أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ٢

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

وثلاثمائة وأربعة وسبعين (٥٣٧٤) حديثا ، روى البخاري منها أربعمائة وستة وأربعين (٤٤٦).

قال سعيد بن أبي الحسن : لم يكن أحد من الصحابة أكثر حديثا من أبي هريرة ، وفي صحيح البخاري من طريق وهب بن منبه عن أخيه همام عن أبي هريرة قال : لم يكن من أصحاب رسول الله أكثر حديثا مني إلّا عبد الله بن عمر ـ عمرو ـ فإنه كان يكتب ولا أكتب (١) ، وما رواه ابن عمرو لا يتجاوز السبعمائة حديث عند ابن الجوزي ، وفي مسند أحمد حدود السبعمائة واثنين وعشرين حديثا ، وعند مسلم حدود العشرين.

وقد أفزعت كثرة روايته عمر بن الخطاب فضربه بالدرة التي كانت ملازمة له بليله ونهاره لفظاظته ، وقال له : أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذبا على رسول الله ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده اليمن.

وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد : لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دوس.

ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة حتى قال أبو هريرة : إني أحدّثكم بأحاديث لو حدّثت بها زمن عمر لضربني بالدرة ـ وفي رواية : لشجّ رأسي ـ (٢).

والسر في ذلك ليس لأن عمر بن الخطّاب كان حريصا على الإسلام بل خوفا من نشر أحاديث في حق أناس كان النبيّ راضيا عنهم ، وآخرين كان ساخطا عليهم ، فكان عمر بن الخطاب يمنع من كتابة الحديث ، وكان يقول : اشتغلوا بالقرآن ، فإنّ القرآن كلام الله.

__________________

(١) الإصابة ج ٤ / ٢٠٥ وفيه : عبد الله بن عمر ، وفي أضواء على السنة ص ٢١١ : عبد الله بن عمرو.

(٢) البداية والنهاية لابن كثير ج ٨ / ٨٧.

١٠١

[وروى عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك بعض الصحابة فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له (وحاشا لله أن يعزم في إطفاء ما أوحاه لرسوله) فقال : إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا] (١).

وروى الطبري أن ابن الخطاب كان كلما أرسل حاكما أو واليا إلى قطر أو بلد يوصيه جملة ما يوصيه «جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمد وأنا شريككم ..» (٢).

وذكر صاحب كتاب «تقييد العلم» عن القاسم بن محمد : إنّ عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به فأرى فيه رأيي. قال : فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب. وقد تبعه على ذلك عثمان ثم معاوية وكان الأخير يقول : «أيها الناس اتّقوا الروايات عن رسول الله إلا ما كان يذكر في زمن عمر»(٣).

ونحن لا نستغرب من سيرة هؤلاء في منعهم لكتابة الحديث لأن في ذلك توطيدا لحكمهم وذلك لورود النصوص الكثيرة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرويها الثقات تذمّ مغتصبي الخلافة من أصحابها الشرعيين أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلاموآخرهم المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف). فكل حديث لا يوافق تصرفاتهم كانوا يمنعون من بثّه وترويجه بين الناس خوفا من النقمة الشعبية عليهم وهذا لا يخفى على المتصفح لتاريخ الإسلام خصوصا بعد رحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنع عمر بن الخطّاب من تدوين الحديث ونشره وكتابته ومدارسته بعد وفاة النبي ليس أمرا

__________________

(١) الملل والنحل للسبحاني ج ١ / ٥٧ نقلا عن تقييد العلم ص ٢٩.

(٢) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٣ ط / الأعلمي.

(٣) طبقات ابن سعد ج ٥ / ١٧٣ ، والملل والنحل للسبحاني ج ١ / ٥٨.

١٠٢

جديدا حصل من عمر لأبي هريرة وأمثاله ، بل لقد فعل ذلك ابن الخطاب عند احتضار النبيّ عند ما قال : «آتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» فقالوا : إن النبي يهجر (١).

وبلفظ آخر : آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لن تضلّوا من بعدي أبدا ، فقال عمر بن الخطاب : إن النبي ليهجر حسبنا كتاب الله (٢).

وروى البخاري عن ابن عباس قال محدّدا هوية القائل وهو عمر :

«لما حضر النبيّ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده ، قال عمر : إن النبيّ غلبه الوجع وعندكم كتاب الله ، فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف ، قال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع (٣).

وفي رواية لعمر بن الخطاب ذكر كيفية تنازعهم قال :

كنّا عند النبيّ وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول الله : اغسلوني بسبع قرب ، وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، فقالت النسوة : ائتوا رسول الله بحاجته ، فقال عمر فقلت : اسكتن فإنكنّ صواحبه إذا مرض عصرتن أعينكن وإن صحّ أخذتنّ بعنقه ، فقال رسول الله : هنّ خير منكم» (٤).

وفي رواية أخرى أن زينب زوج النبيّ قالت : ألا تسمعون النبيّ يعهد إليكم؟ فلغطوا فقال : قوموا فلمّا قاموا قبض النبيّ مكانه (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري : باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد ، وباب إخراج اليهود من جزيرة العرب من كتاب الجزية ، ومسلم في صحيحه : باب ترك الوصية ، وقد رواه مسلم بسبعة أسانيد.

(٢) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠.

(٣) صحيح البخاري : كتاب العلم ، باب العلم.

(٤) طبقات ابن سعد ، ط / بيروت ج ٢ / ٢٤٣ باب الكتاب الذي أراد أن يكتبه الرسول لأمته. ونهاية الأرب ج ١٨ / ٣٥٧ ، وكنز العمال ط أولى ج ٣ / ١٣٨ وج ٤ / ٥٢.

(٥) طبقات ابن سعد ج ٢ / ٢٤٤.

١٠٣

ويظهر من بعض الأحاديث أنهم نشطوا لمنع كتابة حديث الرسول قبل ذلك وفي صحة الرسول ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء سمعته من رسول الله ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟

فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حق» (١).

قد كشفوا النقاب في حديثهم مع عبد الله عن سبب منعهم من كتابة حديث الرسول وهو خشيتهم من أن يروى عنه حديث في حقّ أناس قاله فيهم حال رضاه عنهم ، وفي حق آخرين ما قاله في حال غضبه عليهم.

ومن هنا نعرف سبب منعهم كتابة وصية الرسول في آخر ساعات حياته ، ولما ذا أحدثوا اللغط والضوضاء حتى توفي. وسبب منعهم من كتابة حديث الرسول عند ما ولوا الحكم ولم يبق مانع من ذلك.

إذن الغاية عند عمر في منعه من كتابة الحديث واحدة لا تتغير ، وحقيقتها أنه يريد أن ينعم بالخلافة ، فلا أحد يزعجه بأحاديث تروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلعن بها من اغتصب الخلافة من أصحابها الذين أمر الله باتباعهم ، أو فيها ذمّ للظالمين.

ولم يقتصر منع كتابة الحديث على عمر فحسب بل كان دارجا في عهد أبي بكر ، لذا روى الذهبي أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال : إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه» (٢).

__________________

(١) سنن الدارمي ج ١ / ١٢٥ وسنن أبي داود ج ٢ / ١٢٦ ، ومسند أحمد ج ٢ / ١٦٢ ، ومستدرك الحاكم ج ١ / ١٠٥.

(٢) تذكرة الحفاظ للذهبي بترجمة أبي بكر ج ١ / ٢ ـ ٣.

١٠٤

ثم سار على منهاجه كل من اعتقد بصحة خلافته أمثال قرظة بن كعب قال :

«لمّا سيّرنا عمر إلى العراق مشى معنا إلى صرار ، ثم قال : أتدرون لم شيعتكم؟ قلنا : أردت أن تشيعنا وتكرمنا ، قال : إن مع ذلك لحاجة ، إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم ، قال قرظة : فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله (١).

وهكذا عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقّاص ممن تابعوا سنّة الخلفاء وامتنعوا عن نشر سنّة الرسول ، فعن الشعبي قال :

جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدّث عن رسول الله (صل الله عله وآله وسلم).

وفي رواية أخرى عنه ، قال قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصف فما سمعته يحدّث عن رسول الله شيئا (٢).

وفي المقابل هناك فريق خالف سنّة خلفاء الجور ، فجهر بالحق ، فلقي من الإرهاق ما نذكر أمثلة منه في ما يأتي :

ففي كنز العمال :

عن عبد الرحمن بن عوف قال : ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذرّ وعقبة ابن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟

قالوا : تنهانا؟

قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم نأخذ منكم ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتى مات (٣).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) سنن الدارمي ج ١ / ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) كنز العمال : ط أولى ج ٥ / ٢٣٩ رقم الحديث ٤٨٦٥ ، ومنتخب الكنز ج ٤ / ٦١.

١٠٥

وروى الذهبي أن عمر حبس ثلاثة : ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري ، فقال: أكثرتم الحديث عن رسول الله (١).

وكان يقول للصحابة : أقلّوا الرواية عن رسول الله إلّا في ما يعمل به (٢).

وهكذا كان على عهد عثمان بن عفان الذي يسمونه بذي النورين كذبا وزورا ، فقد أقرّ منع كتابة الحديث ، فقال مرة :

«لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا على عهد عمر» (٣).

وتطبيقا للخطة التي رسمها عمر في إطفاء أخبار رسول الله ، سار عثمان فوضع على الأفواه أوكية ، لذا شدّد النكير على الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري ، فمنعه من الحديث والجهر بالحق.

روى الدارمي وغيره من : «أن أبا ذر كان جالسا عند الجمهرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ، ثم قال : ألم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه ، فقال : أر قيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعت من رسول الله قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها» (٤).

وروى الأخنف بن قيس قال :

أتيت الشام فجمّعت (٥) ، فإذا رجل لا ينتهي إلى سارية إلا فرّ أهلها يصلّي

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ج ١ / ٧ بترجمة عمر.

(٢) تاريخ ابن كثير ج ٨ / ١٠٧.

(٣) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج ٤ / ٦٤.

(٤) سنن الدارمي ج ١ / ١٣٢ وطبقات ابن سعد ج ٢ / ٣٥٤ وصحيح البخاري : باب العلم قبل القول ج ١ / ١٦١.

(٥) فجمّعت : أي حضرت الصلاة يوم الجمعة.

١٠٦

ويخفّ صلاته ، قال : فجلست إليه ، فقلت له : يا عبد الله من أنت؟ قال : أنا أبو ذر ، فقال لي : فأنت من أنت؟ قال قلت : الأخنف بن قيس ، قال : قم عني لا أعديك بشرّ ، فقلت له : كيف تعديني بشرّ ، قال : إن هذا ـ يعني معاوية ـ نادى مناديه : ألا يجالسني أحد» (١).

ومن أجل مخالفته لأوامر السلطة ، نفي أبو ذر من بلد إلى بلد حتى لقي حتفه طريدا فريدا بالربذة عام ٣١ ه‍.

كل ذلك من أجل الإفصاح عن فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، هذه الفضائل التي أرعبت الخلفاء ، لذا منعوا من نشرها ، أما نشر أحكام الصوم والصلاة وبقية الفروع فلا بأس به ، أما فضائلهم فحيث تتصل بعقائدهم فيحرم نشرها كما أفاد عمر بقوله : «أقلوا الرواية عن رسول الله إلّا فيما يعمل به» ، أما فيما لا يعمل به كالعقائد والفضائل فهذه محرّمة على المسلمين يوم ذاك وما زالت إلى يومنا هذا حتى عند الذين يصبغون أنفسهم أنهم من شيعة آل البيت ، لا سيّما من مشايخ السوء الذين كثر سوقهم في زماننا هذا ، فباتوا ينعقون للزعيم والقائد من أجل حفنة من الدولارات ، أجارنا الله تعالى منهم ومما ينعقون ويصفرون.

ويشهد لما قلنا أن سبب المنع هو الفضائل ، ما ذكره معاوية للمغيرة بن شعبة لمّا استعمله على الكوفة عام ٤١ ه‍ وأمّره عليها ، استدعاه وقال له :

قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم عليّ وذمّه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم ، والإطراء لشيعة عثمان والإدناء لهم ، فقال له المغيرة : قد جرّبت وجرّبت ، وعملت قبلك لغيرك ، فلم يذممني وستبلو فتحمد أو تذمّ ، فقال : بل نحمد إن شاء الله (٢).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٤ / ١٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ١١٢ حوادث سنة ٥١ ه‍ وابن الأثير ج ٣ / ١٠٢.

١٠٧

وروى المدائني في كتاب الأحداث وقال :

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته ، وكان أشدّ البلاء حينئذ أهل الكوفة (١).

وفي هذا السبيل قتل حجر بن عدي وأصحابه صبرا ، وقتل وصلب رشيد الهجري وميثم التمار.

هكذا خنق خلفاء الجور أنفاس الصحابة والتابعين وقضت على من خالف سياستهم ، وفي مقابل ذلك فتحت الباب لآخرين أن يتحدثوا بين المسلمين كما يشاءون.

وبالجملة : فإن منع أبي هريرة من كتابة الحديث كان خوفا من المانعين من أن يبوح أبو هريرة بفضائل آل البيت ويذم بأعدائهم ، لا سيّما وأن أبا هريرة يتجه إلى الناحية التي يميل إليها طبعه وتتفق مع هوى نفسه ، وقد عرفنا سابقا أنه صحب النبيّ لملء بطنه ، لذا لم يبرز نجمه في عهدي أبي بكر وعمر اللذين كانا يتظاهران بالزهد ، بخلاف عثمان المعروف بالبذخ والسخاء على ذويه وأقاربه ، فأخذ أبو هريرة يظهر في زمن عثمان بعد انزوائه ، ويبدو للناس بعد خفائه ، ثم لمع نجمه في عهد معاوية الذي يملك من أسباب السلطان والترف والمال والنعيم ما لا يملكه أحد سواه يوم ذاك ، وليس بغريب على من نشأ نشأة أبي هريرة وعاش عيشته ، أن يتنكب الطريق التي تؤدي إلى الإمام عليّ ، وأن يتخذ سبيله إلى معاوية ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية ، ويقضي وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية.

وإذا كان قد بلغ من فاقة أبي هريرة وجوعه أن يخرّ مغشيا عليه ، فيضع الناس أرجلهم على عنقه! فهل تراه يدع دولة بين أمية ذات السلطان العريض والأطعمة الناعمة ، وينقلب إلى الإمام عليّ الزاهد الفقير الذي كان طعامه خبز الشعير؟!

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ / ١٥ ، ط / البابي الحلبي.

١٠٨

إن هذا لمما تأباه الطباع ولا يتفق والغرائز النفسية! اللهم إلا من عصم ربك ، وقليل ما هم.

ولقد عرف بنو أمية صنيعه معهم ، وقدروا موالاته لهم ، فأغدقوا عليه من إفضالهم ، وغمروه برفدهم وأعطيتهم ، فلم يلبث أن تحوّل حاله من ضيق إلى سعة ، ومن شظف العيش إلى دعة ، ومن فقر إلى ثراء ، وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة بالية ، صار يلبس الخز والكتان الممشق.

وكانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة لقاء مناصرته إياهم أن ولاه بسر بن أرطاة على المدينة بعد أن بعثه معاوية إلى أهل الحجاز يفعل فعلاته بهم وبأموالهم وذراريهم ، وكذلك كان مروان ينيبه عنه على ولاية المدينة ، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصرا بالعقيق وأقطعوه أرضا بالعقيق وبذي الحليفة ، ولم يكتفوا بذلك بل زوجوه بسرة بنت غزوان أخت الأمير عتبة بن غزوان وهي التي كان يخدمها أيام عريه وفقره بطعام بطنه.

ولقد استخفه اشره وزهوه ، ونم عليه أصله ونحيزته ، فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة ، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان ليحلم به : «إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني ، فكنت إذا ركبوا سقت بهم وإذا نزلوا خدمتهم ، والآن تزوجتها ، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني!».

ولم يكن ما قدّم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيفه أو بماله ، وإنما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار الإمام عليّ ويطعن فيها عليه ، ويجعل الناس يبرءون منه ، ويشيد بفضل معاوية ودولته.

ولقد روى أحاديث كثيرة في عثمان ومعاوية وغيرهما ، وهذه الأحاديث من مبتكراته ، روى البيهقي عنه أنه لمّا دخل دار عثمان وهو محصور ، استأذن في الكلام ولمّا أذن له قال : إني سمعت رسول الله يقول : إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافا ، فقال له قائل من الناس فمن لنا يا رسول الله؟ أوما تأمرنا؟ فقال : عليكم

١٠٩

بالأمين وأصحابه ، وهو يشير إلى عثمان.

ومما وضعه في معاوية ما أخرجه الخطيب عنه : ناول النبيّ معاوية سهما ، فقال : خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنّة.

وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه : سمعت رسول الله يقول : إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة : أنا وجبريل ومعاوية.

ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة وكانت مشهورة بالجمال الفائق فقال : سبحان الله!ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجها أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله.

والأخبار التي لفّقها على رسول الله كثيرة جدا ، كما أنه وضع أحاديث على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

قال أبو جعفر الإسكافي : إن معاوية حمل قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين ، على رواية أخبار قبيحة على عليّ عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم في ذلك جعلا ، فاختلقوا له ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.

وروى الأعمش : لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة (١) ، جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس ، جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا وقال : يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله ورسول الله وأحرق نفسي بالنار ، والله لقد سمعت رسول الله يقول : لكل نبي حرما وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها ، فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة.

__________________

(١) هو العام الذي صالح فيه الإمام الحسن عليه‌السلام معاوية حقنا لدماء المسلمين سنة ٤١ ه‍ وسموه عام الجماعة وهو في الحقيقة كان عام الفرقة.

١١٠

على أن الحق لا يعدم أنصارا ، وأن الصحابة إذا كان فيهم مثل أبي هريرة ممن يستطيع معاوية أن يستحوذ عليه ، فإن فيهم من لا يستهويه وعد ، ولا يرهبه وعيد ، فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار أنّ أبا هريرة ، لمّا قدم الكوفة مع معاوية ، كان يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس إليه ، فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه ، فقال: يا أبا هريرة أنشدك الله ، أسمعت رسول الله يقول لعليّ بن أبي طالب : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ فقال : اللهم نعم ، فقال : أشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه ، ثم قام عنه بعد أن لطمه هذه اللطمة الأليمة.

وروى مسلم :

أن معاوية بن أبي سفيان قال لسعد بن أبي وقاص : ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال : أما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله؟ فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم! سمعت رسول الله يقول له لمّا خلفه في بعض مغازيه : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنه لا نبوة بعدي.

وسمعته يقول يوم خيبر : «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» فتطاولنا لها فقال : ادعوا عليّا ، فأتى به أرمد ، فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، ولمّا نزلت هذه الآية (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال : اللهم هؤلاء أهلي.

ومن فضائل أمير المؤمنين عليّ أن النبيّ قال له : أنت مني وأنا منك ، وقال له : من كنت مولاه فعلي مولاه. وقال أحمد بن حنبل ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن عليّ ، وقال هو والنسائي والنيسابوري وغيرهم : لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء فيه.

وأخرج مسلم عن الإمام عليّ : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد إليّ

١١١

«أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» وقد جمع النسائي في مناقبه كتاب الخصائص.

تدليسه للرواية :

لقد اشتهر أبو هريرة بكثرة نقولاته حتى بلغت (٥٣٧٤) ولو كانت كلها صحيحة لأخذ بها البخاري كلها ، مع أنه اقتصر على (٤٤٦) حديث من مجموع تلك الآلاف ، وقد عرفت موقف عمر من كثرة رواياته ، وهكذا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام حيث وقف منه موقف الشجب والإنكار ، لذا ورد عنه عليه‌السلام أنه قال : «أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة» ولمّا سمع أنه يقول : حدّثني خليلي! قال له : متى كان النبيّ خليلك؟.

قال العلّامة الكبير محمود أبو ريّة معرّفا عن أبي هريرة :

«ذكر علماء الحديث أنّ أبا هريرة كان يدلّس ، والتدليس كما عرفوه : أن يروي عمّن لقيه ما لم يسمعه منه أو عمّن عاصره ولم يلقه ، موهما أنه سمعه منه ، والتدليس أنواع كثيرة ، وحكمه أنه مذموم كله على الإطلاق ، وقد كره التدليس جماعة من العلماء ، وكان شعبة (بن الحجاج ، إمام أهل الحديث) أشد الناس إنكارا لذلك حين قال : لأن أزني أحبّ إليّ من أن أدلّس! وقال أيضا : التدليس أخو الكذب.

ومن الحفاظ من جرّح من عرف بهذا التدليس من الرواة فردّ روايته مطلقا وإن أتى بلفظ الاتصال ، ولو لم يعرف أنه دلّس إلا مرة واحدة ، كما نصّ على ذلك الشافعي.

وروى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال : اتّقوا الله وتحفّظوا من الحديث ، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ويحدّثنا عن كعب الأحبار ، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ، وحديث كعب عن رسول الله! وفي رواية يجعل ما

١١٢

قاله كعب عن رسول الله وما قاله رسول الله عن كعب! فاتقوا الله وتحفّظوا في الحديث.

وقال يزيد بن هارون : سمعت شعبة يقول : أبو هريرة كان يدلّس ـ أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ، ولا يميّز هذا من هذا ـ ذكره ابن عساكر ـ وكأنّ شعبة يشير بهذا إلى حديث : «من أصبح جنبا فلا صيام له» ، فإنه لما حوقق عليه قال : أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله.

وقال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» : ... وكان أبو هريرة يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كذا وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه.

وقال ابن قتيبة أيضا في «تأويل مختلف الحديث» أنه «لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ما لم يأت بمثله من صحبه من جلّة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا : كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه» وممن اتّهم أبا هريرة بالكذب : عمر وعثمان وعليّ وغيرهم وبذلك كان ـ كما قال الكاتب الإسلامي الكبير مصطفى صادق الرافعي ـ «أول راوية اتّهم في الإسلام».

ولما قالت له عائشة : إنك لتحدّث حديثا ما سمعته من النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار : إذ قال لها ـ كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم المرآة والمكحلة! وفي رواية ـ ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ، ولكن أرى ذلك شغلك!!

على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه ، وأن المرآة والمكحلة لم يشغلاها ، ذلك أنه لما روى حديث «من أصبح جنبا فلا صوم له» أنكرت عليه عائشة هذا الحديث فقالت ؛ إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم ، وبعثت إليه بأن لا يحدّث بهذا الحديث عن رسول الله ،

١١٣

فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان ، وقال : إنها أعلم مني ، وأنا لم أسمعه من النبي وإنما سمعته من الفضل بن العباس ـ فاستشهد ميتا وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، كما قال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث».

وكان [الإمام] عليّ سيّئ الرأي فيه ، وقال عنه : إلا أنه أكذب الناس ـ أو قال : أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة. ولما سمع أنه يقول : «حدّثني خليلي! ...» قال له : متى كان النبي خليلك؟. ولما روى حديث : «متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ـ لم تأخذ به عائشة وقالت : كيف نصنع بالمهراس؟

ولما سمع الزبير أحاديثه قال : صدق ، كذب.

وعن أبي حسان الأعرج أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا : إن أبا هريرة يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» فطارت شفقا ثم قالت : كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ، من حدّث بهذا عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم! إنما قال رسول الله «كان أهل الجاهلية يقولون : إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار» ، ثم قرأت : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)(١).

وأنكر عليه ابن مسعود قوله : «من غسّل ميتا ، ومن حمله فليتوضأ ـ وقال فيه قولا شديدا ثم قال : يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم.

وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال : أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر (أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب) فقيل له في ذلك فقال : أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى فيفتي من عقله ، وأنا

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٢.

١١٤

لا أقلد عقله ، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ».

وروى أبو يوسف قال : قلت لأبي حنيفة : الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا ، ما نصنع به؟ فقال : إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي ، فقلت : ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال : ناهيك بهما. فقلت : وعليّ وعثمان؟ قال : كذلك. فلما رآني أعدّ الصحابة ـ قال : والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا. وعدّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.

وعن إبراهيم النخعي قال :

كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة ، ورواية الأعمش عنه : ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة!

وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم : كانوا يرون في أحاديث رسول الله شيئا ، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار ، أو حث على عمل صالح ، أو نهى عن شر جاء في القرآن (١).

وروى أبو شامة عن الأعمش قال :

كان إبراهيم صحيح الحديث ، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه ، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال : دعني من أبي هريرة! إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه.

وقال أبو جعفر الإسكافي :

وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضى الرواية ، ضربه عمر وقال : أكثرت من الحديث وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٨ / ١٠٩.

(٢) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ٣٦٠.

١١٥

وقال ابن الأثير : أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها (١).

وفي الأحكام للآمدي :

أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته ، وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه اختلاط الضبط الذي لا يعرض لمن قلّت روايته.

وجرت مسألة المصراة (٢) في مجلس الرشيد فتنازع القوم فيها ، وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة ، فرد بعضهم الحديث وقال : أبو هريرة متّهم فيما يرويه ، ونحا نحوه الرشيد» (٣) انتهى.

وقال محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار :

«لو طال عمر عمر بن الخطاب حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة (٤)» وقال عن أحاديثه المشكلة : «لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين» (٥).

وقال محمّد رضا في موضع آخر :

«فأكثر أحاديثه ـ أي أبي هريرة ـ لم يسمعها من النبيّ ، وإنما سمعها من الصحابة والتابعين ، فإذا كان جميع الصحابة عدولا في الرواية ـ كما يقول جمهور المحدثين ـ فالتابعون ليسوا كذلك ، وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار ، وأكثر أحاديثه عنعنة ، على أنه صرّح بالسماع ـ أي أنه سمعه من رسول الله ـ في

__________________

(١) المثل السائر ص ٨١.

(٢) المصراة : هي الناقة أو البقرة يجمع اللبن في ضرعها ويحبس أياما بغير حلب ، لإيهام المشتري أنها غزيرة اللبن ، وسبب رد الحنفية لحديث «المصراة» أنه مخالف للأقيسة بأسرها ، فإن حلب اللبن تعد ، وضمان التعدي يكون بالمثل أو بالقيمة ، والصاع من التمر ليس بواحد منها.

(٣) أضواء على السنة المحمدية ص ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

(٤) أضواء ص ٢٠١ نقلا عن مجلة المنار ج ١٠ / ٨٥١.

(٥) نفس المصدر نقلا عن مجلة المنار ج ١٩ / ١٠٠.

١١٦

حديث «خلق الله التربة يوم السبت» وقد جزموا بأن هذا الحديث أخذه من كعب الأحبار»(١).

وقال أيضا : «إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى والإرسال ، لأن الكثير منه قد سمعه من الصحابة وكذا بعض التابعين ، ورواية الحديث بالمعنى كانت مثارا لمشكلات كثيرة.

كما أنه انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظنته لغرابة موضوعها كأحاديث الفتن وأخبار النبي ببعض المغيبات التي تقع بعده ، ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه ، ولو انفرد بمثله غير صحابي لعدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته ـ كما هو المعهود عند نقاد الحديث ، أهل الجرح والتعديل ، ولذلك نرى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي هريرة (٢).

وما أروع ما قاله الأستاذ أبو ريّة في ختم كلامه عن أبي هريرة :

«هذه ترجمة مختصرة لأبي هريرة التزمنا فيها الناحية التقريرية ولم نسلك الطريقة التحليلية والموضوعية ، التي لا تكتمل التراجم الصحيحة إلا بها ، ولا تتم دراسة الرجال والأحداث إلّا باتباعها ، ذلك بأننا لم نصل بعد إلى احتمال سطوتها ، وبخاصة إذا كان الأمر يتصل بأحد الصحابة الذين قالوا فيهم «إنهم كلهم عدول» فلا يجوز لأحد أن ينتقد بالعلم والبرهان والحجة أحدا منهم ، لا في روايته ولا في شهادته ، ولا في سيرته ، ومما قالوه في ذلك أيضا «إن بساطهم قد طوى» كأن العدالة موقوفة عليهم وحدهم ، وكأنهم في ذلك قد ارتفعوا عن درجة الإنسانية ، فلا يعتريهم ما يعتري كل إنسان من سهو أو خطأ ، أو وهم أو نسيان ولا نقول [ولا يقول] الكذب والبهتان.

على أننا لو سلّمنا لهم بأنّ كل صحابي معصوم فيما يقع فيه غيره من بني الإنسان وأنه لا ينسى ولا يخطئ ولا يهمّ ، ولا يعتريه سوء فهم أو غلط ، وأنه لم

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) مجلة المنار ج ١٩ / ٩٧.

١١٧

يكن في الصحابة منافقون ، ولم يرتكب أحد منهم كبيرة ولا صغيرة ولا وقع بينهم ما وقع ، ولا ارتدّ بعضهم بعد موت النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، ولا غير ذلك كله مما حملته كتب التاريخ الصحيحة عنهم ـ فإن أمر أبي هريرة يباين أمر الصحابة جميعا ، فقد جرحه كبار الصحابة ومن جاء بعدهم وشكّوا في روايته.

ويعجبني قول علماء الكلام ـ أصحاب العقول الصريحة ـ في هذا الأمر نفسه ، فقد جاءت عنهم هذه الكلمة الحكيمة وهي «ومن عجيب شأنهم ـ أي رجال الحديث ـ أنهم ينسبون (الشيخ) إلى الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدّثون ـ بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني وأشباههما ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة ، وقد أكذبه عمر وعليّ [أمير المؤمنين] وعثمان وعائشة.

وما بيّناه من تاريخ أبي هريرة قد سقناه لك على حقيقته ، وأظهرنا شخصيته كما خلقها الله ولم نأت فيها بشيء من عند أنفسنا ، بل أتينا بالروايات الصحيحة فيها ، ورجعنا إلى مصادر ثابتة لا يرقى الشك إليها ، ولا يدنو الريب منها. على أننا قد طوينا كثيرا مما أثبته التاريخ الصحيح ، لأن بعض الناس في دهرنا لا يزالون يخشون سطوة الحقّ ، ولا يحتملون قوة البرهان.

وأبو هريرة لم يكن له أي شأن في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا في عهد الخلفاء الأربعة ، ولم يستطع أن يفتح فاه بحديث واحد إلّا بعد قتل عمر ، ولم يجرؤ على الفتوى إلا بعد الفتنة الأولى وهي قتل عثمان وعلو شأن بني أمية ، وناهيك بالبخاري فإنه لم يذكره بين الصحابة الذين جاءت في فضلهم أحاديث عن رسول الله.

على أنه لا يفوتنا أن نذكر أن فيما رواه أحاديث يبدو منها شعاع من نور النبوة ، ينفذ إلى القلوب السليمة ، ولعلها مما يكون قد سمعه (وضبطه) والحديث الصحيح له ضوء كضوء النهار» انتهى كلامه (١).

__________________

(١) أضواء على السنة ص ٢٢١.

١١٨

قال الملك : ـ موجّها الخطاب إلى الوزير ـ

هل صحيح أن عمر منع أبا هريرة عن نقل الحديث؟

قال الوزير :

نعم ، منعه كما ـ جاء ـ في التواريخ (١).

قال الملك :

فكيف نعتمد على أحاديث أبي هريرة؟

قال الوزير :

لأن العلماء اعتمدوا على أحاديثه.

قال الملك :

إذن ، يجب أن يكون العلماء أعلم من عمر! لأن عمر منع أبا هريرة عن نقل الحديث لكذبه على رسول الله ، ولكنّ العلماء يأخذون بأحاديثه الكاذبة!

قال العبّاسي :

هب (أيّها العلوي) إن الأحاديث الواردة في السّنّة حول الله غير صحيحة ، ولكن ما ذا تصنع بالآيات القرآنية؟

__________________

(١) فليراجع : أعلام النبلاء للذهبي ج ٢ / ٤٣٣ ، البداية والنهاية لابن كثير ج ٨ / ٨٧ ، ط / الدار العلمية ، وقد ذكر ابن كثير العديد من روايات المنع ، وفيه أورد عن عمر قال لأبي هريرة : لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دوس. وقال عمر لكعب الأحبار : لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.

١١٩

قال العلوي :

القرآن فيه آيات محكمات هنّ أم الكتاب ، وأخر متشابهات ، وفيه ظاهر وباطن ، فالمحكم الظاهر يعمل بظاهره.

وأما المتشابه فاللازم أن تنزله على مقتضى البلاغة من إرادة المجاز والكناية والتقدير ، وإلّا لا يصح المعنى لا عقلا ولا شرعا ، فمثلا :

إذا حملت قوله تعالى «وجاء ربك» على ظاهره ، فقد عارضت العقل والشرع لأن العقل والشرع يحكمان بوجود الله في كل مكان ، وأنه لا يخلو منه مكان أبدا ، وظاهر الآية تقول بجسمية الله ، والجسم له حيّز ومكان ، ومعنى هذا أن الله لو كان في السماء خلا منه الأرض ، ولو كان في الأرض خلا منه السماء ، وهذا غير صحيح لا عقلا ولا شرعا (١).

____________________________________

(١) أشار المتن إلى نقطتين الأولى : حجية ظواهر الكتاب الكريم.

الثانية : وجود المحكم والمتشابه.

أما النقطة الأولى :

فإن العمل بظواهر الكتاب كغيره من ظواهر اللغة العربية أو أية لغة أخرى ، حيث يأخذ بها كل خبير بألفاظها ومعانيها ، وإلا كيف يتعاملون فيما بينهم إن لم يكن هناك ما يبرز مقاصدهم وأهدافهم ، وليس ذاك إلا اللفظ الذي من خلاله يعبّرون عمّا يجيش في صدورهم. ومن هذا القبيل الأخذ بظاهر الكتاب الكريم من حيث كونه كتابا ربانيا نزل على رسول الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، فيتدبرون آياته ، يأخذون بما أمر به ، ويزدجرون بزواجره ، لذا قال تعالى : (أَفَلا

١٢٠