أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

عليه ، ولو كان لتبليغ عموم الصحابة لم يؤخّره إلى غدير خم ، بل كان يقوله في بعض المنازل قبله أو في مكة ، فأمره بالنزول وهو في أثناء السير وانتظار من تخلّف وأمره بردّ من تقدّم ، يدل على أنه لأمر حدث في ذلك الوقت ، مع أنه قال هذا الكلام عقيب الأمر بالتمسك بالكتاب والعترة ، وبيان أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض الذي هو تمهيد لما بعده ، فدلّ على أنه لأمر أهم من مسألة اليمن.

على أننا إنما نستدل بقوله «من كنت مولاه فعليّ مولاه» عقيب قوله «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» سواء أقال ذلك بمكة أم في غدير خم ، وسواء أقاله عقيب شكايتهم من الإمام عليّ أم لا ، فإنه دلّ على أن الإمام عليّا عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، والإمامة والخلافة لا تزيد على ذلك كما مرّ.

هذه أهم الإشكالات التي أثارها خصماء ولاية الإمام عليّ والردود عليها ؛ وأما القرائن الكثيرة على إثبات صحة حديث الغدير الدال على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فإنها وافية ـ وبحمد الله ـ على إثبات الإمامة ، هذا مع وجود قرائن أخرى يمكن أن يتفطن إليها الباحث المنصف ، وقد اعترف ثلة من علماء العامة على عظمة العترة الطاهرة ، منهم ابن كثير في تاريخه ، قال :

«خطب النبيّ خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد بغدير خم شجرة هناك ، فبيّن فيها أشياء ، وذكر من فضل عليّ وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه .. (ثم استشهد بما قاله رسول الله منوّها بعترته الطاهرة): كأني دعيت فأجبت ، إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، والله مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، ثم أخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ..» (١).

وذكر ابن كثير أيضا عن البراء بن عازب قال : أقبلنا مع رسول الله في حجة

__________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير ج ٥ / ١٥٨ ـ ١٥٩.

٧٦١

الوداع التي حجّ فنزل في الطريق ، فأمر الصلاة جامعة فأخذ بيد عليّ فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى! قال : ألست بأولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا : بلى! قال : فهذا وليّ من أنا مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (١).

ويا للعجب كيف أن علماء العامة يعترفون بفضل الإمام عليّ وأسبقيته وفي نفس الوقت لا يعتبرون كل هذا دليلا على إمامته عليه‌السلام ، وهل غير بيان الفضل والمنزلة يعتبر دليلا على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى؟!! فإذا ما كان الفضل وعظم المنزلة دليلا على ذلك ، فأي شيء يدل عليه؟!!

وإذا ما كان التطهير والعصمة شاهدا ودليلا على قيادة الأمة نحو الكمال فأي شيء يا ترى يكون دالا على ذلك؟! فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون أم هل تستوي الظلمات والنور ، فما لكم كيف تحكمون!

انتهينا من حديث الغدير الشريف تعقيبا على آية البلاغ ، وهناك آيات أخرى تدل على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب تطلب من مظانها (٢). وبهذا يتم القسم الأول من المقصد الثاني في إثبات الأدلة على أحقية الإمام عليّ بالخلافة دون من تقدّم عليه. وأما القسم الثاني من المقصد الثاني ، فإنما يتعلق بالأحاديث النبويّة الدالة على الخلافة.

القسم الثاني :

أخبار السّنة النبويّة الدالة على إمامته عليه‌السلام هي أكثر من أن تحصى ، وقد صنف أكابر علماء الشيعة الإمامية في ذلك وأكثروا ، ونحن هنا نقتصر على القليل لأن الكثير يخرج الكتاب عن طوره.

منها :

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٥ / ١٥٩.

(٢) فليراجع : إحقاق الحق / للتستري ، ونهج الحق وكشف الصدق للعلّامة الحلي.

٧٦٢

(١) الحديث الأول :

حديث اتحاد النورين

فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده ، قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نورا بين يدي الله ، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق الله آدم قسّم ذلك النور جزءين ، فجزء أنا ، وجزء عليّ (١).

وفي حديث آخر ، رواه ابن المغازلي الشافعي المتوفى ٤٨٣ ه‍ في المناقب قال : أخبرنا أبو غالب محمّد بن أحمد بن سهل النحوي .. (إلى جابر بن عبد الله) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

إن الله عزوجل أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم فساقها حتى قسّمها جزءين ، فجعل جزءا في صلب عبد الله وجزءا في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبيّا ، وأخرج عليّا وصيا(٢).

يشهد لإرادة الإمامة من الحديث وصفه لأمير المؤمنين عليّ المرتضى بكونه نورا مع رسول الله بين يدي الله تعالى بل كانا نورا واحدا ، وهذا مؤيّد بقوله تعالى في آية المباهلة (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٣).

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل باب المناقب ، وميزان الاعتدال ج ١ / ٢٣٥ نقلا عن ابن عساكر في تاريخه مسندا عن سلمان ، والرياض النضرة ص ١٦٤ ، والمناقب لابن المغازلي ص ٨٧ ولسان الميزان ج ٢ / ٢٢٩ ومناقب الخوارزمي ص ٤٦ ، ينابيع المودة ص ١٠ وتذكرة الخواص ص ٥٢ وكفاية الطالب ص ٣١٤ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٢٤٣.

(٢) المناقب لابن المغازلي الشافعي ، وإحقاق الحق ج ٤ / ٩٢ وج ٧ / ٣٩٠ ، ينابيع المودة ص ٢٥٦ ومنتخب كنز العمال في هامش مسند أحمد ج ٥ / ٣٢.

(٣) سورة آل عمران : ٦١.

٧٦٣

فقد ورد بالأخبار (١) المتواترة أن الآية نزلت بأهل الكساء الخمسة ، فحديث اتحاد النورين من أوضح ما يدل على الإمامة ، هذا مضافا إلى تصريحه بأن محمّدا وعليّا متقدمان خلقا على آدمعليه‌السلام مما يدل على أفضليتهما على آدم وكل الأنبياء والمرسلين ، كما يشير إلى هذا حديث «لولاهما ـ أي محمّد وعليّ ـ ما خلقتك» فإنه علة لخلق آدم ، والعليّة دليل الفضل على آدم فضلا عن الأمة ، فلا بدّ أن يكون مولى الثقلين عليّ المرتضى سيدها وإمامها بل علة خلقها بالأولوية ، كما قال عليه‌السلام في نهج البلاغة بكتابه إلى معاوية «إنّا صنايع ربنا والناس بعد صنايع لنا» (٢).

(٢) الحديث الثاني :

حديث الدار.

من مسند أحمد : لما نزل «(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٣) جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل بيته ثلاثين ، فأكلوا ، وشربوا ثلاثا ، ثم قال لهم : من يضمن عني ديني ، ومواعيدي ، ويكون خليفتي ويكون معي في الجنّة؟ فقال عليّ : أنا ، فقال : أنت.

ورواه الثعلبي في تفسيره : بعد ثلاث مرات ، في كل مرة سكت القوم غير عليّ عليه‌السلام (٤).

ورواه الطبري بلفظ آخر مثله قال :

حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٣ / ٤٦.

(٢) نهج البلاغة : خطبة ٢٨ ص ٣٨٦ صبحي الصالح.

(٣) سورة الشعراء : ٢١٤.

(٤) مسند أحمد ج ١ / ١١١ و ١٩٥ وشواهد التنزيل ج ١ / ٤٢٠ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ / ٢٦٧ وينابيع المودة ص ٨٩ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢ ، مجمع الزوائد ج ٨ / ٣٠٢ ، كنز العمال ج ٦ / ٢٩٢ عن عدة من حفاظ الحديث ، وإحقاق الحق ج ٤ / ٦٠ عن المصادر العاميّة.

٧٦٤

الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن عليّ بن أبي طالب قال :

لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فقال لي : يا عليّ إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين .. إلى أن قال :

اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعماله أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله حذية من اللحم .. (ثم فعل ذلك في اليوم الثاني) فلما أكلوا ثانية تكلم رسول الله فقال :

يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعا ، وقلت : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).

أعلن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الحديث الشريف وصيّه وخليفته ووزيره يوم أعلن رسالته ، وكأنهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان ، وما القيادة بعد النبيّ إلّا استمرارا لوظائف النبوة ، وإن كانت النبوة مختومة ولكنّ الوظائف والمسئوليات كانتا مستمرتين.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٦٣ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢ وإحقاق الحق ج ٤ / ٦٠ نقله عن أكابر علماء العامة بطرق متعددة صحيحة. وفي تفسير الثعلبي : قال النبيّ «.. ومن يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي ..» وكذا في فرائد السمطين للحمويني وكنز العمال المطبوع بهامش المسند ج ٥ / ٤١ ، ط / مصر.

٧٦٥

«إن هذه الحادثة تكشف ـ من جانب آخر ـ عن مدى الشجاعة الروحية التي كان يتحلّى بها الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث قام ـ في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدهاة والسادة المجربون عن قبول دعوة النبيّ خوفا وتهيبا أو عدم اعتقاد بما جاء به النبيّ ـ وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته وهو آنذاك غلام في ربيعة الثالث أو الخامس عشر ، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم كم فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!!

صحيح أن عليّا عليه‌السلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنا إلّا أن معاشرته الطويلة للنبي قد هيأت قلبه لتقبّل الحقائق التي تردّد شيوخ القوم في قبولها ، بل عجزوا عن دركها وفهمها» (١).

يرد على ذيل الكلام الأخير :

إنّ قوله «لو لا معاشرة الإمام عليّ الطويلة للنبيّ لم يكن قلبه مهيئا لتقبل الحقائق» غير صحيح وذلك لقيام الأدلة القطعية على عكس مدّعاه ، لأن معارف الإمام الحجّة من الله تعالى على عبيده ليست كسبية أو تمرينية يتلقاها عبر الأساتذة والمعلّمين ، بل إن قلبه مرآة الحق تنعكس عليها أشعة الفيض الإلهي منذ كان الإمام عليه‌السلام فطيما بل مذ كان أول خلق الله تعالى.

فعجبا من كلام المحقّق المذكور كيف ينسب الضعف لقلب أمير المؤمنين حتى صارت معاشرته لرسول الله سببا لتلقيه المعارف والحقائق وها هو الخضر عليه‌السلام لم يكن معاشرا لرسول الله وقد أفاض الله تعالى عليه من لدنه علما وحباه المولى عزوجل قوة قلب كانت وما زالت مضرب مثل في القرآن الكريم لكل سالك وعارف ، ولو لا ما كان يملك الخضر من شدة قابلية وسعة قلب لما أعطاه الله ما لم يعط موسى بن عمران كليم الله تعالى؟!

__________________

(١) سيّد المرسلين للسبحاني ج ١ / ٣٩٧.

٧٦٦

وكذا ما قصّه القرآن علينا من عيسى روح الله حيث حباه المولى بمعارف الكتاب وهو في المهد صبيا : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١).

(٣) الحديث الثالث :

حديث الوصية :

من المسند (٢) عن سلمان ، قال : يا رسول الله ، من وصيّك؟

قال : يا سلمان ، من كان وصيّ أخي موسى؟

قال : يوشع بن نون.

قال : فإن وصيي ووارثي ، يقضي ديني وينجز موعدي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٤) الحديث الرابع :

حديث : من أحب أصحابك إليك؟

من كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن مردويه ، وهو حجة عند المذاهب الأربعة ، رواه بإسناده إلى أبي ذر ، قال : دخلنا على رسول الله فقلنا : من أحبّ أصحابك إليك؟

وإن كان أمر كنّا معه ، وإن كانت نائبة كنّا من دونه؟

قال : هذا عليّ أقدمكم سلما وإسلاما (٣).

__________________

(١) سورة مريم : ٣٠.

(٢) إحقاق الحق ج ٤ / ٧٥ والهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ / ١١٣ وكنز العمال ج ٦ / ١٥٦ ، منتخب كنز العمال في هامش المسند ج ٥ / ٣٢ ، تهذيب التهذيب ج ٣ / ١٠٦ ، كفاية الطالب ص ٢٩٣ ، شواهد التنزيل ج ١ / ٧٧ ، الرياض النضرة ص ١٧٨ ، ذخائر العقبى ص ٧١.

(٣) مناقب المرتضوي للترمذي ص ٩٥ ، كنز العمال ج ٦ / ٣٩٥ وإحقاق الحق ج ٤ / ٣٢٤ ـ ٣٣٥ و ٣٣٧ وفي ج ٥ / ٣١٨ ـ ٣٨٦ فراجع.

٧٦٧

(٥) الحديث الخامس :

حديث : لكل نبي وصي ووارث.

من كتاب ابن المغازلي الشافعي ، بإسناده عن رسول الله قال : لكل نبي وصيّ ووارث ، وإنّ وصيي ووارثي عليّ بن أبي طالب.

(٦) الحديث السادس :

حديث : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.

في مسند أحمد ، وفي الجمع بين الصحاح الستة ما معناه : أن رسول الله بعث براءة مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلمّا بلغ ذا الحليفة ، بعث إليه عليّا ، فردّه ، فرجع أبو بكر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟

قال : لا ، ولكن جبرائيل جاءني وقال :

لا يؤدي عنك إلّا أنت ، أو رجل منك (١).

(٧) الحديث السابع :

حديث المناجاة.

في الجمع بين الصحاح الستة ، وتفسير الثعلبي ، ورواية ابن المغازلي الشافعي آية المناجاة ، واختصاص أمير المؤمنين عليه‌السلام بها لمّا تصدّق بدينار حال المناجاة ، ولم يتصدّق أحد قبله ، ولا بعده ، ثم قال الإمام عليّ عليه‌السلام : إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، وهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ / ٣ و ١٥١ و ٢٣٠ وج ٣ / ٢٨٣ ، وتفسير الطبري ج ١٠ / ٤٦ وخصائص النسائي ص ٢٠ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ / ٥١. كنز العمال ج ١ / ٢٤٦ ، مجمع الزوائد ج ٩ / ١١٩ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ١٨٣ ، الدر المنثور ج ٣ / ٢٠٩ رواه عن كثير من حفاظ الحديث ، شواهد التنزيل ج ١ / ٢٣٣ ، إحقاق الحق ج ٣ / ٤٢٩ وج ٧ / ٤١٩.

٧٦٨

غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) وبي خفّف الله تعالى عن هذه الأمة ، فلم تنزل في أحد من بعدي (٢).

(٨) الحديث الثامن :

حديث المباهلة (آية المباهلة).

في الجمع بين الصحيحين : أنه لمّا أراد المباهلة لنصارى نجران ، احتضن النبيّ الإمام الحسين ، وأخذ بيد الإمام الحسن ، والصديقة فاطمة تمشي خلفه ، والإمام عليّ المرتضى يمشي خلفها ، وهو يقول لهم : إذا دعوت فأمّنوا ، فأي فضل أعظم من هذا ، والنبي يستسعد بدعائه ، ويجعله واسطة بينه وبين ربه (٣).

وقد أشكل الفضل بن روزبهان حيث قال :

«قصة المباهلة مشهورة ، وهي فضيلة عظيمة كما ذكرنا (٤) ، وليس فيه دلالة على النص ، وأما ما ذكره من أن النبيّ كان يستسعد بدعائه ، فهذا لا يدل على احتياج النبيّ إلى دعاء أهل بيته وتأمينهم ، ولكن عادة المباهلة كما ذكر الله تعالى في القرآن أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده ليكون أهيب في أعين المباهلين ويشتمل البهلة إياه وقومه وأتباعه ، وهذا سر طلب التأمين عنهم ، لا أنه استعان بهم وجعلهم واسطة بينه وبين ربه ، ليلزم أنهم كانوا أقرب إلى الله تعالى منه ، هذا يفهم

__________________

(١) سورة المجادلة : ١٢.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص ج ٣ / ٤٢٨ ، مستدرك الحاكم ج ٢ / ٤٨١ ، أسباب النزول ص ٢٣٤ ، تفسير الطبري ج ٢٨ / ١٤ ، تفسير الخازن ج ٤ / ٢٥٩ ، تفسير الرازي ج ٢٩ / ٢٧١ ، جامع الأصول ج ٢ / ٤٥٢ ، روح المعاني ج ٢٨ / ٢٨ ، إحقاق الحق ج ٧ / ٤٢٦ وج ٣ / ١٢٩.

(٣) نهج الحق للعلّامة الحلي ص ٢١٥ وصحيح مسلم ج ٤ / ١٠٨ كتاب الفضائل ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٢٦٦ و ٣٠٠ ومسند أحمد ج ١ / ١٨٥ ، تفسير الطبري ج ٣ / ٢١٢ ، شواهد التنزيل ج ١ / ١٢١ ، التاج الجامع للأصول ج ٤ / ٨٤ ، مستدرك الحاكم ج ٤ / ١٥٠ ، إحقاق الحق ج ٣ / ٤٦ ـ ٧٦ وج ٧ / ٤٢٧.

(٤) ذكر ذلك في معرض ردّه على العلامة الحلي ، لاحظ إحقاق الحق ج ٣ / ٦٣.

٧٦٩

من كلامه ، ومن معتقده الميشوم الباطل ، نعوذ بالله من أن يعتقد أن في أمة رسول الله من كان أقرب إلى الله منه» (١) انتهى.

والجواب :

١ ـ لا ريب أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل صالح مقرّب لا يرى لنفسه استحقاقا في استجابة دعائه (٢) ولا يجعل الاعتماد على نفسه ، بل يتوسل إلى الإجابة بأنواع الوسائل التي يقتضيها المقام ، كتعظيم الله سبحانه وتمجيده بأسمائه الحسنى ، والتملق له بحمده وشكر نعمائه وإظهار المذلة والخضوع لجنابه الأرفع قولا وفعلا بأن يجلس على الأرض ويعفّر وجهه بالتراب مثلا ، وخير شاهد لما نقول أن آدم عليه‌السلام لم يتب الله تعالى عليه حتى دعاه بالأسماء المقدّسة : محمّد ـ عليّ ـ فاطمة ـ حسن ـ حسين. وكذا غيره من الأنبياء العظام أمثال نوح وإبراهيم كما في بعض الأخبار أنهما ناجيا الله سبحانه بالرسول محمّد وعترته الطاهرة مع قربهم من الله تعالى ، لكنهم فعلوا ذلك لمحبوبية تلك الذوات المطهّرة المدلول عليها بالأسماء ، وربما تقتضي أهمية المطلوب أن يجمع معه المقربين لاحتمال أن للاجتماع مدخلية في حصول الإجابة أو مبادرتها ، أو كونها تخص أحدهم لخصوصية هناك ، فحينئذ لا مانع من استسعاد النبيّ بدعاء أهل بيته عليهم‌السلام واستعانته بهم في التأمين على دعائه ، وجعلهم واسطة بينه وبين ربه ، وإن كانوا معه بدرجة واحدة من القرب إلى الله تعالى ، وليس المراد من الواسطة جعلهم واسطة في الهداية بأن يكونوا رسولا بينه وبين الله تعالى ، بل المراد جعلهم وسائط ووسائل بينه وبين الله تعالى في طلب الرحمة عليه وعليهم ونزول العذاب على مخالفيهم ،

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٢٧.

(٢) يشهد لهذا ما طلبه النبي موسى عليه‌السلام من ربه حيث لم يستأثر حالة الدعاء لنفسه ولا استكبر عن الطلب منه تعالى لأخيه هارون كي يشركه في التسبيح والدعاء وما شابه ذلك ، قال الله حكاية عنه (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (سورة طه : ٢٥ ـ ٣٤).

٧٧٠

وإظهار فضلهم على سائر الأمة من الأقارب والأباعد والأكابر والأصاغر ، فلا معنى لما زعمه الفضل بن روزبهان من لزوم أنهم أقرب إلى الأمة منه ، وليس هو معتقدا للعلّامة الحلي (قدس‌سره) ولا يجوزه أحد من الإمامية ، ولكن يجوّزه الباقلاني الأشعري القائل بجواز أن يكون في أمة محمّد من هو أفضل من محمّد مذ بعث إلى أن مات (١). وهو لازم مذهب الأشاعرة من نفيهم للحسن والقبح العقليين.

٢ ـ إنّا لا نسلّم أن عادة المباهلة ما ذكره ابن روزبهان من جمع الأهل والأولاد ، بل قد تكون جمعا ، وقد تكون إفرادا ، ولو كان كذلك ، لكان ضمّ العباس بن عبد المطلب (الذي استسقى به أبو بكر وعمر (٢)) وغيره من بين هاشم أدخل في الهيبة من ضم طفلين وأمهماعليهم‌السلام ، ولكان اشتمل من الاكتفاء بآل العباء ، مع أن شمول البهلة للمباهل مما لا يظهر مدخلية في ذلك ، بل الظاهر كفاية اختصاصه بنفس المباهل ، وما ذكره الله تعالى في القرآن لا يدل على تقرير عادة المباهلة على ذلك ، بل الظاهر أنه تعالى أمر النبيّ وآل العباء معه لقربهم من جنابه الأقدس ، فظهر أن إظهاره للسر المذكور إنما هو نتيجة أكل الحشيش (٣).

ولو سلّم شوم ذلك الاعتقاد ، فمعارض بما سيرويه الناصب في فصل تبرأ الصحابة عن عثمان ، حيث روي عن عثمان أنه قال مخاطبا للمسلمين المحاصرين له في داره : أنشدكم الله تعالى والإسلام ، هل تعلمون أن رسول الله كان بثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض ، فركضه برجله فقال : اسكن ثبير ، فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان. فإن هذا صريح في استسعاد النبيّ بأبي بكر وعمر وعثمان في دفع الخوف والبلية ، وبما ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة في الفصل الرابع في فضائل عمر بن الخطاب حيث قال : أخرج أبو داود عن عمر أن رسول الله قال له : لا تنسنا يا عمر من دعائك.

__________________

(١) دلائل الصدق ج ١ / ٣٧٤ ، نقلا عن ابن حزم في أول الجزء الرابع من الملل والنحل.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٣٠٥ ح ١٠١٠.

(٣) إحقاق الحق ج ٧ / ٤٢٨.

٧٧١

وأخرج أحمد وابن ماجه عن عمر أيضا : أن النبيّ قال له : يا أخي أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا.

وبالجملة : المباهلة إنما تقع بين الخصمين ، ومن المعلوم أن خصم أهل نجران هو النبيّ خاصة ، لكن لمّا كان إدخال الإمام عليّ والصدّيقة فاطمة وولديهما الإمامين الحسن والحسين معه في المباهلة يشتمل على فرائد أدخلهم معه :

الأولى : إظهار اعتماده على أنه المحق ، فإنّ إدخال أعزّ الناس في محل الخطر دليل على صوابية طرحه وعلى اعتقاده بالنجاح والسلامة.

الثانية : الاستسعاد بهم والاستعانة بدعائهم ، ولذا أمرهم بالتأمين على دعائه ، ولو كان ما ذكره الفضل صحيحا ـ من أن سر طلب التأمين شمول البهلة لهم لا الاستعانة بدعائهم ـ لكان خروجهم معه كاف في شمول البهلة لهم بلا حاجة إلى تأمينهم ، ولو كان التأمين هو السرّ في شمول البهلة لهم ، فمن أين علم شمولها لقوم النبيّ وأتباعه ولم يأخذهم معه وما أراد تأمينهم.

الثالثة : بيان فضلهم على الأمة بإشراكهم معه كما أمر الله تعالى دون أقاربه وخاصته في إثبات دعوى النبوة بالمقام الشهير المشهود ، فإنه منزلة عظمى لا سيّما للإمام عليّ عليه‌السلام الذي عبّر الله سبحانه عنه بنفس النبيّ.

ودعوى أن عادة المباهلة أن يجمع الرجل أهله وقومه وأولاده كاذبة وإلّا لما خالفها النبيّ ، ولاعترض عليه النصارى في المخالفة ، كدعوى شمول البهلة للأتباع وإلّا لأدخل النبيّ معه ولو واحدا منهم ، وكون وجوده هو الأصل والمدار فيستغني عن وجودهم وارد في المرأة والطفلين بالأولوية ، فلم لا أستغني عنهم (١).

وقوله «ليكون أهيب في عيون المباهلين» يضحك الثكلى ، وذلك لأنه لو كان الداعي لوجودهم هو الهيبة فلم خصّ شابا وامرأة وطفلين وترك المشايخ الكبار والحفدة والأنصار؟!

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٢٥١.

٧٧٢

(٩) الحديث التاسع :

حديث المنزلة.

في مسند أحمد ، من عدة طرق ، وفي صحيح البخاري ومسلم من عدة طرق : أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج إلى تبوك ، استخلف عليّا أمير المؤمنين في المدينة ، وعلى أهله ، فقال الإمام عليّ : ما كنت أوثر أن تخرج في وجه إلّا وأنا معك ، فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنه لا نبيّ بعدي (١)؟ وتوضيح الاستدلال هو أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثبت للإمام عليّ جميع مراتب هارون من موسى واستثنى النبوة ويبقى الباقي على عمومه ، ومن جملة المنازل أنه كان خليفة لموسى عليه‌السلام بدليل قوله تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (٢) فكان خليفة في حياته فيكون خليفة بعد وفاته لو عاش ، لكنه لم يعش ، والإمام عليّ عاش ، فتكون خلافته ثابتة.

قال الناصب (٣) خفضه الله :

هذا ـ حديث المنزلة ـ من روايات الصحاح ، وهذا لا يدل على النصّ كما ذكره العلماء ، ووجه الاستدلال به أنه نفى النبوة من عليّ وأثبت له كل شيء ، ومن جملته الخلافة. ثم أجاب الفضل عن هذا : بأنّ هارون لم يكن خليفة بعد موسى ، لأنه مات قبل موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام ، بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطور لقوله تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) ، وأيضا يثبت به لأمير المؤمنين فضيلة الأخوة والموازرة لرسول الله في تبليغ الرسالة وغيرهما من الفضائل وهي مثبتة يقينا لا شك فيه.

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٤ / ١٠٨ بطريقين ، وصحيح البخاري ج ٤ / ٥٧٧ كتاب الفضائل ، ومسند أحمد ج ١ / ١٧٠ و ١٧٣ و ١٧٥ و ١٨٥ ومسند أبي داود ج ١ / ٢٩ ، صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠ ، أسد الغابة ج ٤ / ٢٦ وج ٥ / ٨ ، خصائص النسائي ص ١٥ ، كنز العمال ج ٦ / ٤٠٢ ، ذخائر العقبى ص ١٢٠ ، مجمع الزوائد ج ٩ / ١٠٩ ، إحقاق الحق ج ٥ / ١٣٢.

(٢) سورة الأعراف : ١٤٢.

(٣) هو الفضل بن روزبهان الأشعري.

٧٧٣

يورد عليه :

لا ريب أنّ الاستثناء دليل العموم ، فيثبت لعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام جميع منازل هارون الثابتة له في الآية سوى النبوة ، ومن منازل هارون الإمامة لأنّ المراد بالأمر في قوله تعالى (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) هو الأعم من النبوة التي هي التبليغ عن الله تعالى ومن الإمامة التي هي الرئاسة العامة فإنهما أمران مختلفان ، ولذا جعل الله سبحانه إبراهيم نبيا وإماما بجعلين مستقلين وكان كثير من الأنبياء غير أئمة كمن كانوا في زمن ابراهيم وموسى فإنهم أتباع لهما وخاضعون لسلطانهما ، ويشهد للحاظ الإمامة وإرادتها من الأمر في الآية الأخبار السابقة المتعلقة بآخر الآيات التي ذكرناها في الخاتمة المصرّحة تلك الأخبار بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا فقال : «اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى وأن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وتحل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري» فإن المراد هنا بالإشراك في أمره هو الإشراك بالإمامة لا الإشراك بالنبوة كما هو ظاهر ولا المعاونة على تنفيذ ما بعث فيه لأنه قد دعا له أولا بأن يكون وزيرا له.

وبالجملة : معنى الآية الكريمة أشركه في أمانتي الشاملة لجهتي النبوة والإمامة ، ولذا نقول إن خلافة هارون لموسى لما ذهب إلى الطور ليست كخلافة سائر الناس ممن لا حكم ولا رئاسة له ذاتا بل هي خلافة شريك لشريك أقوى ولذا لا يتصرف بحصوره ، فكذا أمير المؤمنين عليّ بحكم الحديث لدلالته على أن له جميع منازل هارون التي منها شركته لموسى في أمره سوى النبوة ، فيكون عليّ إماما مع النبيّ في حياته ، فلا بدّ أن تستمر إمامته إلى ما بعد وفاته ولا سيّما أن النظر في الحديث إلى ما بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ولذا قال : إلا أنه لا نبيّ بعدي ، ولو تنزلنا عن ذلك فلا إشكال بأن من منازل هارون أن يكون خليفة لموسى لو بقي بعده لأن الشريك أولى الناس بخلافة شريكه فكذا يكون الإمام عليّ عليه‌السلام ، مع أن الآية الكريمة قاضية بفضل هارون على سائر قوم موسى فكذا عليّ بالنسبة إلى

٧٧٤

المسلمين فيكون إمامهم.

وقد علم على جميع الوجوه أنه لا ينافي الاستدلال بالحديث على المدّعى موت هارون قبل موسى كما علم بطلان أن يكون المراد مجرد استخلاف أمير المؤمنين في المدينة خاصة فإن خصوص المورد لا يخصص العموم الوارد ، ولا سيّما أن الاستخلاف بالمدينة ليس مختصا بأمير المؤمنين عليه‌السلام لاستخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غيره بها في باقي الغزوات ، ومقتضى الحديث أن الاستخلاف منزلة خاصة به كمنزلة هارون من موسى التي لم يستثن منها إلا النبوة ، فلا بدّ أن يكون المراد بالحديث إثبات تلك المنزلة العامة له إلى ما بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

واستدل الفضل على إرادة الاستخلاف بالمدينة خاصة حين ذهاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك بقوله تعالى (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) وهو خطأ ظاهر لأن مجرد وقوع الاستخلاف الخاص من موسى لا يدل على اختصاص خلافة هارون في ذلك المورد دون غيره ، فكذا استخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام بل العبرة بعموم الحديث مع اقتضاء شركة هارون لموسى في أمره ثبوت الخلافة العامة له فكذا الإمام عليّ عليه‌السلام. ويدل على عدم إرادة ذلك الاستخلاف الخاص بخصوصه ورود الحديث في موارد لا دخل لها به (فمنها) ما سيجيء إن شاء الله تعالى من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علل تحليل المسجد لعلي جنبا بأنه منه بمنزلة هارون من موسى.

(ومنها) ما رواه في كنز العمال عن أم سليم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها يا أم سليم إن عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي وهو مني بمنزلة هارون من موسى (ومنها) ما رواه في الكنز أيضا عن ابن عبّاس أن عمر قال : «كفروا عن ذكر عليّ بن أبي طالب فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في عليّ ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس: كنت وأبو بكر وأبو عبيدة ونفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبيّ متكئ على عليّ حتى ضرب على منكبه ثم قال : أنت يا عليّ أول المؤمنين إيمانا وأولهم إسلاما ثم قال أنت مني بمنزلة

٧٧٥

هارون من موسى وكذب من زعم أنه يحبني ويبغضك». (ومنها) ما في الكنز أيضا عن زيد بن أبي أوفى في قصة المؤاخاة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلّا لنفسي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي الحديث (ومنها) ما رواه النسائي في الخصائص بالنسبة إلى ما يتعلق ببنت حمزة حيث اختصم بتربيتها عليّ وجعفر وزيد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ أنت مني بمنزلة هارون من موسى الحديث ، إلى غيرها من الموارد الكثيرة. ويشهد أيضا لعموم المنزلة ما ورد أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمى الحسنين بالحسنين اقتفاء لهارون في تسمية ولديه بشبر وشبير كما في مسند أحمد بموارد عديدة فلذلك ونحوه شاهد بأن الإمام عليّا عليه‌السلام شبيه بهارون بجميع المزايا وأنّ له خصائصه كلها وأظهرها الإمامة بل يستفاد من حديث التسمية إمامة الحسنين أيضا كولدي هارون عليه‌السلام.

وبالجملة :

لقد تضمن حديث المنزلة النصّ على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بالخلافة ، مع دلالته القطعية على أفضليته ـ وبإقرار الخصم بذلك ـ ولم يشركه فيه أحد سواه ، وأوجب له به جميع منازل هارون من موسى إلا ما خصّه العرف من الأخوّة النسبية ، واستثناه هو من النبوة ، فقد جعل النبيّ له عليه‌السلام كافة منازل هارون من موسى إلّا المستثنى منها لفظا وعقلا.

«وقد علم كل من تأمّل معاني القرآن ، وتصفح الروايات والأخبار أنّ هارون كان أخا موسى عليه‌السلام لأبيه وأمه ، وشريكه في أمره ، ووزيره على نبوته وتبليغه رسالات ربه ، وأن الله سبحانه شدّ به أزره ، وأنه كان خليفته على قومه ، وكان له من الإمامة عليهم وفرض الطاعة كإمامته وفرض طاعته ، وأنه كان أحبّ قوله إليه وأفضلهم لديه.

قال الله عزوجل حاكيا عن موسى عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ

٧٧٦

بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) (١). فأجاب الله سبحانه مسألته وأعطاه سؤله في ذلك وبلّغه أمنيته حيث يقول : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢).

وقال تعالى حاكيا عن موسى (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٣) فلما جعل رسول الله عليّا منه بمنزلة هارون من موسى ، أوجب له لذلك جميع ما عددناه ، إلّا ما خصّه العرف من الأخوة ، واستثناه هو من النبوة لفظا ، وهذه فضيلة لم يشرك فيها أحد من الخلق أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا ساواه في معناها ولا قاربه فيها على حال.

ولو علم الله عزوجل أن لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزاة حاجة إلى الحرب والأنصار لما أذن له في تخليف أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه حسب ما قدّمناه ، بل علم أن المصلحة في استخلافه ، وأن إقامته في دار هجرته مقامه أفضل الأعمال ، فدبّر الخلق والدين بما قضاه في ذلك وأمضاه على ما بيّناه وشرحناه» (٤).

(١٠) الحديث العاشر :

حديث خيبر وإعطائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الراية للإمام عليّ عليه‌السلام.

في مسند أحمد ، من عدة طرق ، وصحيحي البخاري ومسلم ، من طرق متعددة ، وفي الجمع بين الصحاح الستة أيضا :

عن عبد الله بن بريدة ، قال : سمعت أبي يقول : حاصرنا خيبر ، وأخذ اللواء أبو بكر ، فانصرف ، ولم يفتح له ، ثم أخذه عمر من الغد ، فرجع ولم يفتح له ، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد ، فقال رسول الله : إني دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، لا يرجع حتى يفتح الله له.

__________________

(١) سورة طه : ٢٥ ـ ٣٣.

(٢) سورة طه : ٣٦.

(٣) سورة الأعراف : ١٤٢.

(٤) إرشاد المفيد ص ١٤١ من الفصل ٤٣ من الباب ٢.

٧٧٧

فبات الناس يتداولون ليلتهم ، أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس ، غدوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال النبيّ : أين عليّ بن أبي طالب؟

فقالوا : إنه أرمد العين ، فأرسل إليه ، فأتى ، فبصق رسول الله في عينيه ودعا له ، فبرئ فأعطاه الراية ، ومضى عليّ ، فلم يرجع حتى فتح الله على يديه (١).

وفي الخصال بإسناده عن عامر بن واثلة قال : سمعت عليّا عليه‌السلام يقول يوم الشورى : نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله حين رجع عمر يجبّن أصحابه ويجبّنونه قد ردّ راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهزما ، فقال رسول الله «لأعطين الراية غدا رجلا ليس بفرّار ، يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله عليه» فلمّا أصبح قال : «ادعوا لي عليّا» فقالوا : يا رسول الله هو رمد ما يطرف ، فقال جيئوني به ، فلمّا قمت بين يديه تفل في عيني وقال : اللهم أذهب عنه الحرّ والبرد ، فأذهب الله عني الحرّ والبرد إلى ساعتي هذه ، فأخذت الراية ، وهزم الله المشركين ، وأظفرني بهم ، غيري؟ قالوا : اللهم لا .. (٢).

وفي رواية : أن أبا بكر أخذ راية المهاجرين ليقاتل بها ثم رجع منهزما ، ثم أخذها عمر من الغد فرجع منهزما يجبّن الناس ويجبّنونه حتى ساء رسول الله ذلك ، فقال : لأعطين الراية غدا رجلا كرار غير فرار ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه ، فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أما عليّ فقد كفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه ، وقال عليّ عليه‌السلام لمّا سمع مقالة رسول الله : اللهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ، فأصبح رسول الله واجتمع إليه الناس ، قال سعد : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ، ثم

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ / ٥٧٥ ، صحيح مسلم ج ٤ / ١٠٨ ، مسند أحمد ج ١ / ٩٩ وج ٥ / ٣٣٣ ، مجمع الزوائد ج ٦ / ١٥ وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، خصائص النسائي ص ٥ ، مستدرك الحاكم ج ٣ / ٣٨ و ٤٣٧ ، والنهاية لابن الأثير ج ٢ / ١٢٧ ، وإحقاق الحق ج ٥ / ٣٦٩ وج ٧ / ٤٣٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٢١ / ٢٠ ح ١٥ ، نقلا عن خصال الشيخ الصدوق.

٧٧٨

قمت على رجلي قائما ، رجاء أن يدعوني ، فقال : «ادعوا لي عليّا» فصاح الناس من كل جانب إنه أرمد رمدا لا يبصر موضع قدمه ، فقال : «أرسلوا إليه وادعوه» فأتي به يقاد ، فوضع رأسه على فخذه ثم تفل في عينيه ، فقام وكأنّ عينيه جزعتان ، ثم أعطاه الراية ودعا له فخرج يهرول هرولة ، فو الله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن ... فركّز الراية ، فخرج إليه مرحب ، فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط ، وحمل الإمام عليّ عليه‌السلام والمسلمون عليهم فانهزموا.

قال أبان : وحدّثني زرارة قال : قال الإمام الباقر عليه‌السلام : انتهى إلى باب الحصن وقد أغلق في وجهه ، فاجتذبه اجتذابا وتترّس به ، ثم حمله على ظهره ، واقتحم الحصن اقتحاما ..» (١).

وعن الصدوق في أماليه بإسناده عن عبيد الله بن موسى الحبّال ، عن محمّد بن الحسين الخشّاب ، عن محمّد بن محصن ، عن ابن ظبيان ، عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في رسالته إلى سهل بن حنيف رحمه‌الله والله ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعا بقوة جسدية ، ولا حركة غذائية ، لكني أيدت بقوة ملكوتية ، ونفس بنور ربها مضيئة (مضية خ ل) وأنا من أحمد كالضوء من الضوء ، والله لو تظاهرت العرب على قتالي لمّا وليت ، ولو أمكنتني الفرصة من رقابها لمّا بقيت ، ومن لم يبال متى حتفه عليه ساقط فجنانه في الملمات رابط (٢).

قال الناصب خفضه الله :

أقول : حديث خيبر صحيح ، وهذا من الفضائل العليّة لأمير المؤمنين عليه‌السلام لا يكاد يشاركه فيها أحد ، كم من فضائل مثل هذا؟ والعجب أن كل هذه الفضائل يرويه من كتب أصحابنا ويعلم أنها في غاية الاهتمام بنشر مناقب أمير المؤمنين عليه

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢١ / ٢١ ح ١٧ ، نقلا عن أعلام الورى ومثله ما رواه أحمد زيني دحلان في هامش السيرة الحلبية ج ٢ / ١٩٨ ، والمناقب لابن المغازلي ص ١٧٩ رقم ٢١٣.

(٢) بحار الأنوار ج ٢١ / ٢٦ ح ٢٥ ، نقلا عن أمالي الصدوق.

٧٧٩

آلاف التحية والثناء ، وفضائله ، وما هم كالروافض والشيعة في إخفاء مناقب مشايخ الصحابة ، فلو كان هناك نص كانوا مهتمين لنقله ونشره كاهتمامهم في نشر فضائله ومناقبه لخلوهم عن الأغراض والإعراض عن الحق.

ورده العلّامة التستري بقوله :

«إن قوله : لا يكاد يشاركه فيها أحد ، يكاد أن يكون كيدا وتمويها ناشيا من غاية نصبه وعداوته لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإلّا فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله إلى آخره ، يدل دلالة قطعية على أن هذه الأوصاف ما كانت في أبي بكر وعمر ، ألا ترى أن السلطان إذا أرسل رسولا في بعض مهماته ولم يكف الرسول ذلك المهم على وفق رأي السلطان فيقول السلطان : لأرسلنّ في ذلك المهم رسولا كافيا عالما بالأمور ، دل دلالة قطعية على أن هذه الصفات ما كانت ثابتة في الرسول الأول ، وأن الرسول الثاني أفضل من الأول ، وكذا هاهنا ، وبالجملة قد بان بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، ثبوت محبة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمام عليّ عليه‌السلام ، ولو لا اختصاص عليّ عليه‌السلام بغاية المرتبة لاقتضى الكلام خروج الجماعة بأسرها عن هذه المحبة على كل حال ، وذلك محال ، أو كان التخصيص بلا معنى ، فيلحق بالعبث ومنصب النبوة متعال عن ذلك ، فثبتت هذه المرتبة لعليّ عليه‌السلام بدلالة قوله : كرار غير فرار ، وهي منتفية عن أبي بكر وعمر لفرّهما وعدم كرّهما ، وفي تلافي أمير المؤمنين عليه‌السلام بخيبر ما فرط من غيره ، دليل على توحّده بزيادة الفضل ومزيته على من عداه ، ولا ريب أن غاية المدح والتعظيم والتبجيل المحبة من الله ورسوله لأنها النهاية ولا ملتمس بعدها ولا مزيد عليها وهي الغاية القصوى والدرجة العظمى والله ذو الفضل العظيم.

وأما ما ذكره من أن المصنّف يروي هذه الفضائل من كتب أهل السنّة ، فمسلّم ، ووجهه ظاهر مما قررناه سابقا ، لكنهم حين نقلوا هذه الأحاديث لم يكن يفهموا لحماقتهم أنها مما يصير حجة للشيعة ، فلا يدل ذلك على إخلاصهم وخلاصهم عن الأغراض ، ولهذا ترى المتأخرين من أهل السنّة إنهم إذا نبّههم

٧٨٠