أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

الكلام بل هو غير دقيق بنظره لأن الرواية إنما ذكرها القمي في تفسيره ، وذكرها الطبرسي في مجمع البيان ، فلا يوجد أحاديث بصيغة الجمع ، بل إن رواية الطبرسي عن الإمام الصادق لم تصرّح باسم عثمان ، بل قالت : نزلت في رجل من بني أمية.

والجواب :

١ ـ إنّ الإتيان بصيغة الجمع قد يراد منه الجمع المنطقي وهو اثنان ، وفي هذا المورد توجد روايتان : الأولى تصرح باسم عثمان وقد ذكرها علي بن إبراهيم القمي ، والثانية تبهم اسمه بل تصرّح بكونه من بني أمية ، وقد رواها صاحب البرهان والشيخ الطبرسي وأمثاله.

وإن كان الأرجح أن الرجل من بني أمية هو عثمان لكونه أمويا ، ولو كان العابس غير عثمان لكان ورد خبر يدل عليه ، وحيث لم يرد أي خبر يفصح عن غير عثمان ، ثبت أن عثمان هو المقصود ، فعدم التصريح باسم عثمان في روايات العامة يشهد بما قلنا من أنه المقصود بالعبوس لا غيره. فالإتيان بصيغة الجمع يعدّ تسامحا لكون المسألة من المتسالم عليها في الأوساط العلمية آنذاك وما زالت ، فما ذكره الكتاب لا يقدح أو يخدش في صحة المضمون.

٢ ـ عدم تصريح الطبرسي باسم عثمان ليس دليلا على أنه غير مقصود ، لأن فحوى الرواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنها في مورد التقية. هذا مضافا إلى أن الاعتقاد بنزول السورة في رجل من بني أمية أو الاطمئنان على أقل تقدير لتسالم الشيعة على هذا الأمر يوجب الاعتقاد أو الاطمئنان بصحة صدوره عن الأئمة عليهم‌السلام ، فعمل الطائفة مبني على هذا التسالم والارتكاز.

وبالجملة :

لقد قام الإجماع عند الإمامية ـ سدّدهم المولى عزوجل ـ أن العابس هو

٨١

غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل المتسالم عليه أن العابس رجل من بني أمية ولدلالة الخبر عليه ، وأنه عثمان كما أفاد الخبر الآخر ، من خلال هذا كله نطمئن أن العابس هو عثمان وإلّا فلما ذا لم تصرّح الأخبار والإجماعات ـ عدا هذين الخبرين ـ عن اسم العابس وأنه غير عثمان بن عفّان أسوة بغيرها من آيات النزول حيث صرّحت بمورد نزولها وبمن نزلت؟! فعدم التصريح بغير عثمان دلالة واضحة أنّ عثمان هو المقصود فالتعبير بصيغة الجمع لدلالة الإجماع على أن العابس هو عثمان لكونه أمويا ، وإجماع من هذا النوع يقوم مقام الأحاديث الكثيرة والتي من المقطوع به أنها كانت تصلنا بطرق متعددة ومتواترة لو سنحت الظروف بذلك يوم ذاك ، فالمستشكل لم يأخذ بنظر الاعتبار تسالم الإمامية على مورد نزول السورة في حق رجل من بني أمية ، كما لم يأخذ بنظر الاعتبار أيضا ظروف التقية والخوف وتحريف الأخبار والنصوص من قبل بني أمية لكل ما يمتّ إلى القدح بهم ، أو يخدش بكيانهم.

الإيراد الثالث عشر :

ومفاده : أن نسبة القول بالزيادة والنقيصة إلى أهل السّنّة أو إلى المشهور فيهم بعنوان كونهم طائفة ، ليس دقيقا أيضا (١).

والجواب :

أولا : من البعيد جدا أن يكون قصد العلوي من نسبة التحريف إلى مشهور العامة هو الزيادة أو النقيصة في الآيات ـ وإن كان هذا ينطبق على بعض أقسام التحريف وقد تعرّضنا إليه في البحوث اللاحقة فلتراجع ـ وإن حاول بعض علماء العامّة التنصل من هذه النسبة لا سيّما وأنهم رووا في صحاحهم الستة وغيرها حسبما ذكر ذلك صاحب الإيراد ، وسبب تنصّلهم يرجع في الحقيقة إلى

__________________

(١) مأساة الزهراء ج ١ / ٣٦٩.

٨٢

تبرئة عائشة وعمر بن الخطّاب اللذين ادعيا وجود نقص في القرآن الكريم في عهد الجمع الأول للقرآن في زمن أبي بكر.

كما من البعيد أن يكون قصد العلوي من نسبة التحريف إلى المشهور بين عوامهم بمقدار ما كان قصده المشهور بين علمائهم ، وذلك لأن الشهرة عند العوام هي نتيجة حتمية للشهرة عند العلماء ، وحيث إنّ هناك روايات رواها أهل السنّة في صحاحهم الستة وكتبهم المعتبرة ـ على حد تعبير صاحب الإيراد ـ دل ذلك على وجود شهرة علميّة على المطلوب ، فدعوى العلوي مرتكزة على ما اشتهر في كتبهم القول بتحريف القرآن.

ثانيا : لعلّ مراد العلوي ـ وهو القدر المتيقن من إرادته لأحد الأقسام الستة للتحريف ـ هو نسخ التلاوة الذي هو بعينه القول بالتحريف لذا قال المحقّق الخوئي عليه الرحمة : «إنّ القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف ، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة ـ عند علماء أهل السنّة ـ يستلزم اشتهار القول بالتحريف» (١).

وقال في موضع آخر : «من العجيب أن جماعة من علماء أهل السنة أنكروا نسبة القول بالتحريف إلى أحد من علمائهم ، حتى أن الألوسي كذّب الطبرسي في نسبة القول بالتحريف إلى الحشوية وقال : إن أحدا من علماء السنّة لم يذهب إلى ذلك ـ إلى أن قال السيد الخوئيرحمه‌الله : فيمكن أن يدّعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة ..» (٢). وقال في موضع ثالث : «وغير خفي أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط» (٣). وقد التزم العامة بمضامين الروايات التي

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ص ٢٠١.

(٢) نفس المصدر ص ٢٠٦.

(٣) نفس المصدر ص ٢٠٥.

٨٣

ادّعوا فيها نسخ التلاوة ، وعليه فالحق ما قاله العلوي في المحاورة.

ثالثا : المشهور عند محققي العامة القول بالزيادة والنقيصة في الحروف والحركات حسبما هو واضح من حيث عدم تواتر القراءات السبعة ، «لأن القرآن المنزل إنما هو مطابق لإحدى القراءات وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه» (١). ومن تأمل بالقراءات السبعة أو العشرة يعلم يقينا بوجود زيادة ونقيصة في القرآن.

وعلى كل حال : فإن ما ذكره العلوي رحمه‌الله من أن القرآن زيد فيه ونقّص عنه وما شابه ذلك لا يخدش بأصل المحاورة حتى يجعلها صاحب الإيراد دليلا على افتراضيتها ، واشتباه العلماء في بعض الموارد لا يخرجهم عن حقيقة التلبس بالمبدإ ، كما لا يخرج الخلاف ـ الحاصل بين العلماء ـ في القضايا العلمية عن واقعها ، فقد يصيب المرء الواقع وقد يخالفه ، والعصمة لأهلها. ودعوى عدم دقة وصوابية نسبة القول بالزيادة والنقيصة إلى مشهور السّنّة بعنوان كونهم طائفة ـ حسبما أفاد الإيراد ـ ليست موفّقة وذلك لالتزام علماء العامة بعدم تواتر القراءات ، هذا بالنسبة إلى علمائهم ، وأما المثقفون من عوامهم فلا شك أنهم تبع لهم في أفكارهم ، والسذج منهم في واد غير واديهم وعالم غير هذا العالم ، فهم خارجون حكما عن هذه الدعوى.

الإيراد الرابع عشر :

ردّه لما نسبه العلوي إلى العامة من أن آيات حول الغرانيق نزلت على رسول الله ثم نسخت ، فقال : «إن الرواية التي تتحدث عن مدح الغرانيق التي هي الأصنام قد ردّها وفنّدها كثير من علماء السنة ، وإن كان يظهر من البخاري أنه لا يأبى عن قبولها».

__________________

(١) نفس المصدر ص ١٢٣ وص ١٩٨.

٨٤

والجواب :

صحيح أن عبارة «تلك الغرانيق العلى وأنّ شفاعتهن لترتجى» ليست آية قرآنية ، ولكنّ النبيّ ـ بحسب رواية الطبري والبخاري (وكلاهما من أكابر علماء العامة) بشهادة صاحب الإيراد وتبنّيهما لها ـ زلق لسانه بالكلمتين المتقدمتين ظنا منه أنها آية قرآنية ، فجاءه جبرائيل في المساء وعرض عليه السورة ، فلما بلغ هاتين الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه ، قال جبرائيل : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله إليه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) (١) فما زال مغموما مهموما حتى نزل عليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) (٢).

إذن مراد العلوي هو ما رواه القوم في كتبهم لا سيّما البخاري الذي تعدّ أفكاره وآراؤه وكتابه الصحيح في طليعة ما يتباهى به العامة بل كتابه «الصحيح» بنظرهم من أهم الكتب بعد القرآن الكريم. فما الضير ـ عند صاحب الإيراد ـ أن ينسب العلوي تلك القصة إليهم وهم لها معتقدون؟

فالآية التي نسخت ـ بنظر العلوي ـ هي تلك الآية الشيطانية التي أوحاها إبليس والتي اعتمدها سلمان رشدي في كتابه «آيات شيطانية» وليس مراده رحمه‌الله أن هناك آيات قرآنية (كالتي ادّعاها الطبري والبخاري) نزلت ثم نسخت ، فهذا المعنى يسخر منه المتفقهون من الشيعة الإمامية فبطريق أولى فقهاؤهم وعلماؤهم!

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٣.

(٢) سورة الحج : ٥٢.

٨٥

الإيراد الخامس عشر :

تشكيكه بما ذكره «المؤتمر» من عدم صحة إيمان الخلفاء الثلاثة ، ونسبه إلى الطائفة الإمامية الاعتقاد بإيمان وإسلام هؤلاء ، قال : «إنّ هذا الاعتقاد لم يسجّله الشيعة ـ كطائفة ـ في كتبهم الاعتقادية ، ولا وقفوا عنده في تكوين البنية العقيدية وبلورة مفرداتها» (١).

يرد عليه :

أولا : لقد فنّدنا هذه المقالة في البحوث اللاحقة ، ونقول بالإجمال : إنّ الإمامية لا يعتقدون بإيمان هؤلاء أصلا ، فهناك الكثير من الآيات والنصوص المتواترة والقطعية الدالّة على عدم إيمانهم ، نعم هم مسلمون ، فالإيمان شيء والإسلام شيء آخر (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٢). ويكفي في إثبات عدم إيمانهم إنكارهم للنصّ ونصبهم وعداوتهم لأهل البيت عليهم‌السلام .. ولو أردنا استعراض كلمات محققي الإمامية على هذه المسألة لطال بنا البحث.

ثانيا : دعوى القول بعدم إثبات الشيعة لهذا الاعتقاد في كتبهم الاعتقادية غير سديدة ، وذلك لأن كلّ من تطرّق لمسألة الخلافة ودفع النّص تعرّض إلى إيمان أو كفر من جحده ونصب العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ، بل إلقاء نظرة سريعة على أخبارنا المتواترة والمبثوثة في كتاب الكافي والمقنعة والتهذيب والحدائق والبحار وغيرها يرى بوضوح أن للمسألة جذورا في كتبنا الاعتقادية ـ وقد ذكرنا ذلك في كتاب الفوائد البهيّة ج ١ / ٢٥ الجهة الثانية ـ ومن لم يذكرها فلديه عذره إمّا لتقيّة ، وإمّا حرصا على مراعاة المشاعر والأحاسيس.

__________________

(١) مأساة الزهراء عليها‌السلام ج ١ / ٣٧١.

(٢) سورة الحجرات : ١٤.

٨٦

فعدم تسجيل الشيعة هذا الاعتقاد ـ لو سلّمنا بفرضية هذا الطرح وهو غير دقيق ـ في كتبهم لا يلازم الاعتقاد بإيمان اولئك النواصب الكفرة.

ثالثا : إنّ دعوى مصاهرة النبي لهم لمجرد إيمان بناتهم بحاجة إلى إثبات تاريخيّ من مصادرنا وهو غير موجود ، وإنما كان زواجه منهنّ سياسيا أو تأليفا للقلوب وما شابه ذلك .. نعم ، التظاهر بالإيمان شيء ووجوده في كيانهنّ شيء آخر! ..

الإيراد السادس عشر :

إيراده على الاستدلال بحديث «لا تجتمع أمّتي على خطأ» على صحّة قتل الناس عثمان بن عفان حيث إنّ العلويّ حكم على عدم إيمان عثمان بهذا الحديث ، فقال صاحب الإيراد : «والحديث الشريف إنما يدلّ على استحقاقه للعقوبة ، ولا يدلّ على إجماعهم على عدم إيمانه»(١).

والجواب :

أولا : من أين أثبت صاحب الإيراد أنّ الحديث «شريف» مع كونه ضعيفا لا يتلاءم مع ما ذهبت إليه الإمامية من أنّ الإجماع بنفسه ليس حجّة ما لم يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام!! ..

ثانيا : إنّ استناد العلويّ على عدم إيمان عثمان بهذا الحديث ليس مبتنيا عليه وحده بل لما كان كفره سائدا في الأوساط المسلمة يوم ذاك ، ويكفي ما كانت تردّده عائشة : «اقتلوا نعثلا فقد كفر» فعلام حكمت عائشة بكفر عثمان؟! وعلام اجتمعت الأمّة على قتله؟! وهل الكفر أن يجحد الإنسان ربّه فقط أو أنّ له مصاديق كثيرة كان عثمان يتّصف ببعضها على أقل تقدير؟! ..

__________________

(١) مأساة الزهراء عليها‌السلام ج ١ / ٣٧٣.

٨٧

فاستدلال العلويّ كان مبنيا على اللوازم الأخرى التي تلبّس بها عثمان وأمثاله ، وكأنّ العلوي عليه الرحمة أراد أن ينسف القاعدة التي اعتمدها العامّة في استدلالاتهم ونقوضاتهم على الإمامية ، وهذه القاعدة هي اتفاق الأمة بزعمهم على خلافة أبي بكر بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * * * *

٨٨

بداية المؤتمر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله وحده ، والصلاة والسّلام على من بعث رحمة للعالمين محمّد النبيّ العربيّ وآله الطيّبين الطّاهرين وعلى أصحابه المطيعين.

وبعد ..

فهذا كتاب «مؤتمر علماء بغداد» الذي انعقد بين السنّة والشّيعة الذين جمعهم الملك الكبير (ملك شاه السلجوقي) تحت إشراف العالم العظيم الوزير (نظام الملك) ، وكان من قصّة ذلك أنّ الملك شاه لم يكن رجلا متعصّبا أعمى ، يقلّد الآباء والأجداد عن عصبيّة وعمى ، بل كان شابّا منفتحا محبا للعلم والعلماء ، وكان في نفس الوقت ولعا باللهو والصّيد والقنص.

أما وزيره (نظام الملك) فقد كان رجلا حكيما ، فاضلا ، زاهدا ، عازفا عن الدنيا ، قويّ الإرادة ، يحبّ الخير وأهله ، يتحرّى الحقيقة دائما ، وكان يحبّ أهل بيت النبي حبّا جما ... ، وقد أسّس المدرسة النظامية ـ في بغداد ـ وجعل لأهل العلم رواتب شهريّة ، وكان يحنو على الفقراء والمساكين.

وذات مرة دخل على الملك شاه أحد العلماء الكبار واسمه : (الحسين بن عليّ العلويّ) وكان من كبار علماء الشيعة ... ، ولمّا خرج العالم من عند الملك استهزأ به بعض الحاضرين وغمزه ، فقال الملك :

٨٩

لما ذا استهزءت به؟ فقال الرجل : ألا تعرف أيّها الملك أنّه من الكفّار الذين غضب الله عليهم ولعنهم؟

فقال الملك ـ متعجبا ـ : ولما ذا؟ أليس مسلما؟

قال الرجل : كلّا ، إنّه شيعي!

فقال الملك : وما معنى الشّيعي؟ (١).

____________________________________

(١) من هم الشيعة؟

نبحث هنا في نقطتين :

الأولى : معنى الشيعة لغة واصطلاحا.

الثانية : مصدر التشيّع.

* أما النقطة الأولى : معنى الشيعة لغة واصطلاحا :

فالشيعة لغة : الفرقة والأتباع والأعوان ، أخذت من الشياع والمشايعة بمعنى المتابعة والمطاوعة ، وشايعه شياعا وشيعة : تابعه.

قال ابن منظور :

الشيعة كلّ قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، وكلّ قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيعة (١) ، والجمع شيع.

وقال الطريحيّ :

الشّيعة : الأتباع والأعوان والأنصار ، مأخوذ من الشّياع وهو الحطب الصغار التي تشتعل بالنار ، وتعين الحطب الكبار على إيقاد النار ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة.

__________________

(١) لسان العرب ج ٨ / ١٨٨ ، مادة : شيع.

٩٠

ثم صارت «الشيعة» جماعة مخصوصة (١).

وفي النهاية : أصل «الشيعة» الفرقة من الناس ، وتقع على الواحد والاثنين ، والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد ، وغلّب هذا الاسم على كل من يزعم أنه يوالي عليا عليه‌السلام وأهل بيته ، حتى صار لهم اسما خاصا ؛ فإذا قيل فلان من الشيعة ، عرف أنه منهم ، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم ، وأصلها من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة (٢).

قال الراغب الأصفهاني :

الشياع : الانتشار والتقوية ، ويقال شاع الخبر أي كثر وقوى ، وشاع القوم : انتشروا وكثروا ، وشيّعت النار بالحطب : قوّتها ، والشيعة من يتقوى بهم الإنسان وينتشرون عنه ، ومنه قيل للشجاع مشيع (٣).

وشايع فلان فلانا : والاه وتابعه على أمر وهو من الشيعة كما يقال : والاه من الولي أو الولاء (٤).

زبدة المخض :

إن كلمة «شيعة» تطلق على معنيين :

الأول : بمعنى الفرقة من الناس كقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي من كل فرقة.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أي فرقهم وطوائفهم.

__________________

(١) مجمع البحرين ج ٤ / ٣٥٦ ، مادة : شيع.

(٢) نفس المصدر ، ولسان العرب ج ٨ / ١٨٩.

(٣) المفردات ص ٢٧١.

(٤) لسان العرب ج ٨ / ١٨٨.

٩١

الثاني : بمعنى الأعوان والأنصار كقوله تعالى : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه).

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ).

والضمير المتصل في «شيعته» فيه وجوه :

الوجه الأول : راجع إلى النبي نوح عليه‌السلام أي أن من شيعة نوح لإبراهيم عليه‌السلام لأنه كان على منهاج نوح وسنّته في التوحيد واتباع الحق.

الوجه الثاني : راجع إلى النبي الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي أن من شيعة النبي محمد لإبراهيم عليه‌السلام لأن إبراهيم خبر مخبره فاتّبعه ودعا له ، هذا الرأي تبناه ابن الأعرابي ووافقه عليه الفراء (١) ، وكذا ذكره الطبرسي قدس‌سره في تفسيره (٢) ، وكذا الكلبي برواية الرازي في التفسير (٣). وقد اختار الوجه الأول جلّ مفسري الشيعة والسنّة ، واستدلوا عليه بأن الثاني لا دليل عليه من جهة اللفظ ، بمعنى أنه لم يجر لمحمد ذكر ، فهو ترك الظاهر (٤) ؛ هذا مضافا إلى عدم مساعدة السياق عليه (٥).

يجاب عنه :

أولا : سياق الآيات هنا لا يعارض بعض الأخبار الدالة على الوجه الثاني ، لا سيّما أنها في صدد بيان مراتب التأويل ـ أي البطون ـ فلا معنى حينئذ لتصور معارضة هذا السياق لها ، هذا فضلا عن أن يدّعى ترجيحه على دلالتها.

ثانيا : حجية السياق لا تتقدم على ظواهر الأخبار المبيّنة لمراتب التأويل ،

__________________

(١) لسان العرب ج ٨ / ١٨٨ وتفسير التبيان للطوسي ج ٨ / ٥٠٧.

(٢) مجمع البيان ج ٨ / ٢٣٤ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٣) تفسير الرازي ج ٢٦ / ١٤٦.

(٤) تفسير التبيان للطوسي ج ٨ / ٥٠٧.

(٥) تفسير الميزان ج ١٧ / ١٤٧.

٩٢

«لأن الكناية عمّن لم يجر له ذكر جائزة إذا اقترن بذلك دليل كما قال تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ولم يجر للشمس ذكر» (١).

تبيّن بهذا أن السياق لا ينافي مراتب التأويل ، وشهد له ما روي عن مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال : قال قوله عزوجل (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي إبراهيم عليه‌السلام من شيعة عليعليه‌السلام(٢)

ويؤيد هذا التأويل ما رواه الشيخ محمد بن الحسن بسند طويل قال :

سأل جابر بن يزيد الجعفي ، جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام عن تفسير هذه الآية (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) فقال عليه‌السلام : إن الله سبحانه لمّا خلق إبراهيم عليه‌السلام كشف له عن بصره فنظر فرأى نورا إلى جنب العرش ، فقال : إلهي ما هذا النور؟ فقيل : هذا نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صفوتي من خلقي ، ورأى نورا إلى جنبه فقال : إلهي وما هذا النور؟ فقيل له : هذا نور علي بن أبي طالب ناصر ديني ، ورأى إلى جنبهما ثلاثة أنوار ، فقال : إلهي وما هذه الأنوار؟ فقيل : هذا نور فاطمة ، فطمت محبيها من النار ، ونور ولديها الحسن والحسين ، فقال : إلهي وأرى تسعة أنوار قد حفّوا بهم؟ قيل : يا إبراهيم هؤلاء الأئمة من ولد علي وفاطمة ، فقال إبراهيم : إلهي بحق هؤلاء الخمسة إلّا ما عرفتني من التسعة؟ فقيل : يا إبراهيم أولهم : علي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر وابنه موسى وابنه علي وابنه محمد وابنه علي وابنه الحسن ، والحجة القائم ابنه ، فقال إبراهيم : إلهي وسيدي أنوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلا أنت؟ قيل : يا إبراهيم هؤلاء شيعتهم ، شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال إبراهيم : وبما تعرف شيعته؟

فقال : بصلاة إحدى وخمسين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، والقنوت قبل الركوع والتختم في اليمين ، فعند ذاك قال إبراهيم : اللهم اجعلني من شيعة

__________________

(١) تفسير التبيان للطوسي ج ٨ / ٥٠٨.

(٢) تفسير البرهان ج ٤ / ٢٠.

٩٣

أمير المؤمنين. قال فأخبر الله في كتابه فقال : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (١).

ولم يستبعد الشيخ الطوسي صحة ما روي عن أهل البيت : إن من شيعة علي لإبراهيم.

ورواه الشيخ المجلسي في بحار الأنوار بسندين مختلفين عن تأويل الآيات والروضة والفضائل لابن شاذان (٢).

وأما المعنى الاصطلاحي :

فيراد من كلمة «شيعة» كل من اتّبع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ونصره وقدّمه على غيره ممن اغتصب الخلافة منه.

قال الأزهري : «الشيعة قوم يهوون عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويوالونهم». ولو أطلق لفظ «الشيعة» بأداة التعريف فهو على التخصيص ـ لا محالة ـ لأتباع أمير المؤمنين عليه‌السلام على سبيل الولاء والاعتقاد بإمامته بعد الرسول بلا فصل ، ونفي الإمامة عمّن تقدمه في مقام الخلافة ، ولو أسقطت الأداة من الكلمة مع إضافة «من» التبعيضية فيفيد كونه غير مخصص بمن تبع أمير المؤمنين فيقال حينئذ : هؤلاء من شيعة بني أمية أو شيعة بني العبّاس أو من شيعة فلان وفلان.

قال ابن منظور :

«قد غلّب هذا الاسم على من يتوالى عليا وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين حتى صار اسما خاصا ، فإذا قيل : فلان من الشيعة عرف أنه منهم ، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم(٣).

وقال الشهرستاني معرّفا «الشيعة» :

«الشيعة هم الذين شايعوا عليا عليه‌السلام على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٤ ، ص ٢٠ ح ٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٦ / ١٥١ و ٢١٤.

(٣) لسان العرب ج ٨ / ١٨٩.

٩٤

نصا ووصية ، إما جليا وإما خفيا ، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده ، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده ، وقالوا : ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة ، وينتصب الإمام بنصبهم ، بل هي قضية أصولية ، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل إغفاله وإهماله ، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله» (١).

ولفظ «الشيعة» اصطلاحا وإن صدق مجازا على غير المعتقدين بإمامة باقي الأئمة عليهم‌السلام كفرقة الزيدية والإسماعيلية والفطحية وغيرهم من الواقفية ، إلا أنه حقيقة مختص بمن اعتقد بالأئمة الاثنى عشر ، أولهم مولى الثقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وآخرهم مهدي الأمم صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف ، ويعتقد الشيعة الإمامية أن كل من لم يوال بقية الأئمة بعد الإمام علي عليه‌السلام هو كمن لم يعتقد به عليه‌السلام وذلك للأحاديث المتواترة عن أئمتهم عليهم‌السلام.

قال الشيخ المفيد (قدس‌سره):

واتفقت الإمامية على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على إمامة الحسن والحسين بعد أمير المؤمنينعليه‌السلام وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا نصّ عليهما كما نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأجمعت المعتزلة ومن عددناه من الفرق سوى الزّيدية الجارودية على خلاف ذلك ، وأنكروا أن يكون للحسن والحسينعليهما‌السلام إمامة بالنصّ والتوقيف.

واتّفقت الإمامية على أنّ رسول الله صلوات الله عليه وآله نصّ على علي بن الحسين وأنّ أباه وجدّه نصّا عليه كما نصّ عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه كان بذلك إماما للمؤمنين. وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيديّة والمرجئة والمنتمون إلى أصحاب الحديث على خلاف ذلك ، وأنكروا بأجمعهم أن يكون علي بن الحسين عليه‌السلام إماما للأمّة بما توجب به الإمامة لأحد من أئمة المسلمين.

واتّفقت الإمامية على أنّ الأئمة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر إماما ، وخالفهم

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٤٦.

٩٥

في ذلك كلّ من عداهم من أهل الملّة وحججهم على ذلك خلاف الجمهور ظاهرة من جهة القياس العقليّ والسمع المرضيّ والبرهان الجليّ الذي يفضي التمسك به إلى اليقين (١).

* أما النقطة الثانية : مصدر التشيّع :

من خلال ما تقدّم ، عرفنا معنى كلمة «شيعة» ومشتقاتها ، التي يجمعها معنى واحد هو «النصرة والمتابعة» ومن خلال قراءة المصادر التاريخية والتفسيرية نستطيع التعرّف على البدايات الأولى لولادة هذا المصطلح.

وهذه المصادر تؤكد بوضوح أن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من طرح مصطلح «شيعة» في مناسبات عدة ، وجذّره في وعي الأمة ومن خلال التأكيد النبوي لهذا الطرح ، تكوّنت نخبة متميّزة من صحابة الرسول عرفوا بولائهم ومتابعتهم ونصرتهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام حتى أصبح هذا اللقب ـ أي شيعة ـ خاصا بهم دون بقية الصحابة ، منهم : سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمّار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأمثالهم.

إذن التشيع مصدره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهاهنا طائفة من النصوص تبيّن حقيقة ما قلنا منها :

ما رواه ابن عساكر بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ عليه‌السلام ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، فنزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٢).

وأخرج الحاكم الحسكاني من عدة طرق روايات عدة من هذا القبيل ؛ قال : أخبرنا أبو بكر ابن أبي دارم الحافظ بالكوفة ، أخبرنا المنذر بن محمد بن المنذر ،

__________________

(١) كتاب أوائل المقالات ، ص ٤٠ ـ ٤١ ، ط / دار المفيد.

(٢) الدر المنثور للسيوطي ج ٨ / ٥٨٩.

٩٦

قال : حدّثني أبي قال : حدثني عمي الحسين بن سعيد عن أبيه عن إسماعيل ابن زياد البزّاز ، عن إبراهيم بن مهاجر مولى آل شخبرة ، قال : حدثني يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي عليه‌السلام قال : سمعت عليا عليه‌السلام يقول : حدّثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال : يا عليّ ، أما تسمع قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (١) ، هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غرّاء محجّلين(٢).

وأخرج أيضا :

عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فلما نظر إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قد أتاكم أخي ، ثم التفت إلى الكعبة ، فقال : وربّ هذه البنية إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : أما والله ، إنه أوّلكم إيمانا بالله وأقومكم بأمر الله ، وأوفاكم بعهد الله ، وأقضاكم بحكم الله ، وأقسمكم بالسّويّة ، وأعدلكم في الرعية ، وأعظمكم عند الله مزيّة. قال جابر : فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ؛ فكان عليّ إذا أقبل قال أصحاب محمد : قد أتاكم خير البرية بعد رسول الله (٣).

كما أخرج القندوزي الحنفي في باب المناقب حديث ٤٥ :

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة (٤). وأورد ابن الصبّاغ المالكي عن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) سورة البيّنة : ٧.

(٢) شواهد التنزيل للحسكاني ج ٢ / ٣٥٦ ، ط / الأعلمي.

(٣) شواهد التنزيل ج ٢ / ٣٦٢ ، وقد روى فيه ما يناهز ستة عشر حديثا من أن عليا وشيعته هم خير البرية ، فلاحظ.

(٤) ينابيع المودة.

٩٧

الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال النبي لعلي : هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين ، ويأتي أعداؤك غضابا مفحمين (١).

كما أورد ابن جرير الطبري (٢) بسنده عن أبي الجارود عن محمد بن علي : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت يا علي وشيعتك.

وفي الصواعق المحرقة ص ٩٦ قال : الآية الحادية عشرة قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال : أخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن ابن عباس : إن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوك غضابا مفحمين ، قال : ومن عدوي؟ قال : من تبرأ منك ولعنك.

كما ذكره الشبلنجي في نور الأبصار ص ٧٠ و ١٠١.

أبعد هذا يصح أن يقال : أنّ مصدر التشيع عبد الله بن سبأ حيث نسب هذا إلى الشيعة جماعة من العامة منهم محمد رشيد رضا صاحب مجلة «المنار» المصرية في كتابه (السنّة والشيعة) ص ٤٥ قال :

«وكان مبتدع أصول التشيع يهوديا اسمه عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام خداعا ، ودعا إلى الغلو في علي كرّم الله وجهه ، لأجل تفريق هذه الأمة ، وإفساد دينها ودنياها عليها». ولحقه من الكتّاب المحدثين أحمد أمين في كتابه «فجر الإسلام» وفريد وجدي في دائرة المعارف ج ٦ / ٦٣٧ عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمته للإمام علي عليه‌السلام ، وكذا حسن إبراهيم حسن في كتابه «تاريخ الإسلام السياسي» في فصل أخريات خلافة عثمان قال :

«فكان هذا الجو ملائما تمام الملائمة ، ومهيئا لقبول دعوة عبد الله بن سبأ ، ومن لفّ لفه ، والتأثر بها إلى أبعد حد ، وقد أذكى نيران هذه الثورة صحابي قديم

__________________

(١) الفصول المهمة لابن الصبّاغ ، ص ١١٧ ، ط / دار الأضواء.

(٢) تفسير الطبري ج ٣٠ / ١٧١.

٩٨

اشتهر بالورع والتقوى وكان من كبار أئمة الحديث ـ وهو أبو ذر الغفاري ـ الذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء وهو عبد الله بن سبأ ، وكان يهوديا فأسلم ثم أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية».

وكذا اعتقدها ابن خلدون في تاريخه ، حادثة الجمل.

هذا بالنسبة للكتّاب المحدثين ، وأما القدامى فأول من أثارها ابن جرير الطبري وجعلها من المسلّمات التاريخية فقال : «فيما كتب به إلى السري ، عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال : كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء ، أمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم ، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام ...» (١).

وقال في موضع آخر :

«إنّ عثمان أخذها ـ أي الخلافة ـ بغير حق وهذا وصي الله ـ يقصد الإمام عليا عليه‌السلام ـ فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر ، فبث دعاته ، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ، ويكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه اولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة ...» (٢).

هذه خلاصة ما ذكره الكتّاب القدامى والجدد بحق أصل التشيع ، وأنه وليد السبئية بزعمهم ، وهناك نظريات أخرى ترجع أصل التشيع إليها منها :

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٣٧٨ ، ط / الأعلمي.

(٢) نفس المصدر ج ٣ / ٣٧٩ ، والكامل في التاريخ ج ٣ / ١٥٤.

٩٩

النظرية الثانية :

ترجع التشيّع إلى ما بعد وفاة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر العلّامة الشيخ جعفر السبحاني أن المؤرّخ اليعقوبي ممن تبنّوا هذه النظرية ، فقال :

«وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم: العباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس ، والزبير بن العوّام ، وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري وعمّار بن ياسر والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب»(١).

ولكن يرد عليه :

إن مجرد الميل إلى الإمام علي عليه‌السلام ليس دليلا على أنّ مصدر التشيع كان يوم السقيفة ، فلا توجد ملازمة بين الميل إلى مولانا علي عليه‌السلام وبين مصدر التشيع.

النظرية الثالثة :

ترجع أصل التشيّع إلى عهد عثمان بن عفّان ، نتيجة أحداث وتناقضات أفرزتها سياسة الحكّام المنحرفين ، مما هيّأ جوا ملائما لنشوء الفرق والأحزاب.

ومن مؤيدي هذا الاتجاه جماعة من المؤرّخين منهم : ابن حزم وجماعة آخرون ذكرهم يحيى هاشم فرغل في كتابه «عوامل وأهداف نشأة علم الكلام» ج ١ ص ١٠٥.

النظرية الرابعة :

ترجع أصل التشيّع إلى أيام خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وممن قال بهذا الرأي ابن النديم في الفهرست ص ٢٢٣ قال : «لما خالف طلحة والزبير عليا عليه‌السلام وأبيا إلّا الطلب بدم عثمان بن عفّان ، وقصدهما علي عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٢٤.

١٠٠