ـ ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك ما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ورّثك الله تعالى من كتابه حرفا.

فالرواية صريحة في ذلك ، حيث كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حق معرفته ، وتمييز الناسخ والمنسوخ وما شابه ذلك ، وكان توبيخ الإمام عليه‌السلام لأبي حنيفة على دعوى معرفة ذلك.

هذا مضافا إلى أن رواية قتادة صريحة في حرمة تفسير القرآن بالرأي والقياس من دون الرجوع إلى من خوطب بهم القرآن ، لأنهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته ، وليس لغيرهم في ذلك نصيب ، هذا هو معنى الروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة وقتادة لا يعرفان شيئا من كتاب الله حتى مثل قوله تعالى :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). وأمثال هذه الآية مما يكون صريحا في معناه.

الوجه الثاني : النهي عن التفسير بالرأي.

ادّعى «من تمسّك بعدم جواز الأخذ بظاهر اللفظ» بأنه من التفسير بالرأي ، وقد نهى عنه في روايات متواترة بين الفريقين.

والجواب :

١ ـ إن التفسير هو كشف القناع ، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره ، لأنه ليس بمستور حتى يكشف ، ولو فرضنا أنه تفسير فليس تفسيرا بالرأي لتشمله

١٢٥

الروايات الناهية المتواترة ، وإنما هو تفسير بما يفهمه العرف من اللفظ ، فإن الذي يترجم خطبة من خطب نهج البلاغة ـ مثلا ـ بحسب ما يفهمه العرف من ألفاظها ، وبحسب ما تدل القرائن المتصلة والمنفصلة ، لا يعدّ عمله هذا من التفسير بالرأي ، وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام بقوله : إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم.

٢ ـ إن معنى التفسير بالرأي ـ كما قلنا ـ هو الاستقلال بفهم الآية أو الفتوى من غير مراجعة الأئمة عليهم‌السلام ، مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الإنسان بالعمومات أو الاطلاقات الواردة في الكتاب ، ولم يأخذ بالتخصيص أو التقييد الوارد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام كان هذا من التفسير بالرأي.

وعليه فحمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة من الكتاب والسنّة ، أو الدليل العقلي لا يعدّ من التفسير بالرأي بل ولا من التفسير نفسه ، لأن التفسير ـ كما قلنا ـ هو كشف القناع وليس منه حمل اللفظ على ظاهره.

هذا مضافا إلى أن الروايات دلت على الرجوع إلى الكتاب والعمل بما فيه ، ومن البيّن أن المراد من ذلك الرجوع إلى ظواهره ، وحينئذ فلا بدّ وأن يراد من التفسير بالرأي غير العمل بالظواهر جمعا بين الأدلة.

الوجه الثالث : غموض معاني القرآن.

حيث اشتماله على معان شامخة ، ومطالب غامضة ، وكل ذلك يكون مانعا عن فهم معانيه ، والإحاطة بما أريد منه.

والجواب :

إن القرآن وإن اشتمل على علم ما كان وما يكون ، وكانت معرفة هذا من القرآن مختصة بأهل البيت عليهم‌السلام من دون ريب ، ولكن ذلك لا ينافي أن للقرآن

١٢٦

ظواهر يفهمها العارف باللغة العربية وأساليبها ، ويتعبّد بما يظهر له بعد الفحص عن القرائن.

الوجه الرابع : العلم بإرادة خلاف الظاهر.

حيث إننا نعلم ـ إجمالا ـ بورود مخصّصات لعمومات القرآن ، ومقيّدات لإطلاقاته ، ونعلم بأن بعض ظواهر الكتاب غير مراد قطعا ، وهذه العمومات المخصّصة ، والمطلقات المقيّدة والظواهر غير المرادة ليست معلومة بعينها ، ليتوقف فيها بخصوصها ، ونتيجة هذا أن جميع ظواهر الكتاب وعموماته ومطلقاته تكون مجملة بالعرض ، وإن لم تكن مجملة بالأصالة ، فلا يجوز أن يعمل بها حذرا من الوقوع في مخالفة الواقع.

والجواب :

إن هذا العلم الإجمالي إنما يكون سببا للمنع عن الأخذ بالظواهر ، إذا أريد العمل بها قبل الفحص عن المراد ، وأما بعد الفحص والحصول على المقدار الذي علم المكلّف بوجوده إجمالا بين الظواهر ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي ، ويسقط عن التأثير ، ويبقى العمل بالظواهر بلا مانع ، ونظير هذا يجري في السنّة الشريفة أيضا ، فإنّا نعلم بورود مخصصات لعموماتها ، ومقيدات لمطلقاتها ، فلو كان العلم الإجمالي مانعا عن التمسك بالظواهر حتى بعد انحلاله لكان مانعا عن العمل بظواهر السنّة أيضا ، بل ولكان مانعا عن إجراء أصالة البراءة في الشبهات الحكمية ، الوجوبية منها والتحريمية ، فإن كل مكلّف يعلم بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدّسة ، ولازم هذا العلم الإجمالي وجوب الاحتياط عليه في كل شبهة تحريمية ، أو وجوبية يقع فيها مع أن الاحتياط ليس بواجب فيها يقينا.

النقطة الثانية : المحكم والمتشابه في القرآن.

لا يخفى أن في القرآن الكريم متشابها ومحكما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي

١٢٧

قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (١).

فقد قسّمت الآية المباركة القرآن إلى قسمين : محكم ومتشابه ، في حين أن هناك آيات دلت على أن القرآن كله محكم كقوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (٢) وآيات أخر دلت على أن القرآن كله متشابه بمعنى أن آياته على وتيرة واحدة في الجمال والرونق والأسلوب وحلاوة الإعجاز كقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (٣) ومعنى المحكم : هو اللفظ الذي لا يختلف العارفون في فهم معناه ، ولا يتردد في المراد منه خبراء اللسان من العلماء.

أو بعبارة هو : اللفظ الواضح لا يشتبه بغير المقصود ، فالمحكم القرآني هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، ومنه آية (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

ومعنى المتشابه : هو اللفظ الذي يتردد الذهن في بيان معناه ، وتختلف الأنظار في ترجيح المقصود من لفظه.

أو هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبّر عنه ب (التأويل) لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، ومنه قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فالعرش فيها مردد مفهومه بين أمرين : مادي وآخر معنوي. فالذين في قلوبهم زيغ أخذوا بالمعنى المادي للعرش ، بينما أهل البصائر أخذوا بالمعنى الآخر الذي دلت عليه المحكمات.

وقد يسأل المرء : إذا كان الكتاب المجيد كتاب هداية ورشاد ، فلما ذا ادخلت الآي المتشابهة إليه ، مع أن القرآن وصف نفسه بالنور والهدى والبينات ، وهذه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧.

(٢) سورة هود : ١.

(٣) سورة الزمر : ٢٣.

١٢٨

الأوصاف لا تتفق مع عدم معرفة المعاني والمداليل باللفظ المتشابه؟

هذا بالإضافة إلى أنه كيف يصح أن يكون التدبر في القرآن ـ كما في آيات عدة ـ رافعا لكل اختلاف مع أن فيه آيات متشابهات لا يمكن التوصل إلى معرفة معناها ، وعليه فما الحكمة من وجود المتشابه القرآني؟

والجواب :

صحيح أن الآية ٧ من آل عمران صريحة في نفي تأويله عن غير الله والراسخون في العلم ، وكذا وجود متشابه فيه لا يعني عدم كونه هاديا مهديا ، إذ إن نفي التأويل عما ذكره تعالى يستلزم الارتباط بمن وصفهم «بأنهم راسخون» الذي يحيطون ـ كما قلنا سابقا ـ بكنه معانيه وأسراره ، فعلى المؤمنين أن يقبسوا من هؤلاء ليضيئوا لهم الطريق ، ويفتحوا لبصائرهم الآفاق الروحية والسلوكية.

هذا مضافا إلى أن رجوع المتشابه إلى المحكم يجعله محكما بمعنى أن إرجاع الآيات المتشابهة إلى المحكمة لمعرفة معناها الحقيقي ، يجعل من المتشابه به محكما ، ويشهد لهذا أن الآية الكريمة عبّرت عن المحكمات بأنهنّ أم الكتاب ، ومعنى هذا أن الآية المحكمة تشتمل على أمهات ما في الكتاب من الموضوعات وبقية الآيات متفرعة عنها ، ولازم هذا أن الآيات المتشابهة ترجع إلى الآيات المحكمة في مداليلها والمراد منها ، مما يعني إرجاع المتشابهات إلى المحكمات لمعرفة معناها الحقيقي.

وعليه : «ليس في القرآن آية لا نتمكن من معرفة معناها ، بل الآية إما محكمة بلا واسطة شيء معها كالمحكمات نفسها أو محكمة مع الواسطة كالمتشابهات ، وأما الحروف المقطعة في فواتح السور فليس لها مدلول لفظي لغوي ، فهي ليست من المحكم والمتشابه ، ويمكن معرفة ما قلناه من عموم قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١) وقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ

__________________

(١) سورة محمّد : ٢٤.

١٢٩

لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

وما نفهمه من ملخص ما أثر عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام هو نفي وجود آية متشابهة لا يمكن معرفة مدلولها الحقيقي ، بل الآيات التي لم تستقل في مداليلها الحقيقية يمكن معرفة تلك المداليل بواسطة آيات أخرى ، وهذا معنى إرجاع المتشابه إلى المحكم ، فإن ظاهر قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) وقوله (وَجاءَ رَبُّكَ) (٣) يدل على الجسمية وأن الله تعالى مادة ، ولكن لو أرجعناهما إلى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤) علمنا أن الاستواء والمجيء ليسا بمعنى الاستقرار في مكان أو الانتقال من مكان إلى آخر.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسب ما روي عنه وهو يصف القرآن الكريم : «وإن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا ، ولكن نزل يصدّق بعضه بعضا ، فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به» (٥).

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام : «يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض» (٦).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله» (٧).

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام : «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم» ثم قال : «إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا» (٨).

__________________

(١) سورة النساء : ٨٢.

(٢) سورة طه : ٥.

(٣) سورة الفجر : ٢٢.

(٤) سورة الشورى : ١١.

(٥) الدر المنثور ج ٢ / ٩.

(٦) الدليل على موضوعات نهج البلاغة ص ٢٤٨.

(٧) تفسير العياشي ج ١ / ٢٢ و ٢٣.

(٨) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٨٢ ح ٢٢.

١٣٠

«إن هذه الأحاديث وخاصة الأخير منها صريحة في أن الآيات المتشابه هي الآيات التي لا تستقل في مدلولها بل لا بد من ردّها إلى الآيات المحكمة ، ومعنى هذا أنه ليس في القرآن آية لا يمكن معرفة معناها بطريق من الطرق» (١).

يرد عليه :

أنّ هناك آيات مهما حاولنا أن نضم إليها آيات أخر لا يمكننا أن نرفع الإبهام الموجود فيها ، فتبقى على إجمالها ، حتى فسّرها المعصوم عليه‌السلام كالآيات التي تبخر بالإجمال عن العوالم المادية والروحية ، وكبعض آيات الأحكام ، منها قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٢).

فبعض المتشابهات لها محكم يفسّرها ، وبعض يبقى على إجماله حتى يرد له تفسير من المعصوم عليه‌السلام ، وإلا لو قلنا إن المتشابه دائما له محكم في القرآن لاستغنى الناس عن المعصوم عليه‌السلام ، وللغى قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) وقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤) (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥) ، اللهم إلّا أن يقال : إن المتشابه المفسّر بالمحكم موجود في القرآن لكن العقول البشرية العادية لا تدركه ، عدا المعصوم فإن عنده الإحاطة به وتفسيره ، وبما وضّحنا يثبت ما ادّعاه سيدنا الطباطبائي «أعلى الله مقامه» من أن القرآن كله محكم ، فالمتشابهات بالقياس إلى أهل الذكر هي محكمات ، وبالقياس إلى غيرهم ممن لا يأخذ منهم تبقى على حالها حتى يرد عليها المحكم.

__________________

(١) القرآن في الإسلام ص ٤٥ ـ ٤٦ العلامة محمد حسين الطباطبائي (قدس‌سره).

(٢) سورة الإسراء : ٧٨.

(٣) سورة الحشر : ٧.

(٤) سورة النساء : ٥٩.

(٥) سورة النور : ٥٤.

١٣١

فإنكار وجود المتشابه بحجة أن القرآن كتاب هداية لا يصلح علاجا لواقعية لا محيص عنها ، نعم لا يصطدم وجود المتشابه في القرآن مع كونه كتاب هداية لعموم المكلّفين وذلك لأمرين :

الأول : ضآلة جانب المتشابه ، بحيث كان الطريق أمام المستهدين بهدى القرآن الكريم فسيحا جدا.

الثاني : هداية الكتاب تعني كونه المصدر الأول للتشريع وتنظيم الحياة العامة ، وهذا لا يعني إمكان مراجعة الأفراد ـ بالذات ـ للقرآن في جميع أحكامه وتشريعاته ، إذ لمثل ذلك اختصاصيون يعرفون من الكتاب ما لا تعرفه العامة ، وهم يشكّلون قيادة الأمة على هدى الكتاب ، وبذلك أصبح القرآن مصباحا ينير درب الحياة على ركب الإنسانية بشكل عام.

فالآي المتشابهة متشابهة بالذات ، وإنما يعرف الراسخون في العلم تأويلها الصحيح ، بفضل جهودهم وتعمّقهم في أغوار هذا الدين ، ليستنبطوا من كنوزه المستورة لئالي وهّاجة تبهر العقول.

والسر في وجود المتشابه في القرآن مع أنه كتاب هداية يرجع إلى أمور ، منها :

١ ـ إن الأحاديث (١) الشريفة المتواترة دلت على أن القرآن بآياته بحاجة إلى تفسير من أهل بيت النبوة ، وذلك لمواكبة القرآن لكل العصور والأزمنة ، فكل إمام يتولّى تفسير كل آية بما يناسب عصره ، لكون القرآن كتاب هداية ، تشمل هدايته القرون والأجيال.

٢ ـ إن الأمم لا بدّ أن تدين بالإسلام في كل زمان ومكان ومن أي لسان ، وعليها أن تتعلم القرآن ، وهذا التعليم يختلف حسب اختلاف المترجمين والمفسرين ، ودرجات علومهم وحلومهم ، ومعارف عصورهم ، ولا بدّ لهم أن

__________________

(١) كأخبار ربط القرآن بالعترة لا يفترقان حتى يردا الحوض ، وخبر السفينة وما شابه ذلك.

١٣٢

يقرءوا القرآن ، فربّ آية محكمة عند قوم هي متشابهة عند آخرين وبالعكس نظير قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١) فإنها محكمة في عصرنا بينما كانت متشابهة منذ مئات السنين.

٣ ـ الحكمة من وجود المتشابه هو ألّا يتفرد الإنسان بعقله في فهم كلام الله سبحانه ، لأن كلامه عميق ، يحتوي على معارف عالية جدا ، فهو حمّال ذو وجوه كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يحتوي على تعابير بلاغية متنوعة من المجاز والاستعارة والتشبيه ، فأكسبه ذلك خاصية أن تعطف كل طائفة بما يروقها من آيات لغرض تأميلها إلى الوجه الذي يؤيد مذهبها ، لذا نهى الإمام عليعليه‌السلام عن الاحتجاج بالقرآن تجاه أهل البدع والأهواء ، لأنهم يعمدون إلى تأويله بلا هوادة ، حيث قال لابن عبّاس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج : «لا تخاصمهم بالقرآن ، فإن القرآن حمّال ذو وجوه ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا».

٤ ـ إن وقوع التشابه في القرآن ـ الكتاب السماوي الخالد ـ شيء لا محيص عنه ، ما دام كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم ، في سمو فحواه عن مستواهم الهابط.

فقد جاء القرآن بمفاهيم حديثة كانت غريبة عن طبيعة المجتمع البشري آنذاك ، ولا سيّما جزيرة العرب القاحلة عن أنحاء الثقافات ، في حين التزامه ـ في تعبيراته الكلامية ـ نفس الأساليب التي كانت دارجة ذلك العهد ، الأمر الذي ضاق بتلك الألفاظ ، وهي موضوعة لمعان مبتذلة وهابطة إلى مستوى سحيق ، من أن تحيط بمفاهيم هي في درجة راقية وبعيدة الآفاق ، كانت الألفاظ والكلمات ـ التي كانت العرب تستعملها في تعبيراتها ـ محدودة في نطاق ضيّق حسبما كانت العرب

__________________

(١) سورة النمل : ٨٨.

١٣٣

تألفه من معان محسوسة أو قريبة من الحس ومبتذلة إلى حدّ ما ، فجاء استعمالها من قبل القرآن ـ الكتاب الذي جاء للبشرية على مختلف مستوياتهم إلى الأبد ـ غريبا عن المألوف العام.

ومن ثم قصرت أفهامهم عن إدراك حقائقها ما عدا ظواهر اللفظ والتعبير ، إذ كانت الألفاظ تقصر بالذات عن أداء مفاهيم لم تكن تطابقها ، ومن ثمّ كان اللجوء إلى صنوف المجاز وأنواع الاستعارات ، أو الإيفاء بالكناية ودقائق الإشارات ، الأمر الذي قرّب المفاهيم القرآنية إلى مستوى أفهام العامة من جهة ، وبعدها من جهة أخرى ، قربها من جهة إخضاعها لقوالب لفظية كانت مألوفة لدى العرب ، وبعدها حيث سمو المعنى ، كان يأبى الخضوع لقوالب لم تكن موضوعة لمثله ، كما كان يأبى النزول مع المستوى الهابط مهما بولغ في إخضاعه ، إذ اللفظ يقصر عن أداء مفهوم لا يكون قالبا له ولا يتطابقه تماما.

هذه الوجوه هي السبب الأقوى لوقوع التشابه في تعبيرات القرآن بالذات ككثير من مسائل كلامية غامضة تبحث عن شئون المبدأ تعالى والمعاد ، ومسائل شئون الخليفة وما انطوت عليه من أسرار وغوامض خافية على غالبية الناس.

* * * * *

١٣٤

ارتبك العبّاسي أمام هذا المنطق الصائب وتحيّر في الجواب ، ثم قال : إني لا أقبل هذا الكلام ، وما علينا أن نأخذ بظواهر آيات القرآن.

قال العلوي :

فما نصنع بالآيات المتشابهات؟ ثم إنك لا يمكنك أن تأخذ بظاهر كل القرآن ، وإلّا لزم أن يكون صديقك الجالس إلى جنبك الشيخ أحمد عثمان (وهو من علماء السنّة وكان أعمى البصر) من أهل النار؟

قال العبّاسي :

ولما ذا؟

قال العلوي :

لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء / (٢) ٧) ، فحيث إنّ الشيخ أحمد أعمى الآن في الدنيا فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ، فهل ترضى بهذا يا شيخ أحمد؟

قال الشيخ : كلا ، كلا ، فإنّ المراد ب (الأعمى) في الآية : المنحرف عن طريق الحق.

قال العلوي :

إذن ثبت أنه لا يتمكن الإنسان أن يعمل بكل ظواهر القرآن.

وهنا اشتدّ الجدال حول ظواهر القرآن ، هذا والعلوي يفحم العبّاسي بالأدلة والبراهين حتى قال الملك :

دعوا هذا الموضوع وانتقلوا إلى غيره.

١٣٥

قال العلوي :

ومن انحرافاتكم وأباطيلكم ـ أنتم السنّة (١) ـ حول الله سبحانه أنكم تقولون : إنّ الله يجبر العباد على المعاصي والمحرّمات ثم يعاقبهم عليها؟

قال العبّاسي :

هذا صحيح لأن الله يقول : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (الزمر / (٢٣) ، ويقول : (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة / (٩٣).

____________________________________

(١) مصطلح «أهل السّنّة والجماعة» مبتدع لا أساس له قبل ظهور الدولة الأموية ، لذا قال العلّامة الكبير الشيخ محمود أبو رية :

إننا لا نعرف شيئا اسمه (أهل السّنّة) ولا شيئا آخر يقابلها من سائر الفرق أو المذاهب التي استحدثت بين المسلمين لتعريفهم ، وبخاصة فإن وصف أهل السنّة هذا لم يكن معروفا قبل معاوية بن أبي سفيان ، وقد استحدثوه في عهده في العام الذي وصفوه بأنه «عام الجماعة» نفاقا للسياسة لعنها الله ، وما كان إلّا عام الفرقة (١).

وقال الأستاذ صالح الورداني في كتابه «أهل السنّة شعب الله المختار» مجيبا على سؤالين مفادهما : متى ظهر لفظ أهل السّنّة والجماعة ، ومتى ظهرت عقيدتهم؟ :

«إن الإجابة على هذين السؤالين لا وجود لها عند أهل السنّة ، أو بمعنى أصح هم يجيبون إجابة مبهمة وغير مقنعة محاولين إلصاق أنفسهم بالرسول وبالصحابة لأجل إضفاء الشرعية على عقيدتهم وإعطاءها الامتداد التاريخي العميق الذي يبدد صور الشك من حولهم.

__________________

(١) هامش محاورة حول الإمامة ص ٩٢ للمحقّق السيد مرتضى الرضوي.

١٣٦

وليس من السهل الحكم بأنّ الصحابة في زمن الرسول وبعده كانوا يسيرون على نهج واحد ويلتزمون بعقيدة واحدة ، فهذا أمر لا تؤيده النصوص القرآنية والنصوص الواردة على لسان الرسول ، تلك النصوص التي تؤكد وجود قطاع من المنافقين وقطاع من القبليين وقطاع من المتشيعين لعليّ بن أبي طالب ..

إن أهل السنّة لم يستطيعوا البرهنة على كونهم امتدادا لخط الرسول وأنهم الفرقة الناجية وأصحاب الحق ، وإلّا فما معنى تسمية أنفسهم بأهل السنة والجماعة؟ هل يعني أن الآخرين بلا سنّة وبلا جماعة؟

وأنهم الذين تلقفوا الدين والسنّة من الرسول دون غيرهم؟

فأهل السنّة يريدون إلزام الآخرين بنهجهم وتفسيراتهم وطريقة نقلهم للرواية ، والروايات التي تبنوها وإلّا أصبحوا من الفرقة الهالكة ولن يشموا رائحة الجنّة ...» (١).

وقال الأستاذ محمد التيجاني السماوي :

«أهل السّنّة هم الطائفة الإسلامية الكبرى التي تمثّل ثلاثة أرباع المسلمين في العالم ، وهم الذين يرجعون في الفتوى والتقليد إلى أئمة المذاهب الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل.

وقد تفرّع عنها فيما بعد ما يسمّى بالسلفية التي جدّد معالمها ابن تيمية الذي يسمّونه مجدّد السنّة ، ثم الوهابية التي ابتدعها محمد بن عبد الوهاب ، وهو مذهب السعودية ، وكل هؤلاء يسمّون أنفسهم ب «أهل السنّة» وفي بعض الأحيان يضيفون كلمة الجماعة فيقال «أهل السنّة والجماعة» ..

وكأنّ هذا الاصطلاح ـ يعني «أهل السنّة والجماعة» ـ قد وضع في مقابل عليّ وشيعته وهو حسب اعتقادي السبب الرئيسي في تقسيم الأمة الإسلامية بعد

__________________

(١) أهل السنّة شعب الله المختار ص ٩ ـ ١٠ ، ط / كنّوتة.

١٣٧

وفاة الرسول إلى سنّة وشيعة.

وأهل السنّة والجماعة لا يعملون بقاعدة الولاء لأولياء الله والبراءة من أعداء الله ، بل يلقون بالمودة للجميع ويترضون على معاوية بن أبي سفيان كما يترضّون على عليّ بن أبي طالب.

وقد بهرتهم هذه التسمية البرّاقة (أهل السنّة والجماعة) ولم يعرفوا خفاياها ودسائسها التي وضعها دهاة العرب ولو علموا يوما بأنّ عليّ بن أبي طالب هو محض السّنّة المحمّدية وهو بابها الذي يؤتى منه للدخول إليها ، قد خالفوه في كل شيء وخالفهم ، لتراجعوا عن موقفهم ولبحثوا الموضوع بجدّ ، ولما وجدت «أهل السنّة» إلّا شيعة لعليّ وللرسول ، ولكل ذلك لا بدّ من كشف حقيقي لتلك المؤامرة الكبرى التي لعبت أخطر الأدوار في إقصاء السنّة المحمّدية ، وإبدالها ببدع جاهلية سبّب نكسة المسلمين وارتدادهم عن الصراط المستقيم وتفرقهم واختلافهم ..» (١).

* * * * *

__________________

(١) الشيعة هم أهل السنّة ص ٢٤.

١٣٨

قال العلوي :

أمّا كلامك إنه في القرآن ، فجوابه :

إن القرآن فيه مجازات وكنايات يجب المصير إليها ، فالمراد (بالضلال) إنّ الله يترك الإنسان الشقي ويهمله حتى يضلّ ، وذلك مثل قولنا :

«إن الحكومة أفسدت الناس» فالمعنى أنها تركتهم لشأنهم ولم تهتم بهم ، هذا أولا ، وثانيا : ألم تسمع قول الله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف / (٨٢)) وقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان / ٣)) وقوله (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد / ٨ ـ ٠ ١).

وثالثا : لا يجوز عقلا أن يأمر الله بالمعصية (١) ثم يعاقب عليها ، إنّ هذا بعيد من عوام الناس ، فكيف من الله العادل المتعال سبحانه وتعالى عمّا يقول المشركون والظالمون علوّا كبيرا.

____________________________________

مسألة الهدى والضلال من المسائل العقيدية الهامة التي كثر الكلام حولها لأهميتها في الإسلام سيّما أنّ القرآن الكريم ذكرها في مواضع عدة ، لذا ومن خلال هذه الآيات التي ظاهرها نسبة الهدى والضلال إلى الله سبحانه انقسم المسلمون إلى فرقتين :

الفرقة الأولى : وتسمّى بالجبرية ، وهذه الفرقة تعتقد بأنّ الإنسان مجبر على أفعاله ، خيرها وشرّها ، ولا دخل له في تقرير مصيره ما دام الله سبحانه وتعالى هو ـ

١٣٩

الهادي والمضلّ ، واستدلوا بآيات منها قوله سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) ، وقالوا ـ حسبما ورد على لسان أبي الحسن الأشعري إمام الأشاعرة في العقائد ـ أنّه لا خالق إلا الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدّرة ، واستدلّ على مدعاه بقوله تعالى: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢).

وأما الفرقة الثانية : وتسمّى بالعدليّة تمييزا لها عن الجبرية. والفرقة العدلية هي الفرقة الوحيدة من بين فرق المسلمين التي نزّهت الله سبحانه وتعالى عن الظلم والجور ، وأنه تعالى يعطي كل ذي حقّ حقه ، فلا يحيف بحكمه وأمره ، وأنّ كل شيء واقع تحت قدرته يصدر عن أمره ، إلّا أنّ أفعال العباد خيرها وشرّها ليست من صنع الله ولا أنه تعالى أجبرهم عليها ، بل الإنسان بنظر العدليّة مخيّر بأفعاله ، وذلك لما وهبه الله سبحانه وتعالى من العقل وحرية الاختيار.

فالخلاف بين العدليّة والأشاعرة يرجع بالأصل إلى التساؤل التالي :

* هل أمر الهداية والضلال بيد الله سبحانه وتعالى فلا يكون للعبد أي دور في الهداية أو الضلالة ، ـ فالضّال يعصي بلا اختيار منه والمهتدي يطيع بلا اختيار منه أيضا ، معتمدين على ظواهر بعض الآيات المتشابهة ـ أم أنّ المسألة بجوهرها تختلف عن ذلك البتة؟

والجواب :

صحيح أنّ هناك آيات قرآنية مفادها حصر الهداية والضلالة بالله سبحانه وتعالى ، إلّا أنّه لا يمكننا الأخذ بظواهر هذه الآيات ، وعزل قدرة العبد على الهداية والضلال ، فيبطل الثواب والعقاب والجنّة والنار.

هذا مضافا إلى أنّ هذه الآيات التي ظاهرها نسبة الهداية والضلال إليه

__________________

(١) سورة القصص : ٥٦.

(٢) سورة الصافات : ٩٦.

١٤٠