أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

الإجماع في واد ، وعليّ أمير المؤمنين في واد آخر لكان الحق مع الإمام عليّ طبقا للحديث المزبور والأحاديث الأخرى من النبيّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام. وما ذكره من أنه لو صحّ لما خفي على الصحابة ، ففيه أنه لم يخف على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وزوجه البتول فاطمة سيّدة نساء العالمين وأولادهما الطاهرين الذين هم رؤساء الصحابة ، وقد تمسّكوا به وبنظيره في غير واحد من احتجاجاتهم ، وصرّحوا به في أخبارهم ورواياتهم ، أما غيرهم ممن عقدوا قلوبهم على إطفاء نور الله ، وأجمعوا أمرهم على غصب خلافة الله فلم يخف عليهم أيضا ، وإنما أخفوه عمدا حيث كان إظهاره نقضا لغرضهم.

(٤) ما ذكره من أنه على تقدير تسليمه إنما يثبت خلافته ولا ينفي خلافة الآخرين ، ففيه بعد تسليم عدم نفيه لخلافة الآخرين أنّ كفايته لإثبات خلافته عليه‌السلام فقط كافية لنا ، وما المقصود إلّا ذلك ، وأما خلافة الآخرين فقد قامت الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على عدمها حسبما فصّلناه سابقا. هذا مضافا إلى أن هذا مكابرة ظاهرة ، إذ كيف يترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حال نصب إمام للمسلمين لحضور أجله ـ ذكر ثلاثة من الخلفاء ، وينص على من بعدهم حيث سيكون إماما بعد خمس وعشرين سنة من وفاته ، ولو جاز ذلك لكان جميع ولاة العهد محل كلام إذ لا يقول السلطان : هذا ولي عهدي بلا فصل ، «بل على احتمالات القوم لو قال رسول الله : من كنت مولاه فعليّ مولاه بعدي ، لقالوا لا منافاة بين البعدية والفصل بغيره ، كما صنع القوشجي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت وصيي وخليفتي من بعدي ، بل لو قال : فعليّ مولاه بعدي بلا فصل ، لقالوا يحتمل أن يكون المعنى بلا فصل من غير الثلاثة ، ولا عجب ممن نشأ على التعصب وحب العاجلة وقال : إنّا وجدنا آباءنا على ملة» (١).

(٥) إن الحديث لم يخف على أحد من الصحابة ، بل كانوا يعرفونه ، لكنهم

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٦٣.

٧٤١

لم يعملوا بمضمونه ، من هنا ذكّرهم الإمام عليّ عليه‌السلام يوم الرحبة بالحديث فصدقوه عليه (١).

الإيراد الثاني :

إنّ أحدا من أئمة العربية لم يذكر مجيء «مفعل» بمعنى «افعل» الموضوع لإفادة التفضيل ، لكون الاستعمال على خلاف الاقتران ، لجواز أن يقال هو أولى من كذا دون مولى من كذا ، ولو سلم مجيء «مفعل» بمعنى «افعل» فأين الدليل على أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف والتدبير ، بل يجوز أن يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) وأراد الأولوية في الاتباع والاختصاص به والقرب منه لا في التصرف به ، فالتلامذة يقولون نحن أولى بأستاذنا والاتباع يقولون نحن أولى بسلطاننا ولا يريدون الأولوية في التدبير والتصرف ، ولصحة الاستفسار إذ يجوز أن يقال : في أي شيء هو أولى؟ أفي نصرته أو محبته أو التصرف فيه ، ولصحة التقسيم بأن يقال كونه أولى به : إما في نصرته وإما في ضبط أمواله ، وإما في تدبيره والتصرف فيه ، وحينئذ لا يدل الحديث على إمامته (٢).

وفيه أيضا :

(أولا): إن لفظ مولى يراد به لغة الأولى ، أو أنه أحد معانيه ، فها هم أعلام التفسير واللغة عرفوا أن هذا المعنى من معاني اللفظ اللغوية ، وإلا لما صح لهم تفسيره بذلك ، فقد أشار هؤلاء الأعلام في تفسير قوله تعالى في سورة الحديد (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الآية : ١٥.

__________________

(١) روى حديث المناشدة في الرحبة بأسانيد متعددة ابن الأثير في النهاية ج ٤ / ١٦٠.

(٢) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٦٩. شرح المواقف ج ٨ / ٣٦١ وقد نقله الجرجاني عن الإيجي ورد عليه.

٧٤٢

فمنهم من حصر التفسير بأنها أولى بكم ، ومنهم من جعله أحد المعاني في الآية ، فمن الفريق الأوّل :

١ ـ ابن عبّاس في تفسيره من تفسير الفيروزآبادي ص ٣٤٢.

٢ ـ الكلبي حكاه عنه الفخر الرازي في تفسيره ج ٨ / ٩٣ قال : هي مولاكم : أي أولى بكم وهو قول الزّجاج والفراء وأبي عبيدة.

٣ ـ الفراء يحيى بن زياد الكوفي النحوي المتوفى ٢٠٧ ه‍ ، حكاه عنه الفخر الرازي في تفسيره ج ٨ / ٩٣.

٤ ـ أبو عبيدة معمّر بن مثنّى البصريّ المتوفى ٢١٠ ، ذكره عنه الرازي في تفسيره : ج ٨ / ٩٣ ، وذكر استشهاده ببيت لبيد :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة (١) خلفها وأمامها

وذكره عنه شيخنا المفيد في رسالته في معنى المولى والشريف المرتضى في الشافي من كتابه «غريب القرآن» وذكر استشهاده ببيت لبيد ، واحتجّ الشريف الجرجاني في شرح المواقف ج ٨ / ٣٦١ بنقل ذلك عنه ردّا على الماتن صاحب المواقف.

٥ ـ الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة النحوي المتوفى ٢١٥ ه‍ نقله عنه الفخر الرازي في «نهاية العقول» وذكر استشهاده ببيت لبيد.

٦ ـ أبو زيد سعد بن أوس اللغويّ البصريّ المتوفى ٢١٥ ه‍ حكاه عنه صاحب الجواهر العبقرية.

٧ ـ البخاري أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل المتوفى ٢١٥ ه‍ ، قاله في صحيحه ج ٧ / ٢٤٠.

٨ ـ ابن قتيبة المتوفى ٢٧٦ ه‍ قاله في تفسير القرطبي ج ٢ / ١٦٤ واستشهد ببيت لبيد.

__________________

(١) أي أولى وأحرى بأن يكون فيه الخوف.

٧٤٣

٩ ـ أبو العبّاس ثعلب أحمد بن يحيى النحويّ الشيباني المتوفى ٢٩١ ه‍ ، قال القاضي الزوزني حسين بن أحمد المتوفى ٤٨٦ ه‍ في شرح السبع المعلقة في بيت لبيد المذكور قال ثعلب : إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء كقوله : مأواكم النار هي موليكم. أي هي أولى بكم.

١٠ ـ أبو جعفر الطبري المتوفى ٣١٠ ه‍ ، ذكره في تفسيره ج ٩ / ١١٧.

١١ ـ أبو بكر الأنباري محمّد بن القاسم اللغوي النحوي المتوفى ٣٢٨ ه‍ ، قاله في تفسيره مشكل القرآن ، نقله عنه الشريف المرتضى في الشافي ، وذكر استشهاده ببيت لبيد ، وابن بطريق في «العمدة» ص ٥٥.

١٢ ـ أبو الحسن الرماني علي بن عيسى المشهور بالورّاق النحوي المتوفى ٣٨٤ ه‍ أو ٨٢ ، ذكره عنه الفخر الرازي في «نهاية العقول».

١٣ ـ أبو الحسن الواحدي المتوفى ٤٦٨ ه‍ ، ففي الوسيط : مأواكم النار هي مولاكم. هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب ، والمعنى : أنها هي التي تلي عليكم لأنها قد ملكت أمركم فهي أولى بكم من كل شيء.

١٤ ـ أبو الفرج ابن الجوزي المتوفى ٥٩٧ ه‍ نقله في تفسيره «زاد المسير» عن أبي عبيدة مرتضيا له.

١٥ ـ أبو سالم محمد بن طلحة الشافعي المتوفى ٦٥٢ ه‍ قاله في «مطالب السئول» ص ١٦.

١٦ ـ شمس الدين سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى ٦٥٤ ه‍ قاله في التذكرة ص ١٩.

١٧ ـ محمّد بن أبي بكر الرازي ، صاحب «مختار الصحاح» قال في «غريب القرآن» المولى : الذي هو أولى بالشيء ومنه قوله : مأواكم النار هي مولاكم ، أي هي أولى بكم ، والمولى في اللغة على ثمانية أوجه (وعدّ منها) الأولى بالشيء.

٧٤٤

١٨ ـ التفتازاني المتوفّى ٧٩١ ه‍ ، ذكره في «شرح المقاصد» ص ٢٨٨ نقلا عن أبي عبيدة.

١٩ ـ ابن الصبّاغ المالكي المتوفّى ٨٥٥ ه‍ عدّ في «الفصول المهمّة» ص ٢٨ ، الأولى بالشيء من معاني المولى المستعملة في الكتاب العزيز.

٢٠ ـ جلال الدين محمّد بن أحمد المحلّي الشافعي المتوفّى ٨٥٤ ه‍ في تفسير الجلالين.

٢١ ـ جلال الدين أحمد الخجندي ، ففي «توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل» عنه أنّه قال : المولى يطلق على معان ، ومنها : الأولى في قوله تعالى : وهي مولاكم. أي أولى بكم.

٢٢ ـ علاء الدين القوشجي المتوفّى ٨٧٩ ه‍ ، ذكره في شرح التجريد.

٢٣ ـ شهاب الدين أحمد بن محمّد الخفاجيّ الحنفيّ المتوفّى ١٠٦٩ ه‍ ، قاله في حاشية تفسير البيضاوي مستشهدا ببيت لبيد.

٢٤ ـ السيّد الأمير محمّد الصنعاني ، قاله في «الروضة النديّة» نقلا عن الفقيه حميد المحلّي.

٢٥ ـ السيّد عثمان الحنفيّ المكّي المتوفّى ١٢٦٨ ه‍ ، قاله في «تاج التفاسير» ج ٢ ، ص ١٩٦.

٢٦ ـ الشيخ حسن العدوي الحمزاوي المالكي المتوفّى ١٣٠٣ ه‍ ، قال في «النور الساري» ـ هامش صحيح البخاري ـ ج ٧ ، ص ٢٤٠ : هي مولاكم : أولى بكم من كلّ منزل على كفركم وارتيابكم.

٢٧ ـ السيّد محمّد مؤمن الشبلنجي ، ذكره في «نور الأبرار» ص ٧٨.

ومن الفريق الثاني :

٢٨ ـ أبو إسحاق الثعلبي المتوفى ٤٢٧ ه‍ ، قال في «الكشف والبيان» :

٧٤٥

مأواكم النار هي مولاكم. أي صاحبتكم وأولى وأحقّ بأن تكون مسكنا لكم ، ثم استشهد ببيت لبيد المذكور.

٢٩ ـ أبو الحجّاج يوسف بن سليمان الشنتمري المتوفى ٤٧٦ ه‍ قاله في تحصيل عين الذهب في قول لبيد واستشهد بالآية الكريمة.

٣٠ ـ الفرّاء حسين بن مسعود البغوي المتوفى ٥١٠ ه‍ ، قاله في «معالم التنزيل».

٣١ ـ الزمخشري المتوفى ٥٣٨ ه‍ ، ذكره في «الكشّاف» ج ٢ / ٤٣٥ واستشهد ببيت لبيد ، ثم قال : لا يجوز أن يراد هي ناصركم.

٣٢ ـ أبو البقاء محبّ الدين العكبري البغدادي المتوفى ٦١٦ ه‍ ، قاله في تفسيره ص ١٣٥.

٣٣ ـ القاضي ناصر الدين البيضاوي المتوفى ٦٩٢ ه‍ ، ذكره في تفسيره ج ٢ ، ص ٤٩٧ واستشهد ببيت لبيد.

٣٤ ـ حافظ الدين النسفي المتوفى ٧٠١ / ٧١٠ ه‍ ، ذكره في تفسيره «هامش تفسير الخازن» ج ٤ / ٢٢٩.

٣٥ ـ علاء الدين علي بن محمّد الخازن البغدادي المتوفى ٧٤١ ه‍ ، قاله في تفسيره ج ٤ / ٢٢٩.

٣٦ ـ ابن سمين أحمد بن يوسف الحلبي المتوفى ٨٥٦ ه‍ ، قال في تفسيره «المصون في علم الكتاب المكنون» هي مولاكم : يجوز أن يكون مصدرا أي ولايتكم أي ذات ولايتكم ، وأن يكون مكانا أي مكان ولايتكم ، وأن يكون أولى بكم كقولك : هو مولاه.

٣٧ ـ نظام الدين النيسابوري ، قاله في تفسيره «هامش تفسير الرازي».

٣٨ ـ الشربيني الشافعي المتوفى ٩٧٧ ه‍ ، قاله في تفسيره ج ٤ / ٢٠٠ واستشهد ببيت لبيد.

٧٤٦

٣٩ ـ أبو السعود محمد بن محمّد الحنفي القسطنطيني المتوفى ٩٧٢ ه‍ وذكره في تفسيره «هامش تفسير الرازي» ثم ذكر بقية المعاني.

٤٠ ـ الشيخ سليمان جمل ، ذكر في تعليقه على تفسير الجلالين الذي أسماه بالفتوحات الإلهية وفرغ منه سنة ١١٩٨ ه‍.

٤١ ـ المولى جار الله آبادي ، قال في حاشيته تفسير البيضاوي : المولى مشتق من الأولى بحذف الزائد.

٤٢ ـ محب الدين أفندي ، قاله في شرح بيت لبيد في كتابه «تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات» ط سنة ١٢٨١ ه‍ (١).

وبالجملة : فإن هؤلاء الأعلام فسروا «المولى» بالأولى بالتصرف فهما بمعنى واحد في اللغة ، ويصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر ومنه الحديث المشهور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها .. أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها.

ثانيا :

إن من يفسر المولى في الحديث بالأولى بالتصرف لم يرد أنه اسم تفضيل مثله حتى يرد عليه أنه يقال هو أولى من كذا ، ولا يقال مولى من كذا ، بل أراد التفسير بحاصل المعنى بقرينة مقدمة الحديث وهي قوله : ألست أولى بالمؤمنين أنفسهم ، فإن هذه المقدمة تدل على أن المراد بمولاهم الأولى بهم من أنفسهم ، وهو عبارة أخرى عن الأولى بالتصرف ، وإن شئت أن تفسر المولى بمالك الأمر كما هو معناه الحقيقي كان أحسن فيكون معنى الحديث من كنت مالك أمره لكوني أولى به من نفسه ، فعليّ مثلي مالك أمره كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها) أي مالك أمرها ، وكيف كان فالنتيجة واحدة وهي أن أمير المؤمنين

__________________

(١) الغدير ج ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٨.

٧٤٧

عليّ بن أبي طالب مالك أمر الأمة وإمامها وأولى بها من نفسها في التصرف كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما ما زعموا من جواز أن يراد الأولى في أمر من الأمور غير التصرف ، وما ادعوه من صحة الاستفسار والتقسيم فخطأ ظاهر لابتناء ذلك على إجمال الحديث ، وقد عرفت أن مقدمته وغيرها من القرائن تدل على أن المراد بالمولى الأولى بهم من أنفسهم في التصرف ومالك أمرهم وإمامهم ، كيف ولو كان الحديث مجملا مع تلك القرائن حتى يدخله الاحتمال المذكور ويجوز فيه الاستفسار والتقسيم لكانت كلمة الشهادة أولى بالإجمال لإمكان الاستفسار فيها بأن المراد هل هو لا إله إلا الله في السماء أو في الأرض ، أو لا إله إلّا الله في آسيا أو أوروبا أو غيرهما إلى غير ذلك ، ولإمكان التقسيم أيضا بنحو ذلك ، وهذا لا يقوله ذو معرفة.

ثالثا :

لقد عزب عن القوشجي والإيجي وكذا الرازي (١) اختلاف الأحوال في المشتقات لزوما وتعدية بحسب صيغها المختلفة. إنّ اتحاد المعنى أو الترادف بين الألفاظ إنما يقع في جوهريّات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب وتصاريف الألفاظ وصيغها ، فالاختلاف الحاصل بين المولى والأولى بلزوم مصاحبة الثاني للباء وتجرّد الأول منه إنما حصل من ناحية صيغة افعل من هذه المادّة كما أن مصاحبة (من) هي مقتضى تلك الصيغة مطلقا ، إذن فمفاد فلان أولى بفلان ، وفلان مولى فلان ، واحد حيث يراد به الأولى به من غيره. كما أن (أفعل) بنفسه يستعمل مضافا إلى المثنى والجمع أو ضميرهما بغير أدات فيقال : زيد. أفضل الرجلين أو أفضلهما ، وأفضل القوم أو أفضلهم ، ولا يستعمل كذلك إذا كان ما بعده مفردا فلا يقال : زيد أفضل عمرو ، وإنما هو أفضل منه ، ولا يرتاب عاقل في اتحاد المعنى في الجميع ، وهكذا الحال في بقية صيغ افعل كأعلم وأشجع وأحسن وأسمح وأجمل إلى نظائرها.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٢٩ / ٢٢٧ سورة الحديد آية ١٥.

٧٤٨

قال خالد بن عبد الله الأزهري في باب التفضيل من كتابه التصريح : «إنّ صحّة وقوع المرادف موقع مرادفه إنما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وهاهنا منع مانع وهو الاستعمال ، فإنّ اسم التفضيل لا يصاحب من حروف الجرّ إلّا (من) خاصّة ، وقد تحذف مع مجرورها للعلم بها نحو : والآخرة خير وأبقى.

على أن ما تشبّث به الرازي يطّرد في غير واحد من معاني المولى التي ذكرها هو وغيره ، منها ما اختاره معنى للحديث وهو : الناصر فلم يستعمل هو مولى دين الله مكان ناصره ، ولا قال عيسى على نبينا وآله وعليه أفضل التحية والإكرام : من مواليّ إلى الله. مكان قوله : من أنصاري إلى الله ، ولا قال الحواريون : نحن مواليّ الله. بدل قولهم : نحن أنصار الله.

ومنها الوليّ فيقال للمؤمن : هو وليّ الله ولم يرد من اللغة مولاه ، ويقال : الله وليّ المؤمنين ومولاهم كما نصّ به الراغب في مفرداته ص ٥٥٥.

وهلمّ معي إلى أحد معاني المولى المتفق على إثباته وهو المنعم عليه فإنك تجده مخالفا مع أصله في مصاحبة (على) فيجب على الرازي أن يمنعه إلّا أن يقول : إنّ مجموع اللفظ وأداته هو معنى المولى لكن ينكمش منه في الأولى به لأمر ما دبّره بليل.

وهذه الحالة مطردة في تفسير الألفاظ والمشتقات وكثير من المترادفات على فرض ثبوت الترادف فيقال : أجحف به وجحفه أكبّ لوجهه وكبّه الله. احرس به وحرسه. زريت عليه زريا وأزريت به نسأ الله في أجله وانسأ أجله ، رفقت به وأرفقته ، خرجت به وأخرجته ، غفلت عنه وأغفلته ..» (١). انتهى.

وهذا الاختلاف يطرد في جلّ الألفاظ المترادفة التي جمعها الرماني المتوفى ٣٨٤ ه‍ في تأليف مفرد في ٤٥ صفحة ولم ينكر أحد من اللغويين شيئا من ذلك لمحض اختلاف الكيفيّة في أداة الصحبة كما لم ينكروا بسائر الاختلافات الواردة

__________________

(١) الغدير ج ١ / ٣٥٢.

٧٤٩

من التركيب فإنّه يقال : عندي درهم غير جيّد. ولم يجز : عندي درهم إلّا جيّد. ويقال : إنك عالم. ولا يقال : إن أنت عالم. ويدخل «إلى» إلى المضمر دون حتّى مع وحدة المعنى. وكذا أم وأو فإنهما للترديد ويفرقان في التركيب بأربعة أوجه ، وكذلك هل والهمزة فإنهما للاستفهام ويفرقان بعشرة فوارق ، وأيّان وحتى مع اتحادهما في المعنى يفرقان بثلاث ، وكم وكأيّن بمعنى واحد ويفرقان بخمسة ، وأيّ ومن يفرقان بستة مع اتحادهما.

رابعا :

إن التقييد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من أنفسكم» دليل على أن المراد بالأولى هو الأولى بالتصرّف دون الأولى في أمر من الأمور ، إذ لا معنى للأولوية من الناس بنفس الناس إلا الأولوية في التصرّف ، نعم لو لم يوجد القيد لتمت المعارضة بقوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) حسبما ادّعى القوشجي أو قد يدّعي البعض معارضة هذه الآية لقول النبيّ «من أنفسكم» فإنه لو كان نظم الآية مثلا : إن أولى الناس بإبراهيم من نفسه ، لكان المراد الأولى بالتصرّف.

وزبدة المخض :

إن دعوى عدم صحة اقتران كلّ منهما (مفعل وافعل) بما يقارنه الآخر ممنوعة ، وذلك لأن كون أحد اللفظين بمعنى الآخر لا يقتضي صحة اقترانه بكل ما يقترن به الآخر ، ولا جريان حكم أحدهما على الآخر مطلقا ألا ترى أن الصلاة بمعنى الدعاء مع أن تعدية الأول «بعلى» وتعدية الثاني «باللام» ، فيقال : صلّى عليه ودعا له ، ولو قيل دعا عليه لم يكن بمعناه ، وأن أداة إلّا بمعنى غير لا يجوز حذف موصوفها ، ولا يقال جاءني إلّا زيد ، بخلاف غير فإنه يقال : جاءني غير زيد ، والسرّ في ذلك أن استعمالات كلام العرب منوطة على التوقيف والتوظيف ، فكل مقام استعملت فيه كلمة مخصوصة على كيفية خاصة فلا بدّ من متابعتها ، ولا يجوز التعدي عنها لبطلان القياس في اللغات.

٧٥٠

وعليه : فإن إنكار الرازي وأمثاله عدم استعمال أولى مضافا ممنوع على إطلاقه ، لما عرفت من إضافته إلى المثنّى والمجموع ، وجاءت به السنّة إضافته إلى النكرة ، ففي صحيح البخاري في الجزء العاشر ص ٧ و ٩ و ١٠ و ١٣ بأسانيد جمّة قد اتفق فيها اللفظ عن ابن عبّاس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحقوا الفرائض بأهلها ، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر (١).

وأخرج أحمد في المسند ج ١ / ٣١٣ : فلأولى ذكر ، وفي صفحة ٣٣٥ : فلأولى رجل ذكر ، وفي نهاية ابن الأثير ج ٢ / ٤٩ : لأولى رجل ذكر. ويعرب عمّا نرتئيه في حديث الغدير ما يماثله في سياقه جدا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

ما من مؤمن إلّا أنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فأيّما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني وأنا مولاه(٢).

وورد بلفظ آخر : إن على الأرض من مؤمن إلّا أنا أولى الناس به ، فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه (٣).

وبهذا يندفع ما توهّمه القوشجي من احتمال التخصيص والقرب منه ، بعد ملاحظة كثرة مجاهداته عليه‌السلام في الدين ، ونهاية نصرته في غزواته للمؤمنين ، ومن كان بهذه المنزلة متى يحتاج إلى التنصيص بالاختصاص ، فإن ذلك من باب تحصيل الحاصل وهو قبيح لكون أمير المؤمنين معروفا باختصاصه من رسول الله والقرب منه.

الإيراد الثالث :

إن المراد من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ، هو

__________________

(١) ورواه صحيح مسلم أيضا ج ٢ / ٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٧ / ١٩٠.

(٣) صحيح مسلم ج ٢ / ٤.

٧٥١

الوصية والخلافة على قضاء دينه وإنجاز موعده ، فلا دلالة حينئذ بالحديث على الحاكمية على الأمة حسبما يدّعيها المسلمون الشيعة.

يرد عليه :

(١) على فرض ما ذكره الإيراد المتقدم ، فإنّ ظاهر اللفظ الإطلاق ولا يعدل عنه إلا بدليل وهو مفقود في البين ، بل يمكن القول : إنّ حذف المتعلق دليل العموم ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فعليّ مولاه» لا يخلو من إشعار بعدم كون مراده الخلافة على قضاء الدين وإنجاز أماناته ، وإن سلّم فهو من متعلقات الحكومة لا كونه مرادا باللفظ بالخصوص.

هذا مضافا إلى استهجان ما ذكر وقباحته من حيث كونه غير لائق صدوره من النبيّ والمبالغة فيه تحت حرّ الشمس في تلك الجموع ، ثم صعوده على منبر من الأقتاب ، وتهديد الله عزوجل له فقط ليقول لهم : إن قاضي ديني ومنجز أماناتي عليّ بن أبي طالب هذا لا يمكن صدوره من حكيم ، كيف بسيد العقلاء والحكماء رسول الله محمّد بن عبد الله عليه وآله السلام؟!

(٢) لم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دين يبقى على ذمته إلى وفاته حتّى يوصي به إليه ، لما روي أنّه في أيام مرضه طلب براءة الذمة عن الناس ولم يدّع عليه أحد شيئا سوى من ادّعى عليه ضرب سوط عن عمد.

إشكال :

كيف ادعيتم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له دين للناس في ذمته ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لمولانا أمير المؤمنين عليّ : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني.

والحل :

الظاهر أن الدين في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وقاضي ديني» بكسر الدال لا بفتحها ، فالقاضي في الدين هو الحاكم في أمر الدين ، والحاكمية بمقتضى كون الإمام

٧٥٢

عليّ عليه‌السلام نفس رسول الله كما في آية المباهلة ، يستلزم أن يكون الحاكم النائب ، خليفة معصوما ، ويشهد لما قلنا القرائن الكثيرة الدالة على ذلك منها ما رواه أنس قال :

قال رسول الله لعليّ عليهما‌السلام : أنت تقضي ديني وتنجز موعدي (أو وعدي) وتبين لهم ما اختلفوا من بعدي ، وتعلّمهم القرآن وتجاهدهم على التأويل كما جاهدتهم على التنزيل (١).

وفي نصوص أخر يوجد لفظ «قاضي ديني» (٢).

الإيراد الرابع :

لو كان حديث الغدير متواترا ودالا على تنصيب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام للخلافة بأمر من الله تعالى ، لكان على الصحابة أن يجعلوه مقياسا بعد النبيّ ، وليس عليهم أن يردّوا على ما بلّغه الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المحتشد العظيم.

والجواب :

إن هذا الإيراد مستمسك قوي لمن يريد التخلّص من الاعتناق بالنص المتواتر الجلي في المقام ، ولكنه لو رجع إلى تاريخ الصحابة ، يرى لهذه الأمور نظائر كثيرة (٣)

__________________

(١) أرجح المطالب ص ١٧ ، ط / لاهور ، والهيثمي في المجمع ج ٩ / ١١٣ ، ط / القاهرة ، والسيوطي في الجامع الصغير ج ٢ / ١٤١ حديث ٥٦٠١ ، ط / مصر ، والصواعق المحرقة ص ٧٥ وكنوز الحقائق للمناوي ص ٩٨ ، ط / بولاق ، مصر ، وأسنى المطالب ص ١٣٧ وينابيع المودة ص ١٨٥ ، ط / اسلامبول ، وإحقاق الحق ج ٦ / ٥٨١.

(٢) إحقاق الحق ج ٤ / ٧٤ نقلا عن المصادر العامية ، وكذا رواه بهذا اللفظ المحقق الطوسي في التجريد.

(٣) منها رزية يوم الخميس ، والتخلف عن جيش أسامة ، واعتراضهم على صلح الحديبية وقد بلغت مخالفات القوم لنصوص النبيّ وتعليماته ما يربو على نيف وسبعين موردا استقصاها العلّامة الحجّة السيّد عبد الحسين شرف الدين (قدس‌سره) في كتابه الجليل الاجتهاد والنص.

٧٥٣

في حياتهم السياسية والدينية والاجتماعية ، وليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل.

الإيراد الخامس :

إن المراد بالمولى في حديث الغدير هو المحبوب والمنصور لأنّ النبيّ أراد أن يوصي العرب بحفظ محبة أهل بيته وقبيلته ، ولا شك أن عليّا أمير المؤمنين بعد رسول الله سيّد بني هاشم وأكبر أهل البيت ، فذكر فضائله وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرة والمحبة معه ليتخذه العرب سيّدا ويعرفوا فضله وكماله (١) ، وعليه فإن مقتضى هذا أن يكون معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أي من كنت محبوبه أو منصورا له فعليّ كذلك.

يرد عليه :

(١) مع أنّ المولى لم يستعمل بمعنى المحبوب والمنصور ، ولو سلّم ذلك فإنّ القرائن الحالية والمقالية ـ كما عرفت سابقا ـ تقتضي إرادة مالك الأمر ، بمعنى أن القرينة صرفت اللفظ عن أحد موارد استعماله على فرض وجود مثل هذا الاستعمال.

(٢) إن مساواة الإمام عليّ بنفس النبيّ ـ حسبما ظهر الحق على لسان قلمه ـ في وجوب محبته ونصرته على الإطلاق لا تتم إلّا بثبوت منزلته له من الرئاسة العامة والعصمة ولذا كانت النتيجة كما ذكرها الفضل بن روزبهان أن يتخذه العرب سيّدا.

(٣) من أين فهم الفضل إرادة النبيّ الوصية بحفظ محبة قبيلته بشكل عام لو لا عدم الإنصاف وكراهة تخصيص أمير المؤمنين عليه‌السلام بالفضل والنصّ.

__________________

(١) ذكره الفضل بن روزبهان الأشعري ، دلائل الصدق ج ٢ / ٥١ وإحقاق الحق ج ٢ / ٤٨٢.

٧٥٤

الإيراد السادس :

ما تمحّله بعض (١) العامة ؛ وسبب ذلك :

إن أسامة بن زيد قال للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : لست مولاي ، إنما مولاي ـ أي معتقي ـ رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه.

فالحديث ـ بزعم هذا المستشكل ـ ورد في عتق الإمام عليّ عليه‌السلام لأسامة لا أنه مولى المؤمنين.

والجواب :

(١) إن هذه الرواية المجهولة لا تعارض الروايات المتواترة التي دلت على المقصود وهي الخلافة وأشاد بها القرآن الكريم ، وكأنّ من روى هذه المجهولة أراد حطا من عظمة الحديث ، وتحطيما لمنعته فصوّره بصورة مصغّرة لا تعدو عن أن تكون قضية شخصية ، وحوارا بين اثنين من أفراد الأمة ، أصلحه رسول الله بكلمته هذه ، والراوي يجهل أو يتجاهل عن أنه تخصمه على تلك المزعمة الأحاديث المتضافرة في سبب الإشادة بذلك الذكر الحكيم من نزول آية التبليغ إلى مقدّمات ومقارنات أخرى لا يلتئم شيء منها مع هذه الأكذوبة ، ومثلها الآية الكريمة الناصّة بكمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضى الربّ بذلك الهتاف المبين ، والإصلاح بين متخاصمين تلاحيا علة لإكمال الدين وإتمام النعمة ، لكن ذهب على الرجل أنه لم يزد في الحديث إلّا تأكيدا في المعنى الذي يقوله الإمامية ، وحجة على الخصم على تقدير الصحة.

فهب أنّ السبب لذلك البيان الواضح هو ما ذكر لكنّا نقول : إنّ ما أنكره أسامة على أمير المؤمنين عليه‌السلام من معنى المولى وأثبته لرسول الله خاصة دون أيّ أحد ، لا بدّ أن يكون شيئا فيه تفضيل لا معنى ينوء به كلّ أحد حتى أسامة نفسه ،

__________________

(١) أمثال : ابن الأثير في النهاية ج ٥ / ٢٢٧ والحلبي في السيرة ج ٣ / ٣٠٤ وابن منظور في لسان العرب ج ١٥ / ٤١٠.

٧٥٥

ولا تفاضل بين المسلمين من ناحيته في الجملة ، وذلك المعنى المستنكر المثبت لا يكون إلّا الأولوية أو ما يجري مجراها من معاني المولى.

(٢) إذا كان أسامة بن زيد قد أعتقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى لإعتاق الإمام عليّ عليه‌السلام له ، ولو فرض فلا يناسبه هذا الاهتمام العظيم ، على أن أسامة لم يعتقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما أعتق أباه زيد بن حارثة ، فإطلاق أنه مولى رسول الله عليه إنما هو باعتبار انجرار الولاء إليه من أبيه ، ولهذا قال بعضهم : إن القائل للإمام عليّ : «لست مولاي وإنما مولاي رسول الله» هو زيد بن حارثة ، فقال رسول الله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ردا لقول زيد.

ولعلّ هذا القول قاله إسحاق بن حمّاد بن زيد للمأمون ، لمّا جمع العلماء ليحتجّ عليهم في فضل الإمام عليّ عليه‌السلام فيما ذكره صاحب العقد الفريد ، فقال إسحاق للمأمون : ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين الإمام عليّ ، وأنكر ولاء الإمام عليعليه‌السلام ، فقال رسول الله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

فردّ عليه المأمون بأن ذلك كان في حجة الوداع ، وزيد بن حارثة قتل قبل ذلك ، وكأنّ من ذكر هذا العذر التفت إلى مثل ما ردّ به المأمون ، فغيّر العذر ، وقال : إنه قال ذلك في شأن أسامة بن زيد.

وسواء قيل : إن ذلك في شأن زيد أو ابنه أسامة ، فزيد إنما هو مولى عتاقة وابنه أسامة كذلك بجرّ الولاء ، والإمام عليّ عليه‌السلام لم يعتقه ، وإنما أعتقه النبيّ فكيف يكون زيد أو ابنه مولاه وهو لم يعتقه؟! وعلى فرض صحة الحادثة ، فيكون ما قصده رسول الله وأمير المؤمنين من لفظ «المولى» غير ما قصده زيد أو أسامة ، حيث كان قصد أسامة الإعتاق ، وقصد النبيّ الأولوية في التصرف.

٧٥٦

الإيراد السابع :

ما تمحّله ابن كثير (١) وصاحب السيرة الحلبية (٢) ، من صرف ما وقع يوم الغدير إلى ما وقع عند رجوع الإمام عليّ عليه‌السلام من اليمن ، وإليك عين ألفاظ ابن كثير ، قال :

«إن النبيّ خطب بمكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريبا من الجحفة ، يقال له : غدير خمّ ، فبيّن فيها فضل عليّ بن أبي طالب وبراءة عرضه مما كان تكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعض جورا وتضييقا وبخلا ، والصواب كان معه في ذلك ، ولهذا لمّا فرغ عليه‌السلام من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بيّن ذلك في أثناء الطريق ، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد بغدير خم شجرة هناك ، فبيّن فيها أشياء ، وذكر من فضل عليّ وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ، ونحو نورد عيون الأحاديث الواردة في ذلك ونبيّن ما فيها من صحيح وضعيف بحول الله وقوته وعونه ، وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه ، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم .. وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة ، ونحن نورد عيون ما روي في ذلك مع اعلامنا أنه لاحظ للشيعة فيه ولا متمسك لهم ولا دليل لما سنبيّنه وننبه عليه ..».

ويشبه هذا ما أخرجه ابن كثير نفسه وكذا أحمد بن حنبل (٣) وآخرون عن بريدة قال :

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٥ / ١٥٨ ، ط / دار الكتب العلمية ، حوادث السنة ١٠ ه‍.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٧٥.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ج ٥ / ٣٤٧.

٧٥٧

«غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت عليّا فتنقّصته فرأيت وجه رسول الله يتغيّر ، فقال : يا بريدة؟

ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله؟

قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه».

والجواب :

١ ـ إنّ كل ما أوردناه في الجواب الأول عن الإيراد السادس يرد هنا حذو القذّة بالقذّة ، ولا يهمنا ما أراده المستشكل من تصغير صورة الأمر فصبّها في قالب قضية شخصية ، بعد ما أثبت الإمامية حديث الغدير بطرقه المربية على التواتر ، فإنّ غاية ما هنالك تكريرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللفظ بصورة نوعية تارة وفي صورة شخصية أخرى ، لتفهيم بريدة أن ما حسبه جفوة من أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يسوغ له الوقيعة فيه على ما هو شأن الحكّام المفوّض إليهم أمر الرعية ، فإذا جاء الحاكم بحكم فيه الصالح العام ولم يرق ذلك لفرد من السوقة ليس له أن يتنقّصه ، فإنّ الصالح العام لا يدحضه النظر الفرديّ ، ومرتبة الولاية حاكمة على المبتغيات الشخصية ، فأرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلزم بريدة حدّه فلا يتعدّى طوره بما أثبتته لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من الولاية العامة نظير ما ثبت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟.

وبتعبير آخر :

بالغض عن السبب الموجب لأن يذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل الإمام عليّ عليه‌السلام بمقالته المشهورة: «من كنت مولاه ..» فإن ذلك كاف في بيان عظمة مولانا أمير المؤمنين عليّ وأن له ما للنبيّ طبق القذة بالقذة ، فبما أن للنبيّ ولاية عامة على الأنفس والأموال كذا هي بعينها لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ لم يأتنا ابن كثير بدليل يثبت مدّعاه ، بل كل ما هنالك أنه قدّم أولا روايات هذه الواقعة ، فنقل عن محمد بن إسحاق ، بسنده عن يزيد بن طلحة ، قال : لمّا أقبل عليّ من اليمن ليلقى رسول الله بمكة ، تعجّل رسول الله واستخلف على

٧٥٨

جنده الذين معه رجلا من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسى كل رجل من القوم حلّة من البز الذي كان مع عليّ ـ وهو الذي أخذه من أهل نجران ـ فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل ، قال : «ويلك ما هذا؟» قال : «كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس».

قال : ويلك انزع قبل أن ينتهي به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانتزع الحلل من الناس (فردّها) في البز ، وأظهر الجيش شكواهم لما صنع بهم. ثم حكى عن ابن اسحاق أنه روى بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس عليّا ، فقام رسول الله فينا خطيبا فسمعته يقول : «أيّها النّاس ، لا تشكوا عليّا ، فو الله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله من أن يشكى». ثم حكى عن أحمد أنه روى بسنده عن بريدة ، قال : غزوت مع عليّ اليمن ، فرأيت منه جفوة ، فلما قدمت على رسول الله ذكرت عليا فتنقصته ، فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتغيّر ، فقال : يا بريدة ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قلت : بلى يا رسول الله.

قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه».

قال ابن كثير : وكذا رواه النسائي بإسناده نحوه ، وهذا إسناد جيد قويّ رجاله كلهم ثقات ، إلى آخره.

ثم أتبع ابن كثير ذلك بروايات الغدير ، ليجعلهما بزعمه واقعة واحدة ، وأنّ ما وقع يوم الغدير هو تدارك لما وقع في سفر اليمن ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن يوم الغدير فضل الإمام عليّ عليه‌السلام وبراءة ساحته مما تكلّم فيه أهل ذلك الجيش ، مع أنهما واقعتان لا دخل لإحداهما في الأخرى ، فلما شكا الجيش من الإمام عليه‌السلام ، وكانت شكايتهم منه بمكة في أيام الحجّ ، غضب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك وبيّن لهم أن شكايتهم منه في غير محلّها وقام فيهم خطيبا وقال : «أيّها الناس لا تشكوا عليّا ، فو الله إنه لأخشن في ذات الله من أن يشكى».

٧٥٩

وقال لهم يوم ذاك : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه.

واكتفى بذلك ، وهو كاف في ردعهم وبيان فضل وعظمة مولى الثقلين أمير المؤمنين عليّ روحي فداه ، وأن ما فعله هو الصواب ، وحديث الغدير كان في الثامن عشر من ذي الحجة بعد انقضاء الحج وخلال رجوعه إلى المدينة ، ولو كان ما وقع يوم الغدير هو لمجرد ردعهم وبيان خطأهم في شكايتهم من الإمام عليه‌السلام لمقاله بمكة واكتفى به ولم يؤخّره إلى رجوعه.

وزعم صاحب السيرة الحلبية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك بمكة لبريدة وحده ، ثم لمّا وصل إلى غدير خم أحبّ أن يقوله للصحابة عموما (١) ، وهذا أيضا يكذّبه ما قد روي عن أبي سعيد الخدري من أنه عليه وآله السلام قام خطيبا ـ في الصحابة ـ وأعلن ذلك في خطبته على المنبر ورءوس الأشهاد.

وفيه : إن الأمر لو كان كما ذكر صاحب السيرة لكان الأولى أن يقول النبيّ تلك المقالة في مكة ، فيكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعم وأشمل لوجود الحجيج كلهم في مكة ، ومنهم أهل مكة أيضا وما حولها الذين لم يكونوا معه في غدير خم ، فلو كان الغرض تبليغ عموم الصحابة ما وقع في مسألة اليمن لما أخّره النبيّ إلى غدير خمّ ، ولكنه لمّا نزل عليه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وهو في الطريق بلّغهم إياه في غدير خم حين نزلت عليه الآية ، فهما واقعتان لا دخل لإحداهما في الأخرى ، وخلط إحداهما بالأخرى نوع من الخلط والخبط والغمط.

مع أنك عرفت أن في روايات الغدير أنه وقف حتى لحقه من بعده ، وأمر بردّ من كان تقدّم ، وهذا يدل على أنه لأمر حدث في ذلك المكان ، وهو نزول الوحي

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ / ٢٧٥.

٧٦٠