أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

أن تفويت الصلاة إن كان جائزا لم يكن على «الإمام» عليّ إثم إذا صلّى العصر بعد الغروب ، وليس عليّ أفضل من النبيّ الذي فاتته العصر يوم الخندق ولم ترد عليه الشمس وقد نام ومعه عليّ وسائر الصحابة عن الفجر حتّى طلعت الشمس ولم ترجع إلى الشرق ، وإن كان التفويت محرّما فهو من الكبائر ، ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس.

الجواب :

لم ينم النبيّ كما عرفت وإنما تغشّاه الوحي ، وما ذكره ابن تيمية من أن النبيّ تنام عيناه ولا ينام قلبه يجب أن يجعله دليلا على كذب رواية نومه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صلاة الصبح وكذب رواية نسيانه الصلاة يوم الخندق ، فحينئذ يبطل نقضه بعدم رد الشمس للنبيّ لما فاتته في الوقتين وهو مساو بالفضل للإمام عليّ ، والفضليّة لا تستلزم أولوية ردها له لجواز أن يكون ردها للإمام عليّ دفعا لطعن أهل النفاق فيه بتركه الصلاة فردت له ليعلم أنه في طاعة الله تعالى بشاهد جلي أو لغير ذلك من الحكم المقتضية لتخصيصه دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن الإمام عليّا عليه‌السلام لم يترك أصل الصلاة فإنه صلّاها إيماء كما هو صريح بعض الأخبار ، وإنما ردها الله سبحانه له لينال فضل الصلاة قائما في وقتها ، ويظهر فضله وكمال طاعته وليقطع ألسنة المنافقين ، وبهذا يعلم ما في قوله إن كان جائزا لم يكن على عليّ إثم إذا صلّى العصر بعد الغروب ، فإن الداعي لردها ليس رفع الإثم بل تلك الحكم المذكورة ، بل لا يمكن رد الشمس لآثم ، لأن رد الشمس كرامة وفضل ، ولا كرامة لعاص ، فقد ظهر أن المناقشة في الحديث إنما هي من السفاسف.

الإيراد الخامس :

اشتمال أحاديث ردّ الشمس على منكرات (منها) :

إنها لما غابت سمع لها صرير كصرير المنشار (١).

__________________

(١) كفاية الطالب للكنجي ص ٢٤٠ وأرجح المطالب ص ٦٨٦ للشيخ عبد الله الحنفي.

٨٠١

(ومنها) : إنها أقبلت ولها خوار (١) أو وجيب شديد (٢) هال الناس ذلك.

(ومنها) : ما رواه أبو سعيد قال : فو الله لقد سمعت للشمس صريرا كصريرة البكرة حتى رجعت بيضاء (٣) نقية.

والجواب : كما أن الخسوف والكسوف دلالة على الغضب الإلهي ، والبرق والرعد علامة على مجيء المطر ، كذا صرير الشمس علامة على رجوعها.

قد يقال : إن إشراقها علامة ودلالة على رجوعها فما الداعي لصدور الصرير منها؟

قلنا : إن الصرير أو الخوار وما شابه ذلك ، لزيادة الإيقان وتأكيد الحجة على الناس.

(٢) إن الله سبحانه لا يعجز عن إحداث الصوت ليكون السمع حظ من هذه الفضيلة كما للبصر فيزيد التيقن والالتفات بها ، ولو تسرينا إلى هذه المناقشات منعنا انشقاق القمر وسقوط شقيه على الجبلين أو الجبل وما دونه فإنه أكبر من ذلك ، فإذا أجيب هاهنا بأن الله شقه وصغر جرمه وأنزله إلى الأرض إيضاحا للحجة فليجيب بمثله في المقام.

الإيراد السادس :

إذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الداعي بردّها له فالعادة ـ على مشرب (٤) المعتزلة ـ إنما أخرقت للنبيّ لا للإمام عليّ عليه‌السلام.

والجواب :

إذا كان النبيّ إنما دعا بردّها لأجل أمير المؤمنين ـ كما هو مفاد الأخبار ـ

__________________

(١) الرياض النضرة ج ٢ / ١٧٩.

(٢) إعلام الورى للطبرسي ص ١٨١ وبحار الأنوار ج ٤١ / ١٧٤ ح ١٠.

(٣) دلائل الصدق ج ٢ / ٢٩٩.

(٤) يدّعي المعتزلة أن العادات لا تنخرق إلا للأنبياء دون غيرهم.

٨٠٢

ليدرك ما فاته من فضل الصلاة فشرف انخراق العادة والفضيلة تنقسم بينهما.

فقد دلت الأخبار على أن الله ردّها لأنه عليه‌السلام حبس نفسه على طاعة الله ورسوله ، وكل النصوص تشير إلى هذا المعنى لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«إن عليّا كان على طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس ..» (١) وفي أكثرها لفظ: «اللهم اردد الشمس على عليّ بن أبي طالب».

من هنا يعلم أيضا أن فائدة ردّ الشمس لمولانا المرتضى عليّ عليه‌السلام للتدليل على علو فضله على عامة الخلق ، ودلالته على إمامة أمير المؤمنين أجلى من الشمس لأنه من أعظم الأدلة على الاهتمام بشأنه وفضله على جميع الأصحاب بما لا يحلم أن يناله أحد منهم.

وأما خبر كسر الأصنام فقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصحّحه عن الإمام عليّ حيث قال : «لمّا كانت الليلة التي أمرني رسول الله أن أبيت على فراشه وخرج من مكة مهاجرا انطلق بي رسول الله إلى الأصنام ، فقال : اجلس فجلست إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول الله على منكبي ثم قال : انهض فنهضت به فلمّا رأى ضعفي تحته قال : «اجلس فجلست فأنزلته عني وجلس لي رسول الله ، ثم قال لي يا عليّ اصعد ، فصعدت على منكبيه ثم نهض بي رسول الله وخيل لي أني لو شئت نلت السماء وصعدت إلى الكعبة» الحديث ، ونحوه في مسند أحمد ج ١ / ٨٧ لكن من دون تعيين الليلة ، وكذا في كنز العمال ج ٦ / ٤٠٧ نقلا عن ابن أبي شيبة وأبي يعلى في مسنده وابن جرير والخطيب.

وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قال : دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمنزل خديجة ذات ليلة ، فلما صرت إليه قال : اتّبعني يا عليّ ، فما زال يمشي وأنا خلفه ونحن نخرق دروب مكة حتى أتينا الكعبة وقد أنام الله كلّ عين ، فقال لي رسول

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤١ / ١٦٦ ـ ١٨٥ باب ١٠٩ ومناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي ، الرياض النضرة للطبري ج ٢ / ١٧٩ ، ومشارق الأنوار في سير النبيّ للكازروني ص ١١٠ ، وأرجح المطالب ص ٦٨٧ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٥٢٢ ـ ٥٣٩ ، وإعلام الورى ص ١٨٠.

٨٠٣

الله : يا عليّ ، قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : اصعد على كتفي ، يا عليّ ، قال : ثم انحنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصعدت على كتفه فألقيت الأصنام على رءوسهم وخرجنا من الكعبة حتى أتينا منزل خديجة ، فقال لي : إن أول من كسر الأصنام جدّك إبراهيم ثم أنت يا عليّ آخر من كسر الأصنام ، فلمّا أصبح أهل مكة وجدوا الأصنام منكوسة مكبوبة على رءوسها فقالوا : ما فعل هذا بآلهتنا إلّا محمّد وابن عمه ، ثم لم يقم بعدها في الكعبة صنم (١).

ووجه الدلالة فيه على المطلوب أن اختصاص أمير المؤمنين عليه‌السلام بمشاركة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الواقعة الجليلة الخطيرة بطلب من النبيّ دليل على فضله على غيره لا سيما وقد رقى على منكب دونه العيوق وهام الملائكة والملوك ، وقد أشار الشافعي إلى هذه الواقعة مادحا لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام كما حكاه في ينابيع المودة الباب ٤٨ فقال :

قيل لي قل في عليّ مدحا

ذكره يخمد نارا موصده

قلت لا أقدم في مدح امرئ

ضل ذو اللب إلى أن عبده

والنبيّ المصطفى قال لنا

ليلة المعراج لما صعده

وضع الله بظهري يده

فأحس القلب أن قد برده

وعلي واضع أقدامه

في محل وضع الله يده

بل قد يقال بدلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من وجه آخر وهو أن ضعفه عن حمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كان مخالفا لما هو عليه من القوة العظيمة دل على أن المنشأ في ضعفه هو رعاية جهة النبوة ، ولذا تصوّر (وتصوّره حق وصواب) أن لو شاء أن ينال السماء نالها فلا يرفع على منكبيه ـ بما هو نبيّ ملحوظ به جهة النبوة ـ إلّا من هو شريك له في أمره ، ومن هو كنفسه وخليفته في أمته. وأما حديث أنه لا يجوز على الصراط إلّا من كان معه كتاب بولاية الإمام عليّ عليه‌السلام فواضح الدلالة على المطلوب ، إذ من دون الاعتقاد بإمامته عليه‌السلام التي هي أول ما

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٨ / ٨٤ حديث ٤.

٨٠٤

يسأل عنه بعد الوحدانية والرسالة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحق ما يحتاج إلى معرفته في الجواز على الصراط ، لأن من لا يعرف إمامة إمامه مات ميتة جاهلية ، بخلاف سائر الواجبات فإن من لا يلتزم بها لا يخرج عن الدين ما دام غير منكر لها إذ ليست من أصوله.

إن قيل : لعلّ المراد بالولاية في الأخبار الحب ، لا الإمامة كما يدّعي الشيعة.

قلنا : دعوى كون الولاية هي الحب بعيدة ، وإن كان حبّه واجبا وأجرا للرسالة ، اللهم إلّا بلحاظ الملازمة بين الحب الخالص والإقرار بإمامته إذ لا ينكرها بعد وضوح أمرها إلّا من يميل عنه ، مع أن السؤال عن حبّه وتوقف الجواز على الصراط على ودّه دليل على أن له دون سائر الصحابة منزلة عظمى ومرتبة توجب ذلك لفضله عليهم والأفضل أحق بالإمامة.

وقد نقل في الينابيع القول بإرادة الحب من الولاية عن الحاكم والأعمش ومحمّد بن إسحاق صاحب كتاب المغازي ، ويشهد لهم الأخبار الكثيرة الدالة على السؤال عن حب أهل البيتعليهم‌السلام ، منها ما في الينابيع عن الثعلبي وابن المغازلي بسنديهما عن ابن عبّاس وعن الترمذي وموفق بن أحمد بسنديهما عن أبي برزة الأسلمي ، وعن موفق أيضا بسنده عن أبي هريرة ، وعن الحاكم بسنده عن أبي سعيد ، وعن الحمويني بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن المناقب بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام قالوا :

(قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تزول قدم عبد عن قدم حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ـ وفي رواية : وعن شبابه ـ وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت).

ولا ريب أن المراد من حبّهم عليهم‌السلام الملازم للاعتقاد بإمامتهم والأخذ منهم ، لا الحب المجرد من كل ذلك إذ لا يسمّى حبا في الحقيقة ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ

٨٠٥

كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (١).

(٢٣) الثالث والعشرون :

حديث : الحق مع عليّ وعليّ مع الحق.

في الجمع بين الصحاح الستة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : رحم الله عليّا اللهم أدر الحق معه حيث دار (٢).

وروى الجمهور أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّار بن ياسر : ستكون في أمتي بعدي هناة ، حتى يختلف السيف فيما بينهم ، حتى يقتل بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض.

يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، وأنت مع الحق والحق معك ، إن عليّا لن يدنيك من ردى ولن يخرجك من هدى.

يا عمّار ، من تقلّد سيفا أعان به عليّا على عدوه قلّده الله يوم القيامة وشاحين من در ، ومن تقلّد سيفا أعان به عدوه قلّده الله وشاحين من نار ، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني ـ يعني عليّا عليه‌السلام ـ وإن سلك الناس كلهم واديا ، وسلك عليّ واديا فاسلك وادي عليّ ، وخلّ عن النّاس.

يا عمّار ، إنّ عليّا لا يردك عن الهدى ولا يدلك على ردى.

يا عمّار : طاعة عليّ طاعتي وطاعتي طاعة الله تعالى (٣).

وروى أحمد بن موسى بن مردويه ، من الجمهور ، من عدة طرق ، عن عائشة

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣١.

(٢) صحيح الترمذي ج ٢ / ٢٩٨ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١٢٤ ، الملل والنحل ج ١ / ١٠٣.

(٣) الفرائد للحمويني مخطوط ، ينابيع المودة ص ١٥١ الباب ٤٣ ، أسد الغابة ج ٥ / ٢٨٧ ، كنز العمال ج ٦ / ١٥٥ ، تاريخ بغداد ج ١٣ / ١٨٦ ، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٦ ، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ٣٩٧ ، إحقاق الحق ج ٥ / ٧١ ـ ٧٢ ، ومعرفة الإمام للطهراني ج ١ / ٢٤٣ نقلا عن الموفق بن أحمد الخوارزمي.

٨٠٦

قالت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحق مع عليّ وعليّ مع الحق ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (١).

وروى المؤرخ الشهير ابن قتيبة الدينوري قال : أتى محمّد بن أبي بكر فدخل على أخته عائشة ، قال لها : أما سمعت رسول الله يقول : عليّ مع الحق ، والحق مع عليّ ، ثم خرجت تقاتلينه بدم عثمان (٢)؟!

قال الفضل بن روزبهان :

صحّ في الصحاح أن رسول الله قال لعمّار : ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ، وباقي ما ذكر إن صحّ دلّ على أن عليّا كان مع الحق أينما دار وهذا شيء لا يرتاب فيه حتى يحتاج إلى دليل بل هذا دليل على حقية الخلفاء لأن الحق كان مع عليّ ، وعليّ كان معهم حيث تابعهم وناصحهم فثبت من هذا خلافة الخلفاء وأنها كانت حقا صريحا ، وأما من خالف عليّا من البغاة فمذهب أهل السنة والجماعة أن الحق كان مع عليّ وهم كانوا على الباطل ولا شك في هذا. انتهى.

لا يرتاب ذو عقل أن ظاهر الخبر الشريف يقتضي عصمة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ووجوب الاقتداء به ، لأن النبيّ لا يجوز أن يخبر على الإطلاق بأن الحق مع عليّ ووقوع القبيح جائز عنه ، لأنه إذا وقع كان الأخبار كذبا ، ولا يجوز عليه ذلك ، فمفاد الحديث هو العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيره من الصحابة بالاتفاق.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخبر : لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فإن «لن» لنفي المستقبل عند أهل العربية ، فيجب أن يكون الحق والقرآن مع الإمام عليّ عليه‌السلام لا ينفكان عنه ، وإذا كان الحق والقرآن لا ينفكان عنه أبدا بمقتضى الحديث الشريف فلا شك حينئذ بثبوت الإمامة له ، وبطلان إمامة أبي بكر وعمر وعثمان.

__________________

(١) تاريخ بغداد ج ١٤ / ١٤ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ١١٩ ، مجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٥ وج ٩ / ١٢٤ ، كنوز الحقائق ص ٦٥ ، كنز العمال ج ٦ / ١٥٧ وج ٣ / ١٥٨.

(٢) إحقاق الحق ج ٥ / ٦٣٦ نقلا عن الإمامة والسياسة ج ١ / ٧٨.

٨٠٧

وأما مبايعته بعد ستة أشهر ـ كما يدّعي العامة ـ فليست صحيحة لوقوعها قهرا بعد ذلك ، كما أن مناصحته لهم بعد مشاورتهم له في بعض الأمور إنما هي لإصلاح الدين لا لترويج أمرتهم ، ولذا ما زال يتظلم منهم ووقع بينهم وبينه من النفور والعداوة ما هو جليّ لكل أحد.

وأما ما ذكره في شأن البغاة فهو إقرار بأن صاحبة الجمل وأصحابها ومعاوية وأنصاره كانوا مبطلين ومطالبين عند الله تعالى بأمر عظيم وهو إلقاح الفتنة إلى يوم الدين وإزهاق نفوس الآلاف من المسلمين الذي لا تنجي منه التوبة بالقول لو صدرت ما لم يعطوا النصف من أنفسهم ويخرجوا عن المظالم إلى أهلها ، والإقرار بذلك لا يناسب تعظيمهم لهم وجعل تفضيل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام وجعل الزبير حواري رسول الله ومعاوية هاديا مهديا (١).

(٢٤) الرابع والعشرون :

حديث الثقلين

روى أحمد بن حنبل في مسنده : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وقال : من أحبني ، وأحبّ هذين وأباهما وأمهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة (٢).

وفيه عن جابر ، قال : قال رسول الله ذات يوم بعرفات ، وعليّ تجاهه : ادن مني يا عليّ ، خلقت أنا وأنت من شجرة ، فأنا أصلها ، وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمن تعلّق بغصن منها أدخله الله الجنة (٣).

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٣٠٤.

(٢) تهذيب التهذيب ج ١٠ / ٤٣٠ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠١ ، تاريخ بغداد ج ٣ / ٢٨٧ ، كنز العمال ج ٦ / ٢١٧ ، مسند أحمد ج ١ / ٧٧ ، والتاج الجامع للأصول ج ٣ / ٢٤٩.

(٣) ذخائر العقبى ص ١٦ ، ينابيع المودة ص ٢٤٥ ، شواهد التنزيل ج ١ / ٢٩١ ، المستدرك للحاكم ج ٣ / ١٦٠ ، كنوز الحقائق للمناوي ص ١٥٥ وغيرهم.

٨٠٨

وفيه : عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله : إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : الثّقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

ورواه أحمد من عدة طرق.

وفي صحيح مسلم في موضعين ، عن زيد بن أرقم ، قال : خطبنا رسول الله بماء يدعى «خمّا» بين مكة والمدينة ، ثم قال بعد الوعظ : أيّها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثّقلين ، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي (١).

وروى الزمخشري ، وكان من أشدّ الناس عنادا لأهل البيت ، وهو الثقة المأمون عند العامة ، قال بإسناده ، قال رسول الله : فاطمة مهجة قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمة من ولدها أمناء ربي ، وحبل ممدود بينه وبين خلقه ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلف عنهم هوى (٢).

وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٣) بأسانيد متعددة ، عن رسول الله قال : يا أيّها الناس قد تركت فيكم الثقلين ، خليفتين ، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي : أحدهما أكبر من الآخر :

__________________

(١) مسند أحمد ج ٥ / ١٨١ وج ٤ / ٣٦٦ ، صحيح مسلم في كتاب الفضائل ج ٤ / ١١٠ ، الفيض القدير ج ٣ / ١٤ وغيرهم.

(٢) المناقب للزمخشري ص ٢١٣ مخطوط ، درر بحر المناقب للموصلي ص ١١٦ مخطوط ، الفرائد للحمويني ، وإحقاق الحق ج ٩ / ١٩٨ ، ينابيع المودة ص ٨٢ ومقتل الإمام الحسين للخوارزمي ص ٥٩.

(٣) سورة آل عمران : ١٠٣.

٨٠٩

كتاب الله ، حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

وفي الجمع بين الصحيحين : إنما يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به ، وأهل بيتي ، أذكركم في أهل بيتي.

قال الفضل بن روزبهان :

هذه الأخبار بعضها في الصحاح ، وبعضها قريب المعنى منها ، وحاصلها التوصية بحفظ أحكام الكتاب وأخذ العلم منه ومن أهل البيت وتعظيم أهل البيت ومحبتهم وموالاتهم ، وكل هذه الأمور فريضة على المسلمين ، ولا قائل بعدم وجوبه على كل مسلم ، ولكن ليس فيما ذكر نصّ على خلافة عليّ بعد رسول الله ، لأن هذا هو الوصية بالحفظ وأخذ العلم منهم وجعلهم قرناء للقرآن يدل على وجوب التعظيم وأخذ العلم عنهم والاقتداء بهم في الأعمال والأقوال وأخذ طريق السنّة والمتابعة من أعمالهم ، ولا يلزم من هذا خلافتهم وليس هو بالنصّ في خلافتهم بعد رسول الله ، ومراد النبيّ توصية الأمة بحفظ القرآن ومتابعة أهل البيت وتعظيمهم ، وهذا مما لا منازع فيه. انتهى.

يرد عليه :

(١) تصريح الفضل بن روزبهان بأن هذه الأحاديث دالة على وجوب محبة أهل البيت وتعظيمهم وأخذ المعارف والعلوم منهم اعتراف منه بعلو وشرف أهل البيت عليهم‌السلام على من سواهم ، كما يدل على اعترافه بكونهم عليهم‌السلام قرناء الكتاب المجيد ، فهم مصونون من الخطأ تماما كالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ، فإذا كان الكتاب مصونا من الخطأ فهو لا ريب أنّه قدوة حسنة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا ، وكذا العترة الطاهرة قرين الكتاب فهم قطعا قدوة حسنة بكل ما يقولون ويفعلون ، فما بال الفضل لا يأخذ منهم ولا يستنّ بسنتهم قال

٨١٠

تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(١)؟

(٢) إن تفكيكه بين الفضائل والخلافة ، فصل من دون دليل لا سيّما وأن العامة ـ وهو منهم ـ لا يقولون بوجود نص على الخليفة ، من هنا يبررون اجتماع أئمتهم في سقيفة بني ساعدة لينتخبوا خليفة بحجة أن الرسول مات ولم يوص ، هذا مضافا إلى أنهم يستندون إلى خلافة أبي بكر بذكر بعض الفضائل له ككونه صدّيقا وأمثال ذلك ، فلو كان الشيء من أمثال فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام موجودا في شأن أبي بكر لجعلوها من أقوى الأدلة على إمامته ، ولاحتج به يوم السقيفة ولم يحتج إلى الاحتجاج بما لا دلالة على تعيينه من حديث الأئمة من قريش ، ولا ريب أن من اتصف بالصفات المذكورة وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسّك بعروة هدايتهم والأخذ بأذيال طهارتهم يكون أصلح بإمامة الأمة وحفظ الحوزة من غيره.

(٣) إنّ من تعسّفات الناصب أنه حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أخذتم بهما لن تضلوا» على أخذ العلم منهما ، ولم يدر لبعده عن معرفة أساليب الكلام أنّ المراد لو كان ذلك لكان حق العبارة أن يقال : «والأخذ منهما دون بهما» وحاصل المؤاخذة أن معني الأخذ بهما في العرف واللغة التشبث بهما والرجوع إليهما في جميع الأمور ، لا أخذ العلم منهما فقط ، ولا ندري كيف يفعل بلفظ التمسّك الصريح فيما ذكرناه مع كونه مرادفا للأخذ ، اللهم إلّا أن يأخذ بذيل المكابرة وسوء المصادرة ، كما هو عادته الفاجرة (٢).

ـ ودلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليّ وأبنائه الميامين ظاهرة من وجوه :

(الأول): أن تصريحه بأن الكتاب والعترة لا يفترقان دال على علمهم بما في

__________________

(١) سورة الصف : ٢ ـ ٣.

(٢) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٧٤.

٨١١

الكتاب وأنهم لا يخالفونه قولا وعملا ، والأول دليل الفضل على غيرهم ، والأفضل أحق بالإمامة ، والثاني دليل العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم.

(الثاني): إنه جعلهم عديلا للقرآن فيجب التمسّك بهم مثله ، واتباعهم في كل أمر ونهي ، ولا يجب اتباع شخص على الإطلاق إلّا النبيّ أو الإمام المعصوم بل يحرم اتّباع غير المعصوم في كل حركاته وأفعاله لكون بعضها قطعا مخالفا للشريعة المقدّسة ، وما ادّعاه أصحاب نظرية ولاية الفقيه ـ من وجوب اتّباع الولي الفقيه ـ غير تام وذلك لأن وجوب إطاعته في كل أفعاله يعني أنه صار قدوة في كل شيء ـ حتى في الأوامر الشخصية ـ كالإمام عليه‌السلام الذي يدور الحقّ معه حيثما دار ، وما استدلوا به على المدّعى بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ..) لا يصحّ لأنه لو سلّمنا بكون الفقيه من أولياء الأمر فإن غاية ما تدل عليه الآية حينئذ هو وجوب اتّباعه في الأحكام الشرعية والقضائية وفي كل ما يوافق إرادة الله الواقعية ، ولا دلالة فيها على وجوب اتّباعه في أوامره الشخصية لعدم خلوها ـ أي أوامره الشخصية ـ من شوب الباطل ، والأمر بالباطل يعتبر باطلا وقبيحا حاشا لله تعالى أن يأمر به وبوجوب الاعتقاد به ، مضافا إلى أن الاعتقاد بوجوب اتّباعه بالأوامر الشخصية كإطاعة الرسول والإمام عليهما‌السلام يستلزم الاعتقاد بصوابية رأي الفقيه في كل ما يصدر منه حتى ولو كان ضلالا وفسادا مما يلغي دور الأئمة الأطهار لا سيّما مولانا الإمام الحجّة المنتظر روحي فداه.

وعليه فلا دلالة في الآية على وجوب الأخذ برأي الفقيه في مطلق الأمر الشخصي وإلّا لكان ذلك أمرا بوجوب اتّباع الخطأ وهو قبيح عقلا ومخالف للأدلة من الكتاب والسّنّة المطهّرة ، كما أنّ مفهوم أولي الأمر ـ لو سلّمنا بشموليته لغير الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ـ ليس منحصرا بالولي الفقيه حسبما يدّعون بل يشمل كلّ مستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية بشرط كونه مؤمنا معتقدا بإمامة الأئمة الاثنى عشر عليهم‌السلام وتنطبق عليه بقية الشروط المقررة.

٨١٢

هذا كلّه إذا سلّمنا أيضا بأنّ الآية المباركة تشير إلى وجوب الأخذ من الفقهاء في الأحكام الشرعية إلّا أن ذلك غير تام أيضا لأن مفاد وجوب الأخذ بالأحكام الصادرة من أولي الأمر هو كون تلك الأحكام أو الأوامر تعبّر عن الإرادة الواقعية لله تعالى وليست أحكاما ظنيّة ظاهرية كما هو أغلب استنباطات الفقهاء وديدنهم في استخراج الأحكام من ظواهر الأدلة الظنّية.

فالقدر المتيقن من الآية الشريفة هو وجوب الأخذ من أئمة آل البيت عليهم‌السلام حيث إنّ طاعتهم مقرونة بطاعة الله ورسوله ، ومن قرنت طاعته بطاعة الله المطلقة لا شك أنه معصوم لا يقول إلّا الحقّ ولا يفعل إلّا الصواب والحكمة.

(الثالث): إنه عبّر عن الكتاب والعترة بخليفتين كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف (ره) وحديث أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله : «إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

ومن الواضح أن خلافة كل شيء بحسبه ، فخلافة القرآن بتحمّله أحكام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواعظه وإنذاره وسائر تعاليمه ، وخلافة الشخص بإمامته وقيامه بما يحتاج إليه الأمة ونشر الدعوة وجهاد المعاندين.

(الرابع): قد ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مفتتح حديثه قرب موته أنه «يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب» أو قوله : «كأني قد دعيت فأجبت» ونحو ذلك ، ثم قوله : «إني تارك فيكم الثقلين» وكل هذا يشير إلى أن ذا السلطان والولاية الذي له نظام يلزم العمل به بعده ، إذا ذكر موته وقال إني تارك فيكم فلانا وكتابا حافظا لنظامي لم يفهم منه إلّا إرادة العهد إلى ذلك الشخص بالإمرة بعده خصوصا وقد قال رسول الله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أو «من كنت وليه فعليّ وليه» كما في حديثي الحاكم وغيره ، ولا ريب أن وصية النبيّ بالثقلين كانت في غدير خم أو على أقل تقدير أنه أحد مواردها لقوله في حديث مسلم : خطبنا رسول الله بماء يدعى خمّا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأحاديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فإنه صادر

٨١٣

بالغدير فيكون قد عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خم بالخلافة إلى أهل البيت عموما وإلى أمير المؤمنين عليّ خصوصا ، فكان الخليفة ـ بأمر من الله سبحانه ـ بعد النبيّ هو الإمام عليّ ثم الحسنان عليهما‌السلام ثم بقية الأئمة عليهم أفضل التحية والإكرام.

(الخامس): قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألفاظ متعددة : «إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموها» كما في أحد حديثي الحاكم وصحّحه على شرط الشيخين ، ونحوه ما في الصواعق وصحّحه ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد تركت فيكم الثقلين خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي» كما في حديث الثعلبي الذي ذكره المصنّف ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي» كما في حديث الترمذي عن زيد بن أرقم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا» كما في حديث الترمذي عن جابر وحديث أحمد عن أبي سعيد ، فإن كل واحد من هذه الأقوال صريح في بطلان خلافة المشايخ الثلاثة ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رتّب عدم ضلال أمته دائما وأبدا على التمسّك بالثّقلين وبالضرورة أن الضلال واقع ولو أخيرا لاختلاف الأديان وفساد الأعمال ، فيعلم أنهم لم يتمسّكوا في أول الأمر بالعترة والكتاب ، وأن خلافة الثلاثة خلاف التمسّك بهما ولذا وقع الضلال ، ولا يرد النقض بأن الأمة تمسّكت بالعترة حتى بايعت أمير المؤمنين عليه‌السلام ومع ذلك وقع الضلال المذكور ، وذلك لأن المراد هو التمسّك بالعترة كالكتاب بعد النبيّ بلا فصل ، على أن الأمة لم تتمسك بالإمام عليّ عليه‌السلام بعد مبايعته لمخالفة الكثير منهم له حتى انقضت أيامه بحرب الأمة فأين تمسّكها بالعترة وأين تمسّكها بالكتاب وهو قد قاتلهم على تأويله.

(السادس): لم يقتصر الحديث على مجرد الوصية بأخذ العلم منهم ، ولو سلم فمن الواضح دلالته على وجوب أخذ العلم منهم وعدم جواز مخالفتهم كالقرآن ، وحينئذ فيجب اتّباع قولهم في الإمامة ، وفي صحة إمامة شخص وعدمها لأنه من أخذ العلم منهم ، ومن المعلوم أن الإمام عليّا عليه‌السلام خالف في إمامة أبي بكر فتبطل حينئذ ، لا سيّما وأن الحق معه يدور حيثما دار ، وحيث إنّه عليه‌السلام ادّعى

٨١٤

ـ ودعواه حق وصواب ـ أن الحق له من يوم وفاة الرسول إلى حين موته عليه‌السلام ، وتظلم منهم مدة حياته ، وأيضا لم تتبع الأمة عترة النبيّ في أمر الخمس والمتعتين وكثير من الأحكام فيكونون ضلالا ، وما أدري متى تمسّكت الأمة بالعترة أفي زمن أمير المؤمنين أو في زمن أبنائه الطاهرين ، وقد تركوا كلا منهم حبيس بيته لا يسمع له قول ، ولا يتبع له أمر ، ولا يؤخذ منه حكم ، بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة والشام والكوفة وسبوا نساءهم سبي الترك والديلم ، فهل تراهم مع هذا قد تمسّكوا بهم أو نبذوهم وراء ظهورهم وانقلبوا على الأعقاب كما ذكره سبحانه في عزيز الكتاب؟!

توجيه

ورد في بعض أخبار حديث الثّقلين إن القرآن الكريم أكبر من العترة ، كيف يوجّه الحديث ليستقيم مع الأدلة الدالة على أنّ العترة علة لفهم الكتاب لقوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٢).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٣).

أقول :

قبل الإجابة على التساؤل المتقدم ، لا بأس بعرض الآراء في المسألة وهي ثلاثة :

__________________

(١) سورة النساء : ٨٣.

(٢) سورة البقرة : ١٤٦.

(٣) سورة الرعد : ٤٣.

٨١٥

فالأول قال : إن الكتاب أفضل من العترة.

والثاني قال : إن النبيّ وعترته الطاهرة أفضل من القرآن.

والثالث قال : بتساوي العترة مع القرآن.

واستدل الأوّلون بأحاديث منها ما ورد من أن الثّقلين أحدهما أكبر من الآخر.

واستدل الآخرون بأحاديث الثقلين الكتاب والعترة من دون إضافة أحدهما أكبر من الآخر.

واستدل الأوسطون وخير الأمور أوسطها بروايات متعددة :

(منها): إنهم كتاب الله الناطق ، والناطق خير من الصامت ، ولو لا الناطق لما عرف الصامت.

(ومنها): ما ورد بألسنة متعددة قولهم عليهم‌السلام وبأسانيد صحيحة (أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرب أو نبيّ مرسل ، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان) وقولهم (قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا ..).

(ومنها): ما ورد أنهم عليهم‌السلام أول خلق الله سبحانه ، وبما أن القرآن محدث وهم محدثون ، فترجيح أحدهما على الآخر لا بد أن يكون لمرجّح وقد تقدم.

(ومنها) ما ورد عن مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام من أنّ القرآن يهدي للإمام عليه‌السلام لقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١).

هذه حصيلة الآراء في المسألة ولا يهمّنا التعرّض لتفاصيلها هاهنا. ولكن ما يهمنا هو التعرّض لفهم دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الكتاب هو الثقل الأكبر ، والعترة هي الثقل الأصغر ، ويمكن أن يقال في توجيهه ما يلي :

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩.

٨١٦

(الأول): كون الكتاب أكبر من العترة باعتبار تقدّمه الزماني في عالم العناصر ، بمعنى أن الكتاب كان موجودا في اللوح المحفوظ قبل خلقة أجسادهم عليهم‌السلام.

يرد عليه :

إن كان المراد من اللوح الشيء المادي فهو مردود لمعارضته لكثير من الأخبار الدالة على أن النبيّ والعترة أول ما خلق الله تعالى ، مضافا إلى معارضته للأخبار التي صرّحت بعكس المدّعى.

وإن كان المراد من اللوح هو الأمر المعنوي ، فإما أن يكون هذا الأمر المعنوي في ذات الله ـ لأن علمه عين ذاته ـ فحينئذ يتساوى معهم عليهم‌السلام من حيث علمه عزوجل بهم.

وإما أن يكون هذا الأمر في جهة أخرى من حيث إفاضته عزوجل العلوم على جهة ثم منها إلى غيرها ، فلا بد أن يكونوا هم عليهم‌السلام هذه الجهة ، لما تقدّم من أنهم أول خلق الله تعالى ولا سابق عليهم.

(الثاني): كون الكتاب فيه ما يتعلق بتوحيده عزوجل وتنزيهه عن صفات المحدثات والممكنات ، فهو بهذا أكبر من العترة الداعية إلى توحيد وتنزيه الله تعالى عن كل نقص.

(الثالث): كون الكتاب دال على تمجيدهم عليهم‌السلام والثناء عليهم بأحسن الأوصاف فبهذا يكون أكبر منهم لأنّه هاد إليهم وأمر الناس باتّباعهم ، لذا عبّر عن الكتاب ب «الأكبر» ولم يعبّر عنه ب «الأشرف» فهو أكبر من العترة بما يحويه من معارف وأخبار وقصص وقوانين وأحكام الخ ..

(الرابع): كون الكتاب الثّقل الأكبر وهم الثقل الأصغر يعني أنّ الكتاب هو عقلهم وقرين عقلهم ، والعترة هي الجسم الحامل للعقل ، فالعقل أكبر من الجسم وأفضل ، والعاقل أكبر من العقل وأفضل ، من حيث إن القرآن عقلهم وأن جميع

٨١٧

علومهم مستندة إليه ، وإن هذا هو المعروف بين كافة المكلّفين والمخاطبين وإنهم لو قيل علمهم من غير القرآن مثلا لأنكرهم الرعية وكذّبوهم واتهموهم ولما ركنوا إلى قولهم ولا اطمأنوا بالائتمام بهم والأخذ عنهم ، فمن حيث ذلك كله حسن أن يقال إن الكتاب هو الثقل الأكبر مع أنه بالنسبة إلى أجسامهم عند الانقسام كذلك ، ومن حيث إنّهم الكتاب الناطق والعاقلون فهم مجموع القسمين أكبر وأفضل مع أن الحقيقة الجامعة للكل حقيقتهم ، وإن العقل والقرآن نور تلك الحقيقة وصفتها وفرعها فهم أفضل وأكبر ، ولكن لمّا كان ما أخبروا به من العلوم وما أضمروا مستندا إلى القرآن وإلى الوحي صحّ كون نسبته إليهم ثناء عليهم وفخرا لهم ولا منافاة كما أن الشخص جميع ما عنده من العلوم تنسب إلى عقله ومنه صدرت ويصحّ الثناء عليه بها بل يصحّ الفخر والثناء للمرء بعبيده وخيله وأعماله وأفعاله وهو أكبر وأفضل منها ، وتمدح الشجرة ويبدو حسنها بورقها الذي يستمد منها ويفتقر إليها ومنه الإشارة في قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي يهدي للإمام كما ورد في نصوص مستفيضة.

(٢٥) الخامس والعشرون

حديث الكساء

في مسند أحمد بن حنبل ، من عدة طرق ، وفي الجمع بين الصّحاح الستة ، عن أم سلمة ، قالت : كان رسول الله في بيتي ، فأتت فاطمة عليها‌السلام فقال : ادعي زوجك وابنيك ، فجاء عليّ وفاطمة ، والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وكان تحته كساء خيبري ، فأنزل الله سبحانه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فأخذ فضل الكساء وكساهم به ، ثم أخرج يده ، فألوى بها إلى السماء ، وقال : هؤلاء أهل بيتي ، فأدخلت رأسي البيت ، وقلت : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : إنك إلى خير (١).

__________________

(١) ذكرنا في البحوث السابقة مصادر هذا الحديث الشريف المتفق على صدوره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولاحظ أيضا إحقاق الحق ج ٢ / ٥٠٢ ـ ٥٤٤.

٨١٨

(٢٦) السادس والعشرون :

حديث الأمان

في مسند أحمد بن حنبل ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان للأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض (١).

ورواه صدر الأئمة موفق بن أحمد المكي (٢).

وفي مسند أحمد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم إني أقول كما قال أخي موسى : اجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا أخي ، اشدد به أزري واشركه في أمري (٣).

ولا ريب أن الحديثين من أدل الأمور على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على الله تعالى وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة مع كونه معصوما ، فإن العاصي لا يأمن على نفسه فضلا عن أن يكون أمانا لغيره ، وكونهم أمانا لأهل الأرض يعني أنهم أفضل الناس مع ملاك العصمة فيهم ، فإذا كانوا أفضل الناس ومعصومين فقد تعينت الإمامة لهم ، وهو دليل على بقائهم ما دامت الأرض كما هو اعتقادنا ، وقد جعل الله تعالى هذه الكرامة العظيمة لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٤) وأشار إلى ذلك ابن حجر في صواعقه (٥) فقال : «السابعة قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٤٠ ، ينابيع المودة ص ١٩ ، مستدرك الحاكم ج ٢ / ٤٤٨ وج ٣ / ١٤٠ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، وإسعاف الراغبين في هامش نور الأبصار ص ١١٤ ، ذخائر العقبى ص ٧ ، كنز العمال ج ٦ / ١١٦ ، فيض القدير ج ٦ / ٢٩٧.

(٢) نهج الحق ص ٢٢٩.

(٣) الدر المنثور ج ٤ / ٢٩٥ ، التفسير الكبير ج ١٢ / ٢٦ ، شواهد التنزيل ج ١ / ٣٦٨.

(٤) سورة الأنفال : ٣٣.

(٥) الآية السابعة من الآيات الواردة في أهل البيت عليهم‌السلام.

٨١٩

لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وجود هذا المعنى في أهل بيته وأنهم أمان لأهل الأرض كما كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمانا لهم وفي ذلك أحاديث كثيرة» ثم ذكر أخبارا تدل على ذلك ، فقال :

ومن هذه الأحاديث ما صحّحه الحاكم على شرط الشيخين : النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ، وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا : إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا. وفي رواية مسلم : ومن تخلّف عنها غرق. وفي رواية «هلك» ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له ... ثم إن المراد من أهل البيت الذين هم أمان هو سائر أهل البيت فإن الله لمّا خلق الدنيا بأسرها من أجل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل دوامها بدوامه ودوام أهل بيته لأنهم يساوونه في أشياء مرّ عن الرازي بعضها ولأنه قال في حقهم : اللهم إنهم مني وأنا منهم ولأنهم بضعة منه بواسطة أن فاطمة أمهم بضعته فأقيموا مقامه في الأمان. إلى آخر كلامه الجميل إلا أنه أفسده بنصبه وعداوته للشيعة بقوله :

«ولا تتوهم الرافضة والشيعة قبّحهم الله من هذه الأحاديث إنهم يحبون أهل البيت لأنهم أفرطوا في محبتهم حتى جرى ذلك إلى تكفير الصحابة وتضليل الأمة ، إلى أن قال : وهؤلاء الضالون الحمقى أفرطوا في محبة عليّ وفي أهل بيته فكانت محبتهم عارا عليهم وبوارا قاتلهم الله أنى يؤفكون» (١).

(٢٧) السابع والعشرون :

حديث اثنا عشر خليفة

في صحيح البخاري ، في موضعين ، بطريقين ، عن جابر وابن عيينة ، قال رسول الله : لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش.

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٥٣.

٨٢٠